أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 ديسمبر 2018

لم الأغنياء أجمل من الفقراء؟ خواطر في متجر التجميل!

بقلم: ديمة مصطفى سكران
مدونات الجزيرة 

شئنا أم أبينا، تميل أنفسنا للإنسان الجميل بشكل أكبر، على الأقل كانطباع أولي قبل أن نتمكن من التحقق من مدى قبحه أو جماله الداخلي. نحن نظهر اهتماما أكبر بالجميلين والجميلات في حياتنا دون وعي منا، ربما يأتي هذا الاهتمام أحيانا على شكل حب أكبر أو احترام أكبر، أو تقدير أكبر لما يقولون ويفعلون، أو حتى تبرير أكبر لأخطائهم، بل إننا حتى نشارك ونتبادل صور الأطفال الجميلين من ضحايا حروبنا وثوراتنا شهداءً أو مشردين أو قاطني مخيمات أكثر من غيرهم، وكأن جمالهم كان سببا في مضاعفة الحزن عليهم أكثر من غيرهم.


حسنا ليس الأمر كذلك وحسب، دعني أسألك سؤالا: هل أنت ممن يملكون ذلك الانطباع بأن الأغنياء أجمل من الفقراء؟ بأن مواطني الدول المتقدمة أجمل من مواطني دول العالم الثالث؟ وهل يعني ذلك أن الجمال أيضا ينحاز للأقوى والأغنى؟ تبدو الحقيقة مخيبة للآمال، لكن نعم، إن الجمال ليس محايدا أبداً، إنه ينحاز للأقوى والأغنى والأكثر ثقافة وتقدما بين الدول، بل إنه ينحاز في الدولة نفسها إلى الأسر الأكثر ثقافة وغنى. فما تفسير ذلك يا ترى؟

لم الأغنياء أجمل من الفقراء؟
إن تجاهلنا موضوع مقاييس الجمال التي تختلف من مجتمع لآخر، بل من فرد لآخر، يبقى الأساس الثابت للجسد الجميل هو الصحة الجيدة. إن الجسد الصحيح هو جسد جميل ذو وجه جميل، ويزداد جمال المرء كلما ازداد صحة، بينما ينطفئ بانطفائها. إن لمعان الشعر وغزارته وقوته تدل على أن صاحبه أتيح له في حياته فرصة التمتع بغذاء صحي متكامل الفيتامينات والمعادن، كما أن تورد الخدين والشفتين الطبيعي ينبئ عن شخص معاف من فقر الدم، متمتع بدورة دموية سليمة، كذلك تعني الأسنان القوية الصحية التي تعطي جمالا لابتسامة المرء عظاما قويا لا تعاني من فقر الكالسيوم، والعظام القوية أيضا تعني قواما متماسكا منتصبا وصل حده الأعلى من الطول الجيني المقدر له، يزيده جمالا امتلاؤه المتناسق الذي يشي بنظام صحي جيد وتزود كافي بالبروتينات وربما ممارسة منتظمة للرياضة، كما أن البشرة النقية تعني حياة مرفهة خاليا مما يعرض الإنسان للتسمكات والخدوش المتكررة.
الهموم التي يعيشها الإنسان الفقير في ظل الظروف الصعبة تترك قهرا واضحا في وجهه، يتمثل بتجاعيد التقطيب التي تجعله يبدو كشخص متألم على الدوام
ناهيك عن كل ما يتوفر للأغنياء ومواطني الدول المتقدمة من تأمين صحي وإجراءات وقائية كزيارات الأطباء الدورية ومعالجة المشاكل الصحية منذ بدايتها قبل التفاقم، وتوفر تقويم الأسنان، والحصول على نصائح أطباء الجلدية، وشراء المستحضرات المناسبة للعناية بالبشرة، والدعة المادية التي تتيح شراء ملابس مناسبة ومستحضرات تجميل وإكسسوارات تلعب دورا مهما أيضا في إبراز الجمال تصديقا لما تقول جدتي في المثل السوري: "لَبِّس العُود بيجُود"!.
ومن الجدير بالذكر على سبيل المثال أن متوسط طول الشعوب يتعلق بدرجة رفاهيتها ووضعها الاقتصادي إلى حد كبير، وكلما ازدادت الشعوب طولا دل ذلك على قدرة نظامها الصحي والاقتصادي إلى إيصال أفرادها إلى أعلى مستوى يقدمه لها حوضها الجيني، حتى أن المنازل الألمانية التقليدية القديمة التي تعود للعصور الوسطى، والتي لا تزال قائمة الآن في المدن الألمانية، تلفت النظر لشدة صغر أبوابها وانخفاض أسقفها بما لا يتناسب مع متوسط طول الفرد الألماني الآن. أما الراحة النفسية والثقة بالنفس الناتجة بحبوحة الحال فهي تضفي على الوجه تعابير الراحة والاسترخاء، فالوجه مسترخي العضلات كوجوه الأطفال دوما أجمل من الوجه المتشنج الذي يعتصره الهم والتفكير الدائمين، وكثيرا ما نقابل في حياتنا أشخاصا في سن الشباب تنبؤنا الخطوط المحفورة في جباههم أو بين حواجبهم عن مقدار ما يقضونه من وقت وهم عابسون حتى لو لقونا لحظتها بوجوههم الباشة.
إن مواطني الأسر والشعوب الفقيرة محرومون من كل أسباب الجمال، وعرضة أيضا لكل أنواع الأمراض الجسدية التي تترك أثارها الواضحة على الوجه والقوام. كما أن الهموم التي يعيشها الإنسان الفقير في ظل الظروف الصعبة تترك قهرا واضحا في وجهه، يتمثل بتجاعيد التقطيب التي تجعله يبدو كشخص متألم على الدوام. حتى أن فقر الحال وصعوبة ظروف الحياة يمكن أن يسبب انكسارا للنفس الإنسانية يخلف أثرا على حركات الإنسان وسكناته ويسلبه الكثير من جمال حضوره ورشاقة مشيته أو طلاقة لسانه وجاذبية حديثه.
هذا ولم أتطرق للعوامل الاجتماعية كزيادة الثقافة الطبية والوعي بنمط الحياة السليم أو حتى وجود الفرصة لعيش هذا النمط لدى الأغنياء. وفي بعض المدن العربية يشيع أن يتزوج الرجل الغني غالبا بالمرأة الأجمل لأنه قادر على دفع مهرها، مما يساهم في تحسين مورثات هذه الطبقات الشكلية فقط بشكل ملحوظ. خلاصة القول أن الجمال الإنساني يولد في مورثات البشر جميعا، وتملك بعد ذلك ظروف حياة الإنسان في أن تخرج هذا الجمال على أكمل وجه، بل وتزيد عليه وتحسنه، أو أن تدفنه تحت القهر والفقر والحرمان.

خواطر امرأة في متجر التجميل:
لا أزال أذكر كيف وقفت لأول مرة فاغرة فاهي أمام رفوف متجر من سلسلة متاجر تجميل وعناية شهيرة في ألمانيا. كل ما كنت أريده هو مرطب جيد لبشرة الوجه، فإذا بي غارقة في كومة عملاقة من الزجاجات والماسورات مختلفة الألوان والأشكال، كلها مرطبات نعم، مرطب قبل الاستحمام، ومرطب بعد الاستحمام، وآخر أثناء الاستحمام، وواحد عند الصباح، وواحد قبل النوم، ومرطبات بالعسل، وبالصويا، وبزيت الجوجوبا، وبالحليب، وبالفيتامينات، وبأوراق النعنع، وبعصير الرمان، وبالزيتون، وبالزعتر! واحد لعمر العشرين، وآخر لمن بلغن الثلاثين وواحد لمن هن فوق السبعين!
أنواع لا تعد ولا تحصى، وألف يد تتناول من الرفوف مختلف المستحضرات، حمى شراء منقطعة النظير، وهوس بالعناية بالبشرة غير مسبوق، وصفارة جهاز الكاشير لا تتوقف عن الرنين! أمسكت بيدي أحد العبوات وتساءلت: ترى كم هي قيمة الملايين التي تدخل جيوب الشركات المصنعة لهذه المستحضرات في كل يوم؟ وكيف أثق بشركات لا هم لها سوى الربح المادي؟ بل كيف أثق بأن هذه المركبات بما تحويها من زيوت معدنية ومواد حافظة وعطورات كحولية لا تفسد البشرة على المدى البعيد؟ وهل تكفي نتائج الدراسات التي تؤكد على سلامة استخدام مستحضرات التجميل لتزيل قلقي كمستهلكة؟
إن الآلة الإعلامية التي تصب أرباحها في ذات الجيوب، لا تفتأ تروج لنموذج مثالي للمرأة في كل ثانية من بثها، بطلات أفلام عالمية ونجمات مسلسلات تهز القلوب، في عملية تغيير جذري للثقافة الإنسانية في العالم، يرسخ في أعماق الناس صورة هؤلاء النساء المختارات بعناية على أنهن النموذج المنشود للمرأة. نساء فاتنات، وأحيانا متواضعات الجمال جدا، لكن طاقما كامل من أطباء وخبراء التجميل وخبراء الإخراج والتصوير يقدمونهن كنموذج غير عادي للأنوثة والجمال، لتطالب الثقافة الحديثة المرأة وليطالب الرجل المرأة ولتطالب المرأة نفسها بأن تكون مشابهة لهذا النموذج، رغم أنه الاستثناء وليس الأصل حسب المنحنى الجرسي المشهور، حيث يكون الأشخاص فائقو الجمال هم الاستثناء وليس القاعدة.
حتى النجمة الخمسينية التي يتم استغلال شهرتها حتى الدولار الأخير تقدم بصورة تجعلها تبدو أصغر من عمرها بثلاثين سنة، مسببة لنساء العالم الواقعات تحت تأثير الآلة الإعلامية، هوسا منقطع النظير بمحاربة مظاهر تقدم السن، لكي يبدون كالصورة النمطية المقلوبة التي يُروج لها للمرأة. امرأة القرن الواحد والعشرين، امرأة تعاند الزمن بكبرياء، لا تريد أن تكبر، ولا تريد لغضون جبهتها أن تشي بعمرها الحقيقي، تريد كنجمات الشاشة أن تتاح لها كل متع الحياة كصبية دائمة الشباب، تريد أن تلبس من خزانة ابنتها، وأن تعيش قصص عشق ملتهبة، وأن يصير جمالها حديث الصالونات، ومستعدة لبذل الغالي والرخيص في سبيل هذا الهدف، معتقدة اعتقادا بائسا أن الأنوثة فيها تشيخ إذا تقدمت بالسن، وغائبة تماما عن حقيقة أن الجسد هو الذي يشيخ، بينما تزداد الأنوثة ألقا وحكمة.
الجسد يشيخ، بينما تزدهر النفس ويزدان القلب بخبرة الحياة والتجارب المتراكمة، ويزداد الحب مع الشريك، وتزداد العلاقة استقرارا وعطاء وثقة، وحينها تصبح خزانة الملابس وطاولة التجميل أمرا واحدا من عشرات الأمور الأخرى المهمة في حياة المرأة الناضجة، فهاجس التقدم بالسن يهدد فقط من لا ترى في نفسها غير الجسد، فهو رأس مالها، وهو ضمانها للوصول إلى الحب والثقة والأمان، فإذا شاخ الجسد شاخت روحها وسقطت السماء فوق رأسها. ويبقى الميل للجمال فطرة أصيلة في النفس البشرية، لكنه يتحول إلى هوس مرضي حين يصبح هاجسا لدى الرجال والنساء على حد سواء، وعاملا أساسيا في اختيار الشريك وبناء الأسرة يتمدد ليأخذ مكان غيره من العوامل الأهم، وكابوسا مزعجا يؤرق حياة الشابات وغير الشابات على حد سواء!

السبت، 8 ديسمبر 2018

شقق فيسبوك الزرقاء!

بقلم: إبراهيم جابر إبراهيم
جريدة الغد
لا أحد يستطيع الجزم بأن حياتنا قبل ذلك كانت أفضل أو أنها بعد ذلك صارت أفضل، لكن الأكيد أن حياتنا بعد "مواقع التواصل الاجتماعي" تغيرت بشكل كبير وواضح، في أساسياتها وتفاصيلها.

بفضل هذه المواقع، صار لأغلبية الناس حياة أخرى موازية، تكاد لا تشبه الحياة الحقيقية، وتكاد أحياناً تجرفها في طريقها كعاصفة هوجاء.
المربك في الأمر أن هؤلاء الذين "يتمتعون" بحياتين انساقوا وراء اللعبة بشكل جاد، ولم يعد بمقدورهم الفصل بين تفاصيل وأشياء ومواعيد "الحياتين"، فاختلطت الأمور حدّ الفصام، وصار على أحد ما منهما أن يدفع ثمن ما يفعل الآخر في حياته، أو.. في حياتيهما!
فالمرأة التي تنام وبحوزتها "400 لايك" على صورتها لا تستطيع في الصباح أن تبتلع فكرة أن مسؤولها في الشغل سيعطيها تعليمات وعليها أن تنفذها، وتصير تفكر أين ذهب جمهوري الكبير وماذا سيفعل المعجبون لو رأونني على هذه الحال؟ وهذا المسؤول لو وضع صورته كم "لايك" سيأخذ؟ 3، 5، 8 بأحسن الأحوال؟ فكيف يعطيني التعليمات! أما الشاعر الذي يخرج للسوق وبحوزته "500 لايك" على قصيدته فلا يستطيع أن يستوعب أن يقف بطابور الخبز مع الدهماء الذين لو عاشوا حياتهم كلها فلن يستطيعوا جمع "20 لايك"!
والزوجة التي جعلتها برامج تعديل الصور أجمل من نجمات السينما، وانهالت عليها قصائد الشعر الركيك من كل سكان فيسبوك وانستغرام، صدَّقت ما يقال لها ولم تعد تطيق زوجها الذي لا يكتب الشعر ولا يُقدّر أن التي تعيش معه "نجمة" لها آلاف المعجبين الذين يشتهون وصالها!
وهكذا يصير حساب الحياة بـ"اللايك"، فبعد أن كانت الفتاة في محل الملابس تفكر كم ثمن هذا الفستان، صارت تفكر: هل سيعجب أصدقائي على "فيسبوك" وكم "لايك" سيحصد؟! وصار الناشط السياسي الشاب يفكر في المظاهرة: أين أقف لتبدو الصورة أكثر هيبة وانفعالاً!
وبالمناسبة أدى ذلك لتغيير كبير في أثاث وشكل البيوت، كتغيير الستائر وتنجيد الكنبة وإضافة ورد هنا ولوحة هناك، وربما تربية كلب صغير أو على الأقل قطة تجعل صاحبة الصورة تبدو أرستقراطية وحنونة ووو.. وأدى كذلك لأن تكون البيوت نظيفةً دائماً وجاهزة للتصوير أو لكاميرا "الشات"! وجعل الكثيرين ينامون ببيجامات وقمصان نوم جميلة وأحيانا بشعرٍ مصفَّف!
هذه الحياة الموازية خلقت فجوة بين شخصيتَي الشخص الواحد، وجعلته يخلطُ بين ما يحدث له حقيقة على الأرض، وبين ما يحدث له في أعالي الإنترنت، وتحديداً أولئك الذين كانوا يشعرون بتهميشهم وتجاهلهم في الحياة فيما استقبلوا بالترحاب على شاشة الكمبيوتر، وأصبحوا نجوماً معروفين!
ومع غض النظر إن كانوا موهوبين حقاً وجميلات حقاً ويستحقون هذه النجومية أو لا يستحقونها؛ لكنهم يعيشون أزمة حقيقية حين يعاملون كنجوم منذ الثالثة عصراً وحتى فجر اليوم التالي حيث عليهم أن يعودوا مجرد موظفين قليلي الشأن أو ربات بيوت ينتظرهن جلي وغسيل وشطف الدرج!
ويصير لسان حال الواحد منهم أمام بائع الخبز: آه أيها اللعين لو أن لك صفحة هناك لأريك من أنا!

الثلاثاء، 4 ديسمبر 2018

حماية الأطفال المفرطة بداعي الحب تخرج جيلا لا يقوى على مواجهة المجتمع

بقلم: ديمة محبوبة
جريدة الغد

عمان- يؤمن الكثير من الآباء بأن حماية أطفالهم تتركز في عزلهم عن محيطهم الخارجي، ويشكل الحب والبحث عن الأمان دافعا في تعزيز هذا الإيمان. بيد أن هؤلاء يرتكبون خطأ جسيما؛ إذ إنهم يصنعون جيلا لن يقوى على مواجهة المستقبل ولم يهيأ له جيدا، خصوصا مع التدخل في سلوكه، وقراراته، وتفكيره، وطموحاته، فعاش في عالم الأسرة بصورة مثالية وهمية، وغير واقعية.
 غير أن خبراء ينبهون من خطورة هذه الحماية المفرطة وما تحمله من نتائج سلبية عديدة، عبر خوف الطفل من المواجهة، وغياب الثقة والاعتماد على الآخرين بكل شيء، وافتقاد مهارات التواصل مع المحيط وخاصة مع الغرباء، وأيضا غياب القدرة على حماية نفسه والدفاع عن حقوقه عندما تنتهك من الآخرين.
وينصح الخبراء الآباء بتجنب فرط العاطفة في تربية الأبناء حتى لا يدفعوا الثمن بالمستقبل، ولكي لا يتواجهوا مع من حولهم فيصعب تصديق الواقع والتعايش معه، ما يجعل الاضطرابات الاجتماعية والنفسية كبيرة وذات تأثير في حياتهم.

حماية تزرع الخوف من المجتمع
ويعتقد الأهل أن الحماية الزائدة تعبير عن الحب، وفق اختصاصية علم النفس والمختصة بشؤون الأطفال أسماء طوقان؛ إذ ينشأ عن ذلك طفل ضعيف الشخصية، خجول اجتماعيا، دائم القلق والتوتر، يخاف الانخراط بالمجتمع، ولا يستطيع اتخاذ قرار، ولا يمكنه تحمل المسؤولية، وتصبح شخصيته اعتمادية، لأنه لم يتعود على المواجهة في الواقع وتولي أمره بنفسه، وحل مشاكله، فلا يقدر على التعامل مع الحياة وصعوباتها لأنه لم ير منها إلا الجانب الآمن والملاذ الذي يتمناه أي طفل.
وهنا ينصدم بالواقع عندما يكبر وتظهر المشاكل السلوكية لديه، وفق طوقان، وقد يلجأ الأهل لإحضار طفلهم عند الطبيب أو الاختصاصي النفسي لاعتقادهم أن الخلل به ويتجاهلون أنهم السبب الرئيسي في تكوين شخصيته وسلوكه بهذا الشكل، لذا يجب على الأهل عدم الخجل من التعلم والقراءة عن أساليب التربية للأطفال وتعليمهم أسلوب الحوار والاحترام معهم وتجنب فرط العاطفة في تربية أبنائهم حتى لا يدفعوا ثمنها بالمستقبل.
كذلك، عدم توفير كل ما يطلبه الطفل بسهولة حتى وإن كان الأهل مقتدرين ماديا، وذلك ليس من أجل الحرمان بل لتعليمه أنه لا شيء يمكن تحصيله بسهولة بل يحتاج الى جهد وعليه فعل أمر جيد للحصول على شيء يريده وأن يكون الشيء الذي يريده معقولا ومناسبا لعمره.

استشاري الطب الشرعي والخبير في حقوق الطفل، الدكتور هاني جهشان، يبين أهمية التربية بطريقة متزنة حكيمة توفر الحماية الملائمة للأطفال، وتبني فيهم قدرة الاعتماد على النفس، وتصقل مهارات التواصل مع الآخرين وحماية أنفسهم في كل البيئات التي قد يتواجدون بها خارج المنزل، من مثل المدرسة ومنازل أصدقائهم أو الأندية الرياضية أو المخيمات الشبابية أو خلال الأنشطة اللامنهجية والرحلات المدرسية.

الحماية المفرطة تولد الشك بالآخرين
أما الحماية المفرطة فهي السيطرة على كل جانب من جوانب حياة الطفل بالتفكير والتصرف، وردود الفعل، من خلال رصد الطفل وتحديد أهدافه وقيمه وطموحاته، والتحكم بمحيطه الاجتماعي، ومنعه من تحمل المسؤولية، والإفراط بالطعام والكساء، والتبعية للوالدين، وفق جهشان.
الحماية تلك، لها عواقب وخيمة، فهي تمنع الطفل من التفاعل مع نظرائه، وتولد لديه الخوف من أبسط التحديات التي قد تقابله، ويكون في حالة قلق من مواجهة المجتمع ويستمر ذلك حتى سن البلوغ ويترك هذا النوع من التربية أيضا الخجل غير المبرر والشك بالآخرين.
وذلك كان ما حصل مع عدنان، فهو طفل مدلل، وفرت له والدته كل ما يحلم به داخل المنزل، حتى لا يضطر إلى الخروج والتعرف على أبناء جيله، حتى تحميه منهم "حسب وجهة نظرها"، إضافة إلى تربيته على الأخلاق الحميدة، حتى ظن أن العالم يخلو من أي شر، بل إن الأشرار موجودون في برامج الأطفال حتى يغلبهم الأخيار في الحلقة الأخيرة.
عدنان دخل إلى الجامعة، كان انطوائيا، لم يحب أن يتعامل مع أحد في البداية، بسبب شعوره باختلافهم، لم يكن مرتاحا في نهاية المطاف.
بدأ التعارف على الشباب، وكانوا يتعاملون معه وكأنه هبط من كوكب آخر، نظرا لالتزامه وصدقه، ورؤيته لهم يكذبون وينافقون، لم يحتمل ذلك، حتى عاد إلى البيت يوما مرهقا، ودخل في نوبة غضب من الواقع الذي لم يستطع حتى الآن فهمه أو تقبله.
يقول جهشان "إن انخفاض الثقة بالنفس واعتماد الطفل أو اليافع الكلي على الوالدين في كل مناحي الحياة والإخفاق باتخاذ القرارات المهمة وحتى البسيطة إلا بعد الرجوع إليهما وأخذ موافقتهما على هذه القرارات، يرافقها صعوبات في مكان الدراسة الجامعية وفي أماكن العمل والحياة الأسرية والاجتماعية، وهنا يجب التفريق بين استشارة الوالدين بإيجابية ومنطقية وبين كون الطفل أو اليافع معتمدا كليا بشكل عاطفي مرضي عليهما وبسلبية تامة من قبله".

أطفال معرضون للعنف والتنمر
ويشير جهشان إلى أن تربية الأطفال بحماية مفرطة قد تؤدي الى زيادة احتمال تعرضهم لأشكال العنف كافة وللتنمر من زملائهم في المدرسة ومن أصدقائهم وزيادة احتمال تعرضهم للعنف والاستغلال في أماكن العمل لاحقا؛ حيث إن الأطفال الذين تم تربيتهم بحماية مفرطة يفقدون مهارات التواصل مع الآخرين، وخاصة مع الغرباء وأيضا هم غير قادرين على حماية أنفسهم والدفاع عن حقوقهم عندما تنتهك من الآخرين.
وتؤدي هذه الحماية الى انخفاض احترام الذات، فعلى الرغم من شعورهم أنهم محبوبون كثيرا من قبل الوالدين، إلا أن الدراسات أثبتت أنه على المدى البعيد يفقد هؤلاء الأطفال احترامهم وتقديرهم لأنفسهم بسبب عجزهم على التعامل والتواصل مع الآخرين، بحسب جهشان.

القلق والعزلة لدى المراهقين
وتشير الدراسات المسندة في علم النفس السريري إلى أن الإفراط في الحماية أثناء تربية الأطفال هو سبب رئيسي لاضطرابات القلق لدى المراهقين واليافعين، وخاصة رعاية الأطفال بعيدا عن التخالط الاجتماعي بنظرائهم ومع باقي مكونات مجتمعهم، ويرتبط هذه القلق بالخجل وعدم القدرة على مواجهة أي شكل من المخاوف التي قد تواجه الطفل أو اليافع، والتالي التقوقع والانسحاب.
ويؤكد اختصاصي علم الاجتماع د. محمد جريبيع، أن الحياة التي يسعى الأهالي لتوفيرها لأبنائهم من رفاهية ومصداقية وعيش منعم، هي كأن الفرد يريد أن يعيش في المدينة الفاضلة.
وعلى سبيل المثال، الأب والأم يضعان أولادهما في أفضل المدارس ويعلمانهم أهمية الصدق والأخلاق الحميدة فيمشون عليها ولا يعرفون النقيض منها حتى يتفاجؤوا بمن حولهم فيصعب تصديق الواقع والتعايش معه، ما يجعل الاضطرابات الاجتماعية والنفسية كبيرة وذات تأثير في حياتهم.
وتتفق طوقان مع ما سبق، لأن حب الأهل لأطفالهم لا يقصد به الدلال المفرط وتلبية كل رغباته، فبذلك يكون هذا الحب مدمرا للطفل وليس أمرا جيدا وله عواقب كثيرة ومخاطر تؤثر في تكوين شخصية الطفل ونفسيته.

الدلال الزائد يولد العدوانية والتمرد
الأهل حينما يلبون جميع رغبات طفلهم يعتقدون أن هذا يعد تعبيرا للحب له وإشعاره بعدم النقص وتمييزه عن بقية الأطفال، وذلك من خلال تقديم الكثير من الهدايا والألعاب والأجهزة الالكترونية الحديثة، وحل واجباته المدرسية بدلا منه والاندفاعية في حل جميع المشاكل التي يواجهها في حياته من دون بذل أي جهد منه، وفق طوقان.
وتشير إلى أن ذلك يؤثر على سلوك الطفل سلبيا فيصبح طفلهم عنيدا ومتمردا وعدوانيا في حال عدم قدرتهم على تلبية طلباته ويعتقد أنه هو القائد في المنزل وأن كلامه فقط هو الصحيح ولا يسمح لأحد التدخل به ويرفض تلقي الأوامر من أحد حتى وإن كانوا والديه، وذلك بسبب غياب القوانين والأنظمة في البيت التي يجب عليه احترامها فلا يعرف حدا معينا للتوقف عنده، بل يستمر بطلب المزيد والمزيد من الحاجات المادية والمعنوية من دون بذل أي جهد منه، وقد يلجأ الى أفعال سلبية لخوض تجربة جديدة لأنه حصل على كل شيء يرغب به بشكل مفرط من الأهل ومخالفة القوانين والأنظمة وقد يصطدم مع القانون لعدم تعوده على وجوده أصلا.
ويقول جريبيع "الأصل أن يربي الأهالي أبناءهم على الأخلاق الطيبة وبالمقابل تعريفهم بما يدور حولهم من شر وخير وكيفية التعامل معه حين وقوع الشر حولهم أو عليهم".

مبدأ المشاركة والعطاء 
يعلم الطفل المسؤولية
ويشير جهشان إلى أن أهمية التربية المتوازنة تشتمل على حث الأطفال على الاندماج في خبرات الحياة بشكل متجدد كالمشاركة بالنشاطات الرياضية واللامنهجية والمشاركة في احتفالات الأطفال المختلفة، وتدريبهم خلال ذلك على حماية أنفسهم والاعتماد على الذات والدفاع عن النفس وطلب المساعدة بالوقت المناسب.
وكذلك، تدريب الأطفال على مبدأ المشاركة والعطاء للآخرين حتى وإن كان بأمور بسيطة جدا وهذا يعلم الطفل تحمل المسؤولية والثقة بالآخرين والعمل بروح الفريق، بالإضافة إلى حث الطفل على حل المشاكل بطريقة المنطق والتحليل من دون أي مساعدة من الآخرين.
وبناء الثقة بالنفس بتعليم الطفل مهارات جديدة بشكل مستمر، وتشمل، مهارات التواصل مع الآخرين، والصحة والنظافة الذاتية، وحماية أنفسهم، وإفساح المجال للطفل للاختيار في ظروف تسمح بذلك من دون أن تختار للطفل كل أمور حياته مثل الطعام والكساء والألعاب...الخ.

الخميس، 22 نوفمبر 2018

لماذا لم نكن كأمهاتنا؟

بقلم: زهراء بسام
مدونات الجزيرة 

يبدو ملفتا للانتباه هذا الجدل الدائر حول تعريف "الأمومة" ومقتضياتها من الحقوق والواجبات والوقوف على شروط تحققها والتمثل بنماذج معيارية تتحقق بها "الأمومة" كما ينبغي أن تكون، وهذا ليس غريبا فقط من منطلق صعوبة الإحاطة بتعريف جامع "للأمومة" يمكنه إيجاز كل ما تعنيه من عطاء غير مشروط وجَهد لا يألو على ليال تنقضي بلا نوم وأيام تمضى دون حساب في عداد الإنجازات العظيمة، بل لأنه أيضا لن يستطيع أي تعريف موجز أن يشرح كل هذا القدر من الارتباك الذى تعيشه الأم كل يوم أمام مهام لا تتعدى رعاية بيولوجية لطفلها وحاجتها بمجرد الاستمتاع بكوب قهوة ساخن! هذا الارتباك الذي قد يراه البعض تناقضا حينما تراها تكاد تطير فرحا بابتسامة تشق شفتيه الصغيرتين، وفي الوقت ذاته تندم حسرة على حياة سابقة لم تكن فيها أسيرة احتياجات طفل رضيع.
سألتني صديقتي لماذا لسنا كأمهاتنا، لماذا كل هذا التعقيد فيما كان من قبل أمرا بدهيا لا يحتمل كل هذا الضجيج بالشكوى والسؤال حتى صرنا نبحث في تعريف الأمومة وشروطها؟ الإجابة ليست بسهولة السؤال أبدا، لماذا لسنا كأمهاتنا؟ لأننا ببساطة في زمن غير زمانهم، بقناعات وأفكار مختلفة، بأحداث سياسية واجتماعية تركت ظلالها علينا فأصبح تفكيرنا مرتبطا بها، واعتقد أن مبتدأ الإجابة عن هذا السؤال يكون في كيف ننظر لأنفسنا وكيف نقيم أدوارنا في الحياة؟ في هذا مفتاح الإجابة على سؤالك: لماذا لم نكن كأمهاتنا؟

الأمومة هي باب عريض لـحياة جديدة تحتمل شكوانا من رهقها أحيانا وفرحتنا بمتعتها أحيانا أخرى، كلٌّ على قدر سعته.

بنظرة -سريعة ومقتضبة- على واقع سابق حيث كان المجتمع في أغلبه ينتمي مهنيا إلى "الوظيفة الحكومية" بمحدودية طموحها، ويعيش في وضع سياسي شبه مستقر تحت حكم عسكري قد بسط سيطرته على المجال العام بالقدر الذي يديم وجود نظامه العام، في ظل هذا كانت الأسرة امتدادا طبيعيا لكل تلك الظروف السياسية والاجتماعية من حيث الانتماء الجذري لـ"البيت" ومن ثمّ رؤية الأبناء من منظور "العزوة" والحماية التي لا توفرها الدولة من ناحية، ومن جهة أخرى هم استكمال لأحلام مبتورة لم تكتمل.
فكان الانتماء "للأبناء" في أحد أوجهه انتماء للذات، والتفاني فيهم هو تفان لـحياة مؤجلة يعيشونها معهم، وهكذا فمن كان يطمح للمنزلة الاجتماعية كان حرصه أن يصير ابنه طبيبا، ومن كان يطمع في نفوذ السلطة سعى بكل جهده ليلحق ابنه بأحد الكليات الأمنية أو الجهات السيادية.
يختلف الحال بالنظر إلى واقع جيلنا، ولربما -بجرأة مبالغ فيها- قد ادّعى أننا أكثر أنانية من سابقينا، ندور حول أنفسنا ونتمركز حول ذواتنا بنسبة كبيرة، نعيش في عصر "الصورة المعدّلة" و"البروفايل الشخصي" الذي هو بمثابة منّصة تعبيرية مضخمة للأنا وقدرتها على تسويق تفاصيل يومها العادية بصورة تجارية بحتة.
ثمة من يجاهد في تحقيق التوازن العزيز بين " معنى الأمومة" المبنى في جوهره على تجاوز الذات وتحييد "الأنا" قدر الإمكان، وعدم الانغماس في مظلومية " الأمومة" وتضحياتها
يأخذنا هذا إلى الإيمان بفكرة "ترحيل الأحلام" إلى جيل لاحق! فالسؤال المنطقي هنا، لماذا علىّ أن أؤجلها إن كان بإمكاني بذل الوِسع للحاقِ بها، وهذا جزء أصيل من نظرتنا لذواتنا واستحقاقاتها، فهي أحقّ بالوقت والجَهدِ والمتعة بطبيعة الحال، وهذا يصبّ بدوره في خانة " الأنا" وصورتها وسوقها المرتبط بالقدرة على رسم صورة لامعة، برّاقة لا يحتملها رَهق الأمومة ولا تضحياتها.
من ناحية أخرى، نحن لا ننتمي إلى "الوظيفة الحكومية" بثباتها وقدرتها على التنميط، وكذلك بما تحققه من "أمان مادي جيد"؛ ومن ثمّ تبدو خطوة "الأبوة\ الأمومة" مغامرة غير مأمونة العواقب يحاصرها الخوف من المستقبل المجهول، فلا استقرار اقتصادي أو سياسي نرتكن إلى حائطه ونضمن به ومعه قدرة على العيش الكريم.
لكنه، وعلى الضفة الأخرى، ثمة من يحاول تجاوز هذه العقبات كلها، يجاهد -بما تحمله الكلمة من معني -في تحقيق التوازن العزيز بين " معنى الأمومة" المبني في جوهره على تجاوز الذات وتحييد "الأنا" قدر الإمكان، وعدم الانغماس في مظلومية " الأمومة" وتضحياتها ورؤيتها بوجهتها الصحيحة: باب عريض لـحياة جديدة تحتمل شكوانا من رهقها أحيانا وفرحتنا بمتعتها أحيانا أخرى، كلٌّ على قدر سعته.

الأحد، 18 نوفمبر 2018

حرب النساء ومعارك "الهَبَلْ"!

بقلم : أحلام مصطفى
مدونات الجزيرة
أحياناً يدفعني الفضول إلى البحث في تعليقات الناس على ما أنشر من باب التقييم ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه، أو حتى أحصل على لمحة عن الطريقة التي تؤثر بها كلماتي على الآخرين. تقع عيني على تعليقات مختلفة اللهجة بالتأكيد، ولكن أكثر ما يثير استغرابي هي تلك التي تترك كل شيء جاد أتحدث فيه أو أجرب أن أناقشه وأعرضه للناس، وتلقي بكلمات لا أعرف من أين امتلكت الوقت وراحة البال حتى تفكر فيها.

تلقيت مرّة رسالة خاصة، يعني الأخت أتعبت نفسها ولم تكتفِ بالتعليق، فقط حتى تقول لي بما معناه: ما هذا الافتقار إلى الذوق، ألوان ملابسك ليست متناسقة. لأنني أحمل حقيبة يد غير مطابقة للون الشال الذي أضعه على رأسي.. أو تعليق لأخرى تنعتني بالجارية وبأنني أريد أن أكون مملوكة لزوجي وأن أفقد شخصيتي وأعيش في العصر الجاهلي، لأنني قلت لا يجب على النساء أن يشعرن بالضغط للعمل خارج المنزل إن لم يكنّ في حاجة له، وليس لأحد أن ينظر إليهن بدونية أو يحاسبهن على ذلك. وهذه السيدة لا تعرف أنني أعمل بدوام كامل من المنزل بمرتب شهري إضافة إلى عملي الجانبي كمدونة. لكنها افترضت رأساً تخلفي العقلي لأنني فقط دافعت عن حقنا في الاختيار، ولأنني لا أرتدي ملابس العمل كل يوم صباحاً ولا أتوجه إلى مكتب أجلس أمامه 8 ساعات أضيع نصفها في الغيبة والنميمة.
لماذا تكره النساء أنفسهن؟
صديقة لي بدأت التدوين منذ فترة قريبة، أروى الطويل، تحدثت في مدونتها عن ظروف صعبة مرت بها وكيف كان زوجها عوناً وسنداً لها، فدخلت سيدة وتطوعت لتشعر بالشفقة على زوجها عوضاً عنها، وصرحت بأنها تتمنى لو كان زوجها هي شخصياً -السيدة صاحبة التعليق- قد تزوج من أخرى لأنها لا ترى في نفسها كل ما يستحق. أنا فيوز في عقلي ضرب، يعني أنت عندك مشكلات في تقديرك لنفسك، لماذا تطبعينها على غيرك وتريدين من الجميع أن يتتبعوا خطاك في تحقير النفس؟ لماذا تكرهين نفسك وتشجعين الأخريات على ذلك؟
لماذا تفعل النساء هذا ببعضهن البعض؟ لماذا نستخدم مهاراتنا في تتبع التفاصيل لكي نصوب سهامنا تجاه بعضنا البعض؟ نبحث عن الصغائر حتى نعتب ونلوم، ونضع العدسات المكبرة فوق الزلات، ونعتبر الاختلاف في الرأي والذوق والاختيارات فرصة لنزدري أخريات. لماذا تتركين كل العمل الذي أقوم به والمجهود الذي أبذله لتحقيق أمور ذات معنى في حياتي وحياة آخرين وتنظرين إلى الملابس التي أشتريها؟ أو الطريقة التي أصفف بها شعري؟ أو كوني لا أذهب إلى صالونات التجميل؟ أو تعايرينني لأنني لا أزرع كلمات إنجليزية في منتصف كل جملة وأخرى؟ ولا أتحدث إلى بناتي بـ baby وnaughty؟ لماذا هذه التفاهة يا عزيزتي؟
ليست التفاهة شتيمة.. هي صفة علينا أن نستخدمها في مواضعها حتى نتوقف عن استعباد بعضنا البعض بها.. حتى نفهم أن قيمتنا ليست في أن نخوض معارك الهَبَل حول مساحيق التجميل، وعوجة اللسان، وطريقة المشي، وماركة الثياب، وهدايا الزوج والحبيب، والبطيخ..
منذ أسابيع أعتقد، انتشرت صورة لممثلة بعد زواجها بعدة أيام، لم تكن ترتدي ملابساً مبهرجة ولا شعرها مصففاً بطريقة احترافية ولا تضع مساحيق تجميل، يبدو أن النساء اجتمعن على أنها لا تستحق زوجها الممثل هو الآخر لأنه يفوقها وسامة. توقعت التعليقات ولم يخب ظني: طيب ما تحطي شوية مكياج على وجهك، هذا شكل عروس جديدة؟، أنا مش عارفة على إيه متجوزها، أنا أحلى منها مية مرة، أمك معلمتكيش العروس المفروض تعمل إيه؟ إلى آخر ذلك من الوقاحة وقلة الأدب العلنية.. نساء يقيمن أنفسهن بالشكل والمادة ثم تشتكين من النظرة السطحية للمجتمع وتنسين أنهن نصف المجتمع في علّاته ومصائبه وليس فقط في فضائله.
هل تذكرون فيلم عسل أسود؟ عندما قال لها: وإنت تسيبي بيتك علشان اتكتلك على السين؟ للأسف النساء يعشن حياتهن بنفس المقاربة.. 
نظرت لي نظرة غير لطيفة، لم تقُل لي مبروك على الحذاء الجديد، لم تحضر لي هدية كالتي أحضرتها لها، لم تعزمني على حفلة زواج ابن عمة خالتها، لم تمدح الفستان الذي ارتديته بالأمس.. كل هذا وقد تكون كل واحدة منهن قد عاشرت فلانة التي ينتقدنها الآن ويعرفن أنها لا تقصر معهن في وقت الحاجة ولا تسيء إليهن في غيبتهن ولا تعتب أو تلوم عندما يقصرن.. ولكننا ننسى ولا نرى إلا ما نريده حسب مقاييسنا وحسب نظرتنا التي تعطي للمظاهر وزناً أكبر بكثير مما تستحق.. نفسر تصرفات الناس على أنها غير مخلصة فلا نتقبلها على حقيقتها.. أنها رسم ودّ ودفع بالتي هي أحسن.. ثم ننتظر منهم أن يبجلوا كل ما نفعل نحن من أجلهم وأن يُبدوا علامات العرفان.. وكأننا سنمتلكم بالمعروف الذي بذلناه.. الكثير من الكلكعة هنا.
لماذا كل هذا الأذى لأنفسنا وللآخرين؟ لماذا نبحث عن الصغائر حتى ننتقص من الأخريات؟ لماذا لا نستمتع بصحبة بعضنا البعض ونحترم اختياراتنا المختلفة ونقدر الجيد قبل أن نضع السيء تحت المجهر؟ في غالب الوقت كل تلك التناحرات تصدر إما عن سوء تفاهم أو انتصار للنفس، رغبة في أن نثبت لأنفسننا أننا الأفضل. أنا أفضل منها في كذا، أنا أستحق كذا أكثر، أنا أجيد كذا وهي لا. 
لأننا نتربى أننا ناقصات، لا ناقصات عقل ودين فقط، بل أننا غير مكتملات الأهلية، لسنا كافيات كإناث أمام الذكور، لذلك علينا أن نتناقر فيما بيننا حول من الأنثى الأفضل التي تستحق الرجل. ثم هناك أمراض النفوس التي تنتجها المجتمعات العفنة، مجتمعات المقارنات، التظاهر، والمجاملات الخادعة.. الهمزات واللمزات والتلميحات والتلقيحات.. كل هذا لماذا؟
قليلات جداً من التقيت بهن طوال سنوات حياتي الثلاثين ممن استطعت أن أتعامل معهن دون أن أحس بأنني سأحاسب على كل كلمة وسأقيم كل حركة.. بخلاف أخواتي وأمي لا يكاد العدد يملأ أصابع اليدين.. هل المشكلة فيّ أنا؟ ربما نعم.. ربما أعاني من عدم القدرة على التواصل الاجتماعي بصورة صحيحة، ربما أسلوبي الصريح هو السبب، ربما قناعة حملتها منذ الصغر تربط بين المجاملات الخادعة والتملق والكذب جعلتني أجد صعوبة في أن أعتاد حتى المحمود منها.. المقربون مني يعرفون أنني لا أتلقى المديح بشكل جيد.. سأصف لكم الموقف:
فلانة: أحلام هذا (شيء أرتديه) جميل. 
أنا: ابتسامة مقتضبة ربما تصاحبها كلمة شكر.. ثم لا شيء! 
ليس لأنني لا أعتقد أن ما ترتدينه جميل، ولكن لأنني بأمانة لا أكترث.. بطبيعة الحال أنت ترتدين شيئاً لائقاً وإلا لكنتُ لاحظت، ولكنني فعلاً لست مهتمة بما ترتدين لأنه لا يؤثر على الطريقة التي أراك بها. 
مع الوقت بدأت أتلحلح قليلاً كما يقولون وأبحث عن شيء يعجبني وأشير إليه، ولكن عندها سندخل في دوامة "اتفضليها"، ودوامة إني حسدت الشيء فلاني، وليس كل الناس قادرين على إخفاء انطباعهم أنك حسدت شيئاً أطريت عليه في وقت سابق!
أحاول جاهدة أن أقوّم نفسي في إطار التعاملات الاجتماعية وفق ما يرضي الله أولاً، أبحث عما يجعلني أقف أمام الله وأقول فعلت ما ينبغي فعله. ولكنني مؤمنة أن صلاح النوايا وسلامة النفوس هي أهم ما يمكن أن نقدمه للآخرين، لا الكلمات ولا الأفعال التي اتفق عليها المجتمع أو التي سيرانا الناس ويمدحوننا من أجلها. ولكن لأصدقككم القول، وجدت أن هذا الأمر يستنفذنا كثيراً، كثيراً من الوقت والجهد وراحة البال، يأكلنا من الداخل، هل قلت الكلمة الصحيحة، هل كان يجب أن أفعل كذا. ماذا يتبقى إذاً لنا من الحياة؟ كيف سننجز شيئاً "عليه القيمة" ونحن نلتفت إلى مثل هذه الأمور طوال الوقت؟ العلاقات الاجتماعية مكلفة هذا حقيقي، ولكن تلك التكلفة يجب أن تكون إيجابية لا سلبية. تكلفة مساعدة الآخرين، الوقوف إلى جانبهم، دعمهم، توجيه النصح لهم، الرحمة بهم، تفهم شخصياتهم، العمل معهم على تحسين أنفسنا وأنفسهم، الترفيه عن النفس، التواد والتراحم.. لا كل تلك اللعبكات ومهلكات المال والوقت والروح..
سأواصل العمل على نفسي، نعم، لا كي أعجب الناس، ولكن كي أحقق راحة البال وسلامة النفس تلك، وحتى أرضي ضميري.. وانتهى الأمر.. أما ما تبقى من الحياة فسأنفقه على الغرباء الذين ربما تنفعهم كلمة نكتبها، أو عمل نعمله، أو مشروع نشارك فيه.. فيدعون لنا دعاءً بظهر الغيب.. لعله يكون هو المنقذ..

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

الإنترنت والـ «ملينيال مومز»... ونصائح الأمهات

المرشدة الأسرية والباحثة الاجتماعية في الإرشاد الزواجي
نورا جبران
جريدة الحياة

انتشرت في السنوات القليلة الماضية، طُرفة تقول: أنا لست في حاجة إلى «غوغل»، زوجتي تعرف كل شيء. وسرعان ما تحوّلت إلى جملة شهيرة، تُطبع على ملابس الرجال، وأكواب القهوة وغيرها.
 لكن الأمر في النصائح المتعلّقة برعاية الأبناء ذهب في اتجاه معاكس: لست في حاجة إلى نصائحكم في تربية أبنائي، لدي غوغل!

ساهمت الثورة المعلوماتية والمعرفية التي رافقت ظهور الإنترنت، في تغييب عدد من أشكال التواصل الإنساني المباشر، واستبدالها بطرق ومصادر أخرى للمعرفة، كما يحدث حالياً في الاستشارات أو النصائح المتعلّقة بتربية الأبناء ورعايتهم، لا سيما لدى الأمهات الجديدات، والصغيرات، أو ميلينيال مومز (Millennial moms)، اللاتي أصبح الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالأمهات، مصدر المعرفة الرئيس بالنسبة لهن.
و «ميلينيال» أو «جيل الألفية»، هو مصطلح يستخدمه علماء الديموغرافيا، والباحثون في الدراسات السكانية، للتعبير عن مواليد بداية ثمانينات القرن الـ20، وحتى بداية العقد الأول من القرن الحالي، أي بداية عام 2000.


وفقاً لإحصاءات موقع «بيبي سنتر»، وهو موقع علمي عالمي متخصص في تقديم خدمات التعليم والتثقيف الخاص برعاية الأطفال والأمهات منذ بداية الحمل وحتى سن المراهقة، ويتوافر بتسع لغات، ويستخدمه 51 مليون أب وأم حول العالم، فإن 83 في المئة من الأمهات الحاليات اللاتي يستخدمن خدمات المواقع الإلكترونية المتخصصة في الوالديّة هنّ «ميلينيال مومز» أو أمهات «جيل الألفية»، أي أنه يعبّر عن الأمهات اللاتي لم يبلغن سن الـ30 أو الـ40 بعد، واللاتي ونظراً لارتفاع سن الزواج حول العالم، تعتبر كثيرات منهن أمهات جديدات أو أمهات للمرة الأولى.
تقول الثلاثينية آلاء: «حين أنجبت طفلي الأول كنت في الثالثة والعشرين من عمري، وكانت والدتي وحماتي هما مصدر المعرفة الأساس والوحيد تقريباً، لكيفية رعاية ابني وتربيته. توقفت عن إرضاع طفلي رضاعة طبيعية في الشهر الثاني من عمره، لأنهما كانتا مقتنعتان أنه لا يشبع مني، وأنه في حاجة إلى الحليب الاصطناعي الذي سيزيد وزنه ويُسكت بكاءه، ويجعله ينام في شكل أفضل. وبدأت بإدخال الطعام إلى نظامه الغذائي في عمر ثلاثة أشهر. وحين حملت بطفلي الثاني في سن التاسعة والعشرين، كنت قد بدأت القراءة النهمة للمواقع الطبية، وقرأت عن توصيات منظمة الصحة العالمية وجمعيات طب الأطفال العالمية لأهمية الرضاعة الطبيعية، والسن الصحيح لإدخال الغذاء في نظام الطفل الرضيع، والبعيدة كل البعد عن نصائح والدتي وحماتي وممارساتهما. وحين أنجبت طفلي بدأت باتباع ما تعلّمته، ما أثار غضب أمي وحماتي وزوجي، الذين يرون أن ما أقوم به فلسفة وعناد لا حاجة لهما. أصبح عمر طفلي الثاني سنتين الآن، وأصبحوا هم أنفسهم يلاحظون أنه يتمتّع بالصحة والنشاط، وأن مشكلات صحية واجهت شقيقه الأول لم يواجهها، ولقد ندمتُ أشدّ الندم لأنني حرمته من صدري، وأدخلت الطعام باكرا جداً إلى جهازه الهضمي، وتركته يبكي لساعات حتى ينام وحده أو لا يعتاد الحمل كما نصحاني».

آلاء واحدة من أمهات كثيرات من جيل الألفية حول العالم، اللاتي يجدن في مواقع الإنترنت، وصفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالأمهات، بديلاً مريحاً وآمناً لنصائح الأمهات والجدّات، وأن ما نشأن عليه من تعاليم وطقوس والديّة لا يناسب أطفالهن، ما يشكّل بالتالي في حالات كثيرة جداً، سبباً أساسياً من أسباب الصراع، حيث ترى الأمهات والجدات أن الجيل الجديد من الأمهات لا يمتلك المعرفة والمهارة اللازمة والكافية لتربية طفل والاعتناء به، وأن ما تقوم وسائل التكنولوجيا الحديثة بحشوه في عقولهن كفيل بإفساد هؤلاء الأطفال والإضرار بهم.
تُجمع المواقع الخاصة بالتدريب على الوالدية، مثل «بيبي سنتر»، و «بيبي شيك»، و «بيرنتنغ سكلز»، و «ميلينال مومز»، على أن أمهات جيل الألفية، يتصفن بمجموعة صفات مشتركة، منها الاعتماد على الإنترنت كمصدر للمــعلومات حول التربية، وليس الأمهات أو حتى أطباء الأطفال، وأنهن عضوات في عدد من صفحات أو مجموعات التواصل الاجتماعي الخاصة بالأمــهات، وهن مــهووسات بتقديم الغذاء الصحي والعضوي لأطفالهن، ويمضين وقتاً طويلاً في اللعب مع أطفالهن مـــقارنة بأمهات الجيل السابق، اللاتي كن يصرفن وقتاً أطول على مهمات المنزل والعمل، وإعطاء التعليمات بدلاً من الانخراط في اللعب مع الأطفال.
وتعتني تلك الأمهات في شكل كبير بالتقاط الصور الإلكترونية لأطفالهن ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة أو مشاركتها مع العائلة، بينما لا يحرصن على طباعة هذه الصور أو الاحتفاظ بها في ألبوم تقليدي. كما تعتبر أمهات جيل الألفية رافداً أساسياً من روافد التجارة الإلكترونية، نظراً لكثرة شرائهن للبضائع عبر المواقع الإلكترونية، بدلاً من طرق التسوّق التقليدية. ولا مانع لديهن من دعم الماركات الجديدة والمشاريع الصغيرة، والمواد المنتجة منزلياً التي تسوّق عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهن كثيرات التساؤل: هل أنا أم شبيهة بأمي، أم أنني أقدّم لطفلي شيئاً مختلفاً؟
إنّ «الميلينيال مومز»، أو أمهات جيل الألفية لَسْن سوى نتاج طبيعي، لعصر ثورة المعلومات والمعرفة، والانفتاح اللامحدود على شبكة الإنترنت ومن خلالها على ملايين المواقع والبشر والمصادر التي يمكن للمرء الوصول إليها بالضغط على زر واحد. كما أن الفجوة بين أجيال الأمهات والجدات ممن عشن أو ولدن في سبعينات القرن الـ20 وما سبقها، هي فجوة طبيعية كان لا بدّ أن تظهر استجابة للتغيّرات السريعة والشديدة التي شهدها العالم بانتشار وسائل الاتصال وإغراق العالم بالمعلومات عبر وسائل الإعلام التقليدية، فضلاً عن التكنولوجيا الحديثة.
كما أن الطريقة التي تقوم بها كل أم في التربية، سواء كان ذلك بالاعتماد على والدتها أو على وسائل الاتصال الحديث، ليست سوى ردّ فعل طبيعي لمجموعة مكتسبات بيئية وتربوية واجتماعية وثقافية تشكّل شخصية هذه الأم الجديدة، وطريقتها في اختيار مصدر التعلّم والتثقيف الذي يناسبها، ومدى وعيها وإدراكها أهمية الوصول إلى المعلومات من مصادر علمية وطبية موثوقة، حتى لا تفرّ من نصائح أمها وجدتها، لتقع في براثن سيل جارف من المعلومات والنصائح على شبكة الإنترنت، التي لا تخضع في أحيان كثيرة لأي مراجعة أو تدقيق علمي.

الخميس، 8 نوفمبر 2018

كلنا أمهات مثاليات.. قبل أن ننجب!

https://goo.gl/wUvVa9
بقلم : أحلام مصطفى
مدونات الجزيرة

منذ سنوات مضت قرأت مقالاً لسيدة بعنوان "كنتُ أُمّاً مثالية حتى أنجبت". تحكي فيه السيدة عن الخطأ الذي كانت ترتكبه خلال فترة حياتها قبل أن تتزوج وتنجب. في كل فرصة تتاح لها كانت تلك السيدة تصدر الأحكام على آباء وأمهات آخرين، ربما رغبة منها في ملء فراع ما، أو لسوء تقدير حقيقة الموقف، أو لأنها كانت تريد أن تثبت لنفسها أن تستطيع فعل ما يفعلون. ولكن تلك السيدة بعد أن أنجبت أول أطفالها، وبدأت نظرات الناس المصدرين للأحكام تلاحقها دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء فهم المواقف، وبعد أن أصبحت تفعل أشياء كانت تلوم الآخرين عليها.. أدركت كم كانت مؤذية. يسمونها في الثقافات الآخرة "كارما"، حيث يعود ما فعلته ليقلق راحته ويلحق به ما ألحقته بالآخرين، ونسميه نحن في ثقافتنا: كما تدين تدان.
سأستغل هذه الفرصة كنوع من الفضفضة والتفريغ: قبل أن أنجب كنت قد قضيت فترة طويلة من التحضير النفسي والجسدي بطريقة أو بأخرى، حتى قبل أن أتزوج، كنت أعتقد أنه من الطبيعي أن تحضّر المرأة نفسها لتقوم بدورها كأم وزوجة قبل أن يحين الوقت بكثير، والرجل نفسه حتى يكون زوجاً وأباً، خصوصاً أننا لم نعد كالأجيال الماضية في حالة جسدية وصحية جيدة، وطعامنا أسوأ بمراحل وحالتنا النفسية أسوأ وأسوأ. كنت أرى بأنني لا أعرف متى وأين وكيف ستبدأ هذه المهمة أو إن كانت ستبدأ، ولكن تجهيز النفس لها ضروري ولا شيء يضيع هباءً.
المهم في الأمر أنني أنا أيضاً لغباء مني اعتقدت أنني تحصلت على قدر كبير من المعرفة والخبرة مع إخوتي الصغار تؤهلني لأكون في مكان جيد من هذه المهمة، وكنت كثيراً ما أحكم على أمهات وآباء آخرين حتى قبل أن أنجب بطريقة توحي بأنني ربما كنت لأقوم بدورهم بصورة أفضل.... ثم أنجبت.

ليس الأمر بتلك البساطة... قمت بقراءات وتجارب وتغيير عادات وتغيير سلوكيات وتغيير طريقة حياة بأكملها بعد أن أنجبت أكثر بكثير مما فعلته في كل ما مضى من حياتي ربما. ببساطة أنت لن تعرف معنى أن تكون أباً أو أماً ولا ما تحويه هذه الوظيفة من تفاصيل وتعقيدات إلا إن مررت بها شخصياً، لا يكفي أن تمضي عدة ساعات مع طفل، أو أن تعمل في حضانة أطفال، أو مدرساً، أو يكون لك ثمانية إخوة وأخوات مثلي حتى تعتقد أنك تجيد التعامل معهم وتتقن التربية بصورة كاملة.
       
الأمر يختلف عندما يكون هذا الطفل معك وتحت رعايتك وجزءاً من مسؤوليتك طوال اليوم، كل دقيقة وكل ثانية حتى لو لم يكن بين يديك أو مع شخص آخر عقلك يعمل معه ويفكر فيه، وليس هذا هوساً ولكنه طبيعة أن تكون أباً أو أماً مسؤولاً عن طفل مازال غير قادر على تحمل مسؤوليات كثيرة ولا يعرف الكثير عن حقيقة الحياة. يختلف كثيراً أن تكون أباً أو أماً لطفل وكل ملحقاته من علاقات وظروف ومتطلبات، عندما يأتي الطفل تأتي معه مجموعة من الالتزامات الاجتماعية والواجبات التي لم تكن موجودة من قبل. تصبح هكذا بين ليلة وضحاها مسؤولاً عن علاقته بك وبأبيه وبأجداده وأخواله وأعمامه وأقاربه والأصدقاء إذا كبر وأصدقائك أنت والجيران! تصبح مسؤولاً عن علاقته بالعالم والكون من حوله، تصبح مسؤولاً عن صحته ونفسيته، تصبح مشغولاً بهموم أتت أو لم تأتِ.. تتحول إلى كيان مختلف تماماً عن ذلك الذي بدأت به.   
فإذا ما دخلت المعمعة وبدأت في تلقّي الملاحظات والتعليقات والانتقادات أخذت تبحث عن صبر فوق الصبر حتى تتمكن من التعامل مع كل هذا. كثير من الناس يفعلون ذلك بحسن نية أو خوفاً على الطفل كما يقولون، وبعضهم يفعل ذلك لأن بينه وبينك مشكلة شخصية ربما ويريد أن يظهر تفوقه عليك، وآخرون يفعلون ذلك بحسب العادة، كما فُعِل بهم يفعلون. والأمر يمتد ويتشعب فيصبح الجميع جزءاً من هذه الحرب الدائرة التي يبدو أن مركزها الطفل لولكنها في الواقع لا تدور سوى حولنا نحن.
فكرت مليّاً كأم في بداية مشواري مع أطفالي ومازلت أفكر حتى الآن، ما الذي يزعجني كثيراً في مثل هذه المواقف؟ هل يزعجني أنها تستبق الأحكام دون معرفة التفاصيل؟ هل يزعجني أنها لا تراعي الاختلافات بين العائلات وتغير الطبائع؟ أنها لا تترك مجالاً لتقبُّـل أنّ لكل أم ما تفضله وتراه مناسباً لأطفالها؟ أنها لا ترى أن من حقي أن أختار كيف أربي أطفالي كما ربى غيري أطفالهم؟ هل أنها أحياناً تتسبب في مشكلة وتؤثر سلباً على الطفل بدلاً من تقديم مساعدة؟ هل هو كل ذلك؟
       
أكرر على نفسي: عليك أن تفصلي بين الموقف والشخص والمحتوى، ربما يكون الأسلوب غير مناسب، يكون التوقيت غريباً، لكن هل في الحديث ما يفيد طفلك أم لا؟ أجاهد نفسي كثيراً حتى لا أبني حاجزاً.. أكرر على نفسي: لابد أنك تخطئين، لا أحد كامل، فكري في الخطأ، وتعاملي معه ولا تعاندي فقط لأنك تعتقدين بأن الأمر مستفز، ابحثي عن المصلحة. ليس الأمر سهلاً، تبحث أنت عن الدعم والتخفيف وتجد المحاكمات والتقييمات والنقائص.
         
أحاول أن أحصر ردود الفعل في الأمور التي أرى بأن أثرها سلبي صريح لابد من التعامل معه.. أما ما يمكن أن يمر فليمر.. لم تقتلني الكلمات يوماً ولا بقيت محفورة على الجدران إلى الأبد، كثرة التعلق بالصغير من المواقف في الحياة يحيلها إلى دوامة من المنغصات التي لا داعي لها. أفكر قليلاً فأجد أنه حتى الأمهات اللاتي جربن وعرفن لا يرحمن، هنّ أيضاً تجد منهن من تنقض عليك كلما واتتها الفرصة.
أقول ربما هي تحاول أن تَجبُر ما كسره فيها الآخرون بأن تكسر غيرها؟ لعلها تقول: هكذا نصبح جميعاً عرجان ولا فضل لأحد على أحد؟ أصبحت أوقف نفسي كثيراً وأنا أهمّ بأن أصدر حكماً. أقول: تذكري يا أحلام، لا تحكمي على ما لا تعرفين. أتوقف. أرى الأم في السوق وطفلها يبكي بكاءً شديداً وهي تقف أمامه تنتظر منه أن ينهي حفلة الغضب هذه، أمر بجانبها وأنا أبادلها ابتسامة. أقف في السوق وقد قررت ابنتي أنها لا تريد البقاء في عربة التسوق لأنها تحلم بأن تأخذ كل علبة من على الرف، أقف أمامها حتى تنتهي أو أشاغلها بشيء تحبه، تمر بجانبي أم أخرى بأطفالها، تبادلني ابتسامة.  

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

الأنوثة المنهزمة

بقلم بروين حبيب
جريدة القدس العربي
تتعثّر حياة المرأة العربية عدّة مرات، وتحدث فيها شروخ، وتقلبات، وانقطاعات مع المراحل السّابقة بشكل يشبه البتر المؤلم، بين الطفولة والبلوغ، ثم بين البلوغ والزواج، ثم بين الزواج ومراحل غير متوقعة، كالطلاق أو التّرمّل، ثم بين أن تكون أما وحماة وجدّة. يتخلّل هذا المسار الحياتي حصار عائلي واجتماعي يمارس على الأنثى بكل الوسائل، حتّى أن حياتها تبدو ملكا للآخرين وليست ملكا لها.
بين المراحل تكتشف المرأة في الغالب أن حياتها يجب أن تُعدّل وفق معطيات جديدة، كأن تتخلّى عن أصدقائها الذكور، بمجرّد دخولها عمر البلوغ، ليس فقط لأن العائلة ستضع حدًّا لتلك العلاقات البريئة، بل لأن أصدقاءها أنفسهم سيحوّلهم المجتمع إلى كائنات متوحشة، تقلل من احترامها، تبدأ تلك التحولات «المستذئبة» تظهر عليهم لتتسع المسافات بشكل أوتوماتيكي بينهما، قد يستلزم الأمر أيضا التخلّي عن صديقات حسب المعطيات نفسها، إذ تصنف الفتاة حسب لباسها، وسلوك بعض أهلها، الذي قد لن يعجب العامّة. 
قد يحدث أيضا أن تُكوِّن صداقات جديدة في الوسط الجامعي، لكنّها صداقات قد لا تدوم طويلا، فبعد الزواج تقطع المرأة في الغالب كلّ صلاتها بماضيها الجامعي، لتبدأ حياة جديدة، تنغمس خلالها في علاقات زوجها ومحيطه، يحدث للمرأة ما يحدث للسمكة حين تخرج من ميـــاه مالحة، وترمى في حوض ماء حلو أو العكس، وهنا على معجزات الله كلها أن تجتمع لتجعل هذه المرأة تتعايش مع الوسط الجديد، بكل طقوسه المختلفة عمّا عاشته سابقا.
كتبت المرأة عن حالاتها هذه، ولكن سرعان ما صُنِّف أدبها على أنّه نسوي، أو نسائي، وكلاهما يمثل «تهمة» ما، وكأنّ الكتابة عن المرأة وللمرأة جريمة أدبية يحاسب النقد ممارسها. بعض الكاتبات يتنصّلن من هذه «التّهمة» بتصريحات غريبة، ينفين عن أنفسهن صفة «النّسوية»، ويكدن ينفين صفة الأنوثة عنهن أيضا، يتملّصن من الأسئلة الملغّمة بتلك الإيحاءات التي تضيّق عليهن الخناق، كونهن كتبن مآسي بنات جنسهن. تنفي الأغلبية أن يكون الأدب ذكوريا، أو نسويا، فيما نحن نعيش في منظومة ذكورية ضخمة، بما فيها الأدب، ألم يلجأ ناشر ج. ك. رولينغ إلى وضع الأحرف الأولى من اسم الكاتبة خوفا من تأثير اسمها سلبا على المبيعات؟ أليست حيلة التخفّي خلف حرفين لا هوية لهما ولا جنس، هروبا صريحا من «المؤنث» الذي قد يُسقِط القارئ في بلبلة عاطفية تحيل إلى رفض الرواية؟ حدث ذلك في أواخر القرن العشرين، إذن لا عتب على جورج صاند مثلا، التي تقمّصت شخصية رجل حتى في لباسها قبلها بقرن ونيف، هي المولودة باسم «أمنتين أورور لوسيل دوبان»!
الحرب على النّصوص النسائية أخذت أشكالا مختلفة، ويبدو أنّها بدأت من النّقد نفسه، حين قُرِئ على أنّه أدب جنس، وقد بالغ بعض الأكاديميين العرب في اعتبار ما كتبته النساء أدبا «بورنوغرافيا»، ما أبرز جهلهم الكبير بين ما يكتب في الأدب، وما تقدمه المواقع والأفلام الإباحية.
القارئ بدوره يقرأ نص المرأة باحثا عمّا يدينها – بعد الرّدة الدينية الغريبة التي أصابت المجتمعات العربية – وقد يقلب الصفحات بدون قراءتها تماما، إن لم يجد فيها فقرات إيروتيكية، ثم ينتهي مصير الكتاب، إمّا منسيا بين الرفوف، أو موضع شبهة وثرثرة وتهجم وتشويه سمعة، وغيرها من الأمور السيئة التي يخترعها قارئ «نصف متعلّم، ونصف متديّن».
ومع أن «الإيروتيكا» أو «الإيروسية» جنس قديم في تاريخ الأدب العربي، والمكتبة العربية تزخر به، من امرؤ القيس إلى الجاحظ، إلى الأصفهاني، إلى التوحيدي وابن حزم، والتيجاني والسيوطي والنفزاوي وغيرهم… إلا أن تقزيم عمل المرأة مهمة سهلة على من يتخذ «المشاهد الجنسية» ذريعة لذلك، ما جعل المرأة تختلط عليها المفاهيم، فالنص الذكوري الذي يبالغ أحيانا في توصيف الجنس، لا يلحق صاحبه ما يلحق المرأة التي تشبهه، من أذى. مع ملاحظة أن الرجل يعيش ويكتب متحررا من كل القيود الاجتماعية، فيما تعيش المرأة مكبّلة في الغالب، بل إنها تكبّل شخصياتها في نصوصها، ولا تسمح لهن بالتمرّد خوفا من الإسقاطات التي قد تضعها موضع شخصياتها، ولهذا السبب ربما نجد عددا لا بأس به من الكاتبات العربيات اللواتي يكتبن بأسماء مستعارة، وبعضهن حققن شهرة كبيرة، إلا أنهن بعيدات تماما عن الأضواء، ما يوفّر لهن حماية شخصية في أوساطهن الضيقة.
الذائقة الذكورية تحاملت كثيرا على نص المرأة، تماما كما على حياتها الخاصّة، ما يجعلها كائنا تابعا، حتى نحن نرى الأعاجيب في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، حيث تجاوزت النساء السخرية القاتلة، التي يوجهها الرجال لهن، كما تجاوزن التهميش المقصود لغايات عديدة، منها ما هو غير أخلاقي تماما كطريقة للضغط عليهن.
يقف ذكورنا أيضا في صف الحياد حين تتعلّق المسألة بحق من حقوق المرأة، فلا تُسَجَّل المواقف بوضوح بشأنهن، وإنه لأسهل على كاتب أو مثقف أن يعارض بشراسة كل الأنظمة العربية مجتمعة، على أن يقف في صف نص نسائي يدين جريمة الاغتصاب مثلا. كما يمكنهم الدفاع عن حرية المرأة مادامت ليست أختا أو ابنة أو زوجة لهم، وهذا جزء من ازدواج الشخصية العجيب الذي يعانون منه، والصراحة أن ذلك راجع لنقطة مهمة، وهي انعدام الثقة تماما داخل منظومة الذكور، رغم سيطرتها على مفاصل الحياة الرئيسية في مجتمعاتنا.
تلي هذه الذائقة الباسطة لجناحيها على النّعيم الذي نعيش فيه، نصوص تنتقد الذكورة بشدة، إذ لا تخلو قصصنا ورواياتنا وأشعارنا من الخيانة والطعنات المباغتة، والمعاناة التي لا تنتهي، بسبب انكسار العلاقات بين الرجل والمرأة، هناك هوّة عميقة جدا بينهما، حتى أنه من النّادر أن نجد علاقة ناجحة إنسانيا في الواقع بين مثقف ومثقفة عربيين.. لا أدري أين أجد النّماذج، لهذا أنتظرها من قرائي الأحباء، بدون تحامل إضافي عليّ، كوني أكتب من باب البحث عن معادلة تحدث التوازن بين الذكورة والأنوثة في عالمنا العربي الأعرج. 
إذن إذا ظلّ الخطاب يرفل بأثوابه القديمة «المجندرة»، هل سنفكّر في نصوص عميقة تحفر في الذات الإنسانية وتخرج أثقالها وكنوزها؟ هل سنبلغ مرحلة النُّضج الفكري التي تحرّرنا من الصفات الدنيئة، التي جعلت نصوصنا أدلّة على مشاعر الخوف والكراهية والتخوين؟ إن تلك الساعة المرتقبة لن تحين ونحن عالقون بين عقارب ساعة متوقفة منذ أمد طويل، مع أنه من الممكن جدا أن نتصالح مع ماضينا المتحرر، ونبني حاضرا خاليا من التوترات والقيود، لتسهيل حياتنا، كونها قصيرة جدا، ولا تحتمل هذا التكرار الممل لغلبة الذكور وانكسار الإناث.
يا إلهي ماذا يضيف انكسار أنثى لانتصار ذكر؟
أي قاعدة بائسة نعيش وفقها طيلة قرون؟ وهذا المنتصر الشهم يجرُّ أنثاه المنكسرة، يجرّها ويمشي، يجرها ويزداد انحناءً، يجرُّها ويتعثَّر، يجرها حتى تخونه قدماه فيقع.

الاثنين، 15 أكتوبر 2018

نساء مذهلات

بقلم: فرح أشباب
مدونات الجزيرة
https://goo.gl/g4ZiD6
منذ مدة قصيرة أنشأت إحداهن مجموعة نسائية مغربية على الفايسبوك أطلقت عليها اسم  la Superbe، التي تعني "الرائعة"، النعت الذي تتشارك فيه كل نساء العالم دون استثناء. كان الأمر بمثابة اللعبة في بداية الأمر، كانت كل واحدة تقدم نفسها على حدة وترافق التقديم بصور لها وهي غالبا مبتسمة، تحكي عن تجاربها وحياتها وماذا غيرت هذه الأخيرة فيها وكيف واجهت مشاق الحياة وصعابها. بين ليلة وضحاها صارت المجموعة تشمل تقريبا 200.00 سيدة من مختلف الأعمار، مراهقات وشابات وأمهات وجدات من مختلف أنحاء المغرب ويستمر تقديمهن لأنفسهن لحد الساعة والبسمة تعلو وجوههن دون كلل أو ملل. 
ولأن الصورة تستحوذ على الانتباه أكثر من سطور مكتوبة فإنك غالبا ما تجد نفسك تمرر الصور لتشاهد نساء من كافة الأعمار، حرفيات، خياطات، ربات بيوت، طالبات، نساء عاملات، معلمات، مهندسات، طبيبات، عسكريات، محاميات..  يزاولن أعمالهن، يقمن بالرياضة، يقمن بواجبهن المهني، بهواياتهن، بتربية أطفالهن. فما إن تنتهي من الصور وتبدأ بقراءة النص حتى تتسل دمعة إلى عينيك وتسقط سقوطا حراً لم يأذن لها أحد به. يا إلهي! كيف لا زالت هذه السيدة تبتسم رغم ما حل بها ورغم ما قاست خلال حياتها؟ كيف لم تستطع ظلمات الدنيا أن تخطف ذلك النور الساطع من وجهها؟ وكأن ذلك النور مقدس لا تتحكم فيه قوانين الفيزياء ولا غيرها، كطائر العنقاء الذي ينبعث من الرماد بعد ما ظن الجميع أنه تلاشى من شدة النار حسب المعتقد الإغريقي. 
التقيت بالكثير من النساء من كافة الفئات وتعلمت من خلالهن أن المرأة قوية أكثر مما نتصور، أكثر مما تتصور هي كذلك، لست بصدد بدء مقارنة بين الرجال والنساء لأن ذلك ليس موضوعنا، بل حقا لأن المرأة مبهرة بكل المقاييس، فحين تعتقد أنها ذبلت وسقطت أوراقها تزهر من جديد رغم الصعاب والتقدم في السن ورغم كل شيء.  لماذا أقول هذا وأشيد بهؤلاء النساء المذهلات، لأنهن حقا أهل لذلك. ماذا فعلن ليستحققن ذلك؟ فعلن الكثير جدا. 
من القصص التي أبهرتني أم شابة تزوجت في سن جد مبكّر وأنجبت ثلاث فتيات تباعا، استحملت قسوة زوجها وأهله كثيرا ونظرة كل الذين يشفقون عليها لأن بطنها لم تنجب سوى البنات لتقرر أنها لن ترضخ للظلم فطلبت الطلاق بعد ظلم كبير وبدأت حياتها من جديد، حصلت على الباكالوريا والتحقت بالجامعة رغم قصر اليد ورغم الفقر ورغم مسؤولية الثلاث بنات لتصبح اليوم إطارا عاليا ومستشارة تواصل ومقدمة برامج. شابة في العشرين من عمرها تحكي عن معاناتها بعد بتر ساقها عندما كانت طفلة نتيجة لعض كلب لها، كانت قبل الحادثة عداءة تفوز في كل السباقات لينتهي حلمها بعد ذلك وتصير غير قادرة على المشي بدون عكاز. قطع الكلب جناحها لكنه لم يمزق روحها القتالية، لتنتفض بعد ذلك وتشرع في التدريب على كرسيها المتحرك لتصير اليوم بطلة وطنية وافريقية في التنس وتطمح اليوم إلى خوض غمار تظاهرات رياضية دولية.
أمهات فقدن أعز ما يملكن، فلذة كبدهن، نساء حاربن ولا يزلن يحاربن السرطان والمرض الذي استوطن عنوة أجسادهن الفتية، أخريات حاربن الجهل والفقر والعنف والظلم وبنين أنفسهن من لا شيء ماعدا الإيمان بأن غدا سيكون أفضل، سيدات في خريف العمر عاشوا قصص حب وزواج ناجحة هددتها صعاب الدنيا لكنها لم تفلح في تدميرها، أمهات ربين أولادهن بمفردهن وأوصلنهن إلى بر الأمان بعد تخلي الأزواج عنهن في بداية الطريق أو منتصفها.  نساء تخلين عن مهنهن الحالية من أجل بدء تخصص آخر كان شغفهن منذ البداية لكن شيئا حال دون ذلك. والكثير من القصص والتجارب المبهرة حقا والتي يطول حكيها وربما تُنسى تفاصيلها لكنها تشرح الصدر بعد أن تغرق القلب والعيون دموعا. تعلمت منهن الإيمان والحب. فلعل ذلك الإيمان الذي ينبض في قلوبهن جميعا هو منبع ذلك النور الذي يعلو محياهن كلما تقدمن في السن، ولعل ذلك الحب الذي يقدمنه دون مقابل رغم قساوة الحياة هو ما يجعل منهن نساء رائعات ومختلفات. لا فرق بين نساء العالم سوى قدرتهم على منح الحب بدون مقابل. 
لم أشعر من قبل بهذا القدر من الفخر لأنني امرأة، لكنني شعرت به عندما سمعتهن يحكين بدون حرج عن معاركهن الضارية مع الحياة: زوج خان العشرة، سرطان لا يرحم، موت غادر، موت رفيق الدرب، فقر مدقع، تضحية تلامس الخيال... وكيف تغلبن على كل المصائب بالإيمان والعمل والاجتهاد والصبر والمثابرة والعزيمة، بالكرم والطيبة. رأيت فيهن أحلامي وأحلام الكثيرات من الفتيات الشابات اللواتي أضعن طريقهن ويشعرن بالإحباط والاكتئاب حتى قبل أن يبدأن المعركة الحقيقية مع الحياة. رأيت في عيونهن الأمل والكرم اللامشروط والقوة والحب والليونة والإصرار من أجل كسر أصنام الجهل والظلم وكل ما يمكن أن يثني امرأة عن تحقيق أحلامها والسير بأسرتها إلى بر الأمان. رغم مساوئ المواقع الاجتماعية الكثيرة إلا أن مجموعة كهذه تزرع في المتصفح الحماس لتغيير وضعيته إلى الأفضل وتبعث فيه روحا جديدة من الإرادة والعزيمة والإيمان بأن غدا سيكون أفضل وذلك هو كل ما يحتاجه الشخص من أجل السير قدما ولو كان مشواره محفوفا بالجمر.

الثلاثاء، 4 سبتمبر 2018

صحبة



اختر رفقة تصحبك العمر كله
تعطيهم ويعطونك .. يأخذون منك وتأخذ منهم
تتفقون ، تختلفون ، تتعاتبون .
ثم تضحكون على ذلك معاً آخر كل نهار !
( رفقة تسمع حكاياتهم للمرة الألف ولا تتذمر )
اختر رفقة لا تهجرك بعد سنوات ، رفقة دافئة تعايرها بالشيب وتعايرك بتجاعيد الزمان
اختر رفقة يفرحون لفرحك ، ويحزنون لحزنك ، ويردون غيبتك و يسترون عيبك بلا خوف من أنك ستمضي وحيداً .