أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 28 نوفمبر 2015

المتنبي ولغة العصر


اليومَ استمتعتُ جدا ربما للمرة الأولى بتدريس المتنبي، لقد كنتُ من قبل أتخذ منه موقفاً شخصياً - قد أكون مخطئة فيه- إذ أنفرُ من المدّاحين، و أراه متسلقاً يبذل ماء وجهه كي يحظى برنينٍ يملأ جيبه وسمعه، ويسعى في الأرض كي ينال منها قطعة يرى نفسه ملكاً عليها.
لكنني منذ أيام وأنا أحضّر لدرس قصيدة "واحرَّ قلباه ممَّنْ قلبُه شَبِمُ.." اطَّلعتُ لدى العم يوتيوب على عمل فني كبير لمنصور الرحباني من المسرح الغنائي بعنوان: المتنبي، انتقلتُ للرابط واستمتعتُ بمشاهدة العمل الرفيع الراقي.
وعاودني السؤال الذي لا أََمَلُّ من طرحه على نفسي، منذ نحو ربع قرن هي عمري مع اللغة العربية عِلماً وتعليماً: لماذا لا تكون الأعمالُ الفنيةُ الرفيعة المستوى، الدرامية أو الموسيقية أو التشكيلية وغيرها_ ضمن مناهج تدريس اللغة العربية لطلبتنا؟ 
وأظن السؤالَ مشروعاً؛ ونحن في عصرٍ لا يبالي كثيراً بالحروف المسطورة على الورق، قدرَ مبالاتِهِ بالصور التي يلاحقها على الشاشات الإلكترونية أمامه. 
نشكو دوماً من جفاف محتوى اللغة العربية وضعفه، ونشكو من الوسائل البدائية غير الجذابة في عرض اللغة على أبنائنا وطلبتنا، ونشكو من ضعفهم وسوء اتجاهاتهم نحو لغتنا الأم، وفي نهاية الأمر لا نجتهد إلا في حدودٍ ضيقةٍ لتشويقهم إليها. 
ما زلتُ أتساءل كيف يمكن لنا أنْ نفيدَ من رصيدٍ لا يُستهان به من الأعمال الدرامية والفنية المتنوعة، التي استوحت الأدبَ والتاريخ والتراث وما مضى وكان، تصبُّه في قالبٍ معاصر تجعله قريباً من قلوبنا، وتجعل من ذائقتنا الفنية والأدبية رفيعةً راقية كما نحبُّ ونرجو من عملية تربية النشءِ وتعليمه، التي ننفق في سبيلها سنواتٍ من أعمارنا وأعمارهم لا يكون لنا -أحياناً- في ختامها إلا كما السلافة في الكأس!

أترككم لتستمتعوا بمشاهدة بعض مقاطع المسرحية الرحبانية: أبو الطيب المتنبي

السبت، 14 نوفمبر 2015

موت العائلة

موت العائلة 
بقلم إبراهيم جابر إبراهيم 
http://alghad.com/articles/903378-%D9%85%D9%88%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9%84%D8%A9


لم يعد أحد يتبادل الحديث مع أحد، أو يودعه عند الباب فيكمل نصف ساعة أخرى من الحديث، لأن كليهما يريد أن يركض كالملدوغ إلى هاتفه المحمول !
فهو لا يستطيع أن يتأخر؛ ثمة أشخاص كثيرون داخل هذا “الكمبيوتر الصغير” ينتظرونه، أو ينتظرهم !
منذ سنوات كان التلفزيون في المجتمع العربي هو “ربّ البيت”، وهو الذي يربي الأولاد، ويسلّي الزوجة ويسهر معها في غياب “رب العائلة “ !
الآن، صار “الكمبيوتر” هو “رب البيت” الجديد. ويسلي الزوجة، والأولاد، وهو “رب عائلة” متعاون أكثر؛ يحملونه معهم أينما ذهبوا.
في العالم الجديد، المكتظ بوسائل الاتصال الحديثة، صارت للشخص عائلة أخرى مجازية، أو متخيلة، (يحوّلها أحياناً الى حقيقية ويتواصل معها) .. لكنها غير عائلته البيولوجية التي تجلسُ في البيت!
استبدل الناس اشقاءهم بقطع الكترونية صغيرة، أو بهاتف ملوَّن، .. وهنا تصير بعض العبارات حمقاء حين تحدث في هذا السياق؛ أقصد سياق العلاقات الإلكترونية، فيقول أحدهم لآخر (أنا أخبرك بكل هذا لأنك مثل أخي..) مع أنه في الحقيقة مقطوع العلاقة مع أخيه، ولم يخبره شيئاً من (كل هذا)!أو أن يقول أحدهم لامرأة (أنا محتاج لك لتسمعيني مثل أختي)، مع أن له خمس شقيقات في البيت لا يسمعن منه سوى (هاتي الشاي) .. أو (سخّني الشاي ) !
العائلة الحقيقية القديمة بدأت تنقرضُ من بيوتنا على نحوٍ خطيرٍ ومريبٍ وصامت، حتى إن “اللاب توب” صار بمثابة الأخ الأكبر في البيت، لكنه أخٌ بلا قلب وبلا مودّة ولا ترفّ عينه إن تعثرت خطى الشقيق الصغير.وهكذا تراجعت العلاقة الإنسانية في البيت، وبين أفراده، إلى أسوأ حالاتها، وحتى في الحالات النادرة التي تلتقي فيها العائلة في جلسةٍ واحدة، يظلّ ذلك الذي لم يستطع التملص من الجلسة ممسكاً بهاتفه المحمول يعبث به حتى وهو يأكل أو يهزّ رأسه مستمعاً، يهرب من خلاله من “البيت” الذي صار فكرة منفرة، الى العائلة الجديدة المقترحة!
لماذا نفعل ذلك؟! الإجابة سهلة جداً ويسيرة.
وهي أن العائلة الجديدة تقدم كل قيمها النظرية بشكل غير ملزم، ولا تتعامل مع “الفرد” بمنطق الوصاية والأبوّة، وتترك له مساحة من المرونة دون أن تتلصص عليه، او تشهر في وجهه سيف العيب وسيف الحرام وسيف اللازم وغير اللازم.
ربما يلزمنا ان نعيد النظر بأدوات “العائلة”، وأنسنتها، أو على الأقل إعادتها الى عصرها الذهبي؛ حين كانت “الأخت” صديقة حميمة وقريبة تعين شقيقها بحمل سرّه، وكان كتف الأم ملتقى الشقيقين، وكان ثمة فرصة حقيقية لتبادل الكلام، والمناكفات، والضحك، والساندويشات، والهموم، والمكائد، والنميمة، والنقود .. كان ثمة ما يمهد لصناعة تشابه، لاحقاً ، بين الأخوة!
الآن ثمة تشابه أكبر بين الفرد وشقيقه الإلكتروني. وليس هذا سيئاً بالمطلق، ولكنه سيئ بقدر ما يبتعد الفرد عن عائلته ليغوص في بطن الكمبيوتر.
وسيئ حين يصحو الفتى ليتفقد شقيقه بجواره فيفتقده، أو يروح الطفل مذعوراً الى أمّه:”ماما .. الكمبيوتر أكل إخوتي!!”

الأحد، 8 نوفمبر 2015

درس إنجليزي وشارع الأعمدة... من وحي عمان الغارقة

في ربيع العام 2000 كنتُ أستعد لأداء امتحان اللغة الإنجليزية IELTS بعد وصولنا لمدينة إدنبرة، ولهذا الاَمتحان قصةٌ لا بدَّ منها في سياق حديثي هذا؛ ملخصها أننا واجهنا ضيقاً مالياً شديداً استدعى مني محاولة الحصول على منحة دراسية، تكون رافداً للدخل يمكّننا من الوفاء بمتطلبات المعيشة في تلك البلاد (الكافرة) التي كانت صدمتُنا الثقافية الأولى فيها أمانةَ إخوتنا (المؤمنين) القائمين على ابتعاث الطلبة العرب واستقدامهم للدراسة في تلك البلاد المكلفة.
وكان سبيلي إلى تحصيل قبولٍ في إحدى الجامعات البريطانية يتطلب شهادة تثبت كفاءتي في اللغة الإنجليزية، ولأن العين بصيرة واليد كانت قصيرة، فلم أتمكن من الالتحاق بأي دورة تمكنني من دراسة اللغة، فاستعنتُ بزميلةٍ قادمة من بلادي أعارتْني كتاباً للتحضير للامتحان، عنوانه جواز السفر إلى أيلْتس، فاتخذتُ مني أستاذاً وطالبةً في الوقت نفسه، فكانت تجربتي الأولى في أن أكون معلمةَ نفسي؛ توفيراً لمئات بل ربما آلاف الدنانير التي كنتُ سأنفقها في الدورات التحضيرية التي يتطلبها إتقانُ اللغة الإنجليزية، وهكذا تفرغتُ شهراً للدراسة استعداداً للامتحان.
كان الكتابُ يضمُّ تسعَ وحداتٍ متدرجة من السهولة إلى الصعوبة، يتدرب الطالب من خلالها على استراتيجيات الامتحان وفروعه المتنوعة من استماعٍ وقراءةٍ وكتابةٍ وضبطٍ للوقت والتعامل مع الأسئلة وكيفية الإجابة... وما زلتُ أذكر إلى اليوم من ذلك الكتاب قطعةً من الـComprehension  في إحدى الوحدات موضوعها عن الطرق الرومانية القديمة، فقد أثارت القطعةُ في نفسي تساؤلاً كبيراً: ما الذي يجعل امتحاناً للغة يهتم بتدريب الطلبة على قراءةِ موضوعٍ كهذا: عن رصف الطرق وكيفية بناء الشوارع في الحضارات القديمة؟؟ خاصة أننا ننتمي –نحن في الشرق- في حياتنا المعاصرة إلى ثقافةٍ تنظر إلى الماضي بعين الاحتقار والتقليل، وتنظر إلى منجزات الأجداد على أرضنا وإلى بقايا الوافدين القدماء على بلادنا على أنها آثارٌ نشاهدها في المتاحف أو نشعل النيران في أفيائها لشواء قليل من اللحم في لمَّةٍ عائلية نسميها رحلة نهاية الأسبوع!
لا أدري لمَ ماتزال ذاكرتي تحتفظ بالمعلومات التي مررتُ عليها في أثناء دراستي تلك القطعة النثرية التي لا تتجاوز صفحتين، ولمَ ما تزال هذه الذاكرة تنطبع فيها الصورُ التوضيحية التي كانت ترافق النصَّ المكتوب، وتظهر فيها الطبقاتُ التي تتكون منها الطريق الرومانية تحت طبقة الحجارة الكبيرة الملساء، التي عادةً ما نسير عليها في شارع الأعمدة في مدينة جرش مثلا، دون أن نلتفت لما يمكنُ أن يكون وراءها أو تحتها على وجه الدقة.
لماذا تأتي هذه الذكريات الآن؟ لأن عمان التي ترقد بأَنَفة على سبعة جبال، والغارقة في أمطار يوم الخميس الماضي- لم تسعفها روحُها الجميلةُ في أن تحلَّ في قلوب أبنائها المهندسين وغيرهم، كي ينقذوها من مشاهدَ تخجل أن تُظهرَها للداني قبل القاصي.  
عمان الغارقة في مياه أمطارٍ امتدت لأقل من ساعة فغرقت منها الشوارعُ والأزقّة والحارات، أودت بكثيرٍ من حميميةٍ البيوت والأدراج التي تمتاز بها المدينةُ القديمة، بل حتى المعالم الأثرية الرئيسية كانت هي الأخرى في مرمى الغرق: فقد غرق المدرج الروماني الذي يكادُ يُتِمُّ الألفية الثانية من عمره، وقد كانت له تصريفاته الصحية الخاصة التي أنشأها الرومان أنفسهم، وهم المشهورون بالعمارة والبنيان. أما أبناء عمان اليوم فقد ضاقت صدورُهم عن فهم المدينة، فأغرقوها بكثير من القبح والتعثر الذي أصاب عمرانها.

حين وقع بصري على مشهد البحيرة الذي خلَّفَتْه مياهُ الأمطار حول المدرج الروماني وسط المدينة، كان درسُ رصف الطرق الرومانية في ذلك الكتاب منذ خمسة عشر عاماً هو ما وَرَدَ على ذهني مباشرة، وصار جوابُ التساؤل الكبير: نعم، لقد فهمتُ الآن لمَ قد يُحشَر موضوعٌ كهذا في دراستنا للغة!
المعرفةُ لا حدَّ لها، وغرورُ الإنسانِ المعاصر وغباؤه يجعله أحياناً لا يرى في الأعمال البسيطة والإنجازات القديمة، في معالجة مسائل كثيرة- لا يرى فيها قيمةً، وينفر من اقتفاء أثرها في معالجة مشكلات حياتنا المعاصرة. وهو يتعامى عن الحقيقة الأزلية: أن الإنسان يبقى هو الإنسان منذ عصر آدم إلى أن تقوم القيامة، لا يغيّر من هذه الحقيقة مظاهرُ التقدم التقني التي قد يعيشها بعضُ البشر في لحظةٍ تاريخيةٍ معينة، إذ يتبقى من الإنسان ما لا يمكن لأي منجَزٍ تقني جديد أن يمحو أثره.
عادت ذاكرتي إلى الرسم المنطبع فيها لصورةِ الطريق الروماني المرصوف،

وكثير من طرقات المدن الأوروبية الحديثة يتم رصفها بالطريقة القديمة نفسها، ما يعطي المدن جمالاً آسراً وحناناً على من يطأ تلك الأرض. كهذا المشهد من الشارع الذي كنتُ أسكن في إدنبرة.
وما أذكره من ذلك الدرس الحضاري الموجز هو: كيف أن أمراً بسيطاً لا يحتاج إلى حواسيب ولا ألواح إلكترونية ولا عطاءات هندسية، ولا استعدادات شتائية وهمية، أنَّ أمراً بسيطاً جداً كان يجنِّبهم الفيضان؛ عندما جعلوا الطريقَ محدودبة قليلاً في الوسط، كي يسهل جريانُ المياه إلى أطرافها التي تضم قناةً رفيعة تنتظر تلك المياه، ثم تنقلها إلى المصارف الصحية الجاهزة لاستقبالها بين مسافة وأخرى على جانبَيْ الطريق. وكيف أن طبقة الحجارة الملساء التي رُصِفَت بها تلك الطرقُ، كانت من أسباب تماسكها ودوامها حتى وقتنا الحاضر.
ولنتأمل بعض الصور التي تحفظ لنا هيئة الطرق القديمة في بلادنا ، التي نجد أنفسنا منها أكبر.



فكيف لمدينةٍ كمدينتنا عمان أن تغرق وهي تضم آثارَ عبقريةٍ هندسيةٍ قلَّ نظيرُها في العالم القديم والحديث؟ هل عجزنا عن أنْ نتعلم ونحاكي أثراً عظيماً من آثارِ عبقريةٍ هندسية عمرُها يمتد قروناً طويلة وما تزال ماثلةً إلى اليوم، لكننا تغافلْنا عن روحِ المكان الذي نسكن، تغافلْنا عن ملامحه الطبيعية حتى كادت تغيب. فكيف لنا أنْ نستعيدَ صورةَ الجبال التي تمتدُّ عليها عمان؟ وكيف لنا أن نستعيدَ المساحات الخضراء التي عادة ما ترقد على ضفاف مجاري المياه، وتمنح المدن قلباً رؤوماً خفّاقاً يحنو على أبنائها؟ أنّى لنا ذلك يُحيي رميمَ المدينة؟!
لقد نسينا في غمرةِ طمعٍ ببريقِ مالٍ يزول- أنَّ للمدن أرواحاً لا بدَّ تسكنها فلا تقتلوا تلك الروحَ، وعورةً لا بد تسترها، واليوم انكشفتْ أمامنا عورةُ عمان الغارقة أرجاؤها بأوحالنا، المقتولة روحُها بجشعنا. فمن لنا بمن يتعلم بلا خجلٍ مما مضى، ويفتح نافذةً لقلبٍ يضيء عمان من جديد؟


الأحد، 1 نوفمبر 2015

48 ساعة من دون شاحن!

48 ساعة من دون شاحن!

 بقلم فريهان الحسن


طوال 48 ساعة، كانت تحاول إخفاء ما بداخلها من مشاعر توتر وقهر وغضب..!
القصة بدأت حين وصلت البيت، فاكتشفت أنها نسيت شاحن هاتفها المحمول عند صديقتها التي تقطن في مكان بعيد، فيما كانت بطارية الهاتف تتناقص بسرعة، فلم يبق من طاقتها سوى 5 %. وقد حاولت عبثاً إيجاد شاحن قديم في زوايا المنزل. 
هي في بيتها، لكن تملكتها حالة من الغربة، وسيطرت الأفكار السلبية على عقلها! تساءلت: كيف سأتمكن من إكمال هذا الليل الطويل من دون هاتفي؟! وهل باستطاعتي الانتظار حتى صباح اليوم التالي؟!
فالهاتف المغلق كان كافياً لإشعارها بالعزلة التامة؛ إذ هي غائبة عن محيطها الإلكتروني، لا أحد معها سوى ذاتها.. وهذا لا يكفي! ولتستقل مركبتها، متجهة بأقصى سرعة إلى منزل صديقة أخرى تسكن في منطقة قريبة منها، مستعيرة منها شاحنا يعيد النبض في بطاريتها وحيوية حياتها هي شخصيا، فتنام بسلام!
في الصباح، اطمأنت بدرجة ما إذ وجدت هاتفها وقد شحن بما لا يتجاوز الربع، لأن الشاحن المستعار لم يكن يعمل جيدا. وقد حاولت أن لا تستنفد البطارية حتى تصمد لبقية اليوم، علها تتمكن من شحنها بشكل أفضل حين تعود إلى البيت.
لكن الفاجعة كانت ليلا حين تعطل أيضاً الشاحن المستعار، ليعود إليها القلق، وتدخل في الدوامة الأولى! ماذا ستفعل الآن بعد أن استنفدت البطارية تماما وتوقف الهاتف؟! كيف ستغيب عن عالم التواصل الاجتماعي (فيسبوك، انستغرام، تويتر، سناب تشات)؟ كم رسالة وصلتها على تطبيق واتس اب؟! يا ترى من اتصل بها ووجده مغلقا؟ كم رسالة إلكترونية وصلتها؟!
أفكار تذهب هنا وهناك، ويزيدها صعوبة أنه لم يعد بمقدورها وقد تأخر الوقت ليلا شراء شاحن جديد! وهي ستضطر أن يمر الليل الطويل، والممل، بعيدا عن عالم افتراضي لكنه يأخذ جلّ وقتها الحقيقي.
يومها خلدت إلى النوم مبكرا على غير العادة؛ فلا شيء يستحق أن تسهر الليل من أجله، إذ لمن تبعث رسائل وممن تستلمها؟ أين ستقرأ وتتابع وتبتسم وتحزن، وتختبر كل المشاعر معا؟.. الليلة لن يرافقها هاتفها إلى سريرها كما في كل ليلة سابقة.
استسلمت للنوم سريعا، أيضا، على غير العادة، واستيقظت باكرا، رغم أن موعدها مع صديقتها في الساعة العاشرة صباحا. لقد نهضت وكلها نشاط، واستعدت سريعاً للخروج، بحيث وصلت قبل الموعد بنصف ساعة.. فهي تريد أن تستغل الوقت في منزل الصديقة كي تشحن هاتفها، وتلحق ما ضاع عليها في ليلة وضحاها!
استغربت رفيقتها من نشاط غير معتاد، ولم تصر أن يخرجا على الموعد، فهي ملتصقة بالمكان الذي يشحن به هاتفها وتريد أن تكسب مزيدا من الوقت! لكنها اكتشفت، بأنها بالغت في توترها؛ فلم يضع عليها الكثير. الأخبار كانت عادية، والرسائل قليلة وغير مهمة.. إلا أنها مع كل ذلك شعرت أنها تستعيد أمانها كلما زادت نسبة الشحن في البطارية.
خرجتا وصديقتها، وأخذت معها شاحن الأخيرة. وكانا كلما وصلا مكانا ما، شحنته هناك قليلا، إلى أن ذهبت وأحضرت شاحنها العزيز من بيت صديقتها الأولى.
كانت تلك حالتها في 48 ساعة!... هاجس شحن الهاتف، يسيطر عليها كليا. فقد أحست خلال تلك الفترة أنها تفتقد شيئا عزيز جدا عليها، بحيث لم تستطع الاندماج في محيطها من دونه.
هي، ونحن، تعلقنا بهذا الجهاز الأصم الصغير الذي يلغي عالمنا الحقيقي، ويجعلنا أسرى لعالم افتراضي ينسينا إنسانيتنا، حياتنا، أصدقاءنا وعائلتنا، ويقذف بنا إلى عالم العزلة. هي تعترف أنها أدمنت هذا الجهاز “الذكي” الصغير الذي يجذبها لحديث صامت معه فقط.. غير أنها اعترفت أيضا، أنها معه أصبحت أكثر سلبية وسذاجة!
ربما لم تتوقف عند سؤال هو الأهم.. من يملك الاخر نحن ام هواتفنا؟!