أرشيف المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات اللغة العربية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اللغة العربية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 23 أبريل 2016

مستقبل اللغة العربية

اِنــسَ الفرنسية والصينية ....وتعلَّم العربية!!

في منتدى شومان وبإدارة الأستاذ الدكتور صلاح جرار، ألقى الأديبُ الصحافي الإماراتي جمال بن حويرب محاضرةً مفيدة في مستقبل اللغة العربية، طوَّف بنا فيها ما بين تشخيصٍ لواقع الحال لمكانة اللغة العربية في نفوس أبنائها، وما بين تطلعاتهم المستقبلية العلمية والعملية التي ليس فيها للعربية موطئ قدم! فالنشءُ في حيرة: إن هم تعلَّموا العربية فإن مستقبلهم الوظيفي أمرٌ فيه نظر! إلا إذا أتقنوا الإنجليزية إتقاناً لا لحن فيه ولا خطأ حتى لكأنهم أحفاد تشوسر أو شكسبير!!!
وانتهى المحاضِر من حديثه بعد تطوافٍ بديع بين العربية في عيون الغرب، وواقع العربية في بلادنا ومنها الإمارات العربية أنموذجا، إلى دور المؤسسات العامة والخاصة والقوانين والتشريعات في دعم اللغة العربية. وكانت خاتمة كلامه في استطلاعٍ لآراء الحاضرين، الذين رأى معظمهم أن المستقبل للغة العربية.
ثم عرَضَ لبعض الآراء التي تستشرفُ المستقبل ومنها هذا التقرير من المجلس البريطاني British Council حول تدريس العربية في المدارس البريطانية، والعنوان الجذاب للتقرير:
(اِنْـــــسَ الفرنسية والصينية. وتعلَّم العربية!!)
ويبدو أن مثل هذه التقارير لا تُعجب! فما كان من إحدى الحاضِرات التي علَّقت في ختام المحاضرة إلا أن تساءلت وبشدة: على أي أساس قام ذلك التقرير؟ وهل هو حقاً منشور في صحيفة الإندبندنت؟ وهل هو تقرير دقيق؟...وغيرها من تساؤلات تشكيكية تقلل من شأن اللغة العربية وتكفر بها!!
إن مشكلة اللغة العربية -إن جاز أن لها مشكلة- هي في أبنائها لا في ذاتها، وإنَّ الخطر ليس عليها وإنما من أبنائها. 
ما يدعوني إلى إخباركم بهذا كله أنني في صباح اليوم قد جاءني ابني الصغير محتجاً على مدرسته؛ لأن المعلمة قد وعدَتْهم بلعب كرة القدم يومياً من الأسبوع الماضي ولم تفِ للآن بوعدها!! فهي تتحجَّج كلَّ مرة بأن ملعب المدرسة مشغول بطلبة التعليم الأجنبي (الإنترناشونال)!! وهي ليست المرة الأولى التي أسمع فيها من ابني احتجاجاً على التمييز الحاصل بين طلبة التعليم الوطني وطلبة التعليم (الإنترناشونال) في مدرسته (وهي مدرسة ذات توجُّه إسلامي محافظ) أو من ابنتي (وهي في مدرسة أخرى ذات توجُّه مغاير).. لكنهما يشكوان من ذلك التمييز.
والشكوى موجودة عند كثير من الأهالي: فالتمييز حاصلٌ في الإدارة الصفية وفي المرافق التعليمية والترفيهية، وفي طرق التدريس وأساليبها، وفي الأنشطة المنهجية واللامنهجية....وفي غيرها من جوانب (التمييز العنصري) الحاصل بين طلبة التعليم الوطني (الذي يتم باللغة العربية) وطلبة التعليم الدولي الذي يتم باللغة الإنجليزية)، وانتهى ابني في شكواه إلى جوهر مأساتنا التي نتغابى عنها: (ماما...حتى في المدرسة الأجانب يحتلونا!!!!!)
فكيف لنا أن نفكر بمستقبلٍ مشرق للغة العربية وفينا من يُفاخر بتعليم أبنائه باللغات الأخرى؟ حتى استشرى الداء العُضال في دولةٍ محدودة الموارد كالأردن على الرغم من التكلفة المالية الباهظة على الأهل لهذا النوع من التعليم، التي أراها كمن ينفق نقوده على السجائر ولا يأتي منها إلا احتراق الذات أو السرطان!
وماذا نرجو لمستقبل اللغة العربية من جيلٍ (عربي) ناشئ يرى نفسَه اليومَ أعلى منزلةً من مواطنيه الذين يتعلمون التعليم الوطني؟! وكيف نؤمِّل أنّ هؤلاء سيخدمون أوطانَهم ولغتهم وحضارتهم إذا كان مجرد التواءِ ألسنتهم بِـــــــلُـــــــــكْنَـــــةٍ أجنبية وهم ما يزالون على مقاعد الابتدائية- يجعلهم يتعالَوْن على أقرانهم؟! فكيف سيكون حالُهم بعد عقدٍ من الزمان مثلاً حين يصير لهم شأن في مناصب إدارة المؤسسات والهيئات!!!؟؟؟
ربما أغلبنا يحبُّ اللغة العربية لكننا لا نترجم هذا الحب إلى عمل، والعمل يبدأ من أبسط الأشياء ولا ينتهي عند أعظم ما قد تتخيلون! 


الأحد، 6 ديسمبر 2015

لغةٌ ..كانت لنا بردا على الأكبادِ

رقة ورقيّ، طلاوة وحلاوة، تقع في القلب قبل الأذن.

مَن قال إن اللغة العربية عصِيَّة على الأطباء والعلماء؟
من قال إن الأطباء يجب أن يتلعثموا بنطق اللغة العربية الفصيحة، وأن يرطنوا فقط باللغات الأعجمية؛ ليدل ذلك -عند الجَهَلَة- على أنهم أطباء علماء معاصرون؟؟
اللغة العربية سحر وأي سحر! جمال وأي جمال!
" .. وسيظل الإنسان هو الإنسان في كل زمان..
إن الشمس التي تشرق علينا هذا الصباح هي نفس الشمس التي كانت تشرق على آدم، وإن القمر الذي سيطل علينا هذا المساء هو نفس القمر الذي كان ينظر إليه نوح على سفينته... إن أجمل شيء في هذا الكون هو إعادة البسمة على الوجوه الحزينة وهي مهمة الطب الشريفة".
استمتعوا بكلمة الدكتور يحيى بن محمد الفارسي - عميد كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس- يلقيها في حفل افتتاح المؤتمر العلمي العالمي الثامن لطلبة الطب بدول مجلس التعاون الخليجي.


السبت، 28 نوفمبر 2015

المتنبي ولغة العصر


اليومَ استمتعتُ جدا ربما للمرة الأولى بتدريس المتنبي، لقد كنتُ من قبل أتخذ منه موقفاً شخصياً - قد أكون مخطئة فيه- إذ أنفرُ من المدّاحين، و أراه متسلقاً يبذل ماء وجهه كي يحظى برنينٍ يملأ جيبه وسمعه، ويسعى في الأرض كي ينال منها قطعة يرى نفسه ملكاً عليها.
لكنني منذ أيام وأنا أحضّر لدرس قصيدة "واحرَّ قلباه ممَّنْ قلبُه شَبِمُ.." اطَّلعتُ لدى العم يوتيوب على عمل فني كبير لمنصور الرحباني من المسرح الغنائي بعنوان: المتنبي، انتقلتُ للرابط واستمتعتُ بمشاهدة العمل الرفيع الراقي.
وعاودني السؤال الذي لا أََمَلُّ من طرحه على نفسي، منذ نحو ربع قرن هي عمري مع اللغة العربية عِلماً وتعليماً: لماذا لا تكون الأعمالُ الفنيةُ الرفيعة المستوى، الدرامية أو الموسيقية أو التشكيلية وغيرها_ ضمن مناهج تدريس اللغة العربية لطلبتنا؟ 
وأظن السؤالَ مشروعاً؛ ونحن في عصرٍ لا يبالي كثيراً بالحروف المسطورة على الورق، قدرَ مبالاتِهِ بالصور التي يلاحقها على الشاشات الإلكترونية أمامه. 
نشكو دوماً من جفاف محتوى اللغة العربية وضعفه، ونشكو من الوسائل البدائية غير الجذابة في عرض اللغة على أبنائنا وطلبتنا، ونشكو من ضعفهم وسوء اتجاهاتهم نحو لغتنا الأم، وفي نهاية الأمر لا نجتهد إلا في حدودٍ ضيقةٍ لتشويقهم إليها. 
ما زلتُ أتساءل كيف يمكن لنا أنْ نفيدَ من رصيدٍ لا يُستهان به من الأعمال الدرامية والفنية المتنوعة، التي استوحت الأدبَ والتاريخ والتراث وما مضى وكان، تصبُّه في قالبٍ معاصر تجعله قريباً من قلوبنا، وتجعل من ذائقتنا الفنية والأدبية رفيعةً راقية كما نحبُّ ونرجو من عملية تربية النشءِ وتعليمه، التي ننفق في سبيلها سنواتٍ من أعمارنا وأعمارهم لا يكون لنا -أحياناً- في ختامها إلا كما السلافة في الكأس!

أترككم لتستمتعوا بمشاهدة بعض مقاطع المسرحية الرحبانية: أبو الطيب المتنبي

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

كنتُ هناك ... مجموعة قصصية بقلم مجدولاين دحيّات


..... وسنكون هناك عزيزتي!


شاءت أقداري الحلوة أن تضع في طريقي هذه المجموعةَ القصصيةَ للمؤلفة الواعدة مجدولاين، وأن أكون واحدةً من أولئك الشاهدين ميلادَ الواعدين من أبنائنا وبناتنا، بهذه الإطلالة التي لا أودُّ تسميتها إطلالة نقدية، بقدر ما أقول إنها إطلالةٌ عاطفية على عملٍ أدبي وفني، يعِدُ بكثيرٍ في مستقبل الإبداع، فما زلتُ أؤمن أنَّ في النقد جانباً ذوقياً انطباعياً لا انفكاك منه، ويحق له أن يبقى أمام النظريات النقدية الصارمة، وقوالب النقد المنهجي.
لهذا حين وقع هذا الكتابُ اللطيفُ في يدي للمرة الأولى، وقع في قلبي بلا استئذان؛ إذ يحمل في عتباته اسم كاتبته-التي لا أعرفها شخصيا- مجدولاين، وهو اسمٌ له في نفسي أشياء وأشياء..اسمٌ قرأتُه بقلبي لا بعيني (مجدولين)، في تناصٍّ صريح والقصةَ الأولى الطويلة التي عاشت معي وأنا شابة في مقتبل العمر، وسحرتْني بعضَ سحرٍ كلماتُها وحوادثُها... وأبقى في عتبة الاسم (مجدولين) الذي تحمله المؤلفة، وهو بعضٌ من قلبي، بعضٌ مني، إن بعضَه (مجد)، وهو اسم ابنتي!
***
من عاداتي التي لا أتخلى عنها حين أمسكُ كتاباً لأول مرة، أنْ أقلِّبَ في افتتاحاته الخطابية سريعا؛ من صفحة العنوان في العتبة الأولى للكتاب، إلى الإهداء... حتى كلمة الناشر –في عتبة الجلادة- آخر ما يلاقينا من الكتاب, وحين وقعتُ في الصفحة الأخيرة على سطور حياة الكاتبة الشابة، وقعتْ هي في قلبي، فهي بعمر ابنتي كذلك، لتتنزَّل في نفسي صورة أم وابنتها، معلمة وطالبتها .. لا ناقدةٍ تحمل مشرط النقد وعصا القواعد، قدر ما تحمل دعاءً وتوجيهاً وثناءً لأبنائنا المتميزين؛ الذين ما فتئوا كلَّ يوم يجددون فينا أنَّ الأملَ فيهم لا يخيب.
***
هذه التوطئة الواقعة في قلبي، التي بُحتُ لكم بأسرارها، ما كانت لتمنع مني المسؤوليةَ في قول كلمة حق بحق هذا العمل، الذي يستحق أن يقال فيه ويقال له.
حين استوقفتْني إضاءةُ مجدولين على عتبة قصصها الواقعية، ظننتُ، وبعضُ الظن إثم، أنني أمام طالبةٍ ستعيد على مسامعنا حكاياتٍ ربما مرَّت بنا، وفرَّت منا في زحمة الحياة، أو ستملأ صفحاتِ كتابها بقصص تنتهي بخاتمةٍ تذكرنا بالسؤال الذي كنا نُسأَل دوماً حين ننتهي من قراءة قصة: ما الدرسُ المستفاد، وما الذي تعلَّمته منها؟
هكذا كان ظني .. وقد خاب! لأجدُني وأنا أنتقل في قصص مجدولين من بابٍ إلى باب أنسى من كانت وقعت في قلبي قبل أن أقرأ لها، وأنسى خاطراً خطر في نفسي أنَّ هذا العمل ربما يكون أشبه بتجاربَ ، لا تتمايز بكثيرٍ عن خطرات تبوح بها أقلامُ المراهقين والمراهقات، في فسحةٍ من العمر ستمضي وستنقضي! لكني وجدت في الأمر اختلافا كبيراً، وقفتُ فيه أمام قلم كاتبة تتقن صنعتها.
وهكذا ولجتُ البواباتِ السحرية لمجدولين: عنوانَ قصة، ولوحة فنيةً –بالتأكيد كنتُ أفضِّلها مطبوعة بالألوان – ثم ها أنت في فتنة الكلمات وجاذبية السرد تنسى ما قد في نفسك من قلبُ، وتغرق في وهمٍ لذيذ، لا يقدر عليه إلا المبدعون: إنْ هذا إلا قلمٌ تمرَّس الإبداع، وعينٌ أتقنت الملاحظة، وكلماتٌ أجادت الوصف!
***
فإذا وقفتُ الآن على بعض ما يمكن أن يُقال في هذه المجموعة القصصية، فإنها مجموعةٌ تستحق أن تُقرأ، ولتسمحوا لي بتشجعيكم وأولادكم على قراءتها، هي مجموعة لطيفة من أربع عشرة قصة قصيرة، تقابلكم عناوينُها في فاتحة الكتاب، ثم اتركوا لأنفسكم بعد ذلك أن تأخذكم حيثت تشاء، وسوف تجدون أنكم في ذلك الذي يفتن ويسحر: في السرد والقَصِّ والحكي ...وقعتم!
***
لا أضيف جديداً على ما قالت المؤلفة حين وصفت قصصها بأنها واقعية، وهي كذلك بامتياز، إذ أتقنت منذ الخطوة الأولى اختيار محتوى القصص، فمَن منا يظن أن اللوحاتِ والمشاهدَ الرتيبة التي نألفها، وتتكرر يومياً لدى آلاف الناس، قد تكون لُحمةَ عملٍ مبدعٍ حين تــنسجه الكلمات؟
أزمة المياه؟ كباكيب الصوف الملوّنة؟ الحرب على جهاز التحكم بالتلفاز؟ الفطور الصباحي: فول حمص فلافل وخبز وخيار وبندورة ؟؟ لقد خلقتْ مجدولين من هذه التفاصيل وغيرها ..قصصاً تُحكى!
ولأجل هذه الواقعية أتقنت المؤلفةُ ملاحقة التفاصيل الصغيرة للمكان والزمان والشخصيات، وقبضت على المشهد بصورها وعباراتها، حتى تأتَّى لها السردُ الجذاب المقتضب، يشدُّ القارئ دونما ضجر، وفي هذا كان لها من التوفيق نصيب، في عدد من الصور الفنية التي صاغتْها بعبارات قريبة من الروح .
***
وسعياً لهذه الواقعية كان المحتوى سرّاً من أسرار حكاياتها، ففي (أرواح مشوهة) وفي (ذكريات الطفولة) التمييز في مجتمعنا بين الذكر والأنثى، انتصاراً للذكر، وهي تجربة مرَّت على بناتنا، وما زالت التجربة مستمرة! تتشابه القصص على اختلاف التفاصيل.
أنتِ بنت وهو ولد!
"لقد كبرتِ ..وأنتِ الآن من يحتاج إلى حارس!".
وفي (كراكيب) الطرافةُ والفكاهةُ ..والمفارقة! " يا للمصادفة..لقد أنهينا العملَ معاً، أنا واللصوص، .. وانتهى الأمرُ بأن أصبح منزلي فارغاً من الداخل والخارج!".
حتى عرائس البحر في (إلى القمة) لا تجعل القصص تفلت من سمت الواقعية، حلم غريب لشاب يجعل من عقود اللؤلؤ.." حباتِ العرق التي تسيل على جبينه وهو يسعى لتحقيق أهدافه في الحياة".
وكم نحتاج إلى اللؤلؤ في حياتنا ... ونحتاج إلى عقود تزيّننا!!
*****
أما الدهشة التي أجدها من أسرار إبداع مؤلفتنا الواعدة، فهي دهشة الخواتيم! لقد أدهشتني حقاً في نهايات بعض القصص بذكائها في خواتيمَ تأتي على غير انتظار، تفسر ... تضيء ما قد سلف، وتنمّ على ذكاء مبدعتها.
في (مساواة) خاتمة يتساوى فيها مصيرُ امرأة بمصير نملة! نملة
 تماهت وإياها .. حدَّ النهاية الفظيعة!
وفي (شمعة حب) انتهى الصراع على [ريموت التلفزيون] بمجرد ضغطة على قاطع الكهرباء، جعلت الأُسرةَ تغرق في ظلام، ظلام أعاد إلى قلوبها نور المحبة، ودفئاً كان مفقودا.
وفي (غرفة 24) تدهشنا بأننا حين يحضر الموت ويشخص البصر، سنبقى جميعا في تلك الحالة أيضا، سنبقى في الانتظار!
أما في (متّ..بكرامة) فالنهاية كانت موجعة.. قاسية قد لا تُحتمَل؛ حين يختار الابنُ الامتثالَ لأمر أبيه، وكم منّا يقدر عليه؟! فيضع حدّاً لحياته التي لوَّثها الإيدز إذ ".. ربما عاش لنفسه، لكنه يموت من أجل أسرته".
***
ومع الدهشة أختم كلماتي لأقول: مدهشةٌ أنتِ يا مجدولين! وأنتِ تسيرين على درب الإبداع، حيث سنكون كلُّنا هناك بانتظار قلمكِ... بانتظار كلماتك... بانتظارِ كلِّ جميلٍ منكِ مأمولُ!


الخميس، 21 مايو 2015

كلمات في وفاة أستاذنا د.ناصر الدين الأسد


"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"

... كان لقائي الأول مع أستاذنا العلّامة ناصر الدين الأسد في المحاضرة الأولى لي في دراستي الدكتوراه خريف عام 2005، تلك المحاضرة التي وصلتُها متأخرة، فلم تكن أولياتُ اللقاء لطيفة؛ لتقصيري في الانضباط على الوقت.
لكن اللقاءات الدراسية ما لبثت أن تتالت، حتى صارت في قلبي هي سويعاتُ المتعة المعرفية الخالصة، أفدْنا فيها من أستاذنا الكبير فائدة لا يقدر على نكرانها إلا جاحد.
ومن تلك المتع التي ما زالت في خيالي عن محاضرات أستاذي الفاضل -رحمه الله- تلك الأناقةُ الواضحة لهذا الأستاذ الذي لا تكاد تفارق وجهَه روحُ الشباب وشبابُ القلب، وتلك الذاكرة المتّقدة التي طالما أخجلَتْنا أمام أنفسنا، ونحن في يفاعةٍ، ولمَّا نبلغ من العمر نصفَ ما بلغ أستاذنا، فكُنّا نعجز أحياناً عن استدراك ما يتبقى من أشطار أشعار تُلقى في أثناء الدرس، أو استحضار أسماءٍ غابت في سطور تراثنا الذي آمن به ودافع عن أصالته ووجوده.
كثيرةٌ ما هي المواقفُ التي اختزنَتْها الذاكرةُ من لقاءات أستاذنا الكبير، وكثيرةٌ ما هي المواقف التي يحفظها الطلابُ عادةً عن أساتذتهم، تفوق ما قد يتعلمونه منهم من علومٍ قيَّدتْها القراطيس وحوتْها السطور.. لأنَّ العالِمَ قدوةٌ بين طلبته، ومشعل على ضوئه يهتدون. 

ورُبَّ إشارةٍ عابرة أو لفتةٍ عفوية أو حتى مجرد مظهرٍ أنيق أو كلمةٍ رفيقة- يكون لها وقعُ السحر في نفس تلميذٍ ما زال يأخذ عن أستاذه ما لم يقله في مجلس وكتاب، أو دوَّنه في سطور وصفحات.

تعلمتُ منك الكثير أستاذي في تلك الشهور الأربعة..بما لا أنسى فضله عليَّ حتى آخر عمري.

***************  

الصورة تجمعني بأستاذي الوفيّ -رحمه الله- ورفيقة عمره ودربه، على هامش تكريمه في رحاب الجامعة الأردنية صيف 2011

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

الاحتفال بتكريم أ.د ناصر الدين الأسد في اليوم العالمي للغة العربية


سعدتُ ضحى الخميس 18/12/2014 بحضور الاحتفال الذي أقيم على مسرح كلية الاقتصاد في رحاب جامعة الزيتونة الأردنية؛ تكريماً لشيخ العربية وأحد سَدَنتها العِظام، أستاذنا العلّامة أ.د ناصر الدين الأسد، الاحتفال الذي نظّمه قسمُ اللغة العربية في كلية الآداب في الجامعة.

وكانت أثلجت صدري تلك اللحظاتُ؛ إذ مازال في الدنيا خير؛ وفاءً وتقديراً لمن أنفقوا حياتهم في سبيل العربية وفي سبُل أخرى من أجل حياةٍ أفضل للعلم وأهلِه في الأردن. وقد أبلى الزملاءُ القائمون على الحفل بلاءً رائعاً بتعاونٍ من طلبتنا المتميزين، مما جعلنا نستمتع بساعتين كان مرورُهما برداً وسلاماً على الأكباد!
*****
اعتدنا في محافل تكريم العلماء أن تُلقَى في حضرة الشيخ المكرَّم كلماتٌ تحاول على الملأ أن تفيَهُ حقَّه عرفاناً لما أمضى فيه عمرَه في سبيلِ مسألةٍ نذر نفسَه وحياتَه و كُــلَّه- من أجلها, وهي كلماتٌ لو يعلم قائلوها موقَعها في قلوب أولئك المكرَّمين؛ إذ نعلمُ تماماً أنهم لا يسعون إلى هاتيك الكلمات سعياً مقصوداً؛ فالذي ينذر نفسه صادقاً مخلصاً لمسألة، لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكورا. لكنّ الرائع في الكلمات التي أُلقيت في حضرة شيخ العربية كانت من الروعة، بحيث أظنها لامست شغاف قلوب الحاضرين، وتركت شيئاً في نفوسهم لا ينقضي.
ومن هذا الذي كان في نفسي وأظنه لا ينقضي منها، أنَّ الكلمات التي أُلقيت في تكريم شيخنا الكبير قد تفاوتت بتفاوت مقاديرِ أصحابِها من الحياة: فالعفويةُ ما فارقتْ كلماتِ الأساتذة الكبار، والهيبة والجلالة أبتْ ألّا تغادر كلماتِ التلاميذ، وعلى ذلك وقعت كلماتُ الأساتذةِ موقعاً في القلب لا يُنسَى؛ إذ جاءت عفويةً صادقةً فيها من المحبة والألفة التي تتولد بين التلميذ وشيخه على مرِّ الزمن مما لا يعرفه إلا مَنْ يعانيه ويتذوقه، وفيها من التقدير الذي يكبر ويكبر في قلوب التلاميذ سنةً وراء أخرى تجاه أساتذتهم.
*****
وكان مما جرى على ألسنتهم ذكرياتٌ ما فارقت أخيلة أولئك الأساتذة في لقاءاتهم الأولى مع شيخنا جميعا الأستاذ ناصر الدين الأسد، فكانت الذكرى الأولى للقاء أ.د محمد الوحش في امتحانه الأول الذي أجراه بين يديّ أستاذه، وكان قد تعلّم منه درساً ما نسيه على امتداد العمر، درساً جعله لا يُهمل ما يستهينُ به الناس إلا مَن رحم ربي: جعله لا يستهينُ بهذا الشيء الذي هو: همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة !! نعم همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة، وإنهما لأمرٌ – لو يعلم الناسُ- جليل في لغتنا العربية.
ومما كان من ذكريات أ.د. سمير قطامي إفشاءُ سرِّ الشيكولاته السويسرية الفاخرة، التي اعتاد أستاذُنا الكبير تقديمها لضيوفه العابرين عليه في مكتبه، وهذا شيء لا يعرف مذاقه إلا الطلبة حين يلتصقون بأساتذتهم في مراحل الدراسات العليا حين يحظَون منهم بصحبةٍ مختلفةٍ عما عهدوه سابقا على مقاعد الدرس في المرحلة الجامعية الأولى؛ إذ إن الجلوس في حضرة الأستاذ في مكتبه في تلك المساحة القليلة وذلك الدفء الأبوي يجعل التلميذ يحلِّق في أجواء جديدة، حتى ليغدو كوبُ الشاي هناك وبين يديه ألذَّ من الشَّهد المُصَفّى، فكيف لو كانت شيكولاته سويسرية فاخرة ؟ وهل هناك شيكولاته سويسرية غير فاخرة ؟!!  
********
كما أمتعتْــنا عريفةُ الاحتفال د. صبحة علقم بانتقائها الأنيق الرقيق لأبياتٍ من الأشعار التي غزلها أستاذُنا لرفيقةِ دربه ( أم بشر)، حين أهداها في ذكرى زواجهما الستين (همس وبَوْح) من شعر ناصر الدين، بغلافٍ لازَوَرْديٍّ.. بلونِ البحر.. وبلونِ الصفاء.. وبلونِ الوفاء.. الوفاء لرفيقة الدرب الطويل.. الوفاء لرفيقة الليالي الحالكات ورفيقةِ النهاراتِ المشرقات.. حتى استوى لنا أستاذُنا د. ناصر الدين على ما تشتهي النفوس وتتوق القلوب:
( كلُّ ما قلتُ وما لم أقلِ              هو من وحْيِ سَناكِ الأجملِ
أنتِ فجَّرتِ ينابيعَ الهوى             وأسَـــلْتِ الشعرَ في قلبي الخلي
أملي ستونَ أخرى بعدَها             حقَّقَ اللهُ عـلـــــــــينا... أمـــلي
سيظلُّ الحبُّ والشعرُ معاً            ملءَ قلبي.. لانتهاء الأجلِ )
******
وإنَّ المرءَ ليرى نفسَه في حضرة شيخنا فراشةً تتقافزُ لتقبسَ من وهجِ علمه، وتقبضَ على جمرات معرفته..... وبينما أنا أشفق على أستاذي أن أرى جسده الرقيق قد حنى ظهره وتغضَّنت بشرته، أعودُ بخيالي أنا الأخرى للذكرى الأولى للقاء شيخنا الكبير ذكرى لا تنمحي من خيالي.. حتى أنني هرعتُ إلى تلاميذي في المحاضرةِ التالية أقصُّ عليهم من أنبائه وأحدِّثهم من أخباره، مما ما زلتُ أفاخرُ به وأفتخر: أنْ كنتُ واحدةً من التلاميذ الذين مرّوا عليه وتتلمذوا بين يديه.
تعود بي الذاكرةُ القهقرى، لتسعة أعوامٍ خلت، وأراني في اليوم الأول من العام الدراسي الذي التحقتُ فيه بدراسة الدكتوراه، وكانت المحاضرة الأولى التي أذهب إليها هي مادة الأدب الجاهلي، التي يُلقي دروسَها على مسامع الطلبة الأستاذ الدكتور ناصر الدين، ولما كنتُ منقطعةً منذ مدة عن السير في شارع الجامعة الأردنية، وبيتي قريبٌ منها، فقد ذهبتُ قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فقط، لأعْلَق في زحمةٍ مروريةٍ اضطرتني - وأنا التي أحب قيادة السيارة بسرعة- إلى السير بسرعة 20كم، فوصلتُ مكتب الأستاذ -حيث تنعقد المحاضرة- متأخرةً نحو عشر دقائق، كلَّفتْني غاليا: نوعاً من التأنيب والتذكير بأهمية الانضباط والالتزام بالوقت، فكان لقائي الأول بعلّامتنا لقاءً مُخجِلاً لي بيني وبين نفسي لا يزول منها حتى اليوم، هذا مع أنني تمكَّنتُ بحمد الله بعدها بمدة وجيزةٍ من أحظى بتقديره وثنائه على طالبةٍ متميزة من بين طلبته، حتى كان أنْ ظفرتُ منه بهديةٍ لم يظفر بها غيري من طلبته، كانت الهديةُ نسخةً من كتاب د.عبدالرحمن بدوي : دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي .. ولم أكن أدري حينها أن (المستشرقين) سيكونون قَدَري ورفاق رحلتي القادمة في أطروحة الدكتوراه !!  
وما زلتُ إلى اليوم أكررُ كلماتِ أستاذي ناصر الدين لطلبتي وأبنائي، حين كان يعلّقُ على لغتنا العربية الركيكة ويطلب منا الحديث بالفصيحة، فيداعبنا جادّاً: أفصِحي يا بنت!! وأفصِح يا ولد!!! وما زلتُ إلى اليوم معجبةً بذاكرتِه الشابة التي كانت تجعل مني في حضرته أشعرُ بأنني عجوز، وأخجلُ من ذاكرةٍ ضعيفة نوعاً ما حين تقابلُ ذاكرةَ أستاذِنا الكبير بتوقُّدها وَ حِدَّتها.
******
كانت لحظاتُ تكريمِ أستاذنا لحظاتٍ لا تصف روعتَها الكلماتُ، أحدثت في النفس ما كان وما سيبقى..
فهنيئا لنا وللعربية ولأهل العلم .. هاماتٍ تبقى لنا مناراتٍ ..
****




 

الجمعة، 25 يونيو 2010

اللغة العربية في أكسفورد: حديث البدايات


منشور في الملحق الثقافي جريدة الدستور (الأردن) الجمعة 25/6/2010 

تزهو كثيرٌ من الجامعات الأوروبية بتاريخها العريق في تدريس اللغة العربية منذ قرون، لكن مئات السنين من تدريس اللغة العربية في الجامعات الأوروبية لم تكن حافلة جميعها بما نعرف اليوم من إجراءات تدريس اللغات؛ فقد كانت الجامعات الأوروبية ما تزال غضّة العود، وكانت الأنظمة والمناهج والأساتذة والطلبة... وحتى المباني الجامعية ما تزال هي الأخرى في طور نشأتها، هذا إذا لم نغفل عن جانب مهم وهو أن التعليم في ذلك الحين لم يكن منتشراً إلا بين جدران الأديرة وقصور الأغنياء.
لقد بدأ إنشاء الجامعات الأوروبية على نطاق محدود في القرن الثاني عشر تقريباً، على غرار كثير من الأنظمة التعليمية المتبعة في الجامعات الإسلامية منذ القرن التاسع على الأقل، وكانت مناهجها عادةً تنحو نحو الدراسات "الكلاسيكية" واللاهوتية، أما تدريس العربية في أوروبا الذي يمكن أن يكون بداية التأريخ الحقيقي للاستشراق فيعود إلى القرار الذي أصدره مجمع فيينّا الكنسي أوائل القرن الرابع عشر، ويدعو إلى تدريس اللغات الشرقية -ومنها العربية- في جامعات باريس وأكسفورد وبولونية وشلمنقة، استجابةً للدوافع الدينية وتحت تأثير ازدهار دراسات الكتاب المقدس، إلى جانب دوافع أخرى لا تقلّ عنها أهمية.
كانت أكسفورد إحدى الجامعات التي شملها القرار، ومن منا لم يسمع بأكسفورد؟ وهي أقدم الجامعات على الإطلاق في العالم الناطق بالإنجليزية، وتتمتع بسمعة علمية ومكانة رفيعة على مستوى العالم منذ مئات السنين، وهي في نفوس طلبة العلم -حتى اليوم- حلمٌ عزيزُ المنال لا يقدر على تحقيقه إلا المتميزون.
بيد أن بدايات تدريس اللغة العربية في هذه الجامعة كانت من الأمور الطريفة، شأن كل البدايات تأتي من مستصغر الشرر، لكنها مع ذلك تدعو حقاً إلى التأمل في الجهد الذي بذله أهلُ الجامعة، من الأساتذة والإداريين، حتى نالت سمعتَها تلك على مستوى العالم.
************
ظهرت أكسفورد أول أمرها في القرن الثاني عشر، وهي واحدة من الجامعات الأوروبية التي نـمَتْ تلقائياً من مدارس وكليات كانت موجودة من قبل، وكان مما ساهم في نموها منعُ الطلبةِ الإنجليز سنة 1167 من الالتحاق بجامعة باريس، التي كانت مقصدهم للدراسة، فعاد الطلبةُ أدراجهم واستقروا في أكسفورد. وهي تضم أقدم مكتبة في بريطانيا، مكتبة سانت ماري التي بنيت عام 1320 ثم تحولت إلى مكتبة بودليانا الشهيرة.
ولكنْ حين صدر قرار مجمع فيينّا يبدو أنه لم يؤخذ على محمل الجد ولم يوضع موضع التنفيذ في أكسفورد أول الأمر؛ واستمر ذلك حتى تأسيس كرسي اللغة العربية في الجامعة سنة 1636، الذي جاء بعد أربع سنوات على تأسيس كرسيٍّ مماثل في جامعة كامبردج المنافسِة.
وتنبغي الإشارة إلى أن عدداً من الملحوظات يجب أن تحضر في البال حين الحديث عن تدريس العربية في أكسفورد، منها ملحوظة عامة وهي أن تدريس اللغة العربية هناك أو اللغات الشرقية عامة لم يكن يعني –كما يعني اليوم- الحصول على درجة جامعية في مثل هذا التخصص؛ لأن ذلك لم يكن ممكناً في إنجلترا حتى سنة 1873 حين منحت كامبردج مثل هذه الدرجة.
ومن الملحوظات كذلك أنه كان من المعتاد للأستاذ الذي يشغل كرسي العربية أن يبقى بلا محاضرات وبلا طلبة مدةً من الزمن قد تمتد لسنوات؛ ففي ذلك الوقت لم يكن من وظيفة الأساتذة الأساسية تعليم الطلبة، بل كان الأساتذة عادة ما ينهمكون في بحوثهم الخاصة، ويصرفون جلّ اهتمامهم ومعظم وقتهم في الإفادة من المصادر والكتب العربية المتاحة.
وتثير الملحوظة الثالثة قدراً من التساؤلات عن أعداد الطلبة الذين أقبلوا على دراسة اللغة العربية، والمواد والمناهج التي اعتمدوا عليها في دراستهم، والأساتذة الذين اضطلعوا بأعباء تدريس العربية في أرضٍ غير أرضها ولغير أبنائها وفي زمن غير زماننا... زمن لم تكن فيه القواميس والمعاجم متوافرة للطالب كي تُعِـينَه على تعلُّم اللغات، ولا كتب مطالعة أو غيرها من أدوات ووسائل يستعين بـها طالبُ العربية غير العربي على تعلُّم هذه اللغة. في زمن كانت فيه صناعةُ النشر وطباعة الكتب ما تزال حديثة نوعاً ما، وخاصة ما يتصل منها بطباعة الحروف العربية التي ظهرت في ثمانينات القرن السادس عشر، وفي زمنٍ كانت الكتبُ فيه تُربَط بالسلاسل على نحوٍ معين في مكتبات الأديرة، وفي زمنٍ لم تكن المكتبات الجامعية أو العامة قد تأسست بعدُ، وكانت الكتب في أغلبها ذات مواضيع دينية، وفي زمن كانت فيه نسبة القراء ما تزال محدودة جداً ومحصورة في طبقات بعينها.
ويضاف إلى هذا كله، أنه على الرغم من تأسيس منصب كرسي اللغة العربية في أكسفورد منذ القرن السابع عشر، إلا أن تأسيس كلية منفصلة للغات الشرقية جرى أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت بعد الحرب العالمية الثانية كليةً للدراسات الشرقية، من أجل توسيع نطاق الاهتمام ليشمل التاريخ والثقافة وسواهما من آثار الشرق لا اللغات والآداب فقط.
ومع ما قد تشير إليه مثل هذه التفاصيل من ضعف تدريس العربية في أكسفورد، عكس الصورة التي نتخيلها، إلا أن القرن السابع عشر مع هذا كله كان عصراً ذهبياً للعربية بلا منازع في تاريخ الاستشراق في إنجلترا تحديداً، ممثلاً في جامعتيْها آنذاك: كامبردج وأكسفورد. فحين أطل القرن السابع عشر -قبل نحو أربعمائة سنة- لم يكن في أكسفورد ما يكفي من استعدادات لتدريس اللغة العربية، لكن العمل على إعادة تفسير الكتاب المقدس من جديد -إبّان حركة الإصلاح الديني- دفع إلى قراءة نصوصه المكتوبة بالعبرية، فوجد اللاهوتيون أن العربية تمدُّ لهم يد العون في فهم العبرية. فكان مبتدأ أمر الاعتناء بمعرفة اللغة العربية.
*************
من اللافت للنظر أن اهتمام أوروبا الشديد بمعرفة اللغة العربية والاطلاع على آثار العرب المكتوبة كان من ورائه أحياناً بعضُ الشخصيات المشرقية التي ساهم حضورها على مسرح الاستشراق في دفع تعليم العربية في أوروبا، ولها كذلك فضلٌ كبير حتى اليوم؛ ذلك بأن من المظاهر المهمة في عالم الاستشراق دخول العرب والشرقيين أنفسهم في الهيئات التدريسية في الجامعات الأوروبية، مما أثَّر في تنشيط تدريس الإسلام واللغة العربية.
 وكان من تلك الشخصيات في أكسفورد يوسف "أبو ذقن" القبطي المصري، الذي قدِمَ إليها سنة 1610 وطال مقامه فيها لثلاث سنوات، وكان أول مَن علَّم اللغةَ العربية هناك، وهو من الشخصيات الشرقية المثيرة؛ فقد كان عددٌ من الرهبان اللبنانيين قد زاروا أوروبا من قبل، لكنهم لم يتجاوزوا -إلا نادراً- في مقامهم مدينة روما مقر البابوية، ولم يرتحلوا أبعد منها، لكن "أبو ذقن" اتخذ من روما منطلقاً لتنقلاته في القارة الأوروبية، متخِذاً من تدريس اللغات الشرقية وسيلةً يعرض بـها خدماته على (مضيفيه) في البلدان الأوروبية.
وقد أسعده الحظ أن كانت رحلته إلى أوروبا قد وافقت بدايات القرن السابع عشر الذي شهد نمو الاهتمام بمعرفة اللغات الشرقية، التي كان المسيحيُّ الشرقي فيها موضع ترحيب وإجلال في أوروبا بسبب معرفته اللغة العربية.
كان يوسف "أبو ذقن" قد وصل روما سنة 1595 وفيها تحول إلى الكاثوليكية وتعلم الإيطالية وأتقنها، وتعلَّم كذلك اللاتينية واليونانية، ومن روما انتقل بعد سنوات إلى بلدان أوروبية عديدة، عمل فيها معتمداً على معرفته باللغات الشرقية التي لم تكن كافية على أي حال. وقد سنحت له الفرصة في البلدان الأوروبية التي زارها أن يلتقي عدداً من المستشرقين المعروفين، فقد انتقل من روما إلى باريس مترجماً في البلاط الملكي، والتقى هناك بالهولندي إربينوس سنة 1609، والتقى كذلك بالفرنسي إسحق كازوبون أمين المكتبة الملكية، واستيفان هوبرت طبيب الملك هنري الرابع، الذي كان مهتماً باللغة العربية كونه يعمل طبيباً...وقد وجد هؤلاء في "أبو ذقن" فرصة مواتية لا تصحّ إضاعتها لتعلّم العربية حتى وإن كانت بالعامية!!
استطاع "أبو ذقن" بفضل مواهبه أن يحصل من باريس على توصية من أجل الذهاب إلى إنجلترا، وهو أمر متعارف عليه في أوروبا آنذاك وحتى اليوم، وقد حمل توصية أخرى من أسقف كانتربري في إنجلترا، ومن أمين مكتبة أكسفورد (بودليانا) توماس بودلي، الذي كان متحمساً لكي يعمل "أبو ذقن" في تدريس العربية في الجامعة. وكانت مكتبة بودليانا مثلاً حين تولى أمرها بودلي هذا سنة 1600 غرفةً واحدةً فقط، وليس فيها كتاب بأي لغة قط؛ بسبب الاضطرابات الدينية التي أصابت البلاد منذ منتصف القرن السادس عشر!!، لكنْ حين عادت المكتبة وفتحت أبوابها من جديد سنة 1602 كانت تضم مخطوطة شرقية واحدة هي نسخة من القرآن الكريم، أما في نهاية القرن السابع عشر فقد ازدادت مقتنياتها الشرقية في مختلف حقول المعرفة إلى نحو ألف وأربعمائة كتاب.
ومن المثير أن نعرف أن يوسف "أبو ذقن" قد قدَّم بعض الدروس في تعليم العربية، لكن اللغة العربية التي أعطاها لبعض الطلبة في أكسفورد كانت العامية المصرية؛ إذ إنه لم يكن يتقن الفصحى ولا يملك من أمرها شيئاً، وهذا ظاهر جليّ في بعض رسائل له ملآى بالأخطاء من كل نوع، كتَبَها بخط يده غير الرشيق وبأسلوبه الركيك، أرسلها إلى المستشرق ويليام بدويل في أكسفورد، وظاهرٌ كذلك في رسائل أخرى متبادلة بينه وبين المستشرق الهولندي توماس إربينوس.
أمضى "أبو ذقن" في إنجلترا ثلاث سنوات تقريباً درَّس فيها العربية لبعض المهتمين، لكننا لا نعرف من هم هؤلاء، ولا تسعفنا الوثائق القليلة الموجودة في تبيان أعدادهم، فهو يشير في رسالةٍ إلى إربينوس إلى أن لديه بعض مَن يدرّسهم العربية، لكنه لا يذكر سوى واحد منهم كان قد وصفه أنه عالمٌ بكثير من العلوم والألسن، هذا إلى جانب أنه ليس هناك ما يؤكد عدد الدروس والمحاضرات التي ألقاها فعلاً وماذا قدم فيها، ويظهر من بعض رسائله الأخرى أنه أمضى معظم وقته في لندن لا في أكسفورد، مما يجعل عمله الفعليّ هناك موضع نظر.
*********
ثم غادر "أبو ذقن" إنجلترا سنة 1613 ولم يعد إليها، وحين ترك أكسفورد بقيت الجامعة دون دروس في اللغة العربية لثلاث عشرة سنة، حين قدوم أستاذ الرياضيات الألماني ماتياس باسُرْ، الذي كان قد نُفي من ألمانيا بسبب الحرب، وانتقل إلى ليدن، حيث أمضى بصحبة إربينوس شهراً تعلَّم فيه اللغة العربية، ومن ليدن قدِم إلى إنجلترا سنة 1624، ثم غادرها إلى باريس في عملٍ قصير، وقد استغل وجوده هناك في تعلّم العربية لبضعة شهور على يد أحد الرهبان اللبنانيين وهو جبرايل الصهيوني.
 ثم عاد ماتياس باسُرْ ثانية إلى إنجلترا فألقى بعض المحاضرات العامة في أكسفورد عن أهمية تعليم اللغة العربية لفائدتها في دراسة الكتاب المقدس، فهي برأيه ابنة العبرية، هذا إلى جانب انتشارها الجغرافي الواسع؛ إذ كانت العربية في ذلك الزمان لغة الأرض من الهند حتى المغرب، وعلى ذلك فمعرفتها ضرورية من أجل الحوار مع الشرقيين وتفنيد معتقداتهم! ومعرفتها مفيدة كذلك لطلبة العلم؛ لأن معظم مصنفات الطب والرياضيات والفلسفة ... مكتوبةٌ بها. كما قدّم باسُرْ مجموعةً من الدروس في تعليم العربية، اعتمد فيها على كتاب (النحو العربي) الذي وضعه إربينوس، وكتاب (الأمثال العربية) التي نشرها إربينوس كذلك.
ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما هو نوع تعليم اللغة العربية الذي يمكن أن يقدمه أستاذٌ تعلَّمَ اللغة العربية في شهر واحد بصحبة إربينوس؟ وإربينوس نفسه هو المستشرق الذي تكشِف بعضُ رسائله التي كتبها بالعربية عن محدودية إتقانه لها. وما هو نوع العربية التي يمكن أن يقدمها مَنْ تعلَّمَها في بضعة شهور على أحد الرهبان اللبنانيين في باريس؟ يبدو أن ماتياس باسُرْ -حسب رأي بعض المؤرخين- كان مستعداً للقيام بتدريس أي موضوع يمكن للجامعة أن تسمح له بتدريسه، سواء أكان في الرياضيات أو اللاهوت أو الجغرافيا أو الفلسفة أو اللغات الشرقية.
 إلا أن عمله في تدريس العربية في أكسفورد لم يكن سيئاً على أي حال؛ إذ قام مثلاً بتعداد الكتب العربية الموجودة في مكتبة بودليانا، وهذه المحاولة من جانبه تقفنا على فقر المكتبة في ذلك الوقت وعدم كفايتها لتكون مُعِيناً له أو لغيره في تدريس العربية تماشياً مع قرار فيينّا السابق ذكره. وجدير بالذكر أن ماتياس باسُرْ قد طالَب بتأسيس كرسيٍّ دائم للغة العربية في أكسفورد، لكن طلبه لم يلق تجاوباً حينها، فسبَـقَـتْها إلى ذلك جامعةُ كامبردج.
ثم غادر باسُرْ أكسفورد إلى جروننخن سنة 1629، وعمل فيها أستاذاً للفلسفة حتى وفاته بعدها بنحو ثلاثين سنة،لم يُعرف عنه خلالها أنه اهتم بالدراسات الشرقية أو باللغة العربية!! فعادت أكسفورد بعد مغادرته إلى ما كانت عليه قبل وصوله؛ إذ لم يكن هناك استعداد كافٍ لتدريس العربية، ولا مصادر كافية مطبوعة أو مخطوطة.
********
أما المرحلة التي شهدت نموَّ الدراسات العربية في أكسفورد، فتبدو في العمل الذي أنجزه رئيس الجامعة الأسقف وليام لود الذي تولى رئاستها بين 1630-1641 ومنَحَ الدراسات الشرقية فيها الكثير مما أينعت ثماره لاحقاً: فقد أولاها عناية خاصة مع أنه لم يكن مستشرقاً، لكنّ الصداقات التي جمعتْه مع عدد من المستشرقين جعلتْه يهتم بالدراسات الشرقية، وتجلى هذا الاهتمام في إنشاء كرسي العربية في الجامعة -الذي ما زال يحمل اسمه-، والعملِ على جمع المخطوطات الشرقية، التي كانت سبباً فيما تلا من اعتناءٍ بدراسة اللغة العربية وازدهارٍ لها في أكسفورد. ونجح في استصدار قرار ملكي يقضي بألا تعود أي سفينة من المشرق إلا وهي تحمل مخطوطة شرقية واحدة على الأقل، بالعربية أو بالفارسية، غير القرآن الكريم الذي تتوفر المكتبةُ على نسخٍ عديدة منه. كما عمل أيضاً على ابتعاث بعض المستشرقين إلى الشرق في سبيل هذا الهدف، وقد نجح في مسعاه، فكانت المخطوطات التي جمعوها نواة المجموعة الشرقية في بودليانا، وكانت أولاها مجموعةُ لود نفسه التي تضمنت 127 كتاباً عربياً. وقد فكر لود بتأسيس مطبعة للكتب الشرقية في أكسفورد التي كانت ما تزال تعتمد على غيرها من المطابع الأوروبية لطباعة الحروف العربية أو القيام بذلك بخط اليد مثلاً.
وكان لود قد عمل كذلك على إقرار تعليمات صارمة نوعاً ما بشأن تعليم اللغة العربية، منها إجبار طلبة البكالوريوس من مختلف التخصصات على حضور محاضرةٍ في اللغة العربية مرة في الأسبوع، هذا إلى جانب فرض غرامة مالية على كل طالب يتغيب عن تلك المحاضرات، وتُستعمل هذه الغرامات في تزويد المكتبة بكتب عربية.
ولا ينبغي أن تكون تلك التعليمات مستغربة لديكم -أيها القراء- لأن اللغة العربية في ذلك الزمان كانت لغة مصنفات العلوم البحتة والتطبيقية، وكانت تلك المصنفات قد بقيت مناهجَ للتدريس في الجامعات الأوروبية لعدة قرون، إلى أن استوت ثمار النهضة الأوروبية على سوقها، فأنكرت فضل من سبقها من حضارات!
************
إن الجهد المبذول في محاولات تدريس اللغة العربية في أكسفورد يبدو جميلاً، ويكتسي لوناً وردياً ينتشي لسماعه أبناءُ العربية، ولكنْ هل نُفِّذت مثل هذه التعليمات حقاً؟ تبدو الإجابة عن ذلك غير إيجابية! فما نعرفه هو أن معظم الطلبة لم يعرفوا عن العربية شيئاً، واقتصرت محاضراتها على  الطلبة الراغبين في دراستها.
 لكنّ ذلك لا يمنع أن تأسيس كرسي العربية في الجامعة هو إنجاز تحقَّق به للجامعة الكثير مما يمكن أن يقال في دعم تعليم اللغة العربية، وفعلاً استطاعت الجامعةُ ذلك بفضل أول من تولى هذا المنصب وهو المستشرق إدوارد بوكوك الأب.
ثم حدث أن ضعفت العناية بالعربية هناك أخريات القرن السابع عشر؛ في ظل ظروفٍ سياسية لحقت البلاد، وفي ظل تراجع الاهتمام بدراسات الكتاب المقدس التي أخذت تفقد مكانتها أمام العلوم التجريبية ومناهج البحث العلمي الناشئة، فطُويت بذلك صفحة مشرقة من تاريخ اهتمام أكسفورد بتعليم العربية، ولكن حتى حين.


السبت، 10 أبريل 2010

أمر محزن أن نضطر إلى التفكير بحماية اللغة العربية




رشا الخطيب : أمر محزن أن نضطر إلى التفكير بحماية اللغة العربية!

* اعداد : موسى حوامدة

باحثة أردنية مقيمة في الإمارات ، حاصلة على دكتوراه في اللغة العربية عن أطروحة بعنوان: "الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية" ، عملت في تدريس اللغة العربية في الأردن وبريطانيا والإمارات. لها: "تجربة السجن في الشعر الأندلسي" ـ 1999 ، وعدد من البحوث والمقالات في دوريات مختلفة.


ماذا تقرئين حالياً؟


- أنهيت رواية سلام (بتشديد اللام) لهاني نقشبندي ، وهي تطرح بعض الأسئلة حول وجود المسلمين في الأندلس ، أسئلة ربما تكون معروفة ومشروعة لدى الباحثين في التاريخ والتراث الأندلسي ، لكنها أحدثت حيرة واستفزازاً لدى بعض القراء والنقاد حين نُشرت الرواية سنة ,2008


هل تشاهدين السينما أو المسرح؟


- السينما نعم ، المسرح لا ، فمنذ زمن لم أتابع على خشبته إلا الحفلات الموسيقية والغنائية ، منها يوم 25 ـ 3 حفل فرقة "أغاني العاشقين" على المسرح الوطني في أبوظبي ، ويوم 7 ـ 4 الحفل الموسيقي للفنان العراقي نصير شمة على العود بمرافقة الأوركسترا من مصر ومن سويسرا ، على مسرح قصر الإمارات.


ما الذي يشدّك في المحطات الفضائية؟


- من قبل كانت تشدني البرامج الحوارية ، أما الآن فتشدّني البرامج الوثائقية الاحترافية ، خاصة ذات المواضيع التاريخية ، على قناة الجزيرة الوثائقية وقناة "ناشيونال جيوغرافيك" أبوظبي ، وبرامج عن المدن الإسبانية على قناة "سفن ستارز" الأردنية. هذا بالتأكيد إلى جانب الفضائية المغربية الثانية "دوزيم" ، ولا أستغني فيها عن برنامج الطبخ المغربي الشهير - بالنسبة لي على الأقل - (شهيوات شميشة) وبرنامج (شذى الألحان) للموسيقا والطرب الأندلسي والمغربي.


ماذا تكتبين هذه الأيام؟


- حالياً أعمل على إعداد بعض البحوث عن الأندلس والاستشراق ، كما أعمل على الانتهاء من تنقيح أطروحة الدكتوراه لدفعها إلى المطبعة لتصدر في كتاب ، عما قريب إن شاء الله.


ما الذي أثار استفزازك مؤخراً؟


- يثير استفزازي في بلادنا العربية إهمال الطفل في الأنشطة العامة والثقافية التي يمكن للأمهات أن يشاركْن بحضورهن فيها: فكثير من الأمهات لا تجد في تلك الفعاليات مَن يفكر بأنّ لها أطفالاً قد لا يتوافر لديها مَنْ يعتني بهم ، فتُحجًم بسبب ذلك عن الحضور: في حين أن الفعاليات الترفيهية والاستهلاكية تفكر بالطفل أولاً وثانياً وإلى ما لا نهاية: مستهلًكاً وجاذًباً للأمهات وللآباء للمشاركة في حضور تلك الفعاليات ، كمثل معارض الكتب التي أصبحت تخصص جزءاً جيداً لاحتياجات الأطفال الاستهلاكية والترويحية ، فلماذا لا تتوافر مثل هذه التسهيلات في بعض الفعاليات الثقافية الجادة لتتمكن الأمهات من حضورها،


حالة ثقافية لم ترق لك؟


- استهزاء بعض حملة الشهادات والمناصب المهمة بالتظاهرات الثقافية الجادة كبعض المؤتمرات والندوات... وغيرها من المنتديات العامة ، التي يأمل المشاركون فيها عادةً بتنفيذ التوصيات التي يسعون بصدق لكي ترى النور.


حالة أو موقف أعجبك؟


- انخراط الشباب من طلبة الجامعات والمدارس في الأنشطة التطوعية المتعددة: التي تُغني تجربتهم الشخصية وخبرتهم في الحياة الحقيقية ، خارج مقاعد الدرس وبعيداً عن شاشات التلفزيون والكمبيوتر.


ما هو آخر نشاط إبداعي حضرته؟


- حفل توزيع جائزة "البوكر" للرواية العربية الشهر الماضي ، التي فاز بها السعودي عبده خال عن روايته"ترمي بشرر".


ما هي انشغالاتك الاجتماعية؟


- على الصعيد الخاص: الواجبات العائلية المعتادة ، وتبادل الزيارات مع الأصدقاء. وعلى الصعيد العام: الانضمام إلى جمعية حماية اللغة العربية ، وهذا الأمر في جوهره مفارقة محزنة: حين نضطر في دولة عربية وأهلها عرب إلى التفكير بحماية اللغة العربية،


فرصة ثمينة ضاعت منك؟


- فرصة إكمال الدراسات العليا فور التخرج في البكالوريوس.


ما الذي يشغل بالك مستقبلاً؟


- ليس هناك شيء محدد ، فالمستقبل آتْ سواء انشغلنا به أم لا ، ولكن ربما تكون مسألة ضمان حياة أفضل لأولادنا - أولوية مهمة.


هل لديك انشغالات وجودية؟


- يشغلني كثيراً التفكير في شكل العالم المستقبلي - البشري والطبيعي - في ضوء كثير من الإشارات والأحاديث النبوية عن نهاية الكون والقيامة ، وأربطها بما أستطيع أن أجد له تفسيراً في واقعنا الآن ، أو بما يجود به خيالي عن المستقبل.


ما الذي ينقص الثقافة العربية؟


- الجدية ، وثقافة الـ "ثقافة" ، أي أن تكون الثقافة والحضارة العربية أسلوب حياة ونمطاً اختيارياً يُقبًل عليه الناس.


ما الذي ينقصنا في الأردن على الصعيد الثقافي؟


- تنقصنا أشياء كثيرة ، ربما يكون أحدها: أخذ العمل الثقافي ـ بمستوياته جميعها ـ على محمل الجد.


رابط اللقاء المنشور في جريدة الدستور الأردنية:

الثلاثاء، 22 يناير 2008

"مجلة العصبة" مجلة رابطة العصبة الأندلسية في المهجر الجنوبي

 منشور في مجلة (العربية)، جمعية حماية اللغة العربية/الشارقة، العدد 64، السنة 6، أبريل 2011، (الصفحات34-36)
 

نقف في السطور التالية على إحدى المحاولات التي قام بها المهاجرون العرب - في القرن العشرين- على أرض المهجر لحماية اللغة العربية، في ظل العيش في مجتمع جديد غريب الوجه واللسان، وهي (مجلة العصبة) لسان حال رابطة (العصبة الأندلسية) التي تأسست في البرازيل، وكان تأسيسها واحدة من محاولات قام ويقوم بها كثيرون من محبّي العربية في أدنى الأرض وأقصاها، فتعالوا نعرف مزيداً عن جهود أولئك الذين حملوا رسالة العربية في البلاد البعيدة.

توطئة

تعاظمت هجرة كثير من العرب من ولايات الدولة العثمانية بُعَيد منتصف القرن التاسع عشر إلى القارة الأمريكية شمالها وجنوبها، وفي المجتمع الجديد في أمريكا الجنوبية عمل المهاجرون -بعد استقرار أوضاعهم- على تأسيس الصحف المهجرية، مع أن بعضهم لم يكن يتمتع بالوعي الأدبي أو الثقافي أو حتى الخبرة التجارية والفنية الكافية، فكانت الصحف والمجلات المهجرية العربية في بداياتها مضطربة؛ ثم أصبح لها دور مميز في الحياة الأدبية في المهجر الجنوبي، وفي الأدب العربي الحديث، بعد أن تولاها المثقفون والأدباء، وقد عبّرت الحركة الصحفية عن شغف المغتربين والمهاجرين بالمطالعة الخفيفة، وصارت الصحف شبه مدرسة لتثقيف الأغلبية التي لا تعرف اللغات الأجنبية. وفي ذلك يقول حبيب مسعود رئيس تحرير مجلة (العصبة) عن الصحافة العربية في المهجر إنها لم تكن إلا "مدارس نقّالة تحمل إلى قومنا الثقافة والأدب ورسولاً ينقل إليهم أخبار الوطن وذويهم، وصديقاً يواسيهم في أتراحهم ويشاركهم في أفراحهم, ومعلماً يلقِّنهم القراءة والكتابة"([1]).


إن الحديث عن أدب المهجر الجنوبي لا يمكن استيفاؤه دون الوقوف على الآثار التي خلّفها أدباء (العصبة الأندلسية)؛ إذ كان الأدب المهجري قد حقّق في ولادة (الرابطة القلمية) في نيويورك سنة 1920 علامة فارقة في مسيرته، فحاول بعض المثقفين لمَّ شمل أدباء المهجر الجنوبي في رابطة تضمهم على غرار نظرائهم في المهجر الشمالي، فكان أن همَّ لذلك (شكرالله الجر) صاحب مجلة (الأندلس الجديدة) في مدينة (ريو دي جانيرو)، بعد خلافٍ تفاقمت حدّتُه بين الجاليات المهاجرة، وتناولته الأقلام الصفراء، فما كان من شكرالله الجر إلا أن سعى ليحول بين الأقلام النظيفة والانسياق وراء علاقات الجاليات ومناوشات الصحف.

وحين خفَّ للقاء ميشال معلوف في مدينة (سان باولو) وجد عنده هوىً يوافق هواه في الغاية التي يحلمان بها، فكان أنْ رأت (العصبة الأندلسية) النور في 5/1/1932 بجهود المؤسسين الذين وقّعوا أسماءهم على دفتر خاص، وكان منهم : ميشال معلوف ونظير زيتون وحبيب مسعود وشكر الله الجر .. وغيرهم من أدباء المهجر الجنوبي، ثم جرى التصديق الرسمي على دستور(العصبة) من الحكومة البرازيلية لتتمكن هذه الرابطة الأدبية من مزاولة نشاطها الرسمي في كانون الثاني 1933.

ويفسِّر سببَ التسمية بـ(العصبة الأندلسية) قولُ أحد أعضائها إنه: " التيمٌّن بالتراث الغالي الذي تركه العرب في الأندلس… ولا يبرر تسمية بيئتنا بالأندلس إلا اعتبارنا أن نشر الأدب العربي في البلد الغريب وفي الأميّين من قومنا هو فتح مبين، وأن الانصراف إلى الأدب هو نوع من الاستشهاد"([2]). وهذا ما سعت إليه (العصبة الأندلسية) منذ إنشائها وعملت على خدمته: ألا وهو تعزيز الأدب العربي في المهجر بالسبل الممكنة.

وحين ذاع اسم (العصبة الأندلسية) انضم إليها أدباء مهجريون آخرون مثل الشاعر القروي وإلياس فرحات وغيرهما. ويلاحظ أن عدداً غير قليل من أدباء (العصبة الأندلسية) كان حظهم من التعليم المدرسي ضئيلاً لكن مواهبهم كانت كبيرة([3]).


صدرت مجلة (العصبة) في مدينة سان باولو في البرازيل في المدة الواقعة بين سنة 1934 وسنة 1954، ولم تكن المجلة قد ظهرت إلى عالم الصحافة الأدبية مصادفة، بل إنها أُنشئت لتكون ميداناً لنشر النتاج الأدبي لأعضاء (العصبة الأندلسية) تلك الرابطة التي ضمت أدباء المهجر الجنوبي وجمعَتْهم على حب الأدب العربي ومحاولة حفظه ومتذوِّقيه من الإسفاف والابتذال، والعمل على توثيق الصلات الأدبية بين المهجر والمشرق وإطْلاع المشرق على آداب الأمم الأخرى وفنونها .

توفرت (العصبة الأندلسية) على وسائل عدة لخدمة اللغة العربية والأدب العربي، وكانت الطريقة الفضلى لنشر أخبارها وأعمال أدبائها - إصدار مجلة (العصبة) الذي تم سنة 1934.

وكان أدباء (العصبة الأندلسية) إلى حين إصدار مجلتهم الخاصة قد اتخذوا من مجلة (الأندلس الجديدة) - لصاحبها شكرالله الجر صاحب فكرة إنشاء هذه الرابطة- ميداناً لنشر ما تجود به قرائحهم مدةً تزيد عن سنة ونصف السنة، حتى صدرت مجلة "العصبة".

كما نشرت (العصبة الأندلسية) أيضاً أعمالاً مجموعة لبعض أدبائها على صفحات مجلة (العصبة) أو في مجلدات خاصة مستقلة، كالدواوين الشعرية.

تسلم رئاسة تحرير المجلة منذ إنشائها حبيب مسعود " لتعدد مواهبه ومؤهلاته الأدبية والكتابية والنقدية" إلى جانب إلمامه بفن الطباعة وأمور إخراج المجلة، وبقي في رئاسة تحريرها حتى عام 1941؛ حين توقفت المجلة عن الصدور بناءً على قرار جمهوري في البرازيل مُنع بموجبه إصدار أي مطبوعة بغير لغة البلاد الرسمية، ثم عاودت المجلة الصدور من جديد في عام 1947 بعد إلغاء القرار، لتستمر في العطاء حتى توقفت نهائياً عام 1954.

******

تقع المجلة في 100 صفحة تقريباً من القطع المتوسط، عدا صفحات الإعلانات التجارية، وكانت مجلة شهرية يحمل غلافها في كل عدد صورةً لأثر باقٍ، أو مكان معين في أرض الوطن، أو لوحة فنية.

ضمّت المجلة على صفحاتها مقالات عربية وأخرى معرَّبة، تشمل فروع المعرفة من الآداب والعلوم والفنون الإنسانية، وهناك الشعر العربي: القديم والمعاصر، والشعر الغربي والمواضيع العلمية والثقافة العامة وبعض الأخبار.

أما باقي صفحات المجلة ففيها أبواب ثابتة تحت عناوين مختلفة تنتظمها في كل عدد، منها: باب مباحث لغوية، وباب نوادر وفكاهات وهو من الطرائف العالمية، وباب مؤلفات وهو للمؤلفات التي تصدرها (العصبة الأندلسية) أو الصادرة في المشرق، وباب طرائف علمية للأخبار العلمية القصيرة، وباب من الأدب العربي وهو لعرض نص أدبي أو للحديث عن أحد أدباء المشرق أو لنشر بعض المقالات من صحافة المشرق، وباب من أدب الغرب وفيه يُنشَر ما تترجمه (العصبة الأندلسية) من الأدب الغربي إلى العربية وتقدمه للقراء.

وقد استمرت هذه الأبواب الثابتة، في حين انقطع منها باب مباحث لغوية الذي كان يكتبه جورج مسرة، ابتداء من العدد الأخير قبل انقطاع المجلة سنة 1941، وقد عُوّض هذا الباب بمقالات عيسى اسكندر معلوف (عضو مجمع اللغة العربية في بيروت والقاهرة) حول قضايا العربية الفصيحة والعامية.

***

وكثيراً ما كانت المجلة عند وفاة أحد أدباء (العصبة الأندلسية) تعمل على تخصيص مساحة للكلمات التأبينية ولنشر جزء من أعمال الراحل، مثل الحديث عن وفاة الأديب فليكس فارس في العدد المزدوج 7 و 8 /1939، والحديث عن وفاة مؤسس (العصبة الأندلسية) ميشال معلوف وعقل الجر في أول عدد بعد عودة المجلة للصدور في آذار 1947.

وقد قدمت المجلة للأدب العربي -خلال مسيرتها- مجموعةً من الأعداد الخاصة التي تنم على المجهود الذي بذله القائمون عليها. ومن هذه الأعداد:

· عدد خاص عن شاعر العرب المتنبي في ذكرى مرور 1000 سنة على وفاته، وذلك في عدد آب 1935

· عدد ممتاز في كانون الأول 1940 ، متعدد المواضيع ضم قسماً خاصاً من الشعر والنثر باللغة البرتغالية.

· عدد خاص لنشر رواية الشاعر فوزي معلوف (ابن حامد أو سقوط غرناطة) في عدد تشرين الأول 1952 .


إذا ما توقفنا عند أقلام الكتّاب الذين ساهموا في المجلة على مدى سنوات صدورها - وجدنا أن حضور بعض الأسماء كان قوياً، من مثل:

· حبيب مسعود: رئيس تحرير المجلة وصاحب افتتاحياتها إلى جانب المقالات التي يكتبها بين الفينة والأخرى.

· الشاعر شفيق معلوف: ولم يكن من المؤسسين للعصبة ولكنه انضم إليها لاحقاً وأغنى المجلة بأشعاره الرقيقة ومختاراته الشعرية المترجمة من الأدب الغربي.

· الشاعر القروي: في صفحته "موجات قصيرة" التي كانت تضم خواطر شعرية ونثرية يكتبها بنفسه.

· اسكندر كرباج: كاتب مقالات ومترجم للعديد من القصص العالمية.

وهناك غيرهم من أعضاء (العصبة الأندلسية) وآخرون من غير الأعضاء أغنوا المجلة بأعمالهم ومقالاتهم النقدية والثقافية، مثل عيسى اسكندر معلوف وفضلو حيدر والشاعر جورج صيدح وغيرهم.

محتوى المجلة

أما من حيث القضايا التي اعتنت مجلة (العصبة) بمتابعتها فإن تلك القضايا كانت هي ذاتها الأهداف التي سعت إلى تحقيقها منذ إنشاء تلك الرابطة؛ حيث آمنت أن الأدب خير وسيلة لتهذيب الإنسان، فسعت إلى الارتقاء بالأدب إلى مستوى رفيع.

ومن هذه القضايا:

*المحافظة على اللغة العربية، حرصت (العصبة) وأدباء المهجر الجنوبي على المحافظة على أساليب اللغة العربية الفصيحة وجزالة الألفاظ وقواعد النحو والعروض واللغة، إلى جانب سعيهم في الوقت نفسه إلى التحرر من القيود التي قد تعيق الأدب، وهذا ما تأسست لأجله (العصبة الأندلسية) بعد انحدار مستوى الصحافة المهجرية, فعملت على خدمة اللغة العربية بوسيلتين، أولاهما: الكتابة بلغة عربية جزلة سليمة، فلا تكاد تستوقفك في المجلة عبارات مبهمة أو ركيكة, وثانيتهما: باب "مباحث لغوية" الذي كان يناقش الأخطاء الشائعة، واستعمال مفردات اللغة مما يجري على الألسن استعمالاً صحيحاً.

وكانت عناية المجلة بذلك مدعاة لبعض النقاد من المهجر الشمالي لاتهامها بالجمود والتقليد، فردَّ على ذلك رئيس تحرير (العصبة) بالتشدد في السير على هذا النهج وهاجم الأساليب الغامضة لبعض الأدباء.

*الدفاع عن الأدب المهجري؛ فقد كان هذا الأدب دوماً عرضة للانتقاد من أدباء المشرق على وجه الخصوص، الذين حملوا عليه خروجه على التقاليد الأدبية الموروثة، فردَّت (العصبة) على من قال بنصرة الأدب القديم على الحديث بأنه "ليس في الأدب قديم ولا حديث، وإنما فيه نفيس وتافه ، والنفيس يظل كنزا في خزانة الأدب والفكر الإنساني، والتافه سقط لا يؤْبَهُ له، سواء أكان قديما أم حديثا "([4]).

* القضايا الأدبية، حملت مقالاتٌ كثيرة في مجلة (العصبة) كلمة أدب في عناوينها وناقشت تلك المقالات القضايا الأدبية المتعددة وبيَّنت موقفها منها، كمثل رفضها لمذهب الفن من أجل الفن، ومحاربتها الأدب المبهم الغامض، أو مناقشة قضية الأدب الجديد والقديم، وقضية ما كان خليعاً منافياً للآداب والأخلاق العامة؛ لأن "الرذيلة لم تكن غرضاً من أغراض الفن وأهدافه"[5].

* قضية الثقافة، رغبت (العصبة الأندلسية) في تقديم رسالة التثقيف والإصلاح، وآمنت بالأديب ساعياً لإنقاذ أمته من براثن الجهل، رافعاً مستوى ثقافتها، ينوِّر الأذهان ويقرر الحقائق، لا يبتذل في أدبه ليجاري العامة في أذواقها([6]).

وعلى ذلك حفلت صفحاتها بمقالات متنوعة المواضيع من الطب والفلسفة والتاريخ والسياسة والقصص المترجمة… وكل ما من شأنه أن يُغْني ذوق القارئ ومعرفته، ويمكن القول إن (العصبة) كانت تقدم للقراء "وجبة" ثقافية كاملة.

قيمة مجلة العصبة

إن قيمة مجلة (العصبة) التي صدرت في سان باولو في البرازيل في النصف الأول من القرن العشرين، آتية من الجهد العظيم الذي كان يسكبه أصحابه من أرواحهم ليبدعوا ذلك العمل، الذي أرادوه ليخدم وضعاً جديداً عاشتْهُ فئة المغتربين والمهاجرين في أرض غريبة، وليكون عملهم بصمة لا تُنسى في ديار الأندلس الجديدة وفي مسيرة الأدب المهجري.

ومهما يكن فإن للمجلة قيمة مرجعية لا يمكن تجاهلها للباحث في الأدب المهجري بعامة وفي سيرة رابطة (العصبة الأندلسية) بخاصة، فهي تحمل أفكار الرابطة وأهدافها ومواقفها الأدبية والنقدية، وكانت إلى ذلك سجلاً لآثار أدباء تلك الرابطة، وعلى صفحاتها لا تعدم أن تلتقط تفاصيل وأخباراً تغني بحوث الباحثين في سِيَر أدبائها وجمْعِ آثارهم الأدبية غير المطبوعة التي قد يصعب الوصول إليها اليوم. وهي تفتح أبواب البحث أمام المهتمين برسم ملامح من حياة المهاجرين إلى تلك الديار، وأثر البيئة الجديدة عليهم وعلى نتاجهم الأدبي والثقافي.

كما عرضت المجلة لكثير من القضايا لنقدية والأدبية التي تداولتها البيئات الأدبية في المشرق وفي المهجر، ويجد الباحث فرصةً لتتبعها وهي ساخنة في وقتها ورصد تغيراتها واتجاهاتها وتفاعلاتها في البيئتين، وغير ذلك من مفاتيح كثيرة لبحوث عديدة تلقي مزيداً من الضوء على أدب المهجر.

وقد يكفي المجلة قيمة أنها يمكن أن تُقرَأ في غير زمانها وفي غير مكانها، ليجد قرّاؤها فيها ما تصبو إليه نفوسهم من زاد الثقافة الراقية والمعارف المفيدة.







([1]) الأدب المهجري، مجلة العصبة، عدد10/1949


([2]) جورج صيدح : أدبنا وأدباؤنا في المَهاجر الأمريكية، ص216


([3]) عيسى الناعوري: أدب المهجر, ص 29


([4]) الأدب بين قديمه وحديثه، مجلة العصبة، عدد 2 و 3 /1945


[5] الأدب الخليع، مجلة العصبة، عدد 5 /1949.


([6]) رسالة القلم، مجلة العصبة، عدد 4 / 1947