أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 8 نوفمبر 2009

خطبة 1 : محطات من الذكريات


                                                


       الخطبة الأولى، الهدف: كسر الجمود

مـحـطّـات من الذكـريـات

...كنت أظن أن الوقوف بين يدي الجمهور والحديث عن نفسي أمر سهل؛ ذلك أنني قد أكون أكثر الناس علماً بنفسي، إلا أن هذا الأمر – التحضير للخطبة الأولى في توستماسترز- أخذ من تفكيري وقتاً، عندما أدركتُ أن الحديث عن النفس أمام الآخرين قد لا يكون كذلك أبداً !

لهذا فكرتُ أن خطبتي الأولى أمامكم - أيها المستمعون- قد يكون مناسباً فيها أن نجعل الحديث على نحوٍ يختصر سيرة الإنسان في دقائق معدودات؛ وذلك بالحديث عن الطفولة والشباب، وربما أحدثكم لاحقاً -إنْ طال العمرُ بنا- عن مراحل أخرى بإذن الله.

فأنا مولودة في إربد شمال الأردن، لكني عشت حياتي في العاصمة عمان، مكان استقرار الوالديْن للعمل. وأنا البنت الكبرى بين خمسة: أخت واحدة وثلاثة إخوة، عشت طفولة ربما تكون عادية جدا أو فوق عادية، وما أزال أحتفظ بذكريات طيبة منها.

ما هو عالق بذهني حتى الآن من تلك الطفولة هو شهادتي المدرسية للصف الأول الابتدائي، التي فقدتُها للأسف -لا أدري أين؟؟- وما تزال تلك الشهادة مطبوعة صورتها في ذاكرتي، وكلمات معلمتي التي تمتدح فيها اجتهادي.

ومن الأشياء المتصلة بالمدرسة الاستيقاظ مبكراً للذهاب، وكان من طقوس الصباح الاستماع إلى برامج الإذاعة الأردنية الصباحية خاصة برنامج "أخي المزارع"! وما زالت أمي –حفظها الله- مع مئات المحطات الفضائية والأرضية التي ملأت الدنيا، ثابتةً على تقاليدها في الاستماع للإذاعة الأردنية.

... ومن الطفولة أشياء أخرى بطبيعة الحال لا تمحوها الأيام، كذكريات اللعب والأوقات اللاهية مع إخوتي والجيران في البناية التي كنا نسكن.

وأذكر أنني كنت أحب القراءة والكتب والأوراق...وكل ما له بها صلة، وكنت أسمع التعليقات من جدتي –رحمها الله- وتسمّيني "الشيخ علي"! وهي التي لم تكن تطيق البنات، فكيف إذا كُنّ كذلك ميّالاتٍ إلى الورق والأقلام؟! ..وكبرتُ وأنا أجد في الكتاب والمطالعة رفقة ممتعة طيبة، أقرأ الجريدة منذ أن كنت في الابتدائية، وسمعت مرة جارتنا وهي تقول لابنها وهو في عمري: انظر إلى رشأ تقرأ الجريدة وأنت لا تجيد حتى قراءة دروسك!

..كانت الرحلة الأسبوعية من عمان إلى إربد لقضاء إجازة نهاية الأسبوع – فرصةً للالتقاء ليس بالأقارب فقط، بل وبالكتب في بيت جدي لأبي وفي بيت جدي لأمي، والمكتبة في كل بيت منهما لها مذاقها الخاص: هنا الروايات والكتب الثقافية العامة والكتب الدينية العتيقة ذات الأوراق الصفراء، وهناك المجلات والكتب السياسية القومية والثورية. أما في بيتنا فالمجلات النسائية وغيرها من الدوريات: "حواء" من مصر، و"الشبكة" وأخواتها من لبنان، و "العربي" من الكويت، وعدد من الكتب التراثية المتنوعة.

...وكان استماعي للراديو جزءاً مهماً من ثقافتي وحياتي وأنا مراهِقة، خاصة الاستماع لمحطة "مونت كارلو" في باريس، ولم تكن هذه المحطة معتادة في بيتنا، فقد كانت المحطة "صرعة" ومبهرة للشباب العربي في حينه، وفتحت آفاقا كبيرة أمامي لأنها محطة عالمية.        

...وفي الثانوية العامة اكتشفتُ أنني متفوقة على زميلاتي، وحصلت على المرتبة الأولى في الشعبة الوحيدة في مدرستي، ودخلت الجامعة الأردنية لأدرس الأدب الإنجليزي بتشجيعٍ – لا بإجبار- من الأهل. وكان الطالب يأخذ في الفصل الأول في الجامعة مجموعة من المواد العامة من متطلبات الجامعة أو الكلية، ليختار فيما بعد التخصص الذي يرغب في دراسته مستقبلا. ولما وجدتُ أنني متفوقة في بعض مواد اللغة العربية التي درستُها في الفصل الأول، فكرتُ في أن لا أستمر بدراسة الأدب الإنجليزي؛ حتى لا أكون في مرتبة متأخرة عن زملائي في ذلك التخصص، وأكثرهم من خرّيجي المدارس الأجنبية. ولكي أغيّر تخصص البعثة الدراسية التي كنتُ قد حصلت عليها من وزارة التعليم العالي، كان يجب عليّ أن أفشل في تحقيق متطلبات التخصص حتى توافق الوزارة على طلب التغيير. فتقدمت لامتحان القبول في التخصص الإنجليزي، وكان الامتحان مغامرة: فهو امتحان صعب جداً، قضيتُ في الامتحان أكثر بقليل من  نصف ساعة ثم خرجت، وسط دهشة مراقِب الامتحان الواضحة في عينيه، ودهشة الطلاب الخَـفِـيَّة، يقولون في سرّهم: إما أنْ تكون عبقرية، وإما أنها لا تعرف شيئا!! وفعلا نجحت في الرسوب بامتياز، وتمكنت من إقناع "التعليم العالي" بتغيير تخصص البعثة إلى دراسة اللغة العربية.

وكنت  -بحمد الله- مجتهدة في دراستي الجامعية إلى جانب أنشطة أخرى جامعية: فقد كنت عضوا في المرسم الجامعي أجد بين الألوان متنفّساً لأمارس الرسم، الهواية الموهبة التي أحببت، وبقيت أقوم بها حتى أنجبتُ أطفالي.. فتوقفت مع مشاغل البيت والأسرة.

أما المرحلة الثانية من حياتي فكانت بعد التخرج في الجامعة، والعمل ثم الزواج ثم الدراسات العليا، ثم إنجاب الأطفال والسفر والتنقل وتعاظم أعباء الحياة ومتطلبات البيت على عاتق الزوجة، بما قد يقتل روح الإنسان... لكن الشيء الوحيد الذي لم أنسَه طوال تلك السنوات هو الكتاب، وأنا أقرأ كثيرا لكني ربما أصبحتُ أنسى أكثر.

الخميس، 2 يوليو 2009

إسهامات عربية في مسيرة الاستشراق الأوروبي


منشور في الملحق الثقافي جريدة الاتحاد، (((الإمارات العربية المتحدة، عدد 103، الخميس 2/7/2009 صفحة 6-7

لئن كانت حركة الاستشراق والتوجه لدراسة اللغة العربية تضرب بجذورها أكثر من ألف عام، فإن الشائع أن هذه الحركة قد قامت بجهود أبناء أوروبا من العلماء المهتمين بدراسة اللغات الشرقية، والمستشرقين الذين اعتنوا بدراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية، إلا أن هؤلاء لم يكونوا دوماً بمعزل عن الاختلاط بأهل اللغة التي يدرسونها، وقد أفادوا من تواصلهم مع بعض العرب فوائد جمّة عادت عليهم وعلى أعمالهم بخير عظيم.
وقد كان "الحظُ السعيد" رفيقَ بعض المستشرقين الذين التقوا - في أثناء تحصيلهم العلمي وسعيهم لتعلُّم اللغة العربية- ببعض الناطقين بالعربية من أبنائها، كانوا خيرَ مُعينٍ لهم على إتقانها والتمكّن منها، مما بوَّأهم منزلةً مميزة كانت سبباً في ارتفاع نجمهم بين أترابهم.
وإذا ما كانت أقدارُ المستشرقين قد جمعتْهم أحياناً بهؤلاء من غير ترتيب، فإن بعض أبناء العرب كانت لهم إسهاماتٌ مقصودة ومخَطَّط لها في دعم ميدان الاستشراق والدراسات العربية في أوروبا، تتجلى في الأعمال التي قدّمها عددٌ من الرهبان من أبناء المشرق الذين تنقلوا في البلاد الأوروبية في أثناء خدماتهم الدينية، وعملوا في مجالات متعددة منها: تدريس اللغة العربية، وجمع المخطوطات الشرقية وفهرستها والتعريف بها، ومساعدة المستشرقين في قراءة النصوص العربية.
***
وتحكي سِيَرُ المستشرقين قصصَ اللقاءات التي جمَعَتْهم ببعض أبناء العربية ممن أسهموا في دفعهم قدُماً على طريق إتقان اللغة العربية: فقد كان ريموند لول (ت1316م) ابن ميورقة الفيلسوف والمستشرق- قد تعلّم اللغة العربية وشيئاً من القرآن الكريم على أحد المسلمين الذين ضنَّت علينا المصادر بأخباره، وأمضى لول في دراستها على يديه تسع سنوات، مكَّنتْه فيما بعد من التأليف باللغة العربية، وهو الذي لم يكن يتقن اللاتينية لغة العلم في زمانه.
وكان ولعه بتعلّم اللغة العربية شديداً بصفتها اللغة التي يريد بها محاربةَ الإسلام نفسِه، وما زال لول يسعى لدى الكنيسة وملوك أوروبا في بيان أهميتها حتى تكلل سعيه بالمرسوم الكنَسي الصادر عن مجمع فيينّا سنة 1312 الذي أقرَّ فيه البابا تدريسَ اللغات الشرقية ومنها العربية في أربع جامعات هي: باريس وأكسفورد وبولون وشلمنقة، لتبدأ بذلك المسيرةُ الرسمية - إن جاز التعبير- لدراسة اللغة العربية في أوروبا.
***
وكان وجودُ أبناء اللسان العربي مظهراً مهماً في الأنشطة الاستشراقية المختلفة منذ الإسهامات الأولى التي قامت بها مدرسة المترجمين في طليطلة في الأندلس بمساعدة الناطقين بالعربية: فقد كان بطرس المحترم (ت1156م) يعمل على ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية، التي ظهرت سنة 1143، وأوكل المهمةَ إلى مجموعة من المترجمين وجعل معهم واحداً من الأندلسيين -لا نعرف عنه إلا أنه يدعى محمداً- ليقوم بمراجعة الترجمة على النص القرآني، أو ليكون وسيطاً في الترجمة: على ما كانت عليه العادة في ذلك الوقت بأن يترجِم الأندلسيُّ القرآنَ من العربية إلى الإسبانية العامية، ثم يتولى الآخرون الترجمةَ منها إلى اللاتينية.
وكان الإسباني بدرو دي ألكالا الذي كُلِّف بعد سقوط غرناطة بيد الإسبان (سنة 1492) بوضع قاموس عربي-إسباني قد استعان بعدد من العلماء المسلمين، أو على حد قوله بمن سمّاهم "الفقهاء العلماء المحترمين" ممن يتقنون اللهجة العربية الغرناطية؛ ليساعدوه في إنجاز ذلك المعجم، الذي ظهر مطبوعاً سنة 1505.
***  
كانت إيطاليا والفاتيكان تحديداً هي المكان الذي أفاد جيداً من أبناء المنطقة العربية في دعم الدراسات العربية في أوروبا؛ فقد حمل بعضُ القراصنة إلى روما أسيراً عربياً مسلماً وقع بأيديهم قرب جزيرة جربة في مياه المتوسط - ومعه كتبٌ وأوراق دَوَّنَ فيها أخبارَ رحلته التي تيسَّرت له في ديار الحج والبلاد الأفريقية- وكان القراصنة قد توسَّموا في هذا الأسير أمارات العلم ورفعة الشأن فحملوه للبابا ليون العاشر هديةً، وكان هذا البابا من أهل العلوم، فوجد في الأسير -الحسن بن محمد الوزّان الفاسيّ (ت1552)- كنزاً لا يقدَّر بثمن، فعلَّمه اللاتينية واللغات الأوروبية لينتفع بعلمه، وسمح له بالاطلاع على المخطوطات العربية في مكتبة الفاتيكان.
وهكذا أمضى ليون الأفريقي - وهو الاسم الذي اشتهر به الوزان فيما بعد - سنوات إقامته في إيطاليا ما بين تدريس اللغة العربية وتصنيف الكتب التي كان منها: "وصف أفريقية"، الذي ظل لعدة قرون المصدر الأول للأوروبيين حول أفريقية، وقام كذلك بسفارات عدة باسم البابا إلى ملك فرنسا وإلى السلطان العثماني.
***  
وفي الفاتيكان كذلك قام إبراهيم الحاقلاني (ت1664) بتدريس العربية والسريانية في معهد التبشير والدعوة في روما، وعمل مترجماً لدى البابا، وكانت له مشاركة في إعداد الترجمة العربية والسريانية للكتاب المقدس (الطبعة متعددة اللغات) بين الأعوام 1629و1646. وقد عمل في مكتبة الفاتيكان أميناً لمخطوطاتها السريانية والعربية.
وكان جبرايل الصهيوني (ت1648) من طلاب الدفعة الأولى في الكلية المارونية التي أنشأها البابا في روما سنة 1584، وقد درَّس العربية والسريانية في جامعة روما، ثم استدعاه ملك فرنسا مترجماً في بلاطه سنة 1614، وكان الصهيوني أول أستاذ يشغل كرسي العربية والسريانية في الـ "كوليج دي فرانس".
***
ومن بين الذين أفاد منهم المستشرقون في تعلُّم اللغة العربية كان المصري يوسف أبو ذقن (ت1643) أحد أعيان الأقباط، الذي رحل إلى روما في 1595، وتجول في البلدان الأوروبية ومنها فرنسا وإنجلترا، وأفاد من إقامته في تلك البلاد مستشرقون أخذوا عنه العربيةَ ولكن بالعامية المصرية؛ لأنه لم يكن يجيد الفصيحة: فقد أفاد منه الهولندي توماس إربينوس (ت1624) الذي التقى بأبي ذقن في باريس سنة 1609، وقد مكَّنتْه الدروس التي تلقّاها على يديه من أن يكتب رسالةً إلى أستاذه المستشرق الإنجليزي وليم بدْويل (ت1632) باللغة العربية.
ثم رتب القدَرُ لإربينوس لقاءً آخر بواحدٍ من أبناء العروبة والإسلام، وهو الأندلسي الموريسكي أحمد بن قاسم ابن الحَجَري (ت1638) صاحب كتاب "ناصر الدين على القوم الكافرين" ، الذي وجد إربينوس برفقته - في باريس سنة 1611- فرصة ذهبية لكي يتمرس باللسان العربي أفضل من ذي قبل، فأخذ يدرس عليه العربية الفصيحة حتى أتقنها، وعرف منه الكثير عن الإسلام والسُنّة النبوية.
ولقي المصريُّ يوسف أبو ذقن في إنجلترا ترحيباً من المستشرق الإنجليزي وليم بدويل، ثم ارتحل إلى أكسفورد وأمضى فيها ثلاث سنوات من 1610-1613 كان في أثنائها يعطي دروساً في تعليم اللغة العربية باللهجة العامية المصرية، حتى لَيمكننا أن نعده أول من قام فعلياً بتدريس اللغة العربية هناك.
***
أما الحضور العربي الواضح في مسيرة الاستشراق فيتجلى في مشاركة الرهبان اللبنانيين في بعض الأعمال المهمة في ميدان الاستشراق، وريادتهم ميدان فهرسة المخطوطات الشرقية في المكتبات الأوروبية.
وكان لعائلة السمعاني من بين هؤلاء نصيب، فقد اشتُهر نفرٌ منهم في تدريس اللغة العربية والسريانية، إذ كانوا غالباً ما يتعلمون في روما ويعملون في بلادهم، ثم يعودون أدراجهم من جديد إلى روما للعمل والاستقرار، حيث يجد المستشرقون فرصةً للإفادة من مواهبهم، التي يبدو أنها كانت مطلوبة في دوائر الاستشراق في أوروبا.
فقد أُرسل يوسف السمعاني (ت1768) إلى مصر من قبل البابا للحصول على المخطوطات، وقد عاد من مهمته بمجموعة من المخطوطات السريانية والعبرية واليونانية، فعيّنه البابا مديراً لمكتبة الفاتيكان، ثم اشترك مع ابن أخته اسطفان السمعاني (ت1782) في فهرسة مخطوطاتها. وقد أصبح اسطفان أميناً للمكتبة بعد وفاة خاله يوسف السمعاني. وعندما أنشأ فرديناندو دي مديتشي (المكتبة المديتشية) في فلورنسة ابتاع لها المخطوطات من الشرق وقام على فهرستها اسطفان السمعاني، وصدر الفهرس في فلورنسة سنة 1742، بعنوان: فهرس المخطوطات الشرقية في المكتبة المديتشية، ويقع في 492 صفحة. كما قام بفهرسة مخطوطات شرقية في مكتباتٍ إيطالية أخرى. وقام سمعان السمعاني بفهرسة المخطوطات الشرقية في مكتبة نانيا في مجلديْن صدرا في (بادوفا) سنة 1787 و1792.
وتشير المصادر إلى أن عدداً من المطابع الشرقية التي أُنشئت في أوروبا كانت إدارتها من نصيب بعض أبناء البلاد العربية، ومنها: "المطبعة السريانية" التي أسسها ميخائيل الطوشي وإبراهيم الغزيري في رومة سنة 1696، و"المطبعة الشرقية الغربية" التي أسسها يعقوب قمر في رومة 1595. و"المطبعة المديتشية" التي تولى بطرس مبارك إدارتها في القرن السابع عشر.
***
وكان ميخائيل الغزيري (ت1790) أشهر أبناء اللسان العربي الذين أسهموا في تقدم الدراسات العربية في أوروبا؛ إذ كان عمله إيذاناً بميلاد ميدان الدراسات الأندلسية، وهو الذي فتح الباب واسعاً أمام الباحثين في تراث الأندلس الزاخر؛ فقد عمل الغزيري في بلاط الملك الإسباني، الذي عهد إليه بالعناية بالمخطوطات العربية في مكتبة دير الإسكوريال، وكانت مقتنيات المكتبة فيما مضى من الكتب العربية ضئيلة إلى أن سنحت فرصة استيلاء القراصنة على سفينةٍ للسلطان زيدان بن المنصور السعدي سنة 1611 كانت تحمل متاعه، وفيه مكتبته التي احتوت بضعة آلاف من الكتب العربية المخطوطة.
قام ميخائيل الغزيري بفهرسة المخطوطات العربية في الإسكوريال، وظهرت نتائج عمله في الفهرس الذي صدر في مدريد بين 1760-1770، بعنوان" المكتبة العربية في الإسكوريال"  وقدم فيه مادة غزيرة عن تاريخ المسلمين في الأندلس وتراثهم الأدبي لم تكن معروفة من قبل للباحثين الأوروبيين، وقد اهتم الغزيري في هذا الفهرس بالحديث عن مضمون المخطوطات الموجودة وعرض مقتبسات طويلة منها أحياناً، مكَّنتْ الباحثين والمهتمين من الاطّلاع على التراث العربي في الأندلس الذي لم يكن مطروقاً من قبل، وكان لهذا العمل أثره البيّن فيما بعد في الاهتمام بالدراسات الأندلسية ضمن سياق اهتمام الأوروبيين بالتراث العربي الإسلامي.
*** 
إنّ هذه الأعمال وغيرها تقدِّم مثالاً على إسهامات أبناء العربية أنفسهم في مسيرة الاستشراق الأوروبي، وإنه مما لا يغيب عن عين الملاحِظ أن معظم الأعمال التي قدَّمها أبناءُ العربية في مسيرة الاستشراق الأوروبي قد صدرت عن أبناء الطوائف المسيحية في المجتمع العربي، الذين كانت إسهاماتهم متجهةً صوب شؤون تلك الطوائف التي أولتْها الكنيسةُ الأوروبية اهتماماً خاصاً، أكثر من اتجاههم نحو العناية باللغة العربية نفسها.  فهل من الممكن أن تضاف هذه الإسهامات إلى عداد الأعمال التي قامت على دعم دراسة اللغة العربية وتقوية أسبابها في أوروبا؟ وهل قدّمت شيئاً في سبيل فهمٍ أفضل بين الشرق والغرب؟  لكن هذه التساؤلات لا تنفي الجانب الآخر من الصورة التي يتضح فيها جهدُ هؤلاء في مجال تعليم اللغة لطلاب العربية من المستشرقين والمهتمين بالشرق في أوروبا، الذين بذلوا في سبيلها سنواتٍ من أعمارهم بغض النظر عن الأغراض التي كانت باعثاً أو حافزاً يغذي طموحاتهم.
***
من مصادر سِيَر المستشرقين (بالعربية):
  1. بدوي، عبد الرحمن (1984). موسوعة المستشرقين، (ط1)، بيروت: دار العلم للملايين.
  2. العقيقي، نجيب (1980). المستشرقون، 3 أجزاء، (ط4)، القاهرة: دار المعارف.


الخميس، 19 فبراير 2009

"رحلة إلى مكة"..عين على الاستشراق وعين على التكنولوجيا

صورةٌ ذات تقنيات تصويرية متقدمة جداً، وعرضٌ سينمائي باهر يأخذ بالألباب، ويجعلك تشعر وكأنك في الصورة نفسها المعروضة أمامك على الشاشة، وأصواتٌ وتفاصيلُ دقيقة جداً تتيحها الصورة الرقمية البديعة فتجعلك جميعها جزءاً من المشهد في تجربة سينمائية مثيرة.
ذلك هو العرض الذي تمّ في أبوظبي الشهر الماضي للفيلم العالمي "رحلة إلى مكة" (من إخراج بروس نيبور وإنتاج "كوزميتيك بيكتشر" و"أس كاي فيلمز") الذي صُوِّر بتقنية "آي ماكس" الفائقة الوضوح، في فرصة مميزة قدمتها "شركة أبو ظبي للإعلام" للجمهور في العاصمة الإماراتية لحضور هذه التجربة السينمائية الفريدة حقاً ، التي تمثل طريق الرحالة الشهير ابن بطوطة محمد بن عبدالله اللّواتي (703-779هـ) لأداء مناسك الحج في رحلته من بلده طنجة سنة 725هـ/1325م التي كانت على رَسْم الصوفية زياً وسجية.
لكن ماذا وراء الصورة ؟ فهذه التجربة السينمائية - التي تتيح للمشاهد أن يكون في حضرةِ فيلمٍ ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين من حيث إنتاجه وتقنياته - هل تختلف عن الصورة التي أنتجها الأوروبيون أنفسهم في القرون الوسطى، وفي القرون التي ازدهرت فيها أدبيات الرحلة وازدانت فيها المؤلفات الاستشراقية بالرسوم التي صوَّرت سحر الشرق وروعته؟
إنّ الصورة المتحركة في الفيلم تكاد لا تختلف عن سابقتها الساكنة على الصفحات: فصورة العربي المهلهل قاطع الطريق، وصورة الطبيعة الشرقية الصحراوية، برمالها التي تغمر المكان وبجفافها القاسي يغمر القلب والوجدان، هي هي.. لم تتغير.
إن الفيلم بصورته ذات التقنية فائقة الوضوح، لم يلتقط من الأماكن والمدن التي زارها الرحالة سوى الرمال ثم الرمال، ووعورة المسالك وجفاف الأرض، وأغفل "سيناريو" الفيلم أن الرحلة التي قام بها ابن بطوطة وسار بها في طريق الساحل الشمالي الأفريقي- قد توقف في أثنائها في مدن عديدة عامرة بالحياة، وعامرة بأحلام الناس وأعمالهم وتفاصيل حياتهم اليومية وحركتهم الدؤوب.
لم تلتقط عينُ الكاميرا خصوبة بعض المدن العربية التي زارها الرحالة؛ فدمشق التي زارها ابن بطوطة كانت في الفيلم قطعةً من الصحراء، دمشق التي يشقها بردى بعذوبة مائه وتحفُّها الغوطة بأشجارها وأطيارها وأثمارها! دمشق التي قال عنها ابن جبير قبل زيارة ابن بطوطة : "إن كانت الجنةُ في الأرض فدمشقُ لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامِتُها وتُحاذيها".
لم يعرض الفيلم من الرحلة إلى المدن العربية سوى قطْع الطريق، وشعثاً من الناس لا يجمعهم جامع، ومشاهد باهتة للأسواق والبضائع..
لم يلتقط الفيلم جوهر الرحلة: رحلة الحج (حلم المسلمين في ديار الإسلام المتـنائية) التي كانت تحمل في جرثومتها سر ازدهار العلوم والحضارة على امتداد رقعة البلاد الإسلامية، تلك الرحلة التي كان الوقوفُ فيها في المدن العربية يأخذ منحىً آخر أغفله الفيلم، ألا وهو طلب العلم وسماع الشيوخ وتحصيل الإجازات…وغيرها من وسائل أتاحت للعلم العربي أن ينتشر، وللعلماء المسلمين أن يتبادلوا المعارف والخبرات، فقد سمع مثلاً ابن بطوطة في دمشق صحيح البخاري وذكر أسماء الشيوخ الذين أجازوه من أهلها.
كما لم يلتقط الفيلم روح القرار والجوار في الأماكن المقدسة، التي كان يسعى إليها كثيرون في تلك الأيام ممن حلموا بزيارة الأماكن المقدسة - ومنهم ابن بطوطة نفسه - ونعموا بزيارة بيت الله الحرام بعد شهور طويلة من السفر يقطعونها لا ليقيموا قليلاً ثم يرتحلون، بل ليقيموا ويجاوروا ببيت الله الحرام ومسجد نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ما أتيح لهم الجوار والقرار، في رحلة قد لا تتكرر في العمر إلا مرة واحدة.
…كل هذا وغيره من أسرار الرحلة رحلة الحج أغفلتْها مشاهد الفيلم، التي احتفلت الكاميرا فيها بمشاهد الطبيعة الصحراوية الممتدة القاسية، والعواصف الرملية الغبراء، وأشعة الشمس اللاهبة، تلك المَشاهد التي تزيد من رسوخ الصورة النمطية للعربي المسلم: يعاني قسوة البيئة فيخمل، ولا يرتفع له شأن في الحضارة والمدنية.
احتفل الفيلم ببراعة التصوير الأخّاذ وتقنياته الرقمية المتقدمة، التي أتاحت للمشاهد صورة فريدة للبيت الحرام ولمناسك الحج وطريق الرحلة.. وشعوراً غامراً مثيراً قد لا يشعر بروعته حتى لو كان هناك وشاهد معالم الرحلة بأم عينيه، لكن الاحتفال ببراعة التصوير وسرعة المَشاهِد، وضخامة المؤثرات الفنية المبذولة في العمل من جهة- جعل القائمين عليه يغفلون عن جوانب أخرى من جوهر الرحلة إلى مكة وما قد تعنيه للمُشاهد المسلم الذي قد يكون على الرغم من نجاح الفيلم فنياً وتقنياً مخيباً لآماله! في حين أنه للمشاهد غير المسلم - خاصة من أهل الغرب - يعيد إنتاج الصورة نفسها التي أُنتِجت من قبلُ فيما كتبه المستشرقون والرحالة الأوروبيون عن المسلمين منذ قرون.
على أنه تجدر الإشارة إلى أننا لا نحمِّل الفيلم ما لا يطيق، وهو الذي سعى إلى تصوير رحلة الحج وأداء المناسك وإقامة الشعائر المقدسة في تلك الأيام المعدودات من عمر كل مسلم، في صورة رائعة تجمع الماضي بالحاضر، وتترك أثراً في النفس لا يمحى بفضل ثقافة العصر ثقافة الصورة. وقد نجح الفيلم في مسعاه، فكان أنْ غرس اللهفةَ لمعانقة البيت الحرام ورؤية الكعبة المشرفة في قلوب من تهفو أنفسهم إلى ملاقاتها.