أرشيف المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مشاريع الخطب المُــعَدَّة في توستماسترز. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مشاريع الخطب المُــعَدَّة في توستماسترز. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 12 يونيو 2011

خطبة 10: حكايتي مع الأندلس

ا

الخطبة رقم (10)
الهدف: أَلْهِم جمهورَك

عنوان الخطبة: حكايتي مع الأندلس

"أن تمتلك حلما فهذا يعني أنك قد وجدت نفسك!".


ألقيت يوم السبت 11/6/2011
في الاجتماع رقم 100 لنادي أبجد توستماسترز في أبوظبي

منذ نحو سنتين وقفت موقفي هذا وقدمتُ خطبتي الأولى في توستماسترز، خطبة "كسر الجمود"، حدَّثتكم فيها عن طفولتي وجزءاً من حياتي، واليوم أقف عند إكمال الخطبة العاشرة من مسار المتواصل المتمكن، فخَطَر في بالي أن أصل الخطبةَ الأولى بالعاشرة، على ما بينهما من فارقٍ زمني يزيد عن سنة ..لأستكمل الحديث عن بعض نفسي.
اخترتُ لكم موضوعاً شخصياً لصيقاً بي، وهذا الشيء اللصيق بي أصبح جزءاً من شخصيتي وهاجساً من هواجسي... إنـها حكايتي مع الأندلس.
الأندلس.. وما أدراك ما الأندلس عند رشأ؟؟
متى سمعتُ بهذه الكلمة للمرة الأولى؟ لا أذكر !!.. نعم ببساطة لا أذكر !
ربما مرَّت هذه الكلمة مروراً عابراً أيام المدرسة ولكني لم أتوقف عندها، ولا أذكر منها شيئاً أبداً!!....أما متى ابتدأتْ الأندلس تتغلغل في كياني وتستقر وتأخذ حيزاً في حياتي فهذا ما أعرفه جيداً. فقد بدأتُ أعشق شيئاً اسمه الأندلس عندما أخذتُ مادة الأدب الأندلسي في السنة الدراسية الجامعية الثانية - يعني منذ نحو عقديْن من الزمان- ، ولا أنكر أنَّ الأستاذ اللطيف الوسيم الرقيق، د. صلاح جرار ،كان له أثرٌ في أنْ جعلَ الأندلس تلتصق بي منذ ذلك الحين، ولا أنكر فضلَ أستاذي عليّ في أنه عرَّفني هذا الشيء الرائع، وفتح قلبي على تلك النقطة المضيئة في تاريخنا وحضارتنا.
ما أذكره من تلك المادة - وهو كذلك مرتبط بفضل أستاذي عليَّ- هو طريقته في التدريس؛ إذ كان يعتمد على أن يقدم للطلبة خطة المادة ومفرداتها في بداية الفصل الدراسي، ويطلب فيها مجموعةً من القراءات المخصصة لكل موضوع منها، ويترك للطلبة الحرية في أن يطّلعوا على المادة ويتزوَّدوا بما يناسبهم ليكونوا أهلاً للنقاش وللحوار الذي يدور حول قضايا الأدب الأندلسي ..المتعددة. وكانت المحاضرةُ - عادةً- تقليدية: تقوم على الإلقاء وقليل من الحوار، إلا أن أسلوبَ الأستاذِ الآسِـرَ كان يملأ عليَّ قلبـي وعقلي.
وإذا ما تجاوزتُ الأستاذَ وأثره في أن أعرف ما الأندلس، فإنّ الأدب الأندلسي إلى جانب ذلك هو من أجمل محطات الأدب العربي، وهو على الرغم من كل ما يمكن أن يقال- فضيلةٌ ومزيةٌ من مزايا الأدب العربي لا ينكرها إلا جاحد!
...وهكذا كانت بدايتي مع الأندلس ..وبداية معرفتي بالأدب الأندلسي وأشهر موضوعاته: شعر الطبيعة والموشحات الأندلسية.
ومما أذكره في مرحلة البدايات هذه أنَّ ما جعل موضوعَ الأندلس جميلاً وقريباً إلى نفسي ما كنتُ أكتبه في أوراق الإجابات للامتحان؛ فقد كتبتُ إجابة رائعة - بنظري- عن شعر الطبيعة في الامتحان، وزادني ثقةً بما كتبتُ، ما سجَّله أستاذي تعليقاً على ورقتي؛ إذ كتب كلمة (أحسنتِ) التي أذكرها إلى اليوم مرسومةً إلى جانب الدرجة التي نال غيري مثلَها، لكنْ.. ما حظي أحدٌ منهم بـ الـ(أحسنتِ) التي حظيتُ بها أنا !
والأجمل من هذا الامتحان كان ما علَّمني إياه أستاذُنا الفاضل دون فرض ودن إكراه؛ فهو يترك لنا حرية القراءات والتوسع والاطلاع على المواضيع المتعلقة بالأدب الأندلسي..وفي الامتحان كذلك يترك لنا حرية التعبير واعتناق الآراء واختيار الشواهد الملائمة....المهم أنْ تدافعَ عن رأيك وتنتصر له بالحجة المناسبة. والآداب والعلوم الإنسانية –كما تعلمون- تخضع عامةً وفي بعض جوانبها للآراء أكثر من خضوعها للقوانين الصارمة التي لا تتغير.
..وهكذا ارتبطت الأندلس في نفسي بمنهج تعليميٍّ راقٍ، كنتُ أتمنى أن يسير عليه أستاتذتُنا جميعا؛ فقد تعلَّمْنا ما معنى الاطلاع واتساع الأفق، لكي يكون الطالبُ قادراً على النقد والتمييز بين الغثِّ والسمين فيما يصادفه من قضايا تتعلق بالمادة التي يدرسها؛ كان أستاذُنا يطبق المنهج الذي يسعى إلى حل المشكلات والتفكير الإبداعي...وغيرها من مصطلحات تطوير التعليم الحديث التي يصدع بها التربويِّون رؤوسَنا، وهم للأسف لا يدركون منها إلا القشور.
لذلك لا أنسى أنني على الرغم من اجتهادي والتزامي في المادة، إلا أنني قصّرتُ نوعاً ما في الامتحان النهائي؛ حين فاجأني سؤالٌ لم أتوقعه، وهو يدل على ذكاء المدرِّس، والإجابة عنه تدل على ذكاء الدارس؛ فالأندلس يضم تاريخها السياسي والثقافي عصوراً متعددة متتابعة، وطلب أستاذنا أن نذكر تلك العصور ونمثِّل على كل عصر منها لأعلام الأدب شعراً ونثراً، ونـمثل كذلك لأعمالهم المعروفة، وهذا المطلوب معقول ...أما المفاجئ لي وما لم أتوقعه فهو أن نذكر لكل عصر من تلك العصور مجموعة من المصادر التي تتحدث عن ذلك العصر، ويمكن أن نرجع إليها للاستزادة عنه، ولكن دون أن نكرر اسم المصدر لأكثر من عصر.
وهذا سؤال ذكي يتصل بمنهجية البحث؛ وهي كيف يصل الباحث إلى المعلومة الدقيقة من المصادر الأصيلة وثيقة الصلة بالموضوع، وهذه المنهجية هي إلى اليوم، ولدى الباحثين في مختلف التخصصات، هي علامة من علامات سلامة منهج البحث العلمي ووضوحه والاطمئنان إلى نتائجه لدى الباحثين.
... من هنا ابتدأت الحكاية، ووجدتُ في الأندلس سحراً لا يقاوَم، سحراً خاصاً جاذباً، فحلَّت في قلبي واستعصت على الخروج، فبدأتُ أدعم دراستي هذه بتخصصي الفرعي في مادة التاريخ، وكنتُ أبذل ما في وسعي، حتى طلب مني أستاذ التاريخ الأندلسي - د. محمد حتاملة- أن أترك دراسة اللغة العربية وأتوجه إلى قسم التاريخ..لكن الأوان كان قد فات !
ثم تابعتُ اهتمامي بالأندلس التي صرتُ أرى فيها تجربة تاريخية وإنسانية فريدة، ومثالاً على التسامح والرقي الحضاري والألق الثقافي الذي لم أجد له مثيلاً في حضارات أخرى.
وهكذا وفي أثناء دراستي الماجستير قررتُ أن أتعلم اللغة الإسبانية، وما زالت لدي حلماً أسعى إلى تحقيقه كاملاً يوماً ما. وفعلاً كان لديّ الوقت لأحضر دروس اللغة الإسبانية التي تُقَدَّم لطلبة البكالوريوس في الجامعة، وكنت أحضرُ تلك الدروس دون تسجيل رسميّ في المادة، ولكني تفوقتُ فيها بحمد الله، وقد فرحتُ جداً بتعلُّمي اللغةَ الإسبانية وأفدتُ منها كثيراً، وكانت سعادتي لا توصف .
نعم... صرتُ أفكُّ الحرفَ الإسباني! وما زلتُ أضع هدف إتقان اللغة الإسبانية إلى الآن حلماً ينبغي الوصول إليه يوماً ما! حتى أشعر بالرضا عن نفسي حين أقول إن تخصصي هو الأندلس.
وقد صار اسم الأندلس في تلك المرحلة من حياتي جزءاً مني، حتى إنني علَّمتُ ابنتي الأولى أن تنطق بـ ( أ ن د ل س)، تماماً كما تنطق بابا أو ماما ..وقد فعلَتْ وأحسنَتْ!
كما أنني في تلك المرحلة من حياتي (1997) أنـهيت دراسة الماجستير برسالة كانت بعنوان "تجربة السجن في الشعر الأندلسي" وكأنه لا فكاك من هذا السجن اللذيذ ! مما زادني اقتراباً من الأندلس ..اقتراباً سيجعل من الأندلس حلماً من أحلامي على الدوام.
... وغابت الأندلس .. وإسبانيا ماثلةٌ أمام عينيّ ..كنتُ أحلم وما زلت بأن يكون لديّ –مثلاً- طرازٌ أندلسي في بيتي، ربما لم أحقق ذلك بعدُ على أرض الواقع لأسباب مختلفة، لكن الرحلة إلى هناك ظلت في بالي. 
وكان مما أثلج صدري في تلك السنوات وأرضى غروري " الأندلسي" – مجموعةُ مسلسلاتٍ تاريخية عربية لأستاذنا د. وليد سيف كاتباً، والمخرج السوري حاتم علي وطاقم الممثلين معه، فكانت الثلاثية الأندلسية: صقر قريش، 
وربيع قرطبة

وملوك الطوائف

كانت من أروع ما شاهدتُ .. وما يمكن أن تشاهدوا ! فكتبُ التاريخ ...وصفحات التاريخ... وأحداث التاريخ التي ماتت ومات أبطالُها .. تُبعث حية تسعى أمامكم، تدبُّ في أوصالها روحٌ جديدة لتنشرها وتصل إليكم.
هذه المسلسلات كانت من الأشياء المهمة التي زادت صلتي بالأندلس وأحيتْها من بعد رقاد، وزادتني حلماً أنني ينبغي أن أطأ تلك الأرض.. وألمس ذلك الماضي في ثياب الحاضر..
ثم كانت الرحلة إلى المغرب جارة الأندلس (عام 2008) إبان دراستي في مرحلة الدكتوراه، التي غيَّرت حياتي، وعلى الرغم من قِصَرها إلا أنـها كانت عميقة التأثير، وزادت صلتي بالتراث الأندلسي عن طريق الاستماع إلى الموشحات الأندلسية التي تمثل منجزاً إبداعياً من منجزات الأندلس حيّاً إلى اليوم، بفضل المحافظين على هذا الطرب الأصيل.
وهذا ما جعل الأندلس حاضرةً في حياتي في كل وقت وفي كل آن ..وشكراً للإنترنت التي أتاحت الحصول على تسجيلات الطرب الأندلسي الفريد، والطرب الغرناطي الرائع، التي أستمع إليها يومياً منذ عودتي من المغرب، وهي كلَّ يوم تزيد صلتي بالأندلس وتدفعني إلى تحقيق الحلم بزيارتها ورؤيتها عيانا.
وهو ما تحقق في الصيف الماضي فكانت حقاً رحلة العمر، زيارة إسبانيا اليوم أندلس الماضي، وقد جعلتْني تلك الرحلة -إلى اليوم- أقف مبهورة مندهشة أمام هذا التراث الحاضر الباقي على الجدران وفي الأزقة والشوارع، وفي الجبال والوديان..وفي القصور والبيوت والأسواق. إنـها الأندلس، إنه عبق الوجود العربي الإسلامي لا ينفكّ عن تلك البلاد ولا يزول، رغم مرور مئات السنين من محاولات الطمس المتعمد والانقطاع عن الماضي الإسلامي ..لكنك مع كل هذا تجد أن رائحة التاريخ في إسبانيا قوية شديدة..تفوح في كل مكان .. لا يقدر على التغلب عليها أقوى أنواع العطور والروائح.
كانت الرحلة التي أعرض أمامكم بعضاً مما سجَّـلَـتْهُ ذاكرتي وانطبع في آلة تصويري.
وإذا ما كان الشاعر قد قال يوما: 
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلام فكلامٌ فموعدٌ فـلقاء
ففراقٌ يكونُ فيه دواءٌ أو فراقٌ يكون منه الداءُ

فهل كان بعد اللقاء فراقٌ فيه الدواء؟ ..أم أن ذلك الفراق قد أورث داءً ليس منه شفاء؟ فزيارتي للأندلس جعلتني أود بشدة أن أعاود زيارتها..وحتى شريك العمر وشريكي في رحلة إسبانيا- على الرغم من موقفه تجاه التجربة الأندلسية وتحفظاته عليها- إلا أنه يذكرها باستمرار ويعاوده الحنين إلى شوارع غرناطة وأزقتها والناس سائرة فيها غادية رائحة. فكيف الحال بي أنا ..والأندلس في قلبي وعقلي كل هذه السنين؟

....... وهكذا مضت حكايتي مع الأندلس وتمضي إلى اليوم ، حلماً لذيذاً وتوقاً لا ينتهي، وأنا سعيدة بـها وبحياتي معها..
ففكِّر في نفسك وانظر في داخلك: فما أجمل أن تمتلك حلماً لأن هذا يعني أنك قد وجدتَ نفسك...وأنْ تجد نفسك يعني أنك ستذوق طعم الحياة وستقطف ثمرتها الطيبة، لا أن تمر بك الأيام والسنون تكافح وتنافح ... ثم ترتاح في النهاية للأبد ..وأنت لا تستطعم في فمك إلا بقايا...اللاطعم، الذي تجرَّعتَه دون أن تدري؛ لأنك أمضيتَ عمرك دون أن تمتلكَ حلماً !

الأحد، 12 ديسمبر 2010

خطبة 6: أنا والنباتات

الخطبة (6)
الهدف: التعامل مع الكلمات


عنوان الخطبة: أنا والنباتات



قال الشاعر يا سادة يا كرام:


ثلاثةٌ يذهبْنَ عن المرء الحزَنْ: 
                    الماءُ والخضرةُ والوجـهُ الحسَنْ


ولنتركْ في مجلسنا هذا: الماءَ فهو وفيرٌ في هذه البلاد، والوجهَ الحسن ... إلى حديث آخر .

السيد رئيس النادي، السيد عريف الاجتماع، السادة الحضور من الأعضاء والضيوف.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إذن عرفتم عمَّ سأتحدث! فلقد تربيتُ في بيت أو بالأحرى شقة صغيرة الحجم لم تخلُ من شرفة، لكن لم يكن بيتنا يضم من النباتات إلا أصيصاً واحداً لنبتةٍ لا أعرف اسمها ..لكني أحفظ شكلها جيداً في ذاكرتي، بقيت تلك النبتة يتيمةً وحيدة، إلى أن تبرعت بها أمي –حفظها الله- إلى جارتنا السورية أم مازن –رحمها الله- التي كانت تعتني بنا في غياب أمي ؛ إذ كانت أمي تعمل في التدريس ، ولم يكن في ذلك الزمان من ملجأ للأمهات العاملات إلا الاستعانة بأحدٍ للعناية بالأطفال.

...المهم ، كان بيت تلك الجارة مكوناً من غرفة واحدة ، و "حوش" صغير مليء بالنباتات والأصص على عادة البيوت الدمشقية..وقد انطبعت في ذاكرتي صورة هذا الفرق بين بيتنا وبيت جارتنا، لتقفز إلى ذهني صورة النباتات كلما دخلتُ بيتاً أو مكتباً أو غيره؛ إذ أبحث بين جدرانه عن تلك الأوراق الخضراء التي ما أن توجد في مكان.. حتى تعمره بخفقات الحياة.

إن فكرة جلب النباتات إلى البيوت في أصص صغيرة لهي فكرة عبقرية من بديع الإنسان، فالخضرة في الغابات والمروج –رهيبة ؛ وإلى حدٍّ ما مخيفة، لكنها في البيوت والأماكن المغلقة رقيقة تبعث على الرضا والجمال.

..وعندما كبرتُ وصار لي بيتي الخاص صرتُ أتطلع إلى اتخاذ النباتات لما رأيته من الجمال والروعة اللذيْن تضفيهما على أي مكان مهما كانت النبتة صغيرة.

وهكذا أصبح في بيتي قطعةٌ من الجنة بفضل مجموعة نباتاتي الحبيبة زرعتها بيدي، واعتنيتُ بها عناية الأم بأطفالها..فأضفت هذه النباتات بأنواعها وأشكالها جواً رائعاً على شقتنا البسيطة، وصارت محط إعجاب الزائرين والزائرات.
وكنت أرى دوما أن النباتات عنصر أساسي من عناصر "ديكور" المكان، انظروا إلى هذه القاعة بمقاعدها المعدنية والقماشية، وطاولاتها الخشبية، وستائرها المعدنية، وجدرانها الزجاجية.... إنه لا يليّن قساوة هذه المعادن التي تحيط بنا إلا رقة النباتات ونداها.
صارت النباتاتُ كذلك جزءا من نظرتي إلى الحياة ؛ إذ كنتُ أتأملها كلَّ صباح في الشرفة وأجلس أحياناً لحظاتٍ طويلة أتأملها وأسبِّح بعظمة الله الخالق ، فالِق الـحــَـبِّ والنَّوى، مُخرِج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحيّ!!!

لقد كان ظهورُ ورقةٍ جديدة تشق التراب أو الساق مثارَ دهشةٍ وموضع تأملٍ في نفسي لا ينقضي منها بسهولة، فالتأمل في أطوار النبات يعطي الإنسان تمريناً عقلياً من نوعٍ خاص تجعل منه أقرب إلى ممارسة الفلسفة، وفي اليابان مثلا ترتبط زراعة الأشجار المصغرة وتنسيق الزهور بنوع من الفلسفات الروحانية الخاصة بمعتقداتهم. ولهذا أذكر أنني صرتُ ألاحظ النباتات في كل مكانٍ أزوره أو أحطُّ به رِحالي، وأقصف بعض خصلاته من الأماكن التي أجده فيها لكي أزرعها وأضيفها إلى مجموعتي.


وحين غادرتُ الأردن للمرة الأولى للإقامة في دولة الإمارات سنة 1998، اصطحبتُ معي أغصاناً متنوعة من النباتات التي في بيتي لأزرعها هناك في مكاني الجديد؛ فلم أكن أتخيل أن أعيش في بيت لا نبات فيه من أول لحظة.. وأول شيء أنقله معي إلى بيت جديد سأنتقل إليه هو نبتة صغيرة تؤنس وحشته وتبعث الحياة بين جوانبه. ..لذا كانت دهشةُ موظف المطار كبيرة حين نظر في الكيس الذي أحمله معي فراعه أنها ورقات خضراء ، فتساءل باستنكار: طبيعية ؟!؟ فأجبته: نعم..نعم جداً!

وعند العرب كان للطبيعة القاسية في بلاد العرب أثر في أن يكون للنبات تقدير خاص، فاحتلت النخلة منزلة مميزة لدى العربيّ فهي الواحة والملاذ، تقاسمها في تلك المنزلة الخيول والإبل. ونتيجة لفقر بلاد العرب – خاصة في الجزيرة العربية- بالغطاء الأخضر الذي يوفره انتشار النباتات والأشجار، فإنهم حين وصلوا في فتوحاتهم إلى الأندلس مثلاً أبدعوا في مجالٍ شعريٍّ اشتهر وازدهر هناك، ألا وهو شعر الطبيعة ، وقد أجادوا في هذا الفن بوصف مظاهر الطبيعة الخلابة التي سحرَتْهم في ديارهم الجديدة، فما زالوا يبدعون فيه حتى اختص بعض الشعراء بنوع معين من النبات، فظهر شعر الزهريات والنَّوْريات والصنوبريات والثلجيات...وهكذا ، وهناك مقطَّعات شعرية كثيرة في هذه الفنون، ومنها نوع المعارضات الأدبية أنشأ فيها الشعراء قطعاً فنيةً على ألسنة الورود والرياحين والأزهار وغيرها...ينتصر فيها كل نوعٍ لنفسه ولمزاياه على غيره من أنواع الزهور والرياحين.

..أما في عصرنا الحالي وفي مجلسنا هذه فإن المثال الأقرب إلينا هو ما نراه على أرض الإمارات من انتشار الغطاء الأخضر على رمال الصحراء على نحوٍ مُـعْجِزٍ يذكِّرنا  في كلّ حين بالرجل الذي وقف وراء ذلك كله بإصراره واستشرافه المستقبل الشيخ زايد رحمه الله، حيث كانت عنايته بالنخيل ابنة هذه الأرض رفيقة أبناء الجزيرة العربية.
ما أُحَيْلى رفقةَ وريقاتٍ خضراء تتنفس معك في المكان وتضفي عليه من السحر والجمال ما يجعل روحك تمتزج بروحه!

 


الأحد، 3 أكتوبر 2010

خطبة 5: الرحلة بين الأمس واليوم



الخطبة ( 5 ) 
الهدف: نوِّع الصوت

الرحلة بين الأمس واليوم

...أشعث أغبر... مهلهل الثياب...تكاد لا تتبيَّن ملامـحه...هكذا كانت حال المسافر قديماً كما صوَّرَتْـها الكتب لنا، كان المسافر أو الرحالة يسمع بأقصى الأرض وأدناها فيعزم أمره على أن يضرب في الأرض تجوالاً وسفرا، فكيف كان يستعد لمثل ذلك الأمر؟ وكيف يستعد المسافرُ اليومَ لمثله؟ 
..كان المسافرُ يسمع بالبلاد الأخرى وآثارها وسكانها، لكنه كان يرسم لها صورة في ذهنه ليقرّبها إلى نفسه، وليس في ذهنه عنها إلا ما يجودُ به خياله ..وقراءاته..لا صورة (فوتوغرافية) ولا تقارير (تلفزيونية) ولا رحلات (افتراضية).
واليوم.. معظمكم عاد من الإجازة الصيفية وفي جعبته أخبار من رحلة قضاها هنا أو هناك برفقة الأهل أو الأصدقاء. فكيف كان استعدادكم للسفر؟
..هناك تفاصيل في حياتنا اليومية لا نتوقف عندها طويلاً بحكم الاعتياد والألفة، لكنها في الحقيقة -وفي موضوع السفر خاصة- تفاصيل مثيرة ، ولو تخيلتَ أنكَ تحدِّث بأخبارها إنساناً من القرون الخالية لظنَّ أن مساً من الجنون أصابك أو أنك على رأي المصريين (تاكل بعقله حلاوة)!
فنحن في هذا الزمان نعرف قبل أن نسافر إلى أي بلد صورةَ تلك البلاد، وهي متاحة لنا بوسائل عديدة، نشكر عليها العم (جوجل إيرث)؛ الذي جعل من الأماكن والطرق المؤدية إليها وخرائط تحديد المواقع وغيرها...بين أيدينا.
ثم إننا يمكن لنا كذلك أن نجلس إلى الحاسوب، في البيت ونقوم بعمليات الإعداد للسفر جميعها قبل أن نسافر: نشتري التذاكر.. ونختار أماكن الإقامة ابتداء من الغرف والشقق والمرافق الصحية ..ونعاينها بالصور العادية أو الزيارة الافتراضية .. وربما في المستقبل نتمكن من معاينة حتى مرتبة السرير أمريحة هي أم لا؟ 
كما يمكن لنا اليوم أن نعرف الأماكن المحيطة بالمكان الذي سننـزل فيه أثناء السفر من مطاعم وأماكن للتسلية والترفيه ومواقع تاريخية...وغيرها مما يستحق الزيارة.
ويتاح لنا اليوم أيضاً فرصة قراءة آراء الناس الذين زاروا تلك الأماكن ونزلوا فيها، فنستفيد من تجاربهم ونسترشد بآرائهم في اختيار المكان الملائم للإقامة أو لبدء الرحلة... أو اختيار وسائط النقل المناسبة... وغيرها من خيارات لا تنتهي يحتار المسافر أيها يسلك.
إننا اليوم نسافر إلى أي مكان في الدنيا ونحن نعرف عنه كل شيء تقريبا ..وقد خبِرْنا ربما أهله ومأكولاته وما يمتاز به ..وبقي علينا فقط أن نوجد في المكان نفسه على الحقيقة لا على الافتراض، وأن نشتمَّ روائحه التي لا تستطيع الصور المتوافرة حتى الآن أن تحتفظ بها وتنقلها لنا.
فهل فقدْنا في رحلاتنا اليوم متعة الاكتشاف وروعته التي كان المسافرون قبل عصر الصورة يعيشونها؟!؟ وهل فاتتْنا التفاصيلُ الصغيرة التي كانوا يعيشونها في أثناء رحلة السفر وعند الإقامة في الأماكن الجديدة؟
فهل كان خطَرَ في بال ابن بطوطة مثلا –قبل نحو 600سنة تقريبا- وهو ينوي زيارة بيت الله الحرام ..هل خطر بباله أننا اليومَ نرى الحرم كل لحظة وفي كل حين، وأننا نسمع صوت المؤذن فيه لكل صلاة من صلوات اليوم والليلة، ونستمتع بجولة افتراضية فيه يحملها إلينا الإنترنت والفضاء الرقمي الذي طوى المسافات وقدم لنا الأماكن على طبق من فضاء..
ومع ذلك كله فما زال السفر والترحال قادراً على أن يمنحنا متعة الانتقال ودهشة الحضور وروعة التواجد .. في أماكن جديدة برفقة أناسٍ آخرين؛ فالناس مختلفون باختلاف بقاع الأرض، والناس وحدهم هم الذين يضيفون تلك النكهة المميزة على المكان الذي نزوره في أي بقعة كان.

قال الشافعي :
سافِـرْ تجد عِوَضاً عمن تفارقهُ
وانْصَبْ فإنَّ لذيـذَ العيشِ في النَّـصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يفسده
إنْ سالَ طابَ، وإنْ لم يَـجْـرِ لم يطبِ
والشمسُ لو وقفتْ في الفُلْكِ دائمةً
لَـمَـلَّها الناسُ من عجـمٍ ومن عربِ

الأحد، 6 يونيو 2010

خطبة 4: عندما تكونين أُمَّـــاً في دولة أوروبية





الخطبة ( 4 ): وضح ما تعني
الهدف: تعلم إيماءات الجسد
عندما تكونين أُمّـاً في دولة أوروبية


ربما كان كثير منكم قد أمضى بعض الوقت في البلاد الغربية للدراسة أو الزيارة...، وربما يكون قد أنعم الله عليه في أثنائها هناك بمولودٍ أسعدَ أيامَه وأضفى البهجة عليها في ديار الغربة.
أحدثكم اليوم عن تجربة إنجاب طفل في دولة أوروبية، ولكنْ ليس من قبيل هل سيحصل المولود على الجنسية أو البطاقة الخضراء للإقامة الدائمة ...أو غيرها من المميزات المدنية التي قد تجول في خاطر الآباء عند التفكير بإنجاب طفل في تلك البلاد.
...لم يكن ابني عمر أول طفل لي، وكنتُ قد وصلتُ بريطانيا أوائل سنة 2000 (منذ عشر سنوات تقريباً) ... وكأيِّ زائر لبلادٍ جديدة، تقع في النفس انطباعاتٌ تبقى عالقةً في الذاكرة لا تزول، وهي ما أكلمكم عنه الآن: انطباعات وقعت في نفسِ أم.
استوقفتني أولاً في تلك البلاد أمور الاهتمام بالرعاية الصحية إلى حدٍّ كبير، إذ أولُّ الأعمال التي يجب أن تقوم بها من أجل أن تسري عليك قوانين البلاد للإقامة هو التسجيل لدى الطبيب العام في العيادة القريبة من البيت، وحرصهم على السؤال عن التاريخ الـمَرَضي للعائلة والمطاعيم للأطفال... وغيرها من أمور وتفاصيل تتعلق بجميع أفراد الأسرة..
وهذه كلها بالمجان نعم مجاناً .. مما يجعلك تلمس مدى حرصهم على (الصحة العامة) في بلادهم، لا على الامتيازات التي قد يتفضلون بها على المقيمين والزائرين! كما في بلادنا العربية حيث قد يُهمَل الوافد والمقيم صحياً بدعوى عدم المواطنة.

...أما تجربة إنجاب طفل في تلك البلاد، فهي بحق تجربة مختلفة، على الأقل بالنسبة لي، لقد أنجبتُ أطفالي من قبل في عمّان، وأول شيء يختلف عما سبق هو الذهاب إلى المستشفى مشياً على الأقدام...نعم؛ فهو قريب جداً من البيت، وقطعتُ المسافة مع زوجي وأنا أقول له سأركب التاكسي بعد قليل...سأركب بعد قليل...حتى وصلنا ، ولمَّا يكن ذلك القليل قد انتهى! كنا نسكن في وسط مدينة إدنبرة في Buccleuch Place، والمستشفى Royal Infirmary قريب من شقتنا، وهكذا وصلنا....



المهم في نهاية الطريق ...وصلنا، وحين آن أوانُه.. ووصل عمر إلى هذه الدنيا، كان مما لاحظتُه بعد ولادته أنهم يُحضِرون الطفلَ إلى الأم ليكون بجانبها فوراً، دون غسيل وكما خلقه الله، ويبقى إلى جانبها طوال الوقت، بعكس ما كان في بلادنا حيث يحتفظون بالطفل في الحاضنة المخصصة للأطفال ويأتون به للأم بين الحين والآخر، نظيفاً ومغسولاً وفي ثياب خاصة، وربما يكون ذلك من أجل راحتها بعد عناء تلك العملية الشاقة. ولكن هذه كانت نقطة ملاحظة!
ويحضرني كذلك شغفُ الممرضات بعملهنّ؛ فهنّ صبورات.. ويُحــبِـبْنَ عملهن، وأنت تشعر بذلك من اهتمامهن الزائد بالطفل القادم، فالعامل هناك لا يعمل إلا في مهنة يحبها ولا توجد ثقافة عيب فيما يخص المهن، يطبقون قول عمر بن الخطاب:"أرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لاصناعة له سقط من عيني".
ولأن أطفالي دائما لديهم شعر على رؤوسهم وعيونهم حين يولدون ولأن الممرضات هناك شقراوات.. فإنهن أبديْنَ إعجاباً زائداً برموش عينيه، وكنَّ في الجيئة والذهاب يقلن له: Oh! lashes eyes!!
..ثم كان الخروج من المستشفى بعدها، وكان من ضمن إجراءات الخروج أن قدموا لي حقيبة هدية احتوت عينات تجارية مجانية لمستلزمات الأطفال والأم... ولم تكن الهدايا عينية فقط بل كانت هناك مفاجأة جميلة: مجموعة من الكتب وقصص الأطفال، وهدية أخرى هي بطاقة عضوية مكتبة للصغير في مكتبة المدينة!
... طوال عمرنا في العالم العربي نربط المكتبة بالهدوء، في المكتبة يرجى الهدوء. فهل يعقل أن نتصور: (طفل صغير في مكتبة)؟!! حتى في مكتبة الأطفال! لا لا!!!، فهذا لا يعقل في تصوراتنا.
بينما ... حتى مكتبة الكبار هناك يسمحون لك فيها باصطحاب الأطفال والعربات إلى داخل المبنى .. ولكن بطبيعة الحال أنت لن تذهب إلى المكتبة بصحبة طفلك إلا إن كنتَ مضطراً لذلك، لذا فلا بأس برفقة الأطفال لإرجاع كتاب مثلاً أو استعارة آخر، كي يعتاد على أجواء المكتبة.
كانت تلك التجربة – مكتبة الأطفال- من أجمل التجارب وأكثرها إثارة في إدنبرة. لكني لم أتمكن من اصطحاب طفلي إليها إلا بعد عدة أشهر، حتى استوعبت الفكرة!.
ومن التجارب التي تعيشها الأمهات العربيات في الدول الأوروبية تجربة الرعاية الصحية اللاحقة في البيوت؛ فنحن قد اعتدنا في بلادنا العربية - بحمد الله - على أن تُولي العائلةُ الممتدة الأمَّ الجديدة الرعاية اللازمة؛ فالأهل ينتظرون الحفيد القادم، والكل متأهب له، تغمرهم الفرحة بمقدمه، ولهذا يُعِـدُّون العدة لاستقباله، كما يلزم.. ومن ضمن ذلك الرعاية بالأم الجديدة.
لكنْ في تلك البلاد ليس لديهم مثل هذه الطقوس الاجتماعية الاحتفالية إلا على نطاق ضيق ربما، لكنهم تبنوا نظاماً شبيهاً يقوم مقام رعاية الأسرة الممتدة للأم الجديدة، خاصة مع وجود نسبة جيدة لديهم من الأمهات العازبات.
كان نظام القابلة Midwife التي تزور الأم الجديدة لعشرة أيام عقب وضعها طفلها- فكرة جميلة، وقد أعجبتني كثيراً وساعدتني على تجاوز بعض القلق تجاه صغيري؛ فقد كنتُ عشتُ من قبل تجربة الوفاة المفاجئة لطفلي الثاني، لذا كنت أتفقد عمر الصغير كل لحظة حتى أطمئن أنه على قيد الحياة، وأحاول الانتباه إلى كل صغيرة وكبيرة تمس لونه أو أنفاسه أو حركاته... وهكذا وفّرت زيارتها لي في تلك الأيام نوعاً من الاطمئنان، حتى مرت على ما يرام، وتجاوزتُها ...
وتستمر الرعاية لديهم بإرسال ممرضة الحي لزيارة الأمهات في البيوت ومتابعة النمو العام والمشكلات التي قد تواجههن مع أطفالهن، وقد كانت هذه تجربة مفيدة لي، وممتعة وجديدة.
أما مكتبة الأطفال فأعود إليها ثانية... فحين اشتد عود طفلي الصغير أخذت معي الأشياء التي كانت في حقيبة الهدايا: بطاقة المكتبة والأوراق التعريفية بالمكتبة وطلب الاشتراك.. سرتُ وفق الخريطة ووصلتُ المكان.. لأجد أن مكتبة الأطفال تلك هي جزءٌ من المكتبة العامة: غرفة معقولة الحجم، تقع في جزء خارجي ملتصق بالمبنى حتى يسهل الدخول إليها من الرصيف فوراً، لا درجات ولا سلالم؛ لتتمكن الأمهات من إدخال عربات الأطفال معهن، وكان هذا أول ما لفت نظري، فإذا صرنا في داخل القاعة، وجدتها منسقة بحيث توائم احتياجات الأطفال: الرفوف مليئة بالقصص والكتب والمجلات لمختلف الأعمار، وركن صغير يمكن للأهل فيه اختيار بعض الكتب للقراءة في أثناء انشغال أبنائهم في المكتبة.
وفي الوسط صناديق ملأى بالكتب القماشية والأوراق والألوان للأطفال الرضّع وفي سن ما قبل المدرسة الذين لا يعرفون القراءة، لكن هذه الأشياء تجعلهم يألفون الكتب ويأنسون بها.
ثم ركن صغير كذلك لهم للألعاب.. فالأطفال أطفال ...حتى في المكتبة..وهم بحاجة إلى اللهو، واللهو جزء أساسي من تركيبتهم. ومهم من أجل نموهم.
أعجبتني المكتبة وبقيتُ أجد فيها متعةً لي ولأطفالي لسنتين قادمتيْن هناك...رغم الأجواء الباردة أحياناً, وقد علمتني وعلَّمتْهم الكثير، ألجأ إليها معهم في زيارة أسبوعيا تقريباً، أجد فيها عزاءً عن القيود التي فرضتْها عليّ الإقامةُ في بلادٍ لا أجد فيها من يعتني بأطفالي غيري، مما جعلني مقيدة عن الخروج إلا برفقتهم. 
....هذه كانت بعض المعاني التي عشتُها أُمّاً عربية في دولة أوروبية، تجارب جديدة لم أمرّ بها من قبل في بلادي، بقيتْ في نفسي منها ذكرياتٌ حلوة أحببتُ أن أشارككم بها.

وهذه بعض الصور لمكتبة إدنبرة للأطفال بعد تجديدها في 2014



الأحد، 31 يناير 2010

خطبة 3: المدينة

 
الخطبة (3) الهدف: نظِّم خطبتك
عنوان الخطبة: الـمديـنة
 
..استوقفني قبل أسابيع كاريكاتير يـجمع ما قلَّ ودلّ في مسألة تمسُّ حياة كثير ممن يعيشون في أبوظبي.. فيه يبدو الرجل منهكاً من البحث عن موقفٍ لسيارته، وفي نـهاية الأمر تقول له الزوجة التي تجلس إلى جانبه: خلاص، طلع الصباح، وصِّلْني عالشغل!!
هذه مسألة من مسائل عديدة تخطر في البال ونحن نتأمل أنماط السلوك الاجتماعي المختلفة حول العالم ؛ فلكل مدينة تحط فيها رحالك نمط حياة خاص بها، وإن نظرنا جيداً وجدنا أن هذه المسألة تتصل من ناحية أو أخرى بالأسلوب المعماري الذي تـمتاز به كل مدينة عن غيرها. فهل هناك ثمة صلة ما بين العمارة والبنيان من جهة والسلوك الاجتماعي من جهة أخرى؟
الجواب بطبيعة الحال لدى إخواننا المهندسين، وهو جواب أدق مما لديّ، لكنني لا أملك نفسي من أنقل إليكم خواطر كثيرة تعرض في خاطري تجعلني أفكر في هذه المسألة. وسأضرب بعض الأمثلة للتوضيح، فالمدن بشوارعها وطرقاتها وتوزيع مبانيها وتصميم منازلها...وغير ذلك، تفرض نوعاً من العلاقات الاجتماعية أو هي انعكاس لتلك العلاقات، ففي المدينة العربية مثلاً كان المسجد الكبير هو مركز المدينة تتوزع حوله الأسواق والأماكن الرسمية والإدارة الحكومية وحتى قصر الخليفة، ثم تتناثر منازل الناس في الضواحي والأطراف، وامتازت البيوت العربية بالأسوار العالية الجرداء والمظهر البسيط من الخارج بسبب دواعي الاحتشام الذي تفرضه التقاليد العربية والإسلامية؛ فليس هناك نوافذ كثيرة أو كبيرة تطل على الخارج إلا مرتفعة، وقد أدى ذلك إلى أن تتجه جماليات الزخرفة الفنية والزينة الإسلامية إلى الفضاء الداخلي للمنـزل؛ فامتلأ بالزخارف والنقوش والتشكيلات الفنية المتنوعة العناصر كالماء في الفوّارة ( النافورة، الفسقية ) والأصص الفخارية التي تحتوي النباتات والأزهار ...فعوَّضت هذه المبالغات الزخرفية والفنية في الداخل، الملامح الجرداء للمنـزل من الخارج.
في حين أنك تلاحظ في المدن الأوروبية البيوتَ الصغيرة المتلاصقة المتراصّة، التي فرضت نوعاً من السلوكيات بقيت شاهدة على ذلك التأثير المتبادل بين النمط المعماري والسلوك الاجتماعي؛ فأبواب البيوت ومداخلها الرئيسية متقاربة مما يخلق نوعاً من فضول الجيران تجاه جيرانهم، كما أن نوافذ البيوت -التي ربما كانت ملاصقة لرصيف الشارع أحياناً- تـمتاز في الواجهات الأمامية للبيوت بأنـها كبيرة الحجم ، وقد يكون ذلك طلباً للنور في بلادٍ تخجل الشمسُ فيها من الظهور كثيراً على الملأ ! فهم لا يتحرجون من أن تكون ستائر النوافذ رقيقة شفافة لا تمنع أعين المارة الفضوليين من اقتحام خصوصياتهم. كما أنهم لا يتحرَّجون من أن تكون نافذة الحمام واسعة وكبيرة تحتل واجهة المنـزل الأمامية – كما كانت حالي حين سكنتُ في شقةٍ أرضيةٍ في مدينة إدنبرة في أسكتلندا، وكانت واجهة الشقة ذات نافذة ضخمة للحمام على غير ما اعتدنا في بلادنا !
وكان لصغر حجم بيوتـهم أثرٌ في تصميم الأثاث بطريقة يُراعَى فيها استغلال المساحات الضيقة إلى أقصى درجة ممكنة، وتجدون الأمثلة عليها لدى محلات "إيكيا" مثلاً التي تنتشر متاجرها في الإمارات، وهي تقدم أفكاراً خلاقة مبدعة لاستغلال الفراغات والإفادة منها. ولضيق بيوتهم أيضاً تراهم يعشقون السفر والترحال، وقضاء الوقت خارج تلك المنازل الصغيرة.
 
...ولن أنتقل بعيداً للتوضيح، فانظروا حالكم اليوم في هذا الاجتماع وفي الاجتماع الماضي، حين انتقلنا إلى مركز أبوظبي، لقد تأخّر بعض الحضور عن موعدهم المعتاد، وماذا كان سبب التأخير يا ترى؟ الازدحام!
والازدحام في هذه المنطقة من أبوظبي –كما تعلمون- سببه مشاريع عملاقة تغيّر وجه المدينة بإنشاء شبكة طرق جديدة وعصرية. وقد أثَّرت هذه المشاريع على حياة الناس في مظاهر كثيرة في السلوك الاجتماعي ، بـما يجعلنا نلمس أثر النمط المعماري الذي تعيشه مجموعة من البشر في مكانٍ ما. فالازدحام في أبوظبي قد غيَّر في سلوكنا في مواقف عديدة منها: مثلاً مواعيد الخروج لقضاء بعض متطلبات الحياة كالتنـزّه والتسوّق والترفيه...وغيرها. من منكم ما زال يقصد " أبوظبي مول" للتسوق والترفيه؟ مغامراً بالوقوع في براثن الأزمة الخانقة، التي لا ترحم.
أصبح السير في بعض الطرقات في أوقات معينة يتطلب ضعفَيْ الوقت الذي كان يستغرقه في السابق، مما ساتدعى المرء أن يفكر  بهذا ويأخذه في الحسبان حين يخرج.
كما انعكس الازدحام في سلوك السائقين والسائقات ؛ فقد كانت من اولى الملحوظات حين قدتُ سيارتي للمرة الأولى في أبوظبي أن السائقين يمتازون بالذوق والأخلاق ، مما يجعل القيادة سلسة وآمنة ، فأنتَ تجد الغالبيى ملتزمة بقواعد المرورية خاصة الأولويات....فيا سبحان مغير الأحوال ، لم نعد نرى –إلا فيما ندر- مَن يسمح لك بالمرور والانتقال من مسرب إلى آخر، وتجد السائقين كالوحوش الكل مترقب لاقتناص فرصة الانتقال من مسرب طويل لآخر قصير في سبيل السباق تجاه خط النهاية وهو الإشارة الضوئية.
تجده يعتدي على حقك حين تنتظر دورك في طابور طويل ممل  بطيء، يأتي ليقطع الطريق أمامك ويعتدي على دورك الذي أنفقتَ في سبيله وفتكوأعصابك وأنت تنتظر... أما الشاحنات الكبيرة فحدَّث ولا حرج عن سلوك سائقيها حين يظن الواحد منهم أنه (خفيف الظل) فيقتحم الطريق ويغلق أمامك الأرض والسماء،  ولا تملك من أمرك معه شيئاً، فمثله لا يمكن المزاح معه!!
وتحضرني هنا قصة تروى في الأردن، التي تعاني من مشكلات في انسيابية حركة المرور في الشوارع الرئيسية ، فأحضروا خبيراً يابانياً ليدرس وضع حلول مقترحة تسهم في حل المشكلة، وبعد حين من إقامته في البلاد قال إن المشكلة ليست في تجهيزات الطرق أو الإشارات الضوئية والمرورية والإرشادية... إنما المشكلة في أن السائقين لا يتقيدون بالقواعد المرورية وأولها الشعار الشهير: القيادة فن  وذوق وأخلاق.
حقا إن النمط المديني يؤثر في أخلاق الناس وسلوكياتهم.
 
 

الأحد، 3 يناير 2010

خطبة 2: لغتنا العربية

الخطبة  رقم (2)     الهدف: التحدث بصدق


لغـتُـنا العـربـيّـة
(1)
يقول أحد المؤلفين في خطبة كتابه إنه قد ألّف ذلك الكتاب "... لِـما رأيتُه قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحنُ في الكلام يعدُّ لحناً مردودا، وصار النطقُ بالعربية من المعايب معدودا، وتنافسَ الناسُ في تصانيف التَّرْجُمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعتُ هذا الكتاب في زمنٍ أهلُه بغير لغته يفْخَرون، وصَنَعْـتُه كما صنع نوحٌ الفُلْكَ وقومُه منه يسخرون..".
معجم لسان العرب، مقدمة المصنِّف ص 13
لابن منظور جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرَّم (1232-1311م
(2)
فمن هو صاحبُ هذه الكلمات؟
وأيُّ زمان ذلك الذي ضيَّع في أبناءُ العربيةِ لغتَهم وتفاخروا فيه بغيرها؟
إنه ابن منظور، صاحب المعجم الشهير لسان العرب. وهو الكتاب الذي يسمع به الجميع، وربما تصفَّحه أحدُكم ذات يوم.
أتعرفون متى كُتِبت هذه الكلمات؟؟
لقد كتبها ابن منظور منذ نحو 700 سنة، نعم 700 سنة ولكنْ... لكأنَّ ما قاله هو عينُه ما يقوله أيُّ غيور على لغتنا العربية في هذا الزمان.
فماذا لو خرجتَ يا ابن منظور من قبرك اليوم، ونظرتَ في كلام العرب في هذه الأيام...  ما الذي كنتَ ستفعل وأيَّ كتاب كنتَ ستجمع؟؟؟
(3) 
إن حالَ اللغة العربية اليوم لا يسرُّ صديقا، ومكانتُها تتراجع في نفوس أبنائها قبل غيرهم.
قد يكون حقاً ما يُقال من أنها ليست لغةَ العلوم العصرية، والحياة الحديثة..
اللغةُ لا ذنب لها في هذا كلِّه، أبناءُ اللغة هم الذين يخلقون فيها المصطلحات الجديدة والتعبيرات العبقرية الفريدة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإبداع والنهوض، فمتى نهضت الأمةُ وارتقت علومُها وآدابُها، كانت اللغةُ مراةً لذلك كلِّه، تنقل ذلك الرقي وتلك النهضة..
(4)
فلننظرْ في سيرة أجدادنا، ولننظر في سيرة غيرنا من الأمم الأخرى التي نهضت من لاشيء، وخلقت لها مكاناً ودوراً في المشهد الحضاري الإنساني.
لننظرْ سيرتَها ونرَ:  أين كانت اللغةُ من هذا كله؟؟
إخوتي وأخواتي..
كانت اللغةُ دوماً أداةً للتعبير عن الحضارة الجديدة، فلا يمكن لحضارةٍ ناشئةٍ بعلومها وآدابها وفنونها أنْ تنجز لها سَبْقاً بين الأمم، إنْ لم تكن قد سكبت ذلك كلَّه في حروفٍ وكلمات تستولي على وجدان أبنائها.. ولا يكون ذلك إلا باللغة الأم. 
(5)
لقد أفادت أمم أوروبا في بدايات النهضة الحديثة من العلوم العربية، وسَعَتْ لأجل ذلك إلى دراسة اللغة العربية، لقراءة الكتب المكتوبة بالعربية.
ومرَّ زمانٌ على بعض أهل أوروبا كانت فيه معرفةُ اللغة العربية مبعثَ زهوٍ وفخر لدى متعلّميها، كمثل ما نرى اليوم من إعجاب أبناء العرب بلغات غيرهم.. لكنّ إعجابَ الأوروبيين باللغة العربية وبالحضارة الإسلامية لم يدفعهم إلى اتخاذها لغةً للعلوم حين فكروا في النهوض والتقدم.
بل لقد دفع ذلك الأوروربيين إلى تنشيط الترجمة ونقل العلوم العربية إلى لغاتهم، تلك العلوم التي حين استوعبوها جيداً بلغاتهم الأم كانت نواةَ العلم الأوروبي الحديث.
(6)
فما أحوجَنا اليومَ إلى التعلم من تجارب الأمم، وما تجربةُ اليابان -مثلاً- عنا ببعيدة، فليس التنكّر للغة الأم هو مفتاح التقدم والنهضة، بل إنّ الحفاظَ على تلك اللغة هو الذي يشحذ همة المبدعين؛ لأننا بذلك نضمن أنّ اللغة لن تكون عائقاً بين أجيال المتعلمين وبين العلوم التي يدرسونها.
فإنْ لم يشفع ذلك للغة العربية لدى أبنائها، فلتشفعْ لها عندهم منـزلتُها الخاصة: لعمرها المتطاول لقرون مضت، تجعلها جسراً بين أبناء العرب اليوم وبين أجدادهم القدماء .. أو لتشفع لها -على الأقل- مكانتُها الدينية الخاصة؛ أنها لغة السماء التي بها نتعبد ونتقرب إلى الله.

الأحد، 8 نوفمبر 2009

خطبة 1 : محطات من الذكريات


                                                


       الخطبة الأولى، الهدف: كسر الجمود

مـحـطّـات من الذكـريـات

...كنت أظن أن الوقوف بين يدي الجمهور والحديث عن نفسي أمر سهل؛ ذلك أنني قد أكون أكثر الناس علماً بنفسي، إلا أن هذا الأمر – التحضير للخطبة الأولى في توستماسترز- أخذ من تفكيري وقتاً، عندما أدركتُ أن الحديث عن النفس أمام الآخرين قد لا يكون كذلك أبداً !

لهذا فكرتُ أن خطبتي الأولى أمامكم - أيها المستمعون- قد يكون مناسباً فيها أن نجعل الحديث على نحوٍ يختصر سيرة الإنسان في دقائق معدودات؛ وذلك بالحديث عن الطفولة والشباب، وربما أحدثكم لاحقاً -إنْ طال العمرُ بنا- عن مراحل أخرى بإذن الله.

فأنا مولودة في إربد شمال الأردن، لكني عشت حياتي في العاصمة عمان، مكان استقرار الوالديْن للعمل. وأنا البنت الكبرى بين خمسة: أخت واحدة وثلاثة إخوة، عشت طفولة ربما تكون عادية جدا أو فوق عادية، وما أزال أحتفظ بذكريات طيبة منها.

ما هو عالق بذهني حتى الآن من تلك الطفولة هو شهادتي المدرسية للصف الأول الابتدائي، التي فقدتُها للأسف -لا أدري أين؟؟- وما تزال تلك الشهادة مطبوعة صورتها في ذاكرتي، وكلمات معلمتي التي تمتدح فيها اجتهادي.

ومن الأشياء المتصلة بالمدرسة الاستيقاظ مبكراً للذهاب، وكان من طقوس الصباح الاستماع إلى برامج الإذاعة الأردنية الصباحية خاصة برنامج "أخي المزارع"! وما زالت أمي –حفظها الله- مع مئات المحطات الفضائية والأرضية التي ملأت الدنيا، ثابتةً على تقاليدها في الاستماع للإذاعة الأردنية.

... ومن الطفولة أشياء أخرى بطبيعة الحال لا تمحوها الأيام، كذكريات اللعب والأوقات اللاهية مع إخوتي والجيران في البناية التي كنا نسكن.

وأذكر أنني كنت أحب القراءة والكتب والأوراق...وكل ما له بها صلة، وكنت أسمع التعليقات من جدتي –رحمها الله- وتسمّيني "الشيخ علي"! وهي التي لم تكن تطيق البنات، فكيف إذا كُنّ كذلك ميّالاتٍ إلى الورق والأقلام؟! ..وكبرتُ وأنا أجد في الكتاب والمطالعة رفقة ممتعة طيبة، أقرأ الجريدة منذ أن كنت في الابتدائية، وسمعت مرة جارتنا وهي تقول لابنها وهو في عمري: انظر إلى رشأ تقرأ الجريدة وأنت لا تجيد حتى قراءة دروسك!

..كانت الرحلة الأسبوعية من عمان إلى إربد لقضاء إجازة نهاية الأسبوع – فرصةً للالتقاء ليس بالأقارب فقط، بل وبالكتب في بيت جدي لأبي وفي بيت جدي لأمي، والمكتبة في كل بيت منهما لها مذاقها الخاص: هنا الروايات والكتب الثقافية العامة والكتب الدينية العتيقة ذات الأوراق الصفراء، وهناك المجلات والكتب السياسية القومية والثورية. أما في بيتنا فالمجلات النسائية وغيرها من الدوريات: "حواء" من مصر، و"الشبكة" وأخواتها من لبنان، و "العربي" من الكويت، وعدد من الكتب التراثية المتنوعة.

...وكان استماعي للراديو جزءاً مهماً من ثقافتي وحياتي وأنا مراهِقة، خاصة الاستماع لمحطة "مونت كارلو" في باريس، ولم تكن هذه المحطة معتادة في بيتنا، فقد كانت المحطة "صرعة" ومبهرة للشباب العربي في حينه، وفتحت آفاقا كبيرة أمامي لأنها محطة عالمية.        

...وفي الثانوية العامة اكتشفتُ أنني متفوقة على زميلاتي، وحصلت على المرتبة الأولى في الشعبة الوحيدة في مدرستي، ودخلت الجامعة الأردنية لأدرس الأدب الإنجليزي بتشجيعٍ – لا بإجبار- من الأهل. وكان الطالب يأخذ في الفصل الأول في الجامعة مجموعة من المواد العامة من متطلبات الجامعة أو الكلية، ليختار فيما بعد التخصص الذي يرغب في دراسته مستقبلا. ولما وجدتُ أنني متفوقة في بعض مواد اللغة العربية التي درستُها في الفصل الأول، فكرتُ في أن لا أستمر بدراسة الأدب الإنجليزي؛ حتى لا أكون في مرتبة متأخرة عن زملائي في ذلك التخصص، وأكثرهم من خرّيجي المدارس الأجنبية. ولكي أغيّر تخصص البعثة الدراسية التي كنتُ قد حصلت عليها من وزارة التعليم العالي، كان يجب عليّ أن أفشل في تحقيق متطلبات التخصص حتى توافق الوزارة على طلب التغيير. فتقدمت لامتحان القبول في التخصص الإنجليزي، وكان الامتحان مغامرة: فهو امتحان صعب جداً، قضيتُ في الامتحان أكثر بقليل من  نصف ساعة ثم خرجت، وسط دهشة مراقِب الامتحان الواضحة في عينيه، ودهشة الطلاب الخَـفِـيَّة، يقولون في سرّهم: إما أنْ تكون عبقرية، وإما أنها لا تعرف شيئا!! وفعلا نجحت في الرسوب بامتياز، وتمكنت من إقناع "التعليم العالي" بتغيير تخصص البعثة إلى دراسة اللغة العربية.

وكنت  -بحمد الله- مجتهدة في دراستي الجامعية إلى جانب أنشطة أخرى جامعية: فقد كنت عضوا في المرسم الجامعي أجد بين الألوان متنفّساً لأمارس الرسم، الهواية الموهبة التي أحببت، وبقيت أقوم بها حتى أنجبتُ أطفالي.. فتوقفت مع مشاغل البيت والأسرة.

أما المرحلة الثانية من حياتي فكانت بعد التخرج في الجامعة، والعمل ثم الزواج ثم الدراسات العليا، ثم إنجاب الأطفال والسفر والتنقل وتعاظم أعباء الحياة ومتطلبات البيت على عاتق الزوجة، بما قد يقتل روح الإنسان... لكن الشيء الوحيد الذي لم أنسَه طوال تلك السنوات هو الكتاب، وأنا أقرأ كثيرا لكني ربما أصبحتُ أنسى أكثر.