أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 8 نوفمبر 2009

خطبة 1 : محطات من الذكريات


                                                


       الخطبة الأولى، الهدف: كسر الجمود

مـحـطّـات من الذكـريـات

...كنت أظن أن الوقوف بين يدي الجمهور والحديث عن نفسي أمر سهل؛ ذلك أنني قد أكون أكثر الناس علماً بنفسي، إلا أن هذا الأمر – التحضير للخطبة الأولى في توستماسترز- أخذ من تفكيري وقتاً، عندما أدركتُ أن الحديث عن النفس أمام الآخرين قد لا يكون كذلك أبداً !

لهذا فكرتُ أن خطبتي الأولى أمامكم - أيها المستمعون- قد يكون مناسباً فيها أن نجعل الحديث على نحوٍ يختصر سيرة الإنسان في دقائق معدودات؛ وذلك بالحديث عن الطفولة والشباب، وربما أحدثكم لاحقاً -إنْ طال العمرُ بنا- عن مراحل أخرى بإذن الله.

فأنا مولودة في إربد شمال الأردن، لكني عشت حياتي في العاصمة عمان، مكان استقرار الوالديْن للعمل. وأنا البنت الكبرى بين خمسة: أخت واحدة وثلاثة إخوة، عشت طفولة ربما تكون عادية جدا أو فوق عادية، وما أزال أحتفظ بذكريات طيبة منها.

ما هو عالق بذهني حتى الآن من تلك الطفولة هو شهادتي المدرسية للصف الأول الابتدائي، التي فقدتُها للأسف -لا أدري أين؟؟- وما تزال تلك الشهادة مطبوعة صورتها في ذاكرتي، وكلمات معلمتي التي تمتدح فيها اجتهادي.

ومن الأشياء المتصلة بالمدرسة الاستيقاظ مبكراً للذهاب، وكان من طقوس الصباح الاستماع إلى برامج الإذاعة الأردنية الصباحية خاصة برنامج "أخي المزارع"! وما زالت أمي –حفظها الله- مع مئات المحطات الفضائية والأرضية التي ملأت الدنيا، ثابتةً على تقاليدها في الاستماع للإذاعة الأردنية.

... ومن الطفولة أشياء أخرى بطبيعة الحال لا تمحوها الأيام، كذكريات اللعب والأوقات اللاهية مع إخوتي والجيران في البناية التي كنا نسكن.

وأذكر أنني كنت أحب القراءة والكتب والأوراق...وكل ما له بها صلة، وكنت أسمع التعليقات من جدتي –رحمها الله- وتسمّيني "الشيخ علي"! وهي التي لم تكن تطيق البنات، فكيف إذا كُنّ كذلك ميّالاتٍ إلى الورق والأقلام؟! ..وكبرتُ وأنا أجد في الكتاب والمطالعة رفقة ممتعة طيبة، أقرأ الجريدة منذ أن كنت في الابتدائية، وسمعت مرة جارتنا وهي تقول لابنها وهو في عمري: انظر إلى رشأ تقرأ الجريدة وأنت لا تجيد حتى قراءة دروسك!

..كانت الرحلة الأسبوعية من عمان إلى إربد لقضاء إجازة نهاية الأسبوع – فرصةً للالتقاء ليس بالأقارب فقط، بل وبالكتب في بيت جدي لأبي وفي بيت جدي لأمي، والمكتبة في كل بيت منهما لها مذاقها الخاص: هنا الروايات والكتب الثقافية العامة والكتب الدينية العتيقة ذات الأوراق الصفراء، وهناك المجلات والكتب السياسية القومية والثورية. أما في بيتنا فالمجلات النسائية وغيرها من الدوريات: "حواء" من مصر، و"الشبكة" وأخواتها من لبنان، و "العربي" من الكويت، وعدد من الكتب التراثية المتنوعة.

...وكان استماعي للراديو جزءاً مهماً من ثقافتي وحياتي وأنا مراهِقة، خاصة الاستماع لمحطة "مونت كارلو" في باريس، ولم تكن هذه المحطة معتادة في بيتنا، فقد كانت المحطة "صرعة" ومبهرة للشباب العربي في حينه، وفتحت آفاقا كبيرة أمامي لأنها محطة عالمية.        

...وفي الثانوية العامة اكتشفتُ أنني متفوقة على زميلاتي، وحصلت على المرتبة الأولى في الشعبة الوحيدة في مدرستي، ودخلت الجامعة الأردنية لأدرس الأدب الإنجليزي بتشجيعٍ – لا بإجبار- من الأهل. وكان الطالب يأخذ في الفصل الأول في الجامعة مجموعة من المواد العامة من متطلبات الجامعة أو الكلية، ليختار فيما بعد التخصص الذي يرغب في دراسته مستقبلا. ولما وجدتُ أنني متفوقة في بعض مواد اللغة العربية التي درستُها في الفصل الأول، فكرتُ في أن لا أستمر بدراسة الأدب الإنجليزي؛ حتى لا أكون في مرتبة متأخرة عن زملائي في ذلك التخصص، وأكثرهم من خرّيجي المدارس الأجنبية. ولكي أغيّر تخصص البعثة الدراسية التي كنتُ قد حصلت عليها من وزارة التعليم العالي، كان يجب عليّ أن أفشل في تحقيق متطلبات التخصص حتى توافق الوزارة على طلب التغيير. فتقدمت لامتحان القبول في التخصص الإنجليزي، وكان الامتحان مغامرة: فهو امتحان صعب جداً، قضيتُ في الامتحان أكثر بقليل من  نصف ساعة ثم خرجت، وسط دهشة مراقِب الامتحان الواضحة في عينيه، ودهشة الطلاب الخَـفِـيَّة، يقولون في سرّهم: إما أنْ تكون عبقرية، وإما أنها لا تعرف شيئا!! وفعلا نجحت في الرسوب بامتياز، وتمكنت من إقناع "التعليم العالي" بتغيير تخصص البعثة إلى دراسة اللغة العربية.

وكنت  -بحمد الله- مجتهدة في دراستي الجامعية إلى جانب أنشطة أخرى جامعية: فقد كنت عضوا في المرسم الجامعي أجد بين الألوان متنفّساً لأمارس الرسم، الهواية الموهبة التي أحببت، وبقيت أقوم بها حتى أنجبتُ أطفالي.. فتوقفت مع مشاغل البيت والأسرة.

أما المرحلة الثانية من حياتي فكانت بعد التخرج في الجامعة، والعمل ثم الزواج ثم الدراسات العليا، ثم إنجاب الأطفال والسفر والتنقل وتعاظم أعباء الحياة ومتطلبات البيت على عاتق الزوجة، بما قد يقتل روح الإنسان... لكن الشيء الوحيد الذي لم أنسَه طوال تلك السنوات هو الكتاب، وأنا أقرأ كثيرا لكني ربما أصبحتُ أنسى أكثر.