أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 ديسمبر 2017

آية الخائن

بقلم د.نضال الصالح




سماءٌ شديدةُ الصفاء، ومترفَةٌ بزرقة شفيفة، وغيمتُنا الرؤوم تحمينا من لظى شمسٍ باهظةِ الجنون، شمسِ حزيران المؤذنةِ بصيفٍ لم يكن قد سبقه صيفٌ. وكانَ كلُّ شيء حولنا مستغرقاً في هدأةٍ فاتنة لم يكن يعكّرُ بهاءها، رغم وطأة الحرّ، سوى أصواتٍ مبهمةٍ تتثاءبُ من بعيد، وترتطمُ بالمكان أشبهَ بعواء ذئابٍ جريحة وقد أشرفتْ على الهلاك، وما إنْ تكاثرتِ الأصواتُ حتى غدتْ عواء حقيقياً، ولكن ما مِن ذئاب، وما إنْ تعالتْ وتصادتْ قريباً منّا كأنّما تحاول أن تحدقَ بنا، حتى علا صوتُ الجليلِ: «صهٍ»، وحتى عادت الهدأة تعطّرُ المكان.  
قالَ الجليلُ، هو يعابثُ بقبضة يده اليمنى لحيته الكثيفةَ والباذخة البياض، كأنّما يتابعُ حديثاً سبقَ: «فما آية المنافق؟»، قلتُ: ثلاث: «إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمن خانَ». قال: «وما آيةُ الخائن؟»، فاحتميتُ بالصمتِ، فلم يكن لي من زادٍ أقوى به على الردّ، فقال: «ثلاثٌ أيضاً، هنّ شقيقاتُ آية المنافق»، وتابعَ: «إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمنَ خان»، ثمّ افترشَ الأرضَ، وأنعمَ النظرَ في نقطة من السماء التي كانت لا تزالُ تباهي بصفائها الشديد، وزرقتها الشفيفة، وسمعتُه يقولُ كأنّما، شأنَه دائماً، يقرأُ من كتاب:
«والخيانةُ درجاتٌ: خائن، وخوّان، وخؤون، وكلّها قبحٌ، بل هي أقبحُ القبحِ، بل هي أدنى منه. والخيانةُ خيانات: خيانةُ الصديق، وخيانةُ الأمانة، وخيانةُ العهد، وخيانةُ المحبوب، وخيانة الكلمة، وخيانةُ الضمير، وخيانةُ الأرض.. الأرض.. الأرض»، وظلّ يردّدُ وثمّة رجفةٌ يرعدُ بها جسده: «الأرض، الأرض، الأرض»، حتى حسبتُ أنْ لن يكونَ بعدها قولٌ، وكانَ ما حسبتُه حقّاً، وكانت رجفةُ الجليل زادت تورّماً، فعييتُ عن فعلٍ، أو شبهه، أردّ للجليلِ به ومن خلاله ما يعيده إليّ، أو يعيده إليه، لكنّه، كشأنه دائماً أيضاً، باغتني بأنّ شيئاً ممّا رأيتُ كان كما لو أنّه لم يكن، وتابع:
«وإنْ قيلَ رُبَّ خيانةٍ أخفُّ وطأةً من أخرى، أو أقسى وطأةً من أخرى، فإنّ الخيانةَ خيانةٌ مهما يكن من أمر مرجعها، أو درجتها، أو وقْعها في الذات المقهورة بها. وثمّة خياناتٌ يمارسها ما لا يعقلُ ضدّ ما يعقل: الدمعُ، والدهرُ، والعافية، والعقلُ. وأقسى ضروب الخيانة خيانةُ الدهر. ويا بُنيّ، لا تختلفُ الخيانةُ في السرّ عن الخيانةِ في العلَن، فكلتاهما إثمٌ ينأى بفاعله عن الإنسانِ، وكلتاهما لؤمٌ. أفلم يقلِ الأوّلون: اللئيمُ كذوبُ الوعد، خؤونُ العهد، قليلُ الرفْد؟ أو لم يقلِ الحليمُ الأحنفُ: ما خان شريفٌ ولاكذبَ عاقلٌ ولا اغتابَ مؤمنٌ؟ ويا بُنيّ، إنّ أحمقَ الحماقةِ، بل غباء الغباء، أن تأمنَ خائناً كنتَ عرفتَ أنّه كذلك، أما قرأتَ صدر بيت لشاعر قديم قوله: لاتَأْمَنَنَّ امْرَأً خان امْرَأً؟ ويا بُنيّ، إنّ المحبّ لا يخونُ، ووحده الحاقدُ، والكاره لنفسه قبل سواه، والغاصبُ، والسارقُ، والكاذب، والكذّابُ، والكذوب، مَن إن ائتمنته خانَ. ويا بُنيّ، وإنْ كانت العرب استبدلت، أحياناً، بالفعل يخونُ الفعل يغلّ، فلأنّها كانت أمسكت بالمرجع من فعل الخيانة، أي الغلّ والحقدُ، والضغينةُ، والدناءةُ، وإنْ كانت شبّهتِ الخائنَ بالذئب، فلأنّ من بعض صفات الأخير الغدرَ، والتربّصَ، والضرَّ، والخديعةَ. وإنْ كانت قالت إنّ الحرَّ لا يخونُ، فلأنّها أدركت، بالفطرة، أنّ العبدَ هو مَن يخونُ، ويغدرُ، ويتربّصُ، ويضرُّ، ويخدعُ».
ثمّ عاودَ الجليلُ صمتَه، ودفعَ إليّ بكتابٍ، وأومأ لي بأن أقرأ، فقرأتُ على غلاف الكتاب: «الفصولُ والغايات»، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخيّ المعرّي، وما إنْ قدّرَ أنّني تعرّفتُ إلى عنوان الكتاب ومؤلّفه، حتى رسم بأصابعه في الفراغ رقماً، فمضيتُ إلى الصفحة، وقرأتُ: «رجْعٌ: مَنْ خانَ الرفيقَ، في الأفيق، خانَ الوالدَ، في الطريف والتالد. والخائن عند الله مقيت»، ثمّ سمعتُه يقولُ: «سُقيا لتربة جدّكِ النابغة، إذْ اختزل صفات الخائن في قوله في هجاء النعمان: 
قَبَحَ اللهُ ثم ثَنَّى بلَعْنٍ                   وارِثَ الصائغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
مَنْ يَضُرُّ الأَدْنى ويَعْجَزُ عن ضُـ     ـرِّ الأَقَاصِي ومَن يَخُونُ الخَلِيلاَ».
وما مضتْ هنيهةٌ من الصمت، حتى أقرأني من دون كتاب قوله: «وكانَتِ العربُ تكنّي عن الرجل الذي لا يخونُ ولا يسرق بقولها: طاهرُ الكُمّ، أو طاهرُ الرِّدْنِ، أي الثوب. ويا بُنيّ، كانَ عبدُ الله بنُ مسعود حدّثَ، فقال: سألتُ النبيّ: يا رسولَ الله، هل للساعةِ مِنْ علمٍ تُعرَفُ به؟ فقال لي: يا بنَ مسعود، إنَّ للساعة أعلاماً، وإنَّ للساعة أشراطاً، ألا وإنَّ مِن أعلام الساعة وأشراطها أن يكون الولدُ غيظاً، وأن يكونَ المطرُ قيظاً، وأن يفيضَ الأشرارُ فيضاً. يا بنَ مسعود، إنَّ مِن أعلام الساعة وأشراطها أن يصدقَ الكاذبُ، ويكذب الصادقُ. يا بن مسعود، إنَّ من أعلام الساعة وأشراطها أن يؤتمنَ الخائنُ، وأن يخونَ الأمينُ. يا بنَ مسعود، إنّ من أعلام الساعة وأشراطها أَنْ يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا، وَكُلَّ سُوقٍ فُجَّارُهَا. يا بن مسعود.. يا بنَ مسعود».
وفيما كانَ الجليلُ يعدّدُ ما كانَ ابنُ مسعود عدّدَ ما كانَ الكريمُ عدّدَ عن أعلامِ الساعة وأشراطها، كنتُ مأخوذاً بالأعلام والأشراط كما لو أنّها الآنَ، الآنَ، وفيما أنا أحشرجُ بأسئلةٍ كأنّها الحرابُ عن زمنٍ تضرّجَ بالمفارقة، افترَّ ثغرُ الغيمة عن غيثٍ عانقُ الأرضَ كعاشقٍ برّحَ الشوقُ به، وسمعتُ، فيما سمعتُ، الجليلَ يردّدُ: «الحرُّ لا يخونُ.. الحرُّ لا يخونُ».

الخميس، 14 ديسمبر 2017

غادة السّمّان.. لماذا؟

https://goo.gl/dRpUxS
بقلم :همام يحيى
مدونات الجزيرة

نجحت غادة السّمّان مرّة أخرى في إثارة الجدل، وإن كان هذه المرّة صورةً باهتة عمّا كانَه يومَ نشرت رسائل غسّان كنفاني إليها. إذا ما أخذنا في الاعتبار الفرق في وسائل التّواصل والتّعبير بين الزّمنين، فسيتبيّن لنا أنّ ضجّة "أنسي" لا تُذكَر مقارنة بضجّة "غسّان". تخيّل لو كان هناك فيسبوك يومَ نشرت رسائلَ غسّان.

لا أريد التّورّط في المساواة بين الأمرين بطبيعة الحال، فرسائل غسّان طويلة وممتدّة، وغسّان مناضلٌ ارتبط بالقضيّة الفلسطينيّة نشاطا سياسيّا وأدَبا كذلك، أمّا أنسي فالرسائل محدودة والفترة قصيرة في حدود ما نعرف، وهو شاعرٌ لطالما نُظِرَ إليه باعتبارِه نخبويّا مفرِطا في النّخبويّة، فليس أديبا مرتبِطا بقضيّة ولا بجماهير.

تُرى هل تُريدُ الأديبةُ أن يُحبَّها الأديب لأنوثتِها أم لأدبِها؟ يمكنُ أن نجيبَ بحسنِ نيّة: لماذا لا يُحبُّها لكليهِما؟ الأمورُ أعقدُ من ذلك للأسف
لكن رغم ذلك كلّه، يظلّ الفرق بين الحدثين مثيرا للتأمّل. تزامنَ نشرُ رسائل غسّان مع تسارعٍ كبيرٍ في مسيرة تصفية قصصنا الكبرى، فالقضيّة الفلسطينيّة التي استُشهد من أجلها غسّان كانت قد شرعت في طريق أوسلو، وكان العراق قد بدأ مرحلة التدمير والتّفسيخ، وكان الاتّحاد السوفييتي قد انهار حديثا، وكان ما يزال ثمّة بقايا لحديثٍ عن ذكورة صافية أو رجولة يُمكن أن يهدّدَها نشرُ رسائل يبدو فيها المناضل بشرا ضعيفا مستكينا يتوسّل لامرأة أن تكتب له، وكان ما يزال ثمّة متّسَعٌ للحديث بحنَق عن أخلاقيّات وخصوصيّات وصورٍ ذهنيّة صافية لا يجوزُ أن تُخدَش ومثاليّات لا يجوز أن تُمَسّ.

أما اليوم، فتبدو غادة متأخّرة جدّا عن الزمن، إذ تنشرُ الرّسائلَ في زمن أصبحت فيه خمسة أقطار عربيّة كبرى على الأقلّ أسماء بلا مسمّيات، والفلسطينيّ الذي كان يصولُ ويجول حيث عاش غسّان اضطراريّا أصبحت تُبنى حولَ مخيّماتِه جدرانٌ فاصلة، والقضيّة الفلسطينيّة نفسُها تبدو ظلّا باهتا لما كانته يومَ كان رجالُها وثوّارُها وأدباؤها وشعراؤها يجوبونَ العالم شرقا وغربا وتحملُهم "الثورة" و"القضيّة" على أعناق الجماهير وإلى صفوة المنابر.

تنشرُ غادة رسائلَها في زمن انتشرت فيه مقولات "النّسويّة" بغثّها قبل سمينِها، وصار فيه من المَعيب أن تُشيرَ ولو مجرّد إشارة إلى أنَّ كونَ امرأةٍ ما امرأةً ساهمَ ولو بدور بسيطٍ جدّا في فِعل فعلتْه أو قولٍ قالته أو موقف اتّخذته، وفي زمنٍ ذابت فيه الفوارق بين الرّجولة والذّكورة والذكوريّة، بحيثُ صارَ أكثرُ الرّجال يخشونَ أن يُضبَطوا متلبّسين بسلوكٍ أو قولٍ أو موقفٍ يخدشُ رهافة المرهَفات وتربّصَ المتربّصات.

تنشرُ غادة رسائلَها في زمن يمكن فيه بضغطة زرّ خاطئة أو غير مقصودة أن تنشرَ محادثةً خاصّة أو صورا بالغة الخصوصيّة ويراها الآلاف في ثوانٍ، وتنطلُق بعدَها كالرّصاصة التي لا يمكنُ لا إيقافُها ولا إرجاعُها.. في زمنٍ يُمكن فيه لمجموعة من مجانين نافذين في فيسبوك أن يفضحوا نسبة محترمة بالمئة من سكّان الكوكب.

قيمة رسائل أنسي تكمنُ في شيء واحد بالأساس: أنّ من نشرتْها هي نفسُها من نشرتْ رسائلَ غسّان يومَ كان الزّمانُ غيرَ الزّمان. لولا رسائل غسّان، لما كانت رسائلُ أنسي لتُثير فينا أكثر من  إعجاب بجمالِ لغتِها، وبنزقِ الشّاب الذي يقول: "إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري".

حُبّ الأدباء:
مجتمع الأدباء ذو سِماتٍ خاصّة يعرفُها من اقتربَ منه ولو قليلا. الأدبُ نفسُه حالة مضطربة من رؤية الوجود والتّفاعل معه، إذ تذوب الحدود لدى الأدباء بين الحقيقة والخيال، والواقع والواجب، والإفصاح والاختباء خلف الاستعارات والمجازات والكنايات، والأدباء امتدادٌ بقدرٍ أو آخرَ لهذه الحالة.

ثمّة توجُّسٌ شديد لدى المرأة تجاه الأديب إذا أحسّت منه انجذاباً نحوَها، وتعرف ذلك كلُّ من تقرّب منها شاعرٌ بالذات. ثمة تخوّفٌ قد يصحّ أو يكذبُ مفادُه أنّ الأديبَ مهجوسٌ دائما بالبحث عن موضوع جديد للقصيدة القادمة أو للرواية التّالية، وهناك اعتقاد شائع -لستُ بصدد نفيه أو تأكيدِه- أنّ الأديبَ مستعدّ دائما للتضحية بما لديه وما هو حقيقةٌ في واقعِه من أن أجلٍ أن يظفرَ بمضمونٍ يمكنُ استخدامُه في عملٍ أدبيّ. الأدباء متّهمون باستمرار بأنّ أحدهم يمكن أن يضحّي بعلاقة رائعة من أجلٍ أن يعيش حزنا لائقا بقصيدة أو مأساة لائقة برواية.

والعكس ليس أقلّ إثارة للتوجّس، فالمرأة التي تجدُ نفسَها موضِعا لإلهام الشّاعر ومُثيرة لشاعريّتِه وُمجرِيةً لقلمِه، تخشى ان تؤولَ امرأة عاديّة إذا انتقلت من اشتعالات الإلهام إلى برودة اليوميّ، ومن ضبابيّة الرغبة المشتَهاة إلى وضوح الواقع الممتلَك، ومن الصّورة الغائمةِ المُحاطةِ بالهالات حين "تَحبِكُ" لحظة الكتابة إلى الصورة الرتيبة حينَ يكونُ شيطانُ الكتابة في سباتِه.

لذا، تعلّمتِ الحكيمات من النساء ما مفادُه: ارضَي بمكانك الأوّل في حياةِ الأديب أو انسحبي منها، لكن لا تطمعي في الدّورين معا. إذا وجدتِ نفسَكِ في إلهامِه وقصيدتِه فلا تطمعي في حياتِه، وإذا وجدتِ نفسكِ في حياتِه فلا تطمعي في القصيدة. ولأنّ هذا ما تعلّمتْه حكيمات النّساء عبر الزمن فلا دورَ لي في إثباتِه أو دحضِه، لكنّ لكل حكمة استثناءات بطبيعة الحال.

يُضافُ لذلك شعورٌ غامضٍ لدى من يكتبُ لها الأديبُ أنّه لا يكتبُ لها، بل يُخاطبُ امرأة كونيّة يراها حالّة فيها أو متلبّسةً بها. بقدر سعادةِ المرأة التي تجدُ نفسَها موضِعا لتجلّي هذه الأنثى المطلقة، فإنّها تظلّ مرتبِكةً إزاء شعورِها بالزّيف، شعورِها بأنّها مُخاطَبة بالكلام، لكن غيرُ مقصودةٍ به.

والأديب؟
أما الأديبُ فهو بدورِه ليس أقلّ توجّسا من النّساء وحبّهنّ، وهاجسُه الدائم هو التّساؤل عمّا إذا كانت المرأة تحبُّه أم تحبُّ صورتَها في أدَبِه، عمّا إذا كانت تراهُ كائنا من لحمٍ ودم أم مرآةً تُريدُ أن ترى نفسَها فيها، عمّا إذا كانت ستبقى بجوارِه حين يكونُ نزِقا نكِدا حادّ المزاج أم ستأخذُ قصائدَها وتمضي. لذا حفظْنا تحذيرَ درويش عن ظهر قلب:

هي لا تُحبُّكُ أنتَ
يُعجبُها مجازُكَ
أنتَ شاعرُها 
وهذا كلُّ ما في الأمر ..

وقال همّام:
والجميلةُ لا تحبُّ سوى المرايا
أو رجالا كالمرايا
لذلك كلّه ولغيرِه، حبّ الأدباء مغامرةٌ خطِرةٌ لطرفيها، إذ يدخُلانِها بتوجّس، ويعيشانِ فيها أجملَ لحظات الاحتراق، وأقسى لحظاتِ الضّجَر، واحتمالاتُ النّهاية والمآل مفتوحةٌ على كلّ المصاريع.

لكن ماذا عن الأديبة؟
ربّما يتخيلُ كثيرون غادة وهي تبتسمُ ابتسامة مكرٍ أو انتصار وهي تنشرُ رسائلَ رجال ينكسرونَ أمامَها ولها، لكنّي أشعرُ تجاهَها بالحزن
وجود أديبة أو شاعرة في وسطِ الأدباء بحدّ ذاتِه حالة قلِقة وشديدة التوتّر. شئنا أم أبينا، أكثرُ الأدباء في التّاريخ والحاضر وفي سائر المجتمعات من أقصى الشّرقِ إلى أقصى الغرب من الرجال. هذا يجعلُ الأديبة تبدأ من موقعٍ مختلفٍ تماما، سواءٌ أكان تفوّقُ الرّجال في الأدب ناتِجا عن ظلمٍ تاريخيّ، أو صورٍ نمطيّة، أو طبيعة الأدب، أو طبيعة المرأة، أو بعض ذلك أو كلّه، فهو في النهاية واقع. واقعٌ على الأديبة أن تتحدّاه.

قولُ هذا أسهلُ بكثير من ممارستِه. فإذا وُجِدَ في الوسطِ الأدبيّ من يُشجّعُ المرأة فهي بين أن تقبلَ التّشجيعَ لأنّ الجميع يحتاجونَه بما في ذلك الرّجال، وبين أن ترفضَ التشجيعَ لأنّه قد يشي بشفقة مبطّنة لا تريدُ من غيرها أن يشعرَ بها تجاهَها. وهي كذلك بين أن تقبلَ الإعجابَ والتّقدير باعتبارِها مستحقةً له، وبين أن تتوجّس منه باعتباره محاولة خفيّة للعبور إليها عن طريق أدبِها. إذا كتبتْ أدبَها بصوتِ امرأة، اتُّهِمَت بأنّها لا تستطيعُ أن تخرج من إطارِ أنوثتِها لتكتبَ أدبا غيرَ نسويّ، وإذا كتبتْ أدبا غيرَ نسويّ، تساءلَ النّقادِ عن غيابِ صوتِها الخاصّ وهواجِسِها الحميمة. المرأة في الوسط الأدبيّ في حقلِ ألغامٍ مزروعة في كلّ اتّجاه.

وماذا لو أحبّها أديبٌ مثلُها؟
هذا وضعٌ شديدُ التّعقيد والالتباس. فهو أديبٌ ينطبقُ عليه ما قلناه من قبل في حبّ الأدباء، وهي امرأةٌ وأديبةٌ في الوقتِ نفسِه، فهي امرأة تُحبُّ أن تُحِبَّ وأن تُحَبّ، كما يُحبُّ الرجلُ أن يُحِبَّ وأن يُحَبّ، وهي كذلك أديبةٌ من داخل البيت، تعرفُ مناورات المجاز وروغان الاستعارات وألعاب الكناية ومكرَ البلاغة.

تُرى هل تُريدُ الأديبةُ أن يُحبَّها الأديب لأنوثتِها أم لأدبِها؟ يمكنُ أن نجيبَ بحسنِ نيّة: لماذا لا يُحبُّها لكليهِما؟ الأمورُ أعقدُ من ذلك للأسف، فهذان الاحتمالان سيظلّان يُطاردانِها، وستظلُّ تجري بينَهُما جريا أبديّا كجريِ هاجرَ اليائسِ بينَ الصّفا والمروة، من دون أملٍ في "زمزم".

أن يتحابّ أديبٌ وأديبة فذلك اجتماعٌ لاحتمالاتٍ تفوق الاحتمال، شيءٌ يُشبِه عِناقَ سحابتين لا يُعلَم خِلالَه ما في هذه من تلك وما في تلكَ من هذه، ولا يُعلمُ بعدَه ما بقيَ من إحداهما فيها، أو عشقا بينَ وترينِ في عود، لا يزيدُ اهتزازُهُما واضطرابُهما متجاورَين إلا في قناعتِهما باستحالة اللقاء.

أخيرا، غادة..
لستُ في موقعٍ يسمحُ لي بالتّكهّن بما دارَ في خَلَد غادة يوم قرّرت نشرَ رسائل غسّان أو أنسي. قد يكونُ لما سبقَ علاقةٌ ما بقرارها وقد لا يكون، غيرَ أنّ شيئا واحدا يبدو لي واضِحا ومُحزِنا في الوقتِ نفسه: لا يمكنُ لرسائلِ العشقِ بعد نشرها أن تظلّ رسائلَ عشق، بل ستصبحُ أدَبا. شاءت غادة ذلك أم لم تشأ، لم تعد الرسائلُ رسائلَ حبّ، بل أصبحت أدبا، أو ربّما تاريخا أو مادّة صحفيّة. تُرى، هل كان هذا هو حكمَ غادة عليها من الأساس؟ أنّ هؤلاء الرّجال أرسلوا لها قصائدَ متنكّرة في رسائل؟ أم أنّ هذا كان اكتشافَها المتأخّر؟ وهل كانَ هذا الاكتِشاف انتصارا لها كأديبةً، إذ استطاعت أن تتعالى على مراوغاتِ الرّسائل وترى فيها أدباً لا رسائلَ عشق؟ أم كان جَرْحاً لأنوثتِها لأنّ هؤلاء الرّجال لم يستطيعوا أن يكتبوا لها رسائلَ عشقٍ حقيقيّة، لا قصائدَ متنكّرة؟.. من يدري؟..

لكنْ أيّا يكُن، بنشرِ الرّسائل، تقرّر غادة أنّها لم تستحقّ وحدَها هذه الرسائل، ولذا لم تستطع أن تحتكرَ ملكيّتَها. تقرّر أنّ فيها شيئا لا يعنيها وحدَها، أنّها لم تُكتَبْ لها تماما، أو ربّما لم تُكتبْ لها بالمرّة. الرسائلُ أو بعضُها بدت لغادة شيئا لا تستطيعُ أن تدّعي ملكيّتَه الكاملة، شيئا لا يمكن لصندوقِ الهدايا أو ملفّ الرّسائل أن ينطويَ عليه في طمأنينة، فنشرتْه لعلّ التّاريخ أو الأدبَ يتحمّلُ عنها عناء هذه الملكيّة.

ربّما يتخيلُ كثيرون غادة وهي تبتسمُ ابتسامة مكرٍ أو انتصار وهي تنشرُ رسائلَ رجال ينكسرونَ أمامَها ولها، لكنّي أشعرُ تجاهَها بالحزن، لأنّها مهما عاشتْ من حبّ مع غير هؤلاء الرّجال، ومهما تحقّق لها من مكاسبَ بالنّشر، إن تحقّق شيءٌ من هذا، قد خسرت شيئا عزيزا جدّا: شعورَ أن تكونَ هي وحدَها، ولا أحد معها، جديرةً بهذه الرّسائل.

الأحد، 10 ديسمبر 2017

الحب وحده لا يكفي يا صوفيا

بقلم: عبد المجدي سباطة
مدونات الجزيرة

رغم أنني من أشد المعارضين لذلك الخلط -الخاطئ في نظري- بين حياة الكاتب الشخصية وعمله الأدبي، إلا أنني في كل مرة يوقعني فيها كتاب معين في غرام أفكاره وحبكته وشخوصه، أجدني مدفوعا بقوة خفية إلى النبش في أدق تفاصيل حياة كاتبه، ظروف مولده ونشأته، تطوره الأدبي، المصاعب والعقبات التي واجهها، لحظات مجده وانكساره، إلخ...      

 قرأت في سنوات مراهقتي الأولى رواية "آنا كارنينا"، أيقونة الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي، بترجمتها الفرنسية، وطالعت قبل بضعة أسابيع واحدة من أجمل رواياته وآخر ما نشر له بعد وفاته، رواية "الحاج مراد"، بترجمة هفال يوسف، ربما كاستعداد نفسي قبل الدخول إلى عوالم أضخم أعماله وأشهرها: "الحرب والسلم". فاستوقفتني معلومة اتفقت على ذكرها معظم المصادر التاريخية:

قامت صوفيا، زوجة تولستوي بنسخ روايته "الحرب والسلم" 7 مرات قبل الاستقرار على نسختها النهائية. مهلا، نحن نتحدث هنا عن عمل روائي ضخم يتجاوز حجمه آلاف الصفحات، وليس بضع مئات فقط! من كانت لتقوم بهذه المهمة الشاقة، لولا امتلاكها الكثير من الصبر، والكثير من الحب؟

اسمها صوفيا بيرز، تعرف عليها ليو تولستوي بعد سنوات طويلة من العزلة، أحبا بعضهما بجنون، لم يكن عمرها يتجاوز آنذاك الثامنة عشرة، فيما يكبرها هو بستة عشر عاما، ورغم أنه سلمها ليلة واحدة قبل زفافهما مذكرات شخصية يعترف فيها بأسوء عيوبه، إلا أن قرارها كان قد حسم: سأتزوجك...مهما كلف الأمر، وتم ذلك بالفعل يوم 23 سبتمبر 1862، لتبدأ واحدة من أعقد العلاقات الزوجية والأسرية في تاريخ روسيا!

بعد ست سنوات من الزواج، وبالضبط عام 1868، بدأت صوفيا في كتابة يوميات تلخص فيها طبيعة علاقتها المعقدة بعبقرية أدبية لن تتكرر، العلاقة التي لم تكن صافية على الدوام، إذ تخللتها المشاجرات والمناكفات والتناقضات مع شخص مزاجي لا يمكن توقع تصرفه القادم على الإطلاق!

صف صوفيا كل هذا بالقول: "يعتريني الضحك لقراءة مذكراتي، فهناك الكثير من التناقضات كما لو كنت الأتعس بين النساء، لكن الذي يجعلني أكثر سعادة هو عندما أكون في غرفتي وأصلي من أجل سنوات عديدة أخرى من السعادة عشتها بالرغم من هذا الشجار الذي أكتبه هنا" واكبت صوفيا تأليف ليو تولستوي لروائعه، الحرب والسلم ثم آنا كارنينا، وقالت عن الأولى: "تولستوي كان يكتب بألم عن معاناة الآباء والأمهات في الحرب وفقدان الأبناء وما عانته قرية أوستريلتر طوال عام كامل وبرودينو وحريق موسكو، لقد تناولت وبإسهاب الحياة السياسية القاتمة والحب والكراهية".

وعن الثانية: "هذه المرة ينحو تولستوي بتاريخ روسيا منحى آخر يختلف جذريا عما قدمه في الحرب والسلم، فهو هنا يقدم تأريخا للحياة الاجتماعية ولا سيما حياة النخبة منهم خاصة النبلاء، تقف في وسطهم آنا كارنينا في صراع بين القلب والعقل، بين الحب والواجب وما بين القديم والجديد، في آنا كارنينا قدم زوجي عصارة جهده وفيها الكثير من نفسه".


لكنها كانت مطالبة أيضا بالقيام بدورها كأم أنجبت 13 طفلا مات بعضهم بسبب الأمراض التي كانت منتشرة بكثرة في تلك الفترة، أم تعنى بكل شؤون منزلها بالرغم من وجود الخادمات، وجميع أنواع المساعدة التي تقدمها لزوجها أثناء عمله، فكانت بالفعل امرأة متعددة المواهب، وزوجة قادرة على النهوض بالمهام التي يتطلبها أن تكون امرأة ما زوجة عاشقة لرفيق عمر شاء القدر أن يكون عبقريا مشهورا. لكن الخيط الفاصل بين العبقرية والجنون لا يكاد يرى، والحب وحده لا يكفي لصنع حياة زوجية سعيدة يا صوفيا!


يمكن القول إن المنعطف في حياة الزوجين ابتدأ مع منتصف حياة تولستوي، بعد تحوله إلى ما يشبه الواعظ الديني، إذ تخلى إلى حد ما عن كتابة الروايات، واكتسب الأتباع من جميع أنحاء العالم، (كان أبرزهم المهاتما غاندي)، فشكل رؤيته الخاصة للمسيحية، منتقدا مظاهر البذخ والتبذير في الكنيسة الأرثوذكسية، وبدأ يطلق التهديدات بالتنازل عن كل ما يملك، (بما في ذلك حقوق طبع أعماله) إلى الشعب الروسي. فاستشعرت صوفيا خطرا شديدا على مستقبل أسرتها بسبب تقلبات زوجها، وأثر ذلك على اتزانها النفسي خلال ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، لتتحول مرغمة إلى امرأة مرعبة خلال العقد الأخير من حياة تولستوي مع بداية القرن العشرين.
تقول الزوجة الصبورة أنها لم تعرف كيف تتعامل مع تولستوي بسبب صعوبة فهمه، فهو يشعرك بأنه متدين وأعماله كلها مكرسة للخير، بينما هو في حقيقة الأمر يريد شيئا واحدا فقط هو الهيمنة، كان على حد قولها متعصبا لرأيه ولما يرى أنه حق.

استفحل الأمر مع اقتراب تولستوي من سن الثمانين، فقد كان يهدد صوفيا باستمرار بتركها وترك الأسرة والعيش على الطراز البوهيمي أواخر عمره، فلم تجد الزوجة بدا من تهديده بالانتحار على طريقة آنا كارنينا بطلة رواية ليو الأشهر، وعندما لم تجد أذنا صاغية منه نفذت تهديدها بالفعل وقفزت إلى إحدى البحيرات محاولة التخلص من كل عذابها، لكنهم تمكنوا من إنقاذها، فقالت: "أريد أن أغادر العذاب لأنني لم أعد أتحمل هذه الحياة الرهيبة ولا أستطيع أن أرى أي أمل".

في النهاية أصر تولستوي على رأيه وترك حياة الترف والثراء، وفر من منزله بإتجاه منزل صغير في قرية استابو بالقرب من إحدى خطوط السكك الحديدية، ليتم العثور عليه ميتا بعدما أصيب بالتهاب رئوي، وذلك يوم 20 نوفمبر 1910 عن عمر يناهز 82 عاما، ودفن لاحقا في حديقة ضيعة ياسنايا بوليانا. دون طقوس كنسية أرثوذكسية كما أراد.

عاشت صوفيا بعده سنوات طويلة من الترمل، وكانت تذهب لزيارة قبره حيث تطلب الصفح منه لإخفاقاتها معه، رغم تسببه هو الآخر في جزء كبير من عذاباتها، وبقيت وفية لذكرى زوجها إلى أن لحقت به في الرابع من نوفمبر من العام 1919.

تشهد مذكرات صوفيا إذن على المصاعب والعقبات التي واجهت امرأة استثنائية متزوجة من رجل ترك بصمته الواضحة في سياق التاريخ العالمي المعاصر، ومع كل المشاعر التي حملتها نحوه إلا أنها كشفت في الوقت نفسه عن مأزقها الذي لم تجد هروبا منه سوى بين أوراقها ودفاتر الصغيرة، ربما لأن الكلمات التي سطرتها كانت تشعرها بالراحة وتخفف من آلامها، تاركة سجلا حافلا بكفاحها ومصدر إلهام لأجيال الحاضر والمستقبل، لعل هذه الأجيال تفهم من خلالها أن الحب وحده لم يكن في يوم من الأيام كافيا لصنع المعجزات!

السبت، 9 ديسمبر 2017

بين الأب وابنته

فنان من أوكرانيا يكشف عن أهمية الحب بين الأب وإبنته ...
صفحة سيدتي الجميلة
https://www.facebook.com/sayidatynetpage/posts/1824460674251267?pnref=story

التفاصيل الصغيرة بين الأب وأبنائه هي التي تجعل منه الأب البطل في عيونهم وقلوبهم... والذي لا يرى إلا نفسه ونزواته، ساقطٌ من عيونهم وقلوبهم. ماذا ينفع أن يراك جميع الناس بطلاً وأنت في عيون أبنائك خائن! وماذا ينفع وجود الجميع حولك... وأبناؤك لا يشعرون بوجودك!




























الجمعة، 8 ديسمبر 2017

مُذكرات الكُتاب: عوالمهم الدفينة

بقلم رضوى أشرف


الإحتفاظ بمذكرة وكتابة مذكراتك قد تكون أفضل مميزات العزلة. فلا توجد طريقة أفضل منها لتقديم نفسك، وخبراتك وأفكارك الداخلية. وهنا يتحدث بعض أشهر الكتاب عن تجاربهم في كتابة مذكراتهم وتأثير ذلك عليهم.

وربما أشهرهم هي الروائية الأسبانية أنايس نين، والتي بدأت في كتابة مذكراتها في عمر الحادية عشر حتى موتها وقد بلغت 74 عاماً، لتخلف وراءها 16 عدداً منشوراً من المذكرات تطرح فيها موضوعات مثل الحب، الحقوق، إعتناق المجهول، معنى الحياة وأسباب الفرح. وتقول عن كتابة المذكرات: “بينما كنت أدون مذكراتي اكتشفت مقدرتي على تسجيل اللحظات الحية. وإحتفاظي بمذكرة طوال حياتي جعلني أكتشف بعض الأسس الجوهرية في الكتابة. وأقصد من حديثي هذا الإشارة لبعض الإكتشافات الهامة التي تنتج عن هذا النوع من الكتابة، وأهمها العفوية والتلقائية. ففي مذكراتي لم أكتب إلا عما أثار إهتمامي بصدق، وما شعرت به حينها، ووجدت أن ذلك الحماس هو ما أحتاجه في الكتابة”.

ومن ثم الكاتبة الإنجليزية الشهيرة فرجينيا وولف، والتي تحدثت عن قدرة المذكرات على الولوج لأعماقنا، حيث تكمن المجوهرات الحقيقية. تقول: “أود أن أشير إلى أن الكتابة في المذكرة لا تعد كتابة بحق. فقد أعدت قراءة مذكراتي للعام الفائت وصدمت بالفوضى العشوائية التي تسودها. ولكنني أعتقد أنه إن توقفت عن الكتابة للتفكير والتصحيح، فإن كتابات المذكرات لن تُكتب أبداً. من أهم مميزاتها أنها تسجل ما كان من الممكن أن أتردد بكتابته في ظروف كتابة عادية.”

أما الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثوريو، فقد نُشرت مذكراته التي كتبها على مدى أكثر من ثلاثين عاماً والتي تناول فيها معنى حياة الإنسان الحقيقية. ويعتبر أن بريق المذكرات موجه في الأساس للقارئ لا الكاتب، ويقول: “أليس من المفترض أن يكتب الشاعر سيرته الخاصة؟ أليس أفضل أعماله هو مذكرات ممتازة؟ نحن لا نرغب بمعرفة كيف عاش بطله الخيالي، ولكن كيف عاش هو، البطل الحقيقي”.

ويشاركه صديقه الكاتب رالف والدو أميرسون الرأي، ويضيف، في جزء من مذكراته الخاصة، “الكاتب الجيد يكتب عن نفسه، ولكن تظل عيناه على خيوط الكون التي تمر من خلاله ومن حوله.”

وقد تكون أشهر وأصغر من كتبت مذكراتها هي الكاتبة الألمانية أن فرانك فمذكراتها “مذكرات فتاة صغيرة”، كانت من أقوى المذكرات التي وثقت حياة كاتبتها والعصر التي عانت فيه، وتقول: “بالنسبة لشخص مثلي، أنها لعادة غريبة للغاية أن أكتب مذكراتي. فبجانب كوني لم أكتب من قبل مطلقاً، لا أعتقد أنني، أو أي شخص آخر، قد يهتم بما قد تقوله فتاة في الثالثة عشر.”

ويقول الكاتب الأيرلندي الشهير أوسكار وايلد، “لا أستطيع السفر بدون مذكراتي. فلا بد للمرء من أن يكون معه شئ مفعماً بالمشاعر ليقرأه في القطار.”

أما الكاتبة والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، فهي مثل نين، ظلت تحتفظ وتكتب مذكراتها منذ سن صغيرة، وكتبت ما يقرب من عشرة أعداد. وتحدثت فيها عن المعتاد ولكن بأسلوبها الخاص، فقد تناولت الحياة والموت. كما أنها كانت تعتبر الكتابة في مذكراتا كوسيلة للتحمية قبل الكتابة الحقيقية. اما بالنسبة إلى أكثر من أثر فيها من كاتبات المذكرات فتعترف بأن فرجينيا وولف ومذكراتها أثرت فيها بشكل بالغ.

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

رسائل فلاديمير نابوكوف إلى زوجته فيرّا... بعيد عنك، حـيـاتي كتابة!

بقلم:الصحبي العلاني

بعيداً عن منطق المفاضلة والتباهي، وعن نوازع التمجيد والمغالاة، فإنّ جلّ الدارسين يُجمعون إجماعاً شبه تامّ على أنّ معجم الحبّ في اللّسان العربيّ من أثرى المعاجم. يكفي أن نفتح كتاب "فقه اللغة وسرّ العربيّة" لأبي منصور الثعالبي (429 هـ)، حتى نتأكّد أنّ للحبّ مراتب وصفات "أوّلها الهوى، ثمّ العلاقة، ثمّ الكَلَف، ثمّ العشق، ثمّ الشعف (بالعين)، ثمّ اللّوعة، ثمّ الشغف (بالغين)، ثمّ الجوى، ثمّ التّيْم، ثمّ التّبْلُ، ثمّ التدليه، ثمّ الهُيوم". وغير ما ذكره الثعالبي في كتابه كثير، كالخَبَل والصّبابة والصّبوة والغمرة والفتون والهُيام والبلابل والدَّنف والحرق... والقائمة تطول! ولكنّ اللافت للانتباه والباعث على الاستغراب أنّ هذا الكمّ الهائل من التشقيقات المعجميّة والتدقيقات الدلاليّة لا توازيه في مستوى الأخبار المنقولة والآثار المشهورة إلّا الخيبات والانكسارات! خيباتٌ وانكساراتٌ تعود إلى الحقبة ما قبل الإسلاميّة في ما رُوِيَ عن عنترة وعبلة، ثمّ في ما نُقل لاحقاً من حكايات لا حصر لها جَمَعت (أو بالأحرى فَرَّقت!) بين كثير وعزّة، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، وابن زيدون وولّادة، وغيرُ هؤلاء "الأزواج" كثير!

كتابة الحب.. بين الحليلة والخليلة
في ما نظَموا من قصائد وما حبّروا من نصوص، لم يتعوّد الشعراء والكتاب العرب أن يتّخذوا من زوجاتهم موضوعاً للإبداع أو مصدراً للإلهام، إلّا ما ندر. فنحن، مثلاً، لا نكاد نعرف شيئا عن زوجة أبي الطيب المتنبي (ت. 354 هـ)، وهو القائل: "وما كنتُ ممّن يَدخل العشق قلبَه/ ولكنّ من يُبصر عيونكِ يعشق"؛ وكذا الأمر مع الشريف الرضيّ (ت. 406 هـ)، وهو القائل: "أنتِ النعيم لقلبي والعذابُ له/ فما أَمَرَّكِ في قلبي وأحلاك!"؛ وأمّا الحصري القيرواني (ت. 488 هـ)، صاحب رائعة "يا ليل الصبّ متى غده/ أقيام الساعة موعده"، فإنّ حكايته مع زوجته أشهرُ من أن يقع التذكير بها وهي التي هجرته دون تطليق وفرّت منه بلا رجعة. وفي هذا السياق، أو بالأحرى في السياق المضادّ له تماماً، يمثّل الشاعر الأمويّ جرير التميمي (ت. 110 هـ)، استثناءً جديراً بالتأمّل والثناء. فقد أقدم على ما لم يُقدِم عليه أحدٌ قبله وعلى ما لم يَسِرْ على هديه شاعرٌ بعده وذلك حين رثى زوجته بقصيدته التي جاء في مطلعها "لولا الحياء لهاجني استِعْبارُ/ ولَزُرْتُ قبرَك والحبيب يزارُ". ولكنّ هذا الاستثناء - بالرغم ممّا فيه من دلالة لا تخفى - ليس إلّا خَرْقاً للمألوف يدعم القاعدة ويؤكّدها بالخُلف.
وقد تفطّن النقّاد القدامى والدارسون المُحدثون إلى هذه الظاهرة، ظاهرة غياب الزوجات عن نصوص مبدعينا العرب (أو بالأحرى - وهو الأصحّ - ظاهرة تغييبهِنَّ) حتّى إنّهم صاغوا ما يُشبه "القانون العامّ" أو "القاعدة المُطّردة". ومُلخّصُها أنّ شعراء العربيّة وأساطين النثر فيها لم يتعلّقوا بـ"الحليلة" مقدار تعلّقهم بـ"الخليلة"! وفرق ما بينهما أنّ الأولى (والمقصود بها الزوجة، أو الزوجات، وقد يتعدَّدْنَ، مَثنى وثلاث ورُباع) ظلّت غائبة عن النصّ رغم حضورها في واقع المبدع وفي حياته اليوميّة وعلى فراشه وبين أحضانه حضوراً يعترف به المجتمع ويُقرّه ويطمئنّ إليه؛ أمّا الثانية (والمقصود بها ذلك "الكائن الهشّ" الذي قد يكون جاريةً، مُلكَ يمين أو أمّ ولد، أو مجرّد "عشق ممنوع" و"وهم مستحيل")، فليس لها من حضور سوى ما ترسمه خيالاتُ الشاعر أو معاني الناثر.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن المفارقة العميقة التي وسمت حياة العرب القدامى والقِسْم الأعظم من المُحدَثين: مفارقة الاعتراف السائد بـ"الحليلة" مُقيَّدةً بأغلال المجتمع التي تضيّق عليها وعلى قرينها الشاعر أو الناثر حدودَ الإبداع، ومفارقة "الكينونة الهشّة" التي تبدو عليها "الخليلة" مجرّد جارِية أو "فنتازما" عابرة.. بصرف النظر عن هذا وعن ذاك، فالمؤكّد لدينا أنّ كتاباً مثل كتاب نابوكوف، "رسائل إلى فيرّا"، لا يمكن إلّا أن يشكّل "حدثاً انقلابيّاً" بالنسبة إلى أيّ قارئ عربيّ قد تتاح له فرصة قراءته... لا لشيء سوى أنّه يعصف بذائقتنا الأدبيّة المستقرّة الثابتة ويتيح لنا أن نرى في الحليلة أكثر ممّا تعوّدنا أن نتخيّله وأن "نُفَنْتَزْمِي" عليه مع الخليلة!

نصف قرن من الرسائل.. وأكثر!
على امتداد نصف قرن ونيف، أي من شهر أيار/مايو 1923، تاريخ أوّل لقاء جمعهما في برلين عاصمة ألمانيا، إلى شهر يوليو/تموز 1977، تاريخ وفاته في مدينة لوزان السويسريّة، لم ينقطع فلاديمير نابوكوف (1899-1977) عن الكتابة إلى فيرّا نابوكوف (1901-1991)، زوجته، إلّا قليلا! وهذا ما يبدو غريباً، بل مجافياً لطبائع الأشياء وأصول المنطق! لا فقط من منظور ما استقرّ لدينا نحن العرب في علم اجتماع الأدب من تفريق بين وضعيّة الحليلة ووضعيّة الخليلة، بل من منظور الثقافة الغربيّة ذاتها. فممّا يُفترض في الزواج، أيِّ زواجٍ، أن يقوم على المُساكنة وعلى العيش المشترك اللّذيْن لا يحتاج فيهما أيّ من الطّرفيْن، لا الزوج ولا الزوجة، إلى اعتماد المراسلات وسيلةً للتواصل.

ولكنّ هذه الوضعيّة العاديّة المألوفة التي تحكم حياة جلّ الأزواج في مختلف الثقافات والأزمنة لم تكن كذلك حقّا بالنسبة إلى عائلة نابوكوف. ولا نعني بالعائلة هنا الزوجَيْن فلاديمير وفيرّا، تحديداً، بل نعني بذلك العائلة الموسّعة، أي والد فلاديمير ووالدته وإخوته ومن كان لهم نسباً وصِهْراً، كما نعني أيضاً العائلة الأوسع، أي الجالية الروسيّة التي اضطرّت إلى مغادرة البلد والاستقرار في برلين وغيرها من العواصم والمدن الأوروبيّة في أعقاب قيام الثورة البلشفيّة (أكتوبر/ تشرين الأول 1917)، قبل أن تُضطرّ مجدّداً إلى مغادرتها باتّجاه باريس ثمّ باتّجاه أميركا إثر اندلاع الحرب العالميّة الثانية (1939 - 1945).
والذي نستخلصه ممّا سلف توضيحه وبيانه أنّ حياة فلاديمير نابوكوف (سواء تعلّق الأمر بعائلته الصّغرى، أو بالعائلة الموسّعة، أو بالعائلة الأوسع) كانت محكومة بالترحال، منذورة للمنفى، مهدّدة بالاغتيال الذي طاول فعلاً والده فأرداه قتيلا في شوارع برلين، شهر مارس/آذار 1922، وظلّ يتهدّد من بعده كلّ نَفَسٍ حرّ وكلّ صوتٍ طليق يريد أن يختطّ لإبداعه أفقاً مغايراً للسائد.
فلا غرابة، إِذَنْ، والسياقان التاريخيّ والشخصيّ على ما وصفنا، أن يجد الزوجان فلاديمير نابوكوف وفيرّا نابوكوف نفسَيْهما في حكم "الزوجَيْن على الورق"، تقريباً، (إن صحّت العبارة، رغم قسوتها!). وذلك ما يبدو لدينا أقرب إلى الاحتمال، خاصّة في المرحلة بين سنة 1923 التي تعارفا فيها، وسنة 1925 التي ارتبطا خلالها رسميّا، وصولاً إلى سنة 1950. فعلى امتداد هذه المرحلة التي كتب فيها فلاديمير نابوكوف لزوجته فيرّا أكثر من تسعين بالمائة من الرسائل المنشورة في الكتاب، ظلّ إيقاع حياته قائماً على الترحال المستمرّ بين عواصم أوروبا ومدنها، بين برلين وباريس وبروكسيل ولندن وبراغ وفرايبورغ وستراسبورغ وكان وصقليّة. ليس له من هدف وراء ذلك سوى أن يجد ما يُقيم به أَوْدَ عائلته وأن يقِيَها شرور الجوع وآلام المرض الذي أصاب فيرّا وحكم عليها بأن تتنقّل بين المصحّات بحثاً عن علاج في ألمانيا على وجه الخصوص.

الرسائل.. الأدب.. الحياة!
ولكنّ هذه الحياة الأسريّة المضطربة التي عاشها الزوجان نابوكوف خلال مرحلة 1923-1950 (أو بالأحرى، هذه التي افترقا في جلّ ردهاتها ولم يجتمعا إلا قليلاً، على شوقٍ لا ينتهي وعلى أملٍ في لقاءٍ غير متوقّع وغير منتظر)، لا ينبغي أن تحجب عنّا الحياة الأخرى التي ظلّت تعتمل بينهما بشكلٍ لم نجد له نظيراً، لا عند الشاعر الفرنسي لوي آراغون (1897 - 1982) وأيقونته ذات الأصول الروسيّة إلزا ترييولي (1896 - 1970)، ولا عند جون بول سارتر (1905 - 1980)، وقرينته سيمون دي بوفوار (1908 -1986)، ولا عند غيرهم.

ولعلّ من أهمّ ما يستوقفنا في حياة آل نابوكوف، كما تكشف لنا عنها النصوص الواردة في كتاب "رسائل إلى فيرّا"، أربع خصائص نعتقد أنّها مميّزة فارقة:
أُولاها: أنّ نمط المراسلات كان على قدر كبير من التنوّع والاختلاف، سواء تعلّق الأمر بالمرحلة الأولى 1923-1950 أو بالمرحلة الثانية 1950-1977. فقد تتّخذ الرسالة حيناً شكل بطاقة بريديّة تحمل إمضاء مُرسِلها، وقد تكون أحيانا أخرى دون إمضاء. وقد يكون نصّها - تارةً - موسّعاً في حدود ما يحتمله نصّ البطاقة، وقد يكون مقتضباً لا يتجاوز الكلمات المعدودة. أمّا الرسائل - بالمعنى المتداول المألوف للكلمة - فقد تراوحت هي الأخرى بين طويل وقصير، وبين ممهور بالإمضاء وغير ممهور.
ثانيتها: أنّ هذه المراسلات، بصرف النظر عن الجانب الكميّ فيها، طُولاً وقِصَراً، ظلّت تُراوح بين أجناس شتّى من الكتابة لا حصر لها. ولا نعني بذلك توزّعها بين الشعر والنثر، بل نقصد - وهذا الأهمّ - اعتمادها أساليبَ وأنماطاً في الكتابة يعسُرُ الإلمام بها جميعا. ففيها من التوثيق نصيبٌ لا يخفى، ومن البوح مقدارٌ لا تخطئه العين، ومن دلع العشّاق وملاطفاتهم وتدليل بعضهم بعضاً ما لا نتخيّل غيابه عن مثل هذه المخاطبات. كما أنّ فيها من التبرّم بالحياة ومن شكوى الدهر ومن الدعوة إلى ضرورة الحذر من المستقبل ما لا نتوقّع أنّ نابوكوف أو فيرّا كانا ذاهلَيْن عنه...
ثالثتها: أنّ الرسائل، منظوراً إليها باعتبارها وحدةً كليّةً (آثرنا عند قراءاتها أن نتعمّد - إلى حين، ولغايات منهجيّة، لا غير - أن نتغاضى عن سياقاتها الزمانيّة وعن مقاماتها المكانيّة وعن تفاصيلها العَرَضيّة الحادثة)، تكشف لنا في العمق عن موقف فريدٍ أصيلٍ ظلّت فيه الكتابة بالنسبة إلى فلاديمير نابوكوف فعلاً من صميم الحياة بل عملا في جوهر الكينونة، لا مجرّد تدوين على الهامش أو تعليق على الحاشية. ولهذا السبب بالذات، فإنّ الرسائل - بصرف النظر عن طولها وعن قصرها، وعن الأنماط والأشكال التي ظهرت عليها - يمكن أن تُتّخذ مدخلاً إلى قراءة مدوّنة نابوكوف الأدبيّة من منظور تكوينيّ لا من زاوية تاريخيّة أدبيّة سطحيّة.
رابعتها، (وهي الأهم، بل إنّها الأكثر مدعاةً إلى الاستغراب والأبعث على الخيبة إلى حدود الحيرة!): أنّ كتاب نابوكوف هذا الذي يمتدّ على أكثر من ثمانمائة صفحة لم يتضمّن ولا حتّى رسالة واحدة كاملة من رسائل فيرّا!
صحيح أنّ بإمكان القارئ الفَطِن أن يتنبّأ - من خلال ردود نابوكوف - بما سبق لفيرّا أن كتبته له، وبما بادرت أحياناً عديدةً إلى تدبيجه من رسائل. ولكنّ السؤال يبقى مع ذلك قائماً دون جواب: لماذا خيّرت فيرّا أن تحتفظ برسائلها لنفسها بعدما استرجعتها من نابوكوف؟ لِمَ لَمْ تسمح بنشرها؟ لِمَ فضّلت أن يكون صوت الشاعر والروائيّ والقصّاص والمترجم والناقد، زوجِها، الصوتَ الطاغِيَ، بل الصوتَ الوحيد؟
أسئلة عديدة مُحيّرة لا حصر لها تحضُرنا في هذا المقام، مقام الخاتمة. أسئلة تعود بنا إلى جدليّة الحليلة والخليلة، وإلى لعبة الخفاء والتجلّي، وإلى بوح شهرزاد الذي يسحبنا مع متعة الحَكْيِ ثمّ لا يلبث أن يُذيقنا "مرارة العزل" مع انبثاق الصباح وامتناع الكلام المباح! ومهما يكن من أمرٍ، فمن المؤكّد أنّ رسائل نابوكوف إلى فيرّا لم تكن إلا إلى فيرّا ولا أحد في "الفنتازما" غيرها... وسواء أكان بعيداً عنها أم قريباً منها، فكلّ ما كتب كان لأجل عينيْها.