أرشيف المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر متفرقة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر متفرقة. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 2 نوفمبر 2017

فتافيت وأخواتها... من جديد


قبل أكثر من سنتين عثرتُ مصادفة بقناةٍ تلفزيونية جزائرية، هي قناة (سميرة) وهي قناة مخصصة للطبخ... وقد أعجبتني كثيرا فوضعتُها على قائمة المفضَّلات في التلفزيون.
وما زلتُ من ذلك الوقت وأنا أشاهدها يومياً ولو لنصف ساعة.
ربما لم أعمل شيئاً من الوصفات المقدمة، ولكن مجرد متابعة برامج القناة بمذيعيها ومطابخها والصور واللقطات التلفزيونية فيها، وحتى متابعة الإعلانات التجارية -أو الإشهار على رأي إخوتنا المغاربة - هي متعة بحد ذاتها.
ومثل كثير من القنوات المخصصة للطبخ تستضيف بعضُ البرامج سيدات كبيرات في العمر والقدْر والخبرة، لتقديم المأكولات التقليدية، ولكني كنتُ دوماً أشعر أن إقحام سيداتنا الكبيرات وأمهاتنا الجميلات في تلك البرامج، هو إقحام فجّ.. وتجاري أو متسرع غير مدروس.
أما الأمرُعلى قناة سميرة فإنه لمختلفٌ جدا!!
فمنذ مدة وأنا مشدودة لملاحظة أن تلفزيون (سميرة) يستضيف سيدات كبيرات لتقديم الأطباق الجزائرية التقليدية بطريقتهن العفوية البسيطة وأمومتهن الرقيقة وملابسهن التقليدية الزاهية.. ولكن استضافتهن ليست كمثلها على القنوات الأخرى، بل إنهن مثل نسمة الربيع: طبيعية رقيقة تضفي على الحلقات والمأكولات روحاً من المحبة والفكاهة والألفة التي تجعلهن قريبات من قلوبنا ومطابخنا..
واليوم أسعدتنا (الخالة دوجة) بحلقتها الجميلة وضحكتها القريبة من القلب، ووجهها البشوش الذي يشع أملا وحيوية، قد تفتقدها كثير من الصبايا والسيدات في مقتبل أعمارهن.
الخالة دوجة.. صاحبة الوجه الكلثوم والضحكة اللؤلؤية
ابحثوا عنها واستمتعوا بمشاهدتها تعد الأطباق من قلبها .. وتأملوا في وجهها الجميل القسَمات؛ كي تمنحكم فسحةً من الراحة والجمال والأمل بأنه ما زال في الحياة شيء جميل!

****

وفيما يلي ما كنتُ كتبته عن القناة سابقاً في 2015.
منذ أسابيع وقعتُ على قناةٍ تلفزيونيةٍ جزائرية للطبخ هي قناة سميرة، ربما لا أكون من هواة الطبخ، على الرغم من أني أستمتع به في كثيرٍ من الأحيان.
ولأننا في عصر الصورة وعصر الشاشات استهوتْني أولَّ الأمر في القناة - المطابخُ الأنيقة جداً التي لا تخطئها ذائقة، والأدواتُ المطبخية الزاهية الألوان، البالغة الفخامة، كانت تلك الأناقةُ عاملَ الجّذب الأول لمتابعة برامج سميرة طيلة الساعات التي أخلو فيها إلى كتاب، وأحتاج برفقته إلى صوتٍ يملأ صمتَ الأثير.
ثم وقعت اللحظةُ التي تركتُ فيها الكتابَ وشُغِفتُ بمتابعة البرامج صورةً وصوتاً، فما سرُّ الجاذبية في برامج سميرة بين هذا الكمِّ الهائلِ الذي يفيضُ به الفضاءُ من برامج إعداد الأطعمة والأطباق اليومية والموسمية؟!
والحقُّ يُقال: إنها أسرارٌ وليست سرّاً واحداً!! وإذا ما كان لي أن أبوح بها فالسرُّ الأول الذي يقذفُ في القلبِ راحةً تبعثُ على متابعةِ سميرة- هو أنكَ قريبٌ من برامجها؛ ذلك أنَّ السيدات، والرجال، الذين يقدمون البرامج قريبون منا، إنهم أمي وأمُّك، أختي وأختك، أبي وأبوك، نعم، هم مِنّا! فأنت لستَ أمام (شيف) يمتهنُ إعدادَ الأطباقِ الفخمةِ في أرقى المطاعم فحسب، إنهم هذا وأكثر؛ هُنَّ وهم في معظم الحلقات لا يرتدون (جاكيت) الطباخ، ولا يعتمرون قبّعته البيضاءَ العالية المميزة، ولا يرتدون القفازات المطاطية التي تَحولُ بين عواطفِ الطباخِ وأحاسيسه، وبين مكوِّناتِ الأطعمة التي يعدُّها بيديه فيكون للوجبة مذاقٌ لا يشبهُه مذاق! وغالبية السيدات الطبّاخات في برامج القناة يرتدينَ حجاباً للرأس كحجابي وحجابِكِ، لتقول إنها مني ومنكِ قريبةٌ أيتها المشاهِدة، وليست كائناً فضائياً يهبط علينا من كوكب بعيد في أقصى المجرة!
ومن أسرار الجاذبية الأخرى في برامج قناة سميرة: التلقائية والفطرة، وقد تتساءلون كيف ذلك يكون؟! في برامج مسجَّلة ومُعَدَّة مُسبقاً؟!
فإلى جانب ما ذُكِر آنفاً من مظهرٍ أنيقٍ بسيط للطبّاخين والطبّاخات؛ بما يجعلهم قريبين إلى القلب، فإن سرَّ التلقائيةِ والفطرة هو الآخر لا يجعلهم فقط قريبين من القلب، بل يجعلهم في القلب أيضا؛ إذ قبل البدء بإعداد الأطباق والأطعمة، تــنْبَجِــسُ الشفتان في كل حين بفطرةٍ وتلقائية عن: (باسمِ الله)، عبارةٌ من كلمتين فقط تُختَصَر فيهما كلُّ آدابِ و(إيتيكيت) المائدة والمطبخ، في وقتٍ أصبح بعضُنا يخجلُ من الأكل باليد اليمنى في الحفلات و(البوفيهات) لأن ذلك يخالف (إيتيكيت) الأكل عالمياً، أو يخجلُ من التقاط الطعام المتساقط وأكْلِه بعد التسمية عليه، وأصبح يخجلُ من موروثاتٍ اجتماعية ومعتقداتٍ دينيةٍ متصلةٍ بتقاليد المائدة والطعام؛ على الرغم من أنني ما زلتُ شخصياً حين أنظِّفُ الخضراواتِ الورقيةَ - كالخسِّ والبقدونس- بالماء الجاري ومنقوع الماء المملَّح، لا أقتنع أنها أصبحت نظيفةً تماماً وجاهزة ً للأكل، إلا بعد قراءة دعاء: "بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء" عليها، وما زلتُ حين أبدأ بإعداد العجين بالذات، للمعجنات والبيتزا، لا أقوم بذلك إلا بعد أن أتوضأ!
كلمتان فقط (باسمِ الله).. ما أجملَ وقعهما على الآذان! حين تتدفَّقُ بتلقائيةٍ من مقدمِّة البرنامج وهي تطبخ، فتمنحُ الطبخَ على التلفزيون بهجةَ الأمومة؛ حيث الأمُّ وهي تطبخ، تُتَمتِم بدعائها كي يكونَ مذاقُ الطعامِ شهياً هنيّاً على عائلتها، فلا يأخذُ الطعامُ طريقَهُ إلى المعدة إلا عندما يغمرُ القلبَ بالذكرى والحب؛ بحيث يجعلُ الصغيرَ يقول: "طعامُ ماما أطيب طعام؛ لأن فيه الخلطة السرية: إنه الحب!".. وبحيث يكبر الصغار وما يزال لـ(طبيخ الماما) نكهةٌ لا تعوّضها أطباق الزوجات ولا الأخوات ولا الأخريات!!
وتكمن التلقائيةُ والفطرةُ والأمومةُ على برامج قناة سميرة، في تعامل الطبّاخات بأظافرهنّ القصيرة، العارية من طلاء الأظافر، والعاطلةِ من الحليِّ والمجوهرات- في معالجة العجين واللحوم والدجاج وغيرها باليد دون حواجز وبلا خجل، ومعالجة بقايا الأطعمة في الأواني حتى نهايتها، دون إلقاءِ المقدار الزائد من الكمية في المهملات؛ فكثيرٌ من برامج المطبخ على فضائياتنا أصبحت استعراضيةً إلى درجة منفِّرة، وبعيدةً عن روح مطابخنا القائمة على (العونة) و(البَرَكة) و(السُّبْحانية): فالكثير من أمهاتنا وجدّاتنا مثلاً لا يعرفْنَ المقاييس ولا المكاييل التي تدخل في إعداد أطباقنا العصرية، وإذا ما سألتَ واحدةً منهنّ عن مقاديرِ طبقٍ مُعيّنٍ نتلذَّذُ بمذاقِهِ من (تحت إيديها) تراها تقول: عالبركة يَمَّا ! ... فما أطيب تلك البَرَكة! وما ألذَّ طعمها! وإلى وقتٍ قريب كانت العائلةُ تجتمع على طبقٍ كبيرٍ تأكل منه جميعا؛ لأن في ذلك بركةً نفتقدها اليومَ حين تُوَزَّعُ البرَكةُ في أطباقٍ كثيرة، صغيرة وكبيرة، عميقة ومسطَّحة .. حتى ضاعت البرَكة!
هذه بعض أسرار سميرة ، قناة الطبخ الجزائرية الأنيقة الرفيقة القريبة من القلوب، أدعوكم لتجربةٍ جميلةٍ وممتعة مع سميرة، في مطبخٍ متميز وبنكهةٍ أكثر تميزاً!

ملاحظة: هذه الخاطرة ليست إعلاناً مدفوع الأجر، إنها من القلب إلى....المعدة!

الأربعاء، 18 يناير 2017

باسم ورباب.. أين غابت وأين غاب؟

فتحَ حوارٌ قصير مع طالبتي سناء، بمناسبة وفاة الرسام ممتاز البحرة مبتكر شخصية باسم ورباب، فتح الحوارُ معها نوافذَ الذكرى على سنواتٍ خاليات أوائل عهدي بالدراسة الابتدائية، حين كانت مناهج "باسم ورباب" رفيقة جيلٍ من الفتيان والفتيات تربّى برفقة تلك العائلة بأفرادها وجيرانها وأصدقائها... وحكاياتهم التي لا تنتهي في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي الحقل... وفي كل مكانٍ من وطننا الجميل، رافقناهم فيه من اليوم الأول للمدرسة حتى عطلة الصيف.
هيَّجت العباراتُ ذاكرتي فتلاحقت صورُ طفولتي أمام عينيّ ولقائي الأول بكتاب القراءة الجديد من بطولة باسم ورباب، فللوهلة الأولى لم يكن لقائي به ودياً على الإطلاق؛ ذلك أني كنتُ قد قطعتُ أشواطاً من دراستي الابتدائية بكتبٍ شاحبة باهتة الألوان، أشواطاً لا تتيح لي أن أكون كإخوتي واحدةً من التلاميذ الذين سيدرسون المنهاج الجديد بكتبه الملونة البهيجة! لكنّ ذلك لم يمنعني من استراق الوقت للنظر فيه ومذاكرته مع إخوتي وجيراني.
وللذين يتذكرون فإن منهاج "باسم ورباب" قد بدأ تدريسه في مدارس الأردن أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وكان شيئاً جميلاً لعروبتنا أن نقرأ في الصفحةالداخلية لغلاف الكتاب، أنه قد "قررت وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية تدريس هذا الكتاب في مدارسهما".
لم يكن شيئاً مستحيلا ولا مستهجناً أن يدرس أبناء دولةٍ (جمهورية) وأبناء دولةٍ (ملكية) منهاجاً واحداً!! فتجري على ألسنتهم جميعاً دروسٌ واحدة وأناشيدُ واحدة، ذلك الجيل في البلديْن ما زال يذكر الأنشودة الأولى التي يترنم بها تلميذ الأول الابتدائي بعد خطواته في القراءة " ماما ماما .. يا أنغاما.. تملأ قلبي بندى الحبِّ.." وكلنا نعرف من  هو عمي منصور النجار الذي يبدع في يده المنشار.. وفي الشمال وفي الجنوب كانت القلوب تهفو غرباً وتنشد "فلسطين داري ودرب انتصاري"..

لم يكن ذلك مستحيلاً فلماذا لا ندرس الآن شيئاً مشابها في المدرسة كما ندرس في الجامعة مثلاً؟! وأغلب المناهج الجامعية في العالم تتقاسم خطوطاً معرفيةً عامةً يدرسها الجميع، ونحن في أقسام اللغة العربية على سبيل المثال ندرس من المحيط إلى الخليج المنهج نفسه  .. فلماذا لا نقدر على شيءٍ مشابهٍ في مدراسنا؟؟ اليوم نبدو عاجزين حين نلتفت حولنا لنجد كل مدرسة خاصة تتخذ لنفسها شرعةً ومنهاجا يوافق هواها!!
لم يكن ذلك مستحيلاً في زمن كانت تجمعنا فيه بضعُ قنواتٍ تلفزيونية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كانت قلوبُنا جميعا رغم أن منابتنا شتى!
كنت أستمتع بمتابعة برنامج طلائع البعث للفتيان الصغار على القناة السورية دون أن يخطر ببالي يوما أن ذلك قد يطغى على حبي لبلدي الأردن، ما الذي يمكن أن نخسره لو تم توحيد مناهج اللغة العربية في بلادنا العربية؟؟ سيكون قطعةً من حلم الوحدة العربية يتحقق، ماذا جنيْنا من تفرقنا واختلافنا؟؟! زادت القُطرية وفشت، وتوالت الأحقاد ونمت.
 لقد وحَّدت بين قلوبنا وتطلُّعاتنا من قبل مناهجُ غرست فينا حبَّ اللغة العربية دون وعظ ودون دروس، كان الكتابُ المدرسي الملون شيئاً جديداً مبهجاً لنا نحن الصغار في الأردن، ولمّا لم يكن واجباً دراسياً عليّ فإنني كنتُ أقلّبه باستمرار، وما زلت لليوم أذكر كيف كنت أتابع على صفحاته خطوط الرسام وألوانه في اللوحات المتلاحقة  لأبطاله صفحةً بعد صفحة.
كانت نصوصُ الكتابِ مكتوبةً بخطِّ اليد بحجمٍ مناسب مضبوطة بالشكل بقدر معقول، يجعل تلميذ الصف الأول يتابع بيُسرٍ وبهجةٍ وشغف شكل الحروف والمقاطع في الكلمات.
نعرف ونعترف أن الزمن يتغير، وأن الأجيال تتبدل، وأن ما كان في زمنٍ سابقٍ يلائم جيلاً،قد لا يلائم بالضرورة جيلاً في زمان آخر. لكن ما الذي يمنع من استلهام التجارب الماضية لإنجاز حلولٍ للمشكلات الحاضرة؟!
ليس الوقوف على الرسومات والألوان والخطوط في الكتاب المدرسي إلا مدخلاً يقودنا بالضرورة للحديث عن الذائقة الأدبية والفنية التي نصقلها وننميها لدى أولادنا في المدرسة -من غير توجيهٍ مباشر قد يضايقهم- لنأخذ بأيديهم إلى الجمال والرقة،  فالكتاب المدرسي -خاصةً للصغار- ينبغي أن نُلقيه بيد فنانٍ عاشق لمهنته، فنانٍ له مدرسة يشق طريقه وسط الزحام بروحه الخاصة، بعيداً عن قوالب الوظيفة وسجون الروتين التي قد يُلقى فيها الرسام إنْ كان موظفاً في وزارة تربية!
والحديث يجر حديثاً فعلى قدر استمتاعي بالكتاب منهاج "باسم ورباب" برسوماته المميزة، حتى أصبحتُ أعرف أسلوب الفنان البحرة في أي صفحة قد تصادفني، فإنني (حين أقدمتُ على العمل بالتدريس الصفوف الابتدائية أوائل التسعينات وكانت وزارةالتربية قد بدأت تطبيق مناهج جديدة) هالني المستوى الرديء أو البدائي للرسوم التوضيحية والتعبيرية المرافقة للنصوص في الكتب المدرسية، خطوطٌ ضعيفة جدا للحركة والتعبير تجعل الطالب يقف حائراً أمام اللوحات فلا يدري أهي تشرح وتوضح الدروس؟ أم تُلقي في وجهه الأسئلة والألغاز؟ وتتركه فريسةً لهذا القبح لا يدرك أن للجمال وجهاً آخر بعيداً عن هذا العبث القبيح والذوق الفَجّ المنفِّر .
ومن المواقف التي لا أنساها في هذا أنني وقفتُ حائرة مع طلبتي في درس التعبير الشفوي والمحادثة المعد قبل درس القراءة؛ إذ كان على الطلبة أن يتحدثوا عن اللوحة المرافقة للدرس، فاختلفت مذاهبُهم فيها بسبب رداءة الرسومات فلم يكن الحكم ممكناً على الشخضيات فيها إنْ كانت سعيدة أم غاضبة أم حائرة أم غير ذلك، فالرسومات تبدو أنها مرسومة على عجل بريشة مبتدئ لا تكاد تختلف عن رسومات التلاميذ أنفسهم.. كانت مرسومةً بريشة صاحبِ وظيفة (الإخراج الفني).
يومها قفز إلى ذهني فوراً اسمُ واحدٍ من الرسامين المعروفين في الأردن سمير مطير، فلماذا لا يكون أمثالُه من الذين يزينون صفحات الكتب المدرسية بالصور والرسوم؟  ثم ما لبث أن تحققت أمنيتي حين رأيتُ أعمالَه الجميلة المتقنة الاحترافية في كتبٍ تعليمية بعيدة عن التعليم الحكومي، خاصة تلك الكتب المنشورة في دار المنهل، وتحسرت على موهبة مثله تضيع في بحر بلادنا الذي يبتلع أبناءه الموهوبين.
كانت الكتبُ في منهاج "باسم ورباب" قريبةً من طفولةِ الأطفال، قريبةً من حياتهم اليومية وانشغالاتهم البريئة، وأفراحهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة، وكانت تقدم في جُمَلٍ معدودة ونصوص رشيقة - معرفةً وسلوكاً وقيمةً تعجز عنها توجيهات مباشرة كثيرة، في مقطوعاتٍ تتراوح بين الخبر والسرد والحكاية والقصة.. والأناشيد التي لا غنى عنها بأقلام كبار الشعراء. لم يؤلف(المؤلفون) أنشودةً كي يحشوا بها عقل التلميذ بمواعظ وافتخارات لا تمس روحه، بل كانت الأناشيدُ قطعةً من روحه بمعانيها القريبة من القلب، وأهم ما فيها ألا وهو سر النشيد: الموسيقا والرشاقة اللفظية، فلا العبارة ثقيلة مصطنعة تتعثر على اللسان ، ولا الموسيقا غائبة بين فخامة العبارة وجزالة الفكرة.
وما زال جيل "باسم ورباب" إلى اليوم بعد عقود وعقود يحفظ تلك الأناشيد الرشيقة، ويترنم بها كلما طرَقتْ كلمةٌ منها أسماعه.
ومن الطرائف الجميلة التي أذكرها مع إخوتي وجيراني، أننا حين كنا ننتهي من إنشاد النشيد ننطق باسم الشاعر الراحل سليمان العيسى كأنه جزء من النص وهو مبدعه، وهو الشاعر الذي كان علامةً بارزةً ورفيقاً دائماً في الكتاب كما هي رسومات ممتاز البحرة. كنا نتعلّم اللغةَ والمفردةَ والتركيبَ والموسيقا والعَروض والوزنَ الشعري ... بلا مصطلحات وبلا حدود تُثقل على أَفهام الأطفال.
والشيء بالشيء يذكر .. إذ تدعونا السطورُ السابقة لنستذكر مَعلَماً مهماً في مدينة السلط الأردنية هو متحف الكتاب المدرسي التابع لوزارة التربية والتعليم، فكلما زاركم الحنينُ للأيام الخوالي يمكنكم أن تسترقوا اللحظات للنظر في تاريخ تعليمنا المعروض في متحف الكتاب المدرسي في مدينة السلط الأردنية، وهو فكرة جديرة بالتقدير والعناية.. فالأمم التي تحترم نفسَها لا تترك تاريخَها في مهب ريح الزمان يعبث به العابثون.


الخميس، 29 سبتمبر 2016

خواطر في تعديل المناهج2

خواطر في تعديل المناهج 2
فلنكن صادقين مع أنفسنا قليلا: من قال إن المناهج المدرسية لها أثرٌ كبير في أبنائنا؟!
ربما يكون للكتاب أثرٌ في نفسِ قارئه لا يزول، لكنه حتماً ليس الكتاب المدرسي في عالمنا العربي!!!
المعلمون  والأهالي أكثر دراية من غيرهم بشِعاب أبنائهم الطلبة؛ فكم من كتابٍ لاقى مصيره نهاية العام الدراسي ما بين تمزيق.. وتحريق.. وانتقام لا يشفي غليل طلبةٍ كسالى يرون في الأوراق والكلمات عدوّاً هزيمتُه واجبةٌ  وقهرُه بطولة!!
يعرف معظمُ المعلمين أن المناهج في الكتب المدرسية في بلادنا تستنفد أغراضها مع امتحانات نهاية العام الدراسي؛ حين يُعيد الطلبةُ على صفحات الامتحان اجترار ما هو مسطورٌ على صفحات الكتب، ثم يقومون بعد بضعة أيام بـعمل DELETE  نهائياً من ذاكرتهم!!
ولا بد أنّ كلَّ معلمٍ ومعلمة قد مرَّت عليه تلك اللحظةُ التي يسأل فيها طلبته: ألم تدرسوا هذا الموضوع من قبل؟! ليجيب الطلبة ببلاهة: لا  ... لم ندرسه!!!
وهذا يكفي ليقول إن المناهج ليست بعينها ذات أثر عميق في نفوس طلبتنا وأبنائنا.
ففي المدارس:
الكتابُ ينساه الطلبة بعد حين، وما يبقى أثرُه حقاً هو المعلم!! خاصة إنْ كان قدوةً حسنة خلُقاً وعلماً..
المعلم  هو صاحب الأثرالأكبر في المنظومة التعليمية، فمن منا لا يسكن قلبه معلمٌ مرَّ عليه في حياته المدرسية كنسمةٍ صيفية منعشة، أو كعاصفةٍ ثلجية مهلكة!!
المعلمون ورثةُ الأنبياء!
فماذا نريد من المعلم ؟ وكيف نريد المعلم؟ في زمنٍ تداعت فيه أَكَلَةُ  أمتنا من كل داع!!
هنا متن تعديل المناهج المدرسية، وما بعده هوامش!

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

خواطر في تعديل المناهج 1

خواطر  في تعديل المناهج1
.... بعد متابعةِ عددٍ من الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ترصد التعديلات (الشكلية) التي قامت بها وزارة التربية والتعليم في الأردن مؤخراً على بعض كتب المواد الدراسية، التي لا تخرج معظمُها عن حذفِ آياتٍ قرآنية أو طمس أحاديثَ نبوية، وحذف صور المحجبات والملتحين، واستبدال أسماء (محايدة) بالأسماء ذات الإيحاءات الإسلامية والمحمولات التراثية ... وما شابه.
ومن باب الفضول اطّلعتُ على كتاب اللغة العربية لتلميذ الصف الخامس الأساسي، وقد هالني أن أجد الكتابَ - للفصل الأول والثاني- يخلو من ذِكر الإسلام، على الرغم من الاتصال الوثيق بين اللغة العربية والإسلام!! الذي لا ينكره أحدٌ من علماء اللغة العربية أو من غيرهم كالمستشرقين، ولا تنكره أدلةُ الواقع ولا أخبار التاريخ!!
فزادني ذلك فضولاً للنظر في الوحدة الأولى التي يفتتح بها طالبُ الخامس الابتدائي دروسه العربية في هذاالكتاب، وهي وحدةٌ بعنوان (لغة الضاد)، وفيها درسٌ للقراءة بعنوان (أعتزُّ بلغتي) يمتد لـ(16سطراً)، ويتحدث عن مزايا اللغة العربية العربية وقيمتها والاعتزاز بها وضرورة المحافظة عليها. يليه تدريبات وأسئلة متنوعة في عدة صفحات.
لكن هذه الوحدة الخاصة عن اللغة العربية تخلو خلواً تاماً -في النص أو الأسئلة أو التدريبات أو التعبير- من أي ذكرٍ للقرآن الكريم أو للإسلام واتصال اللغة العربية بهما اتصالاً وثيقاً لا يخفى على أحد، وهما أمران لا بُدَّ من ذكرهما حين الحديث عن اللغة العربية، ولا يكفي فقط توجيه الاهتمام إلى العروبة والقومية واتصال اللغة العربية بهما.

فهل من المعقول أن تكون وحدةٌ دراسية في كتابٍ مدرسي- تتحدث عن اللغة العربية للطلبة في دولةٍ عربية معظم سكانها من المسلمين ... ثم تخلو من ذكرِ الإسلام، وهو ملازمٌ للعربية لا يفترقان؟!

فإن تنطَّع أصحابُ الرؤى العجيبة في ضرورة تجديد المناهج- بأنّ العربية لغة المسلمين ولغة غير المسلمين، نوجِّه عنايتهم مثلاً إلى أثر القرآن في نصاعة أساليب كثيرٍ من الأدباء العرب المسيحيين الذين كانت أعمالُهم رائدةً في النهضة الحديثة، وهم يذكرون ذلك ولا ينكرونه.
ولا تفوتني الإشارة إلى نقطةٍ تافهة في الدرس لا تمرُّ حتى على تلميذٍ في العاشرة؛ إذ يجعلُ النصُّ  تعلُّمَ  غيرِ العرب للغةِ العربية إنما هو (لأنها غنيةٌ بالمفردات والمعاني!!!).
 فأين المسلمون غير العرب الذين أقبلوا ويُقبلون على دراسة اللغة العربية لأجل دينهم الإسلامي؟!! وهل نسي مؤلفو الكتاب مئات الآلاف من المسلمين في شرق الأرض وغربها الذين لا تقوم صلواتُهم إلا بقراءة القرآن العربي باللغة العربية؟ وهو السبب الأول في تعلُّم غير العرب للغة العربية. يضاف إليه أسبابُ الفضول المعرفي والحاجة الوظيفية لتعلم اللغة العربية لدى كثير من الشعوب غير الإسلامية.
فهل يمكن أن نقول إن تعديلات الكتب المدرسية، والصياغة الفنية للنصوص، والاختيارات الأدبية، بريئةٌ مما ينسبه عامةُ الناس لهذه التعديلات من شكوك واتهامات؟!


السبت، 16 يناير 2016

ذاكرة أبنائكم



اعتنوا جيداً بذاكرة أبنائكم، خذوا من وقتكم الكثير-وليس القليل- لتمنحوهم ما سوف يحيا في ذاكرتهم! اعتنوا جيدا باختيار الأماكن والناس ..الروائح والأطعمة ..الألوان والأقمشة... لأن كلَّ شيء سيبقى أثرُه في ذاكرة أبنائكم حين يكبرون وحين أنتم أيضا تكبرون.
اليوم أمضيتُ والأهل والأولاد ساعاتٍ قليلة في (حَرثا)، وهي قريةٌ من قرى إربد شمال الأردن، في زيارة لبيت خالتي،


ومنذ أن تكون على عتبات القرية أو في الطريق إليها تنثال إلى الذاكرة انثيالاً كلُّ الصور المختزنة في هذا الشيء العبقري المختبئ تحت شعرك، لتقفز صورُ الطفولةِ أمام عينيك مرةً واحدة وكأنها قد حدثت الآن، وكأنكَ ما فارقتَ المكان ولا الناس .. المواقدُ ما زالت دافئة، والروائح ما تزال تعبق بثيابك، وضحكات إخوانك وأقربائك وأصدقائك تتردد هنا وهناك.
كانت زيارة بيت خالتي أم أنس في حرثا تعني لي الكثير، وهو من البيوت القلائل التي لها بصمةٌ خاصة في ذاكرتي مما يتعلق بطفولتي؛ هناك ما تزال رائحةُ الأفران -أو ما كنتُ أسمّيه أنا رائحة (الحرائق)- أولَّ ما يستقبلنا فيها، وما زلتُ أتلمّسُ البحثَ عن هذه الرائحة في كل زيارة لحرثا...واليوم كانت سماءُ القرية تعبق بهذه الرائحة، وتُحيــي صورَ الطفولةِ في لحظةٍ وتشعلها من جديد.
تستقبلكَ في مدخل البيت شرفتُه الكبيرة المستطيلة، التي احتضنت لعبةَ (صياد السمك)، اللعبة التي قضينا مع أولاد خالتي نحاول تضليل خالتي حتى لا تكتشف أننا قد نقترب من نباتاتها الداخلية المفعمة بالحياة والنضارة! أما خلف البيت فيقع السرُّ الكبيرُ الجذابُ - بالنسبة لي- السرُّ الذي ينتظرنا دوماً، إنه بيتُ الجارة العجوز الضئيلة (أم ذياب)...
كان من عادتِنا أن نذهب إلى هناك، ربما تعجزُ الجارةُ عن استقبالنا أو عن مطاردة شقاوتنا، ولكني ما زلتُ أحنُّ إلى ذلك البيت وأذكره جيدا، فإن لم يعد متيسراً أو لائقاً أن أذهب اليوم إليه - في عمري هذا- بشقاوة الطفولة التي كانت، فإنني أُهرع عادةً إلى المطبخ لأنظر من نافذته التي تطلّ على بيتها الحجري الجميل، الذي ما زال صامداً ينتظر في كل زيارة.
...في زيارة اليوم خرج الأولاد يستكشفون المكانَ المثيرَ لهم، وقد صارت زياراتُ بيوت الأقارب متباعدة، ودون أن يدري أولادي رأيتهم يسيرون على خطوات أمهم - وهي صغيرة- دون انتباه، سعدوا بتناول (أقراص العيد) بزيت الزيتون مع الشاي، سعِدوا بالأجواء الحلوة التي احتضنتْهم في (البَرَندة) وهم يتابعون معي أنني هنا كنتُ أركض، هنا قفزتُ من النافذة، وهنا كنا ننام، ومن هناك نخرج للبئر الحجري تحت شجر الزيتون والرمّان، هنا تلذذنا بطعم (الكْبابْ) الذي تنفرد به منطقة الكْفارات في شمال الأردن -
وهو شيءٌ غير الكباب المشوي وغير الكُبّة -، وإلى الآن لم أذق أطيب من الزيتون الذي تعدُّه خالتي من خير هذه الأرض المباركة.

اعتنوا بذاكرة أبنائكم جيداً، فيما تختارون من أماكن تمضون فيها معهم أوقاتكم، وفيما تختارون من أطعمةٍ أو رحلاتٍ أو ساعاتٍ تقضونها لقراءة قصة أوعمل أشغال يدوية أو لعبة شطرنج ...أو حتى برامج تلفزيونية ستكون ساعاتُها في قادم الأيام ذكرى، لكنّ لكم في هذه الذكرى كلُّ الصورة لا كواليسها الخلفية فقط! 
لأنهم سيحفظون الأماكن والروائح والناس والكلمات وبقايا العمر القادم...سيحفظونها وأنتم فيها!
استمتعوا بأبنائكم، واخلقوا ذاكرتهم وكونوا فيها.

http://www.alwan-group.com/other.php?pid=301


الاثنين، 11 يناير 2016

الصداقاتُ الصامِتة

أحياناً ...تكونُ الصداقاتُ الصامِتةُ البعيدةُ أحلى، وأجمل….وربما أصدق!
...كنت في أثناء العمل على أطروحة الدكتوراه سنة 2007 أذهب يوميا لقضاء ساعات الصباح حتى الظهيرة في مكتبة المجمع الثقافي بأبوظبي، وهي أجمل مكان في تلك المدينة الخليجية، كنت أختار مقعدا معينا على طاولة محددة كل يوم، واستمر ذلك لسنتين تقريبا.
كان رفيق أصبوحاتي على الطاولة المقابلة- شابا بعمر أخي اﻷصغر يأتي للدراسة يوميا.لم نتكلم ولم أعرف شيئا عنه حتى اللحظة، فقط كنت أحفظ شكل رأسه ونظاراته الغامقة فوق عينيه، وآنس بوجوده في ذلك المكان، وحين يغيب كنت أفتقده وأظن قاعة المطالعة ناقصة. 
استمرت صداقتُنا الصامتة نحو سنتين، حتى انتهيت من كتابة أطروحتي، وصارت زياراتي للمكتبة متقطعة. 
ثم... وبعد نحو أربع سنوات، عندما كنت أستعد للرجوع إلى عمان، ذهبت لحضور اجتماع لأحد أندية توستماسترز باللغة الإنجليزية، نادي انطﻻقة، ويا للأقدار!! كان ذلك الشاب حاضرا يومها، رآني كما رأيته، ووقفت فوق عينيه الدهشة التي كانت عندي.. سمعته يتكلم في اجتماعنا ذاك، ورغم ذلك لم أعرف عنه شيئا!! 
إنها من الصداقات الصامتة الجميلة التي ﻻ تنسى؛ 
وربما تكون خيراً من صداقات كثيرة نحسبها صداقة حقيقية، فإذا هي تفشل في أول اختبار . وربما تكون خيرا من صداقات كثيرة نحسبها صداقة حقيقية، فإذا هي تفشل في أول اختبار؛ فقد يدخل أصدقاء تظنهم حقيقيين إلى حياتك، لكنهم ﻻ يتورعون عن إيذائك وعن سرقة الفرح والسعادة والمحبة من أيامك وأحﻻمك، ليبنوا على حطامك سعادة لهم يتبجحون بوقاحة أنها كانت بانتظارهم.

http://ar.arabwomanmag.com/%D8%B5%D9%8F%D8%AF%D9%81%D8%A9%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9/

الأحد، 8 نوفمبر 2015

درس إنجليزي وشارع الأعمدة... من وحي عمان الغارقة

في ربيع العام 2000 كنتُ أستعد لأداء امتحان اللغة الإنجليزية IELTS بعد وصولنا لمدينة إدنبرة، ولهذا الاَمتحان قصةٌ لا بدَّ منها في سياق حديثي هذا؛ ملخصها أننا واجهنا ضيقاً مالياً شديداً استدعى مني محاولة الحصول على منحة دراسية، تكون رافداً للدخل يمكّننا من الوفاء بمتطلبات المعيشة في تلك البلاد (الكافرة) التي كانت صدمتُنا الثقافية الأولى فيها أمانةَ إخوتنا (المؤمنين) القائمين على ابتعاث الطلبة العرب واستقدامهم للدراسة في تلك البلاد المكلفة.
وكان سبيلي إلى تحصيل قبولٍ في إحدى الجامعات البريطانية يتطلب شهادة تثبت كفاءتي في اللغة الإنجليزية، ولأن العين بصيرة واليد كانت قصيرة، فلم أتمكن من الالتحاق بأي دورة تمكنني من دراسة اللغة، فاستعنتُ بزميلةٍ قادمة من بلادي أعارتْني كتاباً للتحضير للامتحان، عنوانه جواز السفر إلى أيلْتس، فاتخذتُ مني أستاذاً وطالبةً في الوقت نفسه، فكانت تجربتي الأولى في أن أكون معلمةَ نفسي؛ توفيراً لمئات بل ربما آلاف الدنانير التي كنتُ سأنفقها في الدورات التحضيرية التي يتطلبها إتقانُ اللغة الإنجليزية، وهكذا تفرغتُ شهراً للدراسة استعداداً للامتحان.
كان الكتابُ يضمُّ تسعَ وحداتٍ متدرجة من السهولة إلى الصعوبة، يتدرب الطالب من خلالها على استراتيجيات الامتحان وفروعه المتنوعة من استماعٍ وقراءةٍ وكتابةٍ وضبطٍ للوقت والتعامل مع الأسئلة وكيفية الإجابة... وما زلتُ أذكر إلى اليوم من ذلك الكتاب قطعةً من الـComprehension  في إحدى الوحدات موضوعها عن الطرق الرومانية القديمة، فقد أثارت القطعةُ في نفسي تساؤلاً كبيراً: ما الذي يجعل امتحاناً للغة يهتم بتدريب الطلبة على قراءةِ موضوعٍ كهذا: عن رصف الطرق وكيفية بناء الشوارع في الحضارات القديمة؟؟ خاصة أننا ننتمي –نحن في الشرق- في حياتنا المعاصرة إلى ثقافةٍ تنظر إلى الماضي بعين الاحتقار والتقليل، وتنظر إلى منجزات الأجداد على أرضنا وإلى بقايا الوافدين القدماء على بلادنا على أنها آثارٌ نشاهدها في المتاحف أو نشعل النيران في أفيائها لشواء قليل من اللحم في لمَّةٍ عائلية نسميها رحلة نهاية الأسبوع!
لا أدري لمَ ماتزال ذاكرتي تحتفظ بالمعلومات التي مررتُ عليها في أثناء دراستي تلك القطعة النثرية التي لا تتجاوز صفحتين، ولمَ ما تزال هذه الذاكرة تنطبع فيها الصورُ التوضيحية التي كانت ترافق النصَّ المكتوب، وتظهر فيها الطبقاتُ التي تتكون منها الطريق الرومانية تحت طبقة الحجارة الكبيرة الملساء، التي عادةً ما نسير عليها في شارع الأعمدة في مدينة جرش مثلا، دون أن نلتفت لما يمكنُ أن يكون وراءها أو تحتها على وجه الدقة.
لماذا تأتي هذه الذكريات الآن؟ لأن عمان التي ترقد بأَنَفة على سبعة جبال، والغارقة في أمطار يوم الخميس الماضي- لم تسعفها روحُها الجميلةُ في أن تحلَّ في قلوب أبنائها المهندسين وغيرهم، كي ينقذوها من مشاهدَ تخجل أن تُظهرَها للداني قبل القاصي.  
عمان الغارقة في مياه أمطارٍ امتدت لأقل من ساعة فغرقت منها الشوارعُ والأزقّة والحارات، أودت بكثيرٍ من حميميةٍ البيوت والأدراج التي تمتاز بها المدينةُ القديمة، بل حتى المعالم الأثرية الرئيسية كانت هي الأخرى في مرمى الغرق: فقد غرق المدرج الروماني الذي يكادُ يُتِمُّ الألفية الثانية من عمره، وقد كانت له تصريفاته الصحية الخاصة التي أنشأها الرومان أنفسهم، وهم المشهورون بالعمارة والبنيان. أما أبناء عمان اليوم فقد ضاقت صدورُهم عن فهم المدينة، فأغرقوها بكثير من القبح والتعثر الذي أصاب عمرانها.

حين وقع بصري على مشهد البحيرة الذي خلَّفَتْه مياهُ الأمطار حول المدرج الروماني وسط المدينة، كان درسُ رصف الطرق الرومانية في ذلك الكتاب منذ خمسة عشر عاماً هو ما وَرَدَ على ذهني مباشرة، وصار جوابُ التساؤل الكبير: نعم، لقد فهمتُ الآن لمَ قد يُحشَر موضوعٌ كهذا في دراستنا للغة!
المعرفةُ لا حدَّ لها، وغرورُ الإنسانِ المعاصر وغباؤه يجعله أحياناً لا يرى في الأعمال البسيطة والإنجازات القديمة، في معالجة مسائل كثيرة- لا يرى فيها قيمةً، وينفر من اقتفاء أثرها في معالجة مشكلات حياتنا المعاصرة. وهو يتعامى عن الحقيقة الأزلية: أن الإنسان يبقى هو الإنسان منذ عصر آدم إلى أن تقوم القيامة، لا يغيّر من هذه الحقيقة مظاهرُ التقدم التقني التي قد يعيشها بعضُ البشر في لحظةٍ تاريخيةٍ معينة، إذ يتبقى من الإنسان ما لا يمكن لأي منجَزٍ تقني جديد أن يمحو أثره.
عادت ذاكرتي إلى الرسم المنطبع فيها لصورةِ الطريق الروماني المرصوف،

وكثير من طرقات المدن الأوروبية الحديثة يتم رصفها بالطريقة القديمة نفسها، ما يعطي المدن جمالاً آسراً وحناناً على من يطأ تلك الأرض. كهذا المشهد من الشارع الذي كنتُ أسكن في إدنبرة.
وما أذكره من ذلك الدرس الحضاري الموجز هو: كيف أن أمراً بسيطاً لا يحتاج إلى حواسيب ولا ألواح إلكترونية ولا عطاءات هندسية، ولا استعدادات شتائية وهمية، أنَّ أمراً بسيطاً جداً كان يجنِّبهم الفيضان؛ عندما جعلوا الطريقَ محدودبة قليلاً في الوسط، كي يسهل جريانُ المياه إلى أطرافها التي تضم قناةً رفيعة تنتظر تلك المياه، ثم تنقلها إلى المصارف الصحية الجاهزة لاستقبالها بين مسافة وأخرى على جانبَيْ الطريق. وكيف أن طبقة الحجارة الملساء التي رُصِفَت بها تلك الطرقُ، كانت من أسباب تماسكها ودوامها حتى وقتنا الحاضر.
ولنتأمل بعض الصور التي تحفظ لنا هيئة الطرق القديمة في بلادنا ، التي نجد أنفسنا منها أكبر.



فكيف لمدينةٍ كمدينتنا عمان أن تغرق وهي تضم آثارَ عبقريةٍ هندسيةٍ قلَّ نظيرُها في العالم القديم والحديث؟ هل عجزنا عن أنْ نتعلم ونحاكي أثراً عظيماً من آثارِ عبقريةٍ هندسية عمرُها يمتد قروناً طويلة وما تزال ماثلةً إلى اليوم، لكننا تغافلْنا عن روحِ المكان الذي نسكن، تغافلْنا عن ملامحه الطبيعية حتى كادت تغيب. فكيف لنا أنْ نستعيدَ صورةَ الجبال التي تمتدُّ عليها عمان؟ وكيف لنا أن نستعيدَ المساحات الخضراء التي عادة ما ترقد على ضفاف مجاري المياه، وتمنح المدن قلباً رؤوماً خفّاقاً يحنو على أبنائها؟ أنّى لنا ذلك يُحيي رميمَ المدينة؟!
لقد نسينا في غمرةِ طمعٍ ببريقِ مالٍ يزول- أنَّ للمدن أرواحاً لا بدَّ تسكنها فلا تقتلوا تلك الروحَ، وعورةً لا بد تسترها، واليوم انكشفتْ أمامنا عورةُ عمان الغارقة أرجاؤها بأوحالنا، المقتولة روحُها بجشعنا. فمن لنا بمن يتعلم بلا خجلٍ مما مضى، ويفتح نافذةً لقلبٍ يضيء عمان من جديد؟


الجمعة، 23 أكتوبر 2015

فيلم The Martian




في صفحاتٍ قليلةٍ من مادة مهارات العربية التي أدرِّسها – نبذةٌ عن الأدب والتكنولوجيا ووقفةٌ عند أدب الخيال العلمي، وفي كل فصلٍ حين أمرُّ تلك الدقائقَ القليلات على هذه الصفحات، أقفُ حائرةً أمام نفسي، ولكنْ ثابتةً أمام طلبتي، حين أجدُني أدافع عن محتوىً دراسيٍّ من (الخيال العلمي) في أدبنا العربي؛ إذ لا أقدر أنْ أُبْعِدَ عن خاطري أنَّ الأدبَ في عصرنا اليوم في بعض أجناسه -إنْ لم نقل في معظمها- لا يعودُ يعني الكثيرَ إذا لم يلتقِ بفنون الإبهار البصري الذي يحاصرنا في كل مكان بالصور المتحركة والثابتة، بأبعادها القديمة المعروفة أو بأبعادها الثلاثية الجديدة.

يحضرني هذا الخاطر وأنا أكتب الآن هذه السطور عن فيلم:
 (المريخي) The Martian
 وهو فيلم أمريكي مثير من أفلام ما يمكن تسميته الخيال العلمي، من إخراج ريدلي سكوتّْ وبطولة ماتّْ ديمون. وقد جرى تصوير مشاهده الخارجية في منطقة وادي رم في جنوب الأردن، التي تحاكي بيئةَ المريخ الوردية القاحلة الشاسعة، والتي جعلَها الفيلمُ بالتقنيات المبهرة وزوايا التصوير الفاتنة، قطعةً ساحرةً من أرضٍ لا نكاد نعرفها وهي أقربُ إلينا مما نتخيل، وجعلَنا نرى جمالَ بلادنا بمنظارٍ وبعيون جديدة.
يقوم الفيلم على حكايةٍ معروفة لا جديد فيها، إنها حكاية روبنسون كروزو، ولكنه هذه المرة في الفضاء! إذ يتعرض أحدُ رواد الفضاء في البعثة الاستكشافية للمريخ مع زملائه لعاصفةٍ شديدة، فتغادر البعثةُ على عجل معتقدين بوفاة زميلهم، فينقطعُ السبيلُ به وحده على ذلك الكوكب، وعندما يدرك هذه الحقيقة يكتشف أن عليه مواجهة مصيره من أجل البقاء، والعمل على أن يصلَ لأهلِ الأرض خبرٌ من أهل المريخ يقول إن هناك نفساً بشريةً ما تزال تنبض بالحياة على سطح الكوكب الأحمر.
وكما هي صورة البطل الخارق في الأفلام الأمريكية، يعمل فريقُ (ناسا) بأكمله على محاولة استرداد رائد الفضاء، مارك وتني، حيّاً من ذلك الكوكب البعيد، وهي محاولة تتكلل بالنجاح في نهاية الفيلم السعيدة.
وبين اللحظة التي يقرر فيها بطلُ الفيلم أنْ يخوضَ صراعَ البقاء، وبين اللحظة التي يعود فيها إلى أحضان الأرض، بينهما كثيرٌ من اللقطات والتفاصيل التي تُبهر المشاهد، وتثير في نفسه عدداً من الملاحظات الجديرة بالتأمل.
تستوقفني عادةً في الأعمال العلمية التي تلامسُ الفضاءَ والأفلاك العالية- فكرةُ الله، أو فكرة عظمة الخالق وتفاهة المخلوق: ففي اللقطات التي تُسحَر فيها العينُ في الفيلم بروعة الفضاء السرمدي الممتد حول روّاد الفضاء، والظلام المزيَّن بنجومٍ لا تُعدّ، والكواكب والنجوم والأفلاك والمدارات... والكون الذي يموج بكل ما فيه بلا توقف وأنتَ تنظر إليه ذاهلا- تجدُ الفطرةَ السليمةَ لا تملكُ أمام هذا كلِّه إلا أن تقول: سبحان الله ما أعظمكَ! وتجعلك ببساطة تفتشُ عن خالق هذا كله. 
لهذا فإنني ما زلتُ أذكر كيف فوجئتُ حين حضرتُ محاضرةً مباشرة مع الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينج، في جامعة نيويورك أبوظبي، بمناسبة ترجمة كتابه (التاريخ الأكثر إيجازاً للزمن) إلى اللغة العربية، فوجئتُ كيف لعالِمٍ فيزيائي من وزن هوكينج أن يجاهر بإلحاده على الرغم من علمه الغزير الذي أغنى به الفيزياء وأبهر العالم، وعلى الرغم من أنه لا بدَّ اقتربَ من الله الذي يخافه من عباده: العلماءُ.
لا أدري لمَ يثيرُ الشفقةَ في نفسي- أولئك الذين لا تقوى قلوبُهم ولا ألسنتُهم على استحضار تنزيهِ الله في مثل تلك المواقف بأي لغةٍ كانت وبأي إحساس وهي كثيرة في الأديان والثقافات، وأَحمَدُ اللهَ كثيراً على نعمته لأننا ما زلنا نستطيع أن نقول: سبحان الله! وما شاء الله! بتلقائيةٍ وعفوية يُحرَم منها المترفِّعون عن الإيمان به. لهذا لم يعجبني في الفيلم استخدامُ البطل إبان الكارثة التي حلَّت به، لكثيرٍ من الشتائم والألفاظ السوقية مثل الـ F. word. و الـ Sh. word ، التي تثير في النفس نفوراً من أولئك الذين يُفحشون في القول في مجالسهم، وهو من المقبوحات.
لقد كان من المثير لاستغرابي أن الفيلم في دقائقه التي تقرب من مئةٍ وأربعين دقيقة- لم يُذكَر اسمُ الله فيها إلا في حوارٍ قصير لأقل من دقيقة! لم يُذكر اللهُ الذي يلجأ إليه الإنسانُ عادةً في لحظات الضعف البشرية، عندما لا يجد ملجأً يأوي إليه. لم يُذكَر اللهُ الذي تجدُ نفسَكَ قريباً منه كلما ارتفعتَ أمتاراً معدودةً فوق الأرض في طائرة، فكيف إذا خرجتَ منها إلى الفضاءِ الكونيّ الواسع؟ وكيف إذن لا تستطيعُ أن تتلمَّس وجودَ اللهِ فيما حولك وأنت وحيدٌ متفرد على كوكبٍ يسامِتُ السماءَ ويسامتُ الله، وأنتَ تستذكرُ جوابَ الجاريةِ في الصحراء...أين الله؟ فقالت: إنه في السماء. فكيف لا يقترب من الله ذلك الفضائي، وهو وحيدٌ في فضاءٍ ممتد على كوكب جدب، لا رجاءَ فيه ولا مستقبل... إلا أن يشاء الله.
ومن الأشياء الباعثة على التأمل في الفيلم بعضُ الأفكار التي قد تبدو فلسفية؛ لذا فإن شيئاً هنا يُقال: فعندما أيقن رائدُ الفضاء أنَّ زملاءَه غادروا الكوكب الأحمر وأنه بقي وحيدا، لم يجزع كما يتوقع بل كان متماسكاً، وهي ربما من نقاط ضعف الفيلم حين أعمَتْ القائمين عليه صورةُ البطل الذي ينبغي أن يكون خارقاً، والذي لا تظهرُ طبيعتُه البشرية والضعفُ الذي قد يصيب نفسه في هكذا موقف رغماً عنه، كما خلا الفيلمُ تماماً من إشارات عاطفية للبطل، إلا ما كان منه عندما ذكَر والديْه حين ظنَّ بنفسه اقترابها من الموت، لكنَّ المخرج الذي جعل العالم كلَّه يشهدُ لحظةَ إنقاذ البطل وإعادته إلى المركبة الفضائية التي ستقلُّه إلى الأرض، لم يجعل لوالديه مكاناً بين الملايين من الناس الذين شهدوا عملية الإنقاذ، في مشهدٍ لا يخلو من استعراض القوة الخارقة في بلاد العم سام!
لقد كان البطلُ واقعياً جداً عندما قرَّر أنْ يبقى على قيد الحياة قدر احتماله، وقدر ما تسمح به الإمكاناتُ الخارجية التي تتيحها محطةٌ فضائية مهجورة على الكوكب، لكنَّ شيئاً واحدا كان هو سرَّه في البقاء والصمود ألا وهو الأمل، الأمل هو سرُّ البقاء، الأمل هو ما يبقيك حياً رغم تقلب الأحوال. ربما لم يقل الفيلمُ ذلك، لكنك ترى الأملَ في كل خطوةٍ يخطوها رائدُ الفضاءِ تجاه الهدف الذي وضعه نصب عينيه، وهو أن ينقذ نفسه من الكارثة التي حلَّت به.
وفي طريقه المزروع بالأمل بدأت رحلةُ حياته الجديدة التي تشبه رحلة البشرية منذ طفولتها في صراعها من أجل البقاء. فاهتدى أولاً إلى تأمينِ مصدرٍ غذائي يقيم أوَدَه، المدةَ المتوقعة التي قد تفصله عن رفاق رحلته في الفضاء حتى العودة إلى الأرض، وهي أولويةٌ لا بدَّ منها تعيدنا إلى هرم الاحتياجات الأساسية للإنسان. وهكذا تبدو فكرةُ استنبات البطاطا في الدفيئة التي هيَّأها للزراعة- خطوةً وفكرةً واقعيةً لا من باب الخيال العلمي، وخطوةً أولى في رفض الإنسان للاستسلام للواقع الذي يحيط به ولا يقدم شيئا. وكان استمطارُ الماء سببِ الحياة، وتوظيفُ معارفه العلمية ومهاراته العديد، والموجوداتُ الباقية في المحطة الفضائية، كانت كلُّها مسَّخَرّةً من أجل تحقيق الأمل: سرِّ البقاء. وحين نجحت تجربةُ الزراعة كان شيئاً رائعاً أن ترى الأوراقَ عياناً تشقُّ (أرضَ) مريخٍ بعيدٍ وتنبت، فيخلق اللونُ الأخضر في المشهد حياةً، نحن فقط على كوكب الأرض مَنْ يعرف جمالَها وفتنتها!
وآخر ما في الفيلم من انطباعاتٍ استقرت في نفسي كانت فكرةَ الخلود التي تؤرق البشر، وهي فكرة فطرية وجدت مع الوجود البشري؛ إذ يحاول رائدُ الفضاء المفقود على المريخ (مارك)، أن يترك أثراً أياً كان مقدارُه في المكان والزمان الذي يحلُّ فيه، وتجلَّى ذلك في بدئه تسجيلَ بعضِ المذكّرات اليومية بالصوت والصورة أو بالقلم، في كل لحظةٍ يراها تستحق التسجيل والتوثيق، بل حتى في اللحظات الأخيرة التي سيغادر فيها أرضَ كوكبِ المريخ تراه يسجل كلماته الأخيرة، ويوقع اسمه على ورقة صغيرة يتركها خلفه هناك على الكوكب الأحمر، لعلَّ زائراً قادما يمرُّ على دياره تلك فيقف على أطلالها.

الأحد، 12 أبريل 2015

صورة من... صالون التجميل

في زيارةٍ عاديةٍ إلى صالون التجميل القريب استمتعتُ صحبةَ ابنتي الشابة بلحظاتٍ جميلة جداً، ما أجمل أن ترى الأم ابنتها وقد شبَّت يافعةً بعد أن كانت نطفةً وعلقةً في رحمها! ثم إذا هي قطعةُ لحم صغيرة مكوَّمة بجانبها في تلك الليلة المباركة منذ عشرين عاماً.
ليس هذا ما أثارتْه في نفسي الزيارةُ لأكتب، فقد توالتْ (الستاتُ) داخلاتٍ خارجات، وحين كنتُ آوي إلى استراحةٍ قصيرة انتظاراً للشابة، لامستْ أسماعي ( لُكْــنَةٌ ) عربيةٌ متقنة: تحيِّي العاملةَ، وتطلبُ إليها بعض ما يصلح ليلَ الشَّعرِ الأسود المنساب نهراً على ظهرها.
حين جلستْ قربي، التفتُّ إليها لأجدَ وجهاً بملامح آسيوية: بشرة سمراء رقيقة، عينان لوزيّتان من طراز (صُنع في الصين)، وأنف عريض أقرب إلى أنْ تلازمَه صفةُ (أفطس)، وشفتان خمريتان مكتنزتان، ولسان يتحرك بحروف عربية متقنٌ نطقُها على نحوٍ....لا يُصَدَّق!!
تسمَّرت عيناي على الفتاة الضئيلة، وأنا أرقبها تجلس بثقةٍ على الكرسي الدوّار، تحمل بيدها هاتفاً ذكياً، تقلِّبُ فوق شاشته اللامعة- صفحاتِ التواصل الاجتماعي الزرقاء والخضراء، وتبتسم!
كلُّ هذه التفاصيل قد تشترك فيها كثيراتٌ في مثل تلك اللحظة، لكنَّ غيرَ العادي في هذا المشهد العادي- هو المفارقة الصارخةُ التي جعلتْه يحملُ إلى قلبي دهشةَ الطفل حين الخروج إلى النور من بعد الظلام! يا إلهي كيف انقلبت الأدوار في تلك الومضة؟!
أنفقتُ نحوَ عقدٍ من حياتي في دولةٍ خليجية، لم أُفلح في تعلُّم كلمةٍ آسيوية واحدة!! في دولة لا تتجاوزُ صورةُ الآسيويين فيها عادةً –للأسف- إطارَ (العمالة الرخيصة)، فلا يُتَصوَّرُ أنْ تكون تلك إلا في إطار (الخادمات) أو (المربيات) أو في أحسن الأحوال (العاملات) في المراكز التجارية الفخمة أو.... الرخيصة!
وعادةً ما يُميِّزُ أولئك لسانٌ يرطن بإنجليزية (خربانة) أو بعربية (مُكَسَّرة)، تجعلكَ تنقمُ على اليوم الذي تعلَّمْتَ فيه لغاتٍ أجنبيةً أو لغةً أمّا!! أو تجعلك تصابُ بتلوثٍ ضوضائي قد لا تفارقك آثارُه!
اليومَ.. الصورةُ أمامي مقلوبةٌ تماماً على نحوٍ ساخر، ربما،
وعلى نحوٍ مدهش، ربما ثانية، 
وعلى نحو مريح، ربما ثالثة؛ 
هي عاملة؟ ربما؟! لكنها أنيقة...
غريبة اليد والوجه؟ ربما؟! لكنها عربيةُ اللسان.
هالتْني المفارقةُ الصارخةُ في المشهد؛ كان وقعُها يشبه تلك التي أصابتْني حين استمعتُ إلى القناة الصينية CCTV للمرة الأولى: كلمات عربية منسابة بتلقائية ترتسم على وجوهٍ غير عربية، تذكرني دوماً بما آلَ إليه الحال: حين صارت العربيةُ عاراً يتستَّر منه أبناؤها فيدفعُ الآباءُ أبناءَهم إلى اكتسابِ اللغاتِ والمعارفِ والعلوم في المدارس الأجنبية؛ فتعوَجُّ ألسنتُهم، وتتعثَّرُ كلماتُهم، وينكمشُ خيالُهم الذي لا يعود يطيقُ حتى احتمال الأحلام ... بلغتهم العربية!

....الذي يبعثُ في القلب أملاً بعد هذا كله، وفي هذا اليوم الربيعيّ الماطر: أننا جميعاً في المبتدأ وفي المنتهى بشرٌ.. يمكننا أن نتقاسم الحياة على هذا الكوكب الجميل بقلوبنا التي يمكنها أن تتسع لنا. 

الاثنين، 9 مارس 2015

فتافيت وأخواتها.. سميرة (1/2)


منذ أسابيع وقعتُ على قناةٍ تلفزيونيةٍ جزائرية للطبخ هي قناة سميرة، ربما لا أكون من هواة الطبخ، على الرغم من أني أستمتع به في كثيرٍ من الأحيان.
 ولأننا في عصر الصورة وعصر الشاشات استهوتْني أولَّ الأمر في القناة - المطابخُ الأنيقة جداً التي لا تخطئها ذائقة، والأدواتُ المطبخية الزاهية الألوان، البالغة الفخامة، كانت تلك الأناقةُ عاملَ الجّذب الأول لمتابعة برامج سميرة طيلة الساعات التي أخلو فيها إلى كتاب، وأحتاج برفقته إلى صوتٍ يملأ صمتَ الأثير.
ثم وقعت اللحظةُ التي تركتُ فيها الكتابَ وشُغِفتُ بمتابعة البرامج صورةً وصوتاً، فما سرُّ الجاذبية في برامج سميرة بين هذا الكمِّ الهائلِ الذي يفيضُ به الفضاءُ من برامج إعداد الأطعمة والأطباق اليومية والموسمية؟!
والحقُّ يُقال: إنها أسرارٌ وليست سرّاً واحداً!! وإذا ما كان لي أن أبوح بها فالسرُّ الأول الذي يقذفُ في القلبِ راحةً تبعثُ على متابعةِ سميرة- هو أنكَ قريبٌ من برامجها؛ ذلك أنَّ السيدات، والرجال، الذين يقدمون البرامج قريبون منا، إنهم أمي وأمُّك، أختي وأختك، أبي وأبوك، نعم، هم مِنّا! فأنت لستَ أمام (شيف) يمتهنُ إعدادَ الأطباقِ الفخمةِ في أرقى المطاعم فحسب، إنهم هذا وأكثر؛ هُنَّ وهم في معظم الحلقات لا يرتدون (جاكيت) الطباخ، ولا يعتمرون قبّعته البيضاءَ العالية المميزة، ولا يرتدون القفازات المطاطية التي تَحولُ بين عواطفِ الطباخِ وأحاسيسه، وبين مكوِّناتِ الأطعمة التي يعدُّها بيديه فيكون للوجبة مذاقٌ لا يشبهُه مذاق! وغالبية السيدات الطبّاخات في برامج القناة يرتدينَ حجاباً للرأس كحجابي وحجابِكِ، لتقول إنها مني ومنكِ قريبةٌ أيتها المشاهِدة، وليست كائناً فضائياً يهبط علينا من كوكب بعيد في أقصى المجرة!
 ومن أسرار الجاذبية الأخرى في برامج قناة سميرة: التلقائية والفطرة، وقد تتساءلون كيف ذلك يكون؟! في برامج مسجَّلة ومُعَدَّة مُسبقاً؟!
فإلى جانب ما ذُكِر آنفاً من مظهرٍ أنيقٍ بسيط للطبّاخين والطبّاخات؛ بما يجعلهم قريبين إلى القلب، فإن سرَّ التلقائيةِ والفطرة هو الآخر لا يجعلهم فقط قريبين من القلب، بل يجعلهم في القلب أيضا؛ إذ قبل البدء بإعداد الأطباق والأطعمة، تــنْبَجِــسُ الشفتان في كل حين بفطرةٍ وتلقائية عن: (باسمِ الله)، عبارةٌ من كلمتين فقط تُختَصَر فيهما كلُّ آدابِ و(إتيتكيت) المائدة والمطبخ، في وقتٍ أصبح بعضُنا يخجلُ من الأكل باليد اليمنى في الحفلات و(البوفيهات) لأن ذلك يخالف (إتيتكيت) الأكل عالمياً، أو يخجلُ من التقاط الطعام المتساقط وأكْلِه بعد التسمية عليه، وأصبح يخجلُ من موروثاتٍ اجتماعية ومعتقداتٍ دينيةٍ متصلةٍ بتقاليد المائدة والطعام؛ على الرغم من أنني ما زلتُ شخصياً حين أنظِّفُ الخضراواتِ الورقيةَ - كالخسِّ والبقدونس- بالماء الجاري ومنقوع الماء المملَّح، لا أقتنع أنها أصبحت نظيفةً تماماً وجاهزة ً للأكل، إلا بعد قراءة دعاء: "بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء" عليها، وما زلتُ حين أبدأ بإعداد العجين بالذات، للمعجنات والبيتزا، لا أقوم بذلك إلا بعد أن أتوضأ!
كلمتان فقط (باسمِ الله).. ما أجملَ وقعهما على الآذان! حين تتدفَّقُ بتلقائيةٍ من مقدمِّة البرنامج وهي تطبخ، فتمنحُ الطبخَ على التلفزيون بهجةَ الأمومة؛ حيث الأمُّ وهي تطبخ، تُتَمتِم بدعائها كي يكونَ مذاقُ الطعامِ شهياً هنيّاً على عائلتها، فلا يأخذُ الطعامُ طريقَهُ إلى المعدة إلا عندما يغمرُ القلبَ بالذكرى والحب؛ بحيث يجعلُ الصغيرَ يقول: "طعامُ ماما أطيب طعام؛ لأن فيه الخلطة السرية: إنه الحب!".. وبحيث يكبر الصغار وما يزال لـ(طبيخ الماما) نكهةٌ لا تعوّضها أطباق الزوجات ولا الأخوات ولا الأخريات!!
وتكمن التلقائيةُ والفطرةُ والأمومةُ على برامج قناة سميرة، في تعامل الطبّاخات بأظافرهنّ القصيرة، العارية من طلاء الأظافر، والعاطلةِ من الحليِّ والمجوهرات- في معالجة العجين واللحوم والدجاج وغيرها باليد دون حواجز وبلا خجل، ومعالجة بقايا الأطعمة في الأواني حتى نهايتها، دون إلقاءِ المقدار الزائد من الكمية في المهملات؛ فكثيرٌ من برامج المطبخ على فضائياتنا أصبحت استعراضيةً إلى درجة منفِّرة، وبعيدةً عن روح مطابخنا القائمة على (العونة) و(البَرَكة) و(السُّبْحانية): فالكثير من أمهاتنا وجدّاتنا مثلاً لا يعرفْنَ المقاييس ولا المكاييل التي تدخل في إعداد أطباقنا العصرية، وإذا ما سألتَ واحدةً منهنّ عن مقاديرِ طبقٍ مُعيّنٍ نتلذَّذُ بمذاقِهِ من (تحت إيديها) تراها تقول: عالبركة يَمَّا ! ... فما أطيب تلك البَرَكة! وما ألذَّ طعمها! وإلى وقتٍ قريب كانت العائلةُ تجتمع على طبقٍ كبيرٍ تأكل منه جميعا؛ لأن في ذلك بركةً نفتقدها اليومَ حين تُوَزَّعُ البرَكةُ في أطباقٍ كثيرة، صغيرة وكبيرة، عميقة ومسطَّحة .. حتى ضاعت البرَكة!
هذه بعض أسرار سميرة ، قناة الطبخ الجزائرية الأنيقة الرفيقة القريبة من القلوب، أدعوكم لتجربةٍ جميلةٍ وممتعة مع سميرة، في مطبخٍ متميز وبنكهةٍ أكثر تميزاً!
ملاحظة: هذه الخاطرة ليست إعلاناً مدفوع الأجر، إنها من القلب إلى........ المعدة!


   



   

الأحد، 26 أكتوبر 2014

نفثات قلب

حين تولَدُ نجمةٌ تحتَ الشمس...ثم يمحوها ظلام الغدر
حين يولَدُ وطنٌ في العينين .. ثم يموتُ فيهما
حين تركضُ الأحلامُ على أزرقِ المتوسط.... ثم يكون لقاءُ الروحِ قاتلَها
وحين تكونُ رقةُ الياسمين وتأتلقُ.... ثم يستحيلُ أزرقُ الياسمين سواداً يُعشي العيون
وحين تزهو عشتارُ ربَّةُ الجَمال.... ثم تفوحُ منها رائحةُ العفنِ تزكمُ الفضاء
وحين يحلِّقُ الفينيقُ كلَّ مرةٍ من جديد... ثم يموت على شاطئ آخر
حين ذاك كلِّه..
ندركُ أنَّ النورَ ليس له من اسمه نصيب !
حينَها ندركُ أنَّ النورَ إنّما هو ضلالٌ !
وأنَّ الوطنَ حقيبة !
وأنَّ الحبَّ يموتُ ويفنى !
وأنَّ النجمةَ يسرقُها كنعانُ، ويطفئُ نورَها في مستنقع!
وأنَّ الفينيقَ يُغتالُ تحتَ رمادِه... فلا يقوم !
وأنَّ الياسمينَ تُنْتَهَكُ طهارتُه كلَّ لحظةِ خيانة !
وأنَّ النورَ الذي نظنُّه يملأُ حياتَنا .. هو سرابٌ.. في كذبٍ .. في أوهام !
فسبحانَ مَن خلَق الحُبَّ ! وأعطى الوفاء !
وخلّق النورَ .. وجعل الطُّهْر !
وخلقَ القلوبَ .. وجعلَ اللهَ فيها !
فيا مقلِّب القلوبَ ثبِّت قلبي 

الجمعة، 23 مايو 2014

شكرا توستماسترز.. أخضر ..أصفر ..أحمر



في العديد من المؤتمرات العربية التي يتاح لي حضورها، تواجه المتحدثين عادة مشكلة تتسلَّط عليهم ألا وهو سيف الوقت؛ إذ من المعتاد في المؤتمرات التي تضم عددا كبيرا من الباحثين، ويعرضون بحوثهم في أيام قلائل،... أن يكون الوقت المتاح لأحدهم على منصة التقديم لا يتجاوز ربع ساعة، يكون مطلوبا فيها أن يقدم خلاصة أفكاره وعصارة بحثه في هذه الدقائق المعدودات..وغالبا ما يقوم (صراع لطيف) بين المتحدثين ورئيس الجلسة حول الوقت المتاح لهم..
وربما يُمضي الباحث جلَّ الوقت المتاح له في مقدمات وبديهيات، فتستغرق دقائق كثيرات، ثم يفاجَأ بأن الوقت كاد ينتهي، فيعجِّل بالمرور على أفكار بحثه الأساسية.. دون تعمق كاف؛ مما يهضم منزلته حقها ولا يعطي الانطباع الصحيح عما يود تقديمه. والسبب في ذلك برأيي يعود إلى إدارة الوقت التي لم ينجح بها بعض الباحثين..

ولهذا في كل مرة أحضر مواقف كهذه أقول في سري: شكرا .. شكرا توستماسترز..
وزملائي في توستماسترز هم وحدهم الذين يفهمون السر..
ولكي تعرفوا ماذا أعني أيها الأصدقاء أدعوكم للبحث عن توستماسترز وماذا تقدم هذه التجربة للذين ينضوون تحت لوائها..

يمكنكم قراءة بعض ما كتبتُ عن هذه التجربة في مدونتي تحت عنوان مشاريع الخُطَب المُعَدَّة في توستماسترز وتحت عنوان محاضر اجتماعات التوستماسترز..

ولديكم في العم الكريم (جوووووووووووجل) متسع لمزيد..



وصفة طبية باللغة العربية



خواطر من وحي قراءتي عن الترجمة في الأندلس....

عندما تُمسك بيدك وصفةً طبيةً وأنت ذاهبٌ إلى الصيدلية لتشتري الدواء، فإنه لا يمكنك أن تتخيل أنْ تكونَ الوصفةُ الطبية مكتوبةً بالعربية؛ فالذي يدرس الطب بالضرورة يعرف الإنجليزية!! لأنها عادة ما تكون لغة دراسة الطب حتى في جامعاتنا الوطنية!!
ولقد كان ...الطبُّ في يوم من الأيام والرياضيات والفلك، علومٌ لا تُدَرَّس في أوربا نفسها إلا باللغة العربية، وكانت جامعة أكسفورد تفرض على طلبة تخصص الطب بالذات حضورَ دروس اللغة العربية؛ كي يقرؤوا المصادر العلمية بلغتها الأصلية...حتى أن اهتمام عدد من رواد الاستشراق الأوروبي باللغة العربية، كان ببساطة لأنها لغة العلم في ذلك الزمان.

بعدستي ..
صورة لدكان العطارة في غرناطة، تبيع الأعشاب دواءً ... ونكهةً للحياة!