أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

الاحتفال بتكريم أ.د ناصر الدين الأسد في اليوم العالمي للغة العربية


سعدتُ ضحى الخميس 18/12/2014 بحضور الاحتفال الذي أقيم على مسرح كلية الاقتصاد في رحاب جامعة الزيتونة الأردنية؛ تكريماً لشيخ العربية وأحد سَدَنتها العِظام، أستاذنا العلّامة أ.د ناصر الدين الأسد، الاحتفال الذي نظّمه قسمُ اللغة العربية في كلية الآداب في الجامعة.

وكانت أثلجت صدري تلك اللحظاتُ؛ إذ مازال في الدنيا خير؛ وفاءً وتقديراً لمن أنفقوا حياتهم في سبيل العربية وفي سبُل أخرى من أجل حياةٍ أفضل للعلم وأهلِه في الأردن. وقد أبلى الزملاءُ القائمون على الحفل بلاءً رائعاً بتعاونٍ من طلبتنا المتميزين، مما جعلنا نستمتع بساعتين كان مرورُهما برداً وسلاماً على الأكباد!
*****
اعتدنا في محافل تكريم العلماء أن تُلقَى في حضرة الشيخ المكرَّم كلماتٌ تحاول على الملأ أن تفيَهُ حقَّه عرفاناً لما أمضى فيه عمرَه في سبيلِ مسألةٍ نذر نفسَه وحياتَه و كُــلَّه- من أجلها, وهي كلماتٌ لو يعلم قائلوها موقَعها في قلوب أولئك المكرَّمين؛ إذ نعلمُ تماماً أنهم لا يسعون إلى هاتيك الكلمات سعياً مقصوداً؛ فالذي ينذر نفسه صادقاً مخلصاً لمسألة، لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكورا. لكنّ الرائع في الكلمات التي أُلقيت في حضرة شيخ العربية كانت من الروعة، بحيث أظنها لامست شغاف قلوب الحاضرين، وتركت شيئاً في نفوسهم لا ينقضي.
ومن هذا الذي كان في نفسي وأظنه لا ينقضي منها، أنَّ الكلمات التي أُلقيت في تكريم شيخنا الكبير قد تفاوتت بتفاوت مقاديرِ أصحابِها من الحياة: فالعفويةُ ما فارقتْ كلماتِ الأساتذة الكبار، والهيبة والجلالة أبتْ ألّا تغادر كلماتِ التلاميذ، وعلى ذلك وقعت كلماتُ الأساتذةِ موقعاً في القلب لا يُنسَى؛ إذ جاءت عفويةً صادقةً فيها من المحبة والألفة التي تتولد بين التلميذ وشيخه على مرِّ الزمن مما لا يعرفه إلا مَنْ يعانيه ويتذوقه، وفيها من التقدير الذي يكبر ويكبر في قلوب التلاميذ سنةً وراء أخرى تجاه أساتذتهم.
*****
وكان مما جرى على ألسنتهم ذكرياتٌ ما فارقت أخيلة أولئك الأساتذة في لقاءاتهم الأولى مع شيخنا جميعا الأستاذ ناصر الدين الأسد، فكانت الذكرى الأولى للقاء أ.د محمد الوحش في امتحانه الأول الذي أجراه بين يديّ أستاذه، وكان قد تعلّم منه درساً ما نسيه على امتداد العمر، درساً جعله لا يُهمل ما يستهينُ به الناس إلا مَن رحم ربي: جعله لا يستهينُ بهذا الشيء الذي هو: همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة !! نعم همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة، وإنهما لأمرٌ – لو يعلم الناسُ- جليل في لغتنا العربية.
ومما كان من ذكريات أ.د. سمير قطامي إفشاءُ سرِّ الشيكولاته السويسرية الفاخرة، التي اعتاد أستاذُنا الكبير تقديمها لضيوفه العابرين عليه في مكتبه، وهذا شيء لا يعرف مذاقه إلا الطلبة حين يلتصقون بأساتذتهم في مراحل الدراسات العليا حين يحظَون منهم بصحبةٍ مختلفةٍ عما عهدوه سابقا على مقاعد الدرس في المرحلة الجامعية الأولى؛ إذ إن الجلوس في حضرة الأستاذ في مكتبه في تلك المساحة القليلة وذلك الدفء الأبوي يجعل التلميذ يحلِّق في أجواء جديدة، حتى ليغدو كوبُ الشاي هناك وبين يديه ألذَّ من الشَّهد المُصَفّى، فكيف لو كانت شيكولاته سويسرية فاخرة ؟ وهل هناك شيكولاته سويسرية غير فاخرة ؟!!  
********
كما أمتعتْــنا عريفةُ الاحتفال د. صبحة علقم بانتقائها الأنيق الرقيق لأبياتٍ من الأشعار التي غزلها أستاذُنا لرفيقةِ دربه ( أم بشر)، حين أهداها في ذكرى زواجهما الستين (همس وبَوْح) من شعر ناصر الدين، بغلافٍ لازَوَرْديٍّ.. بلونِ البحر.. وبلونِ الصفاء.. وبلونِ الوفاء.. الوفاء لرفيقة الدرب الطويل.. الوفاء لرفيقة الليالي الحالكات ورفيقةِ النهاراتِ المشرقات.. حتى استوى لنا أستاذُنا د. ناصر الدين على ما تشتهي النفوس وتتوق القلوب:
( كلُّ ما قلتُ وما لم أقلِ              هو من وحْيِ سَناكِ الأجملِ
أنتِ فجَّرتِ ينابيعَ الهوى             وأسَـــلْتِ الشعرَ في قلبي الخلي
أملي ستونَ أخرى بعدَها             حقَّقَ اللهُ عـلـــــــــينا... أمـــلي
سيظلُّ الحبُّ والشعرُ معاً            ملءَ قلبي.. لانتهاء الأجلِ )
******
وإنَّ المرءَ ليرى نفسَه في حضرة شيخنا فراشةً تتقافزُ لتقبسَ من وهجِ علمه، وتقبضَ على جمرات معرفته..... وبينما أنا أشفق على أستاذي أن أرى جسده الرقيق قد حنى ظهره وتغضَّنت بشرته، أعودُ بخيالي أنا الأخرى للذكرى الأولى للقاء شيخنا الكبير ذكرى لا تنمحي من خيالي.. حتى أنني هرعتُ إلى تلاميذي في المحاضرةِ التالية أقصُّ عليهم من أنبائه وأحدِّثهم من أخباره، مما ما زلتُ أفاخرُ به وأفتخر: أنْ كنتُ واحدةً من التلاميذ الذين مرّوا عليه وتتلمذوا بين يديه.
تعود بي الذاكرةُ القهقرى، لتسعة أعوامٍ خلت، وأراني في اليوم الأول من العام الدراسي الذي التحقتُ فيه بدراسة الدكتوراه، وكانت المحاضرة الأولى التي أذهب إليها هي مادة الأدب الجاهلي، التي يُلقي دروسَها على مسامع الطلبة الأستاذ الدكتور ناصر الدين، ولما كنتُ منقطعةً منذ مدة عن السير في شارع الجامعة الأردنية، وبيتي قريبٌ منها، فقد ذهبتُ قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فقط، لأعْلَق في زحمةٍ مروريةٍ اضطرتني - وأنا التي أحب قيادة السيارة بسرعة- إلى السير بسرعة 20كم، فوصلتُ مكتب الأستاذ -حيث تنعقد المحاضرة- متأخرةً نحو عشر دقائق، كلَّفتْني غاليا: نوعاً من التأنيب والتذكير بأهمية الانضباط والالتزام بالوقت، فكان لقائي الأول بعلّامتنا لقاءً مُخجِلاً لي بيني وبين نفسي لا يزول منها حتى اليوم، هذا مع أنني تمكَّنتُ بحمد الله بعدها بمدة وجيزةٍ من أحظى بتقديره وثنائه على طالبةٍ متميزة من بين طلبته، حتى كان أنْ ظفرتُ منه بهديةٍ لم يظفر بها غيري من طلبته، كانت الهديةُ نسخةً من كتاب د.عبدالرحمن بدوي : دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي .. ولم أكن أدري حينها أن (المستشرقين) سيكونون قَدَري ورفاق رحلتي القادمة في أطروحة الدكتوراه !!  
وما زلتُ إلى اليوم أكررُ كلماتِ أستاذي ناصر الدين لطلبتي وأبنائي، حين كان يعلّقُ على لغتنا العربية الركيكة ويطلب منا الحديث بالفصيحة، فيداعبنا جادّاً: أفصِحي يا بنت!! وأفصِح يا ولد!!! وما زلتُ إلى اليوم معجبةً بذاكرتِه الشابة التي كانت تجعل مني في حضرته أشعرُ بأنني عجوز، وأخجلُ من ذاكرةٍ ضعيفة نوعاً ما حين تقابلُ ذاكرةَ أستاذِنا الكبير بتوقُّدها وَ حِدَّتها.
******
كانت لحظاتُ تكريمِ أستاذنا لحظاتٍ لا تصف روعتَها الكلماتُ، أحدثت في النفس ما كان وما سيبقى..
فهنيئا لنا وللعربية ولأهل العلم .. هاماتٍ تبقى لنا مناراتٍ ..
****




 

الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

ندوة ( لسان الدين بن الخطيب التراث الأندلسي المشترك وحوار الثقافات)

http://www.atf.org.jo/atf_news.php?id=280




وفد منتدى الفكر العربي من الأردن المشارك في الندوة الدولية في مدينة قرطبة بعنوان:
(لسان الدين بن الخطيب: التراث الأندلسي المشترك وحوار الثقافات).

الندوة الدولية: 

"لسان الدين ابن الخطيب والتراث الأندلسي المشترك:

حوار الثقافات"

الزيارات العلمية للمعالم التاريخية في الأندلس
(قرطبة/ إسبانيا؛ 18-22/11/2014)

قرطبة- في إطار التعاون العلمي القائم بين مؤسسة لسان الدين بن الخطيب للبحث والتعاون الثقافي بفاس في المغرب، ومؤسسة براديكما الإسبانية بقرطبة، ومنتدى الفكر العربي، شارك المنتدى بوفد ترأسه الأمين العام د. الصادق الفقيه في الندوة الدولية التي عقدت أعمالها في مدينتي لوشة وقرطبة بالأندلس/ إسبانيا، تحت عنوان "لسان الدين ابن الخطيب والتراث الأندلسي المشترك: حوار الثقافات"، خلال الفترة 18-22/11/2014 ، والتي شارك فيها أيضاً باحثون من المغرب وعدد من الباحثين والمستشرقين الإسبان، واشتملت على زيارات علمية لأشهر المعالم التاريخية الأندلسية في كل من: لوشة، وقرطبة، وغرناطة، والزهراء، وإشبيلية، وساهم في تنظيمها ودعم الأنشطة المرافقة لها جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، وجامعة كومبليتنسة بمدريد، وبلدية قرطبة، وبلدية لوشة، ومجموعة بحث مدن أندلسية تحت الإسلام بغرناطة، والجماعة الحضرية بفاس.  
وفي كلمته التقديمية لأعمال هذا اللقاء العلمي الكبير، قدم د. الصادق الفقيه الشكر للمؤسسات الإسبانية والمغربية التي ساهمت في إقامة اللقاء، ونقل إليهم تحيات صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال رئيس المنتدى وراعيه، مشيراً إلى أن هذه الرحلة على خطى ابن الخطيب وأعلام الفكر الأندلسي هي استعادة لتاريخ حافل بالأعمال الحضارية الجليلة بين المغرب والأندلس والمشرق، والمسافات التي تُقطَع ما هي إلا مسافات وصل للماضي بالحاضر نحو المستقبل، فالاتصال في هذا الوقت بالذات مطلوب كما كان في الماضي، بل مطلوب بأكثر موثوقية لأن فكر ابن الخطيب وأمثاله من أهل العلم في الأندلس يمثلون قيمة التعدد والمصالحة مع فكرة التعددية، وقد كانوا في إنتاجهم الفلسفي يتخذون الفلسفة موضوعاً وسبيلاً إلى الموضوعية، وبالتالي فإن رسالتهم تستخلص أهم ما نبحث عنه في عصرنا هذا من قيم التعدد والتواصل والحوار والتلاقي، التي ضلَّ عنها الناس، بما في ذلك البحث عن حقيقة الذات الإنسانية المعززة بقيم الحوار الثقافي ومساهمته الأكيدة في البناء الحضاري.
وكان أ. كايد هاشم، مساعد الأمين العام لمنتدى الفكر العربي قد ألقى كلمة بالإنابة في افتتاح الندوة في دار بلدية قرطبة، وبحضور كل من: عمدة مدينة قرطبة، ونائب عمدة مدينة فاس، ونائب والي جهة فاس بولمان، ورئيس مؤسسة ابن الخطيب د. محمد مزين، ومديرة مؤسسة براديكما الإسبانية دة. ماريا خيسوس فيكيرا، جاء فيها أنه "إذا كنا بوصفنا نُخباً مثقفة، ومؤسسات معنية بارتقاء الثقافة، وعقولاً أمينة على رسالة الفكر، فلن يغيب عن بالنا أن في مثل هذه اللقاءات تأكيد يستند إلى واقع تاريخي ندركه في التجربة الأندلسية أكثر من غيرنا، بحكم المشترك الحضاري في المحتوى والمضمون، وهو أن الحوار يظل، مهما كانت الظروف المحيطة به، الوسيلة الأسمى للعلاقات الصحيّة المتسمة بالتوازن والندية، ومبتدأ الطريق نحو إقرار المشترك الصالح بين البشر على اختلاف عقائدهم وأديانهم ومذاهبهم. وأضاف: ومع اعتزازنا بكل مشرقٍ في الماضي، واعترافنا بأن كل ماضٍ لا يخلو من الصراعات والنزاعات، إلا أننا عندما نتأمل مًنْ كان الأصلح للبقاء ليجمعنا للحديث فيه وعنه: النزاعات المادية أم الفكر؟ الحروب أم صروح الحضارة الباقية؟ المصالح الآنية المتضاربة أم الأخلاقيات والقيم المتأصلة في الإنسانية؟ واختتم كلمته بالقول إن الرهان على ثقافة المستقبل يرتبط بالقدرة على توطيد ركائز المشترك الثقافي الذي يتفاعل مع مشكلات الحاضر وتدارسها واستنباط الحلول لها، والمساهمة معاً في بلورة قيم الاحترام المتبادل بين الثقافات والشعوب.    
ضم وفد منتدى الفكر العربي أ.د. صلاح جرار، أستاذ الأدب الأندلسي في الجامعة الأردنية وعضو المنتدى، الذي ترأس إحدى جلسات المؤتمر، وقدم بحثاً رئيسياً حول الحركة العلمية في قرطبة في عصر الخلافة الأموية وعلاقتها بحوار الثقافات"، أبرز فيه عناية خلفاء بني أمية في الأندلس وملوك القسطنطينة وألمانيا وقشتالة كلّ بما لدى الطرف الآخر من كتب ومخطوطات وتبادلها وترجمتها، وكذلك اهتمام الأندلسيين وجيرانهم الأوروبيين بكتب الطب والهندسة والفلسفة بشكلٍ خاص، وانتشار كتب اليونان بين الأندلسيين والدول المجاورة للأندلس، وظهور الكتب باللغتين العربية واللاتينية، مما ساهم في التأسيس لقاعدة معرفية مشتركة أكدت أن العلم كان أساس التفاعل الثقافي وحوار الحضارات.
من جانبها قدمت دة. رشأ الخطيب، أستاذة الأدب العربي في جامعة الزيتونة والجامعة العربية المفتوحة والباحثة المتخصصة في الدراسات الأندلسية،  بحثاً تناول "جهود المستشرقين البريطانيين في التعريف بلسان الدين ابن الخطيب وأعماله"، مبينةً فيه مظاهر اهتمام هؤلاء المستشرقين بفكر ابن الخطيب مؤرخاً وفقيهاً وفيلسوفاً وسياسياً وأديباً وشاعراً، ولا سيما في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، باعتباره من أهم الشخصيات الفكرية في عصره التي كان لها أثر واضح في الحوار الثقافي بين الأندلس وأوروبا.
وشاركت د’ جودي البطاينة، أستاذة الأدب والنقد في جامعة جرش وعضو المنتدى، ببحث عنوانه "رؤية جديدة للخرجة في الموشحات الأندلسية: لسان الدين ابن الخطيب أنموذجاً"، رصدت فيه ملامح هذا الجانب الإبداعي في آثار ابن الخطيب الشاعر، وأوجه التشابه الفني واللغوي بين الموشح الأندلسي في الغناء عند الأندلسيين والغناء الشعبي في بلاد الشام، من خلال بعض نماذج التراث الأردني، وصلة ذلك بالشعر الغنائي العربي عموماً.

توقيع اتفاقية تعاون بين منتدى الفكر العربي ومؤسسة براديكما الإسبانية
من جهة أخرى، وقِّعت في قرطبة اتفاقية تعاون علمي بين منتدى الفكر العربي ممثلاً بأمينه العام د.الصادق الفقيه، ومؤسسة براديكما الإسبانية بقرطبة، التي مثتلها المستشرقة دة. ماريا خيسوس فيكيرا، المشرفة على المؤسسة وأستاذة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كومبليتنسة في مدريد، التي أعربت عن اعتزاز هذه المؤسسة الإسبانية المعنية بالحضارة والتاريخ الأندلسي بالاتفاقية التي تربطها بواحد من أهم المؤسسات العلمية والفكرية في العالم العربي، والتطلع إلى توسيع آفاق الحوار  والتعاون بين مراكز الدراسات العربية والإسبانية.
ونصَّت الاتفاقية على توثيق أواصر التعاون بين الجانبين في مجال البحوث وتنظيم أنشطة علمية مشتركة، وتبادل الزيارات بين الباحثين والأكاديميين ضمن هذا الإطار وبشكلٍ سنوي لإلقاء المحاضرات ضمن برنامج يتم الاتفاق عليه، وكذلك تبادل المنشورات والدراسات التي يصدرها الطرفان.


http://www.petra.gov.jo/Public_News/Nws_NewsDetails.aspx?Site_Id=2&lang=1&NewsID=174526&CatID=20&Type=Home&GType=1

الأحد، 26 أكتوبر 2014

نفثات قلب

حين تولَدُ نجمةٌ تحتَ الشمس...ثم يمحوها ظلام الغدر
حين يولَدُ وطنٌ في العينين .. ثم يموتُ فيهما
حين تركضُ الأحلامُ على أزرقِ المتوسط.... ثم يكون لقاءُ الروحِ قاتلَها
وحين تكونُ رقةُ الياسمين وتأتلقُ.... ثم يستحيلُ أزرقُ الياسمين سواداً يُعشي العيون
وحين تزهو عشتارُ ربَّةُ الجَمال.... ثم تفوحُ منها رائحةُ العفنِ تزكمُ الفضاء
وحين يحلِّقُ الفينيقُ كلَّ مرةٍ من جديد... ثم يموت على شاطئ آخر
حين ذاك كلِّه..
ندركُ أنَّ النورَ ليس له من اسمه نصيب !
حينَها ندركُ أنَّ النورَ إنّما هو ضلالٌ !
وأنَّ الوطنَ حقيبة !
وأنَّ الحبَّ يموتُ ويفنى !
وأنَّ النجمةَ يسرقُها كنعانُ، ويطفئُ نورَها في مستنقع!
وأنَّ الفينيقَ يُغتالُ تحتَ رمادِه... فلا يقوم !
وأنَّ الياسمينَ تُنْتَهَكُ طهارتُه كلَّ لحظةِ خيانة !
وأنَّ النورَ الذي نظنُّه يملأُ حياتَنا .. هو سرابٌ.. في كذبٍ .. في أوهام !
فسبحانَ مَن خلَق الحُبَّ ! وأعطى الوفاء !
وخلّق النورَ .. وجعل الطُّهْر !
وخلقَ القلوبَ .. وجعلَ اللهَ فيها !
فيا مقلِّب القلوبَ ثبِّت قلبي 

السبت، 20 سبتمبر 2014

(إطلالة على رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السّمّان)

تجرّأتْ غادة السّمّان وصمتت الأديبات العربيّات
(إطلالة على رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السّمّان)
بقلم د.سناء الشعلان
لقد تجرّأت غادة السّمّان على البوح في حين صمتت جُلّ النّساء العربيّات لاسيما الأديبات منهنّ دون أن يلوّحن بكلمة أو اعتراف أو بوح،وهذا ليس عيباً في حقّ النّساء أوالأديبات؛فشؤونهنّ الخاصّة هي ملكهنّ،لا ملك أحد غيرهنّ،ولهنّ أن يصرّحن بتفاصيلها،أو أن يقرّرن دفنها في الظّل،ولكن ما فعلته غادة السّمّان كان –دون شكّ- شجاعة خالصة من أديبة كبيرة،وكان ضرباً بقوّة وإصرار لشقّ طريق جديد في جبل صمت المرأة العربيّة،كما هو منهج جديد في أدب البوح تقوده غادة السّمّان بكلّ إصرار وعزم وشجاعة،في حين تحجم غيرها من الأديبات العربيّات عنه،فقد قامتْ بخطوة جريئة في المشهد الأدبيّ العربيّ عندما أقدمتْ على نشر رسائل غسّان كنفاني إليها،وهي إحدى عشرة رسالة عشقيّة كتبها غسّان كنفاني لها بخطّ يده،وهي الباقية من كثير غيرها قد احترق في حريق منزلها في بيروت في مطلع عام 1976،وإنّما النّاجي منها قد نجا لأنّ غادة السّمّان قد احتفظتْ به صدفة في منزلها في لندن،وعلى الرّغم من الرّدود الكثير والمتباينة حول هذه الخطوة إلاّ أنّ غادة السّمّان ظلّت متمسّكة بصواب قرارها بنشر هذه الرّسائل مصمّمة على أنّ هذه الرّسائل هي جزء من مجمل إنتاج غسّان كنفاني،وبذلك لا يجوز قتلها أو دفنها في السّر،وبنشرها لهذه الرّسائل لا تسيء له،بل تخلص له إنسانيّاً وإبداعيّاً على الرّغم من عاصفة الانتقادات التي رافقت نشر هذه الرّسائل التي عدّها البعض خطوة تآمريّة تهدف إلى أن تشوّه صورة غسّان كنفاني المبدع والإنسان والمناضل الفلسطينيّ.
وخطوتها هذه لاقت من ناحية أخرى استحسان الكثير من القرّاء والنّقاد من منطلق أنّ هذه الرّسائل هي جزء من مجمل الإنتاج الإبداعيّ لغسّان كنفاني،وهي ملك لغادة السّمّان،ولها أن تفعل بها ما تشاء،في إزاء موقف الرّافضين لنشر هذه الرّسائل الذين يرون أنّ الرّسائل الشّخصيّة ليست جزءاً حقيقيّاً من الإنتاج الإبداعيّ لأيّ مبدع كان.
والحقيقة التي علينا أن نعترف بها جميعاً،سواء أعجبنا موقف نشر هذه الرّسائل أم لا،أن نشرها قد فتح باباً جديداً في موضوع أدب الرّسائل الشّخصيّة المعاصرة،كما أنّه شكّل ريادة في انتهاج اتّجاه نشر هذا النّوع من الأدب،إلى جانب أنّه قد قادنا إلى التّعرف عن قرب على غسّان كنفاني الرّجل بعيداً عن هالة الكفاح والقضية والاستشهاد التي تحرمنا من أن نسوح في دواخل هذا الرّجل العاشق،لاسيما أن لا أحد منصفاً يستطيع أن ينفي علاقة الإبداع والتّشكيل الجّماليّ بالحالة الوجدانيّة والخبرة العاطفيّة وطقوس القلب وأحوال العشق.فمن له أن يقرأ هذه الرّسالة ثم لا يشعر بأنّه قد غدا أقرب من غسّان كنفاني؟وأنّه بات يعرفه أكثر؟ هذه الرّسائل لم تقلّل من شأن غسّان كنفاني كما يزعم البعض،بل إنّ فتح الأبواب على دواخل الإنسان حيث الرّقة والمحبة والجمال لا يمكن أن تورّث إلاّ المحبة والإعجاب والتّقدير والتّعاطف،وبخلاف ذلك لنا أن نزعم جزافاً واعتباطاً أنّ عشّاق التّاريخ جميعهم محتقرون في عيون العوام،والحقيقة التي يدركها الجميع أنّ هؤلاء غدوا –بلا منازع- رموزاً إنسانيّة خالدة تحظى بالتّقدير والمحبّة،وتستدعي معاني الإعجاب والاحتذاء والتّعاطف،فإن كان حال هؤلاء جميعاً هو على ما ذكرنا من تقدير،فلماذا يزعم البعض ممّن نصّبوا أنفسهم قضاة على قلب غسّان كنفاني، وقرّروا في لحظة حمق أن يحجروا على أحاسيسه ومشاعره،أنّ نشر رسائل حبّه فيه تقليل من مكانته وانتقاص من اعتباره؟ لم الكيل بمكيالين؟! لا أستطيع أن أفهم ذلك إلاّ من منطلق الإساءة المقصودة إلى غادة السّمان،وتعمّد مهاجمتها والتّقليل من شأنها واتّهامها بأسوأ التّهم بأيّ ذريعة كانت.
وهذه الرّسائل على الرّغم من قلّة عددها،وعدم اطلاعنا على المزيد منها بسبب ظروف احتراق الكثير منها إلاّ أنّها قد عرّفتنا بغسّان كنفاني الرّجل والإنسان العاشق،وأجابت عن سؤال القلب والعشق وتجلّي ذلك في أدبه كما أجاب سائر أدبه عن أسئلة النّضال والفكر والمعاناة والحلم والدّرب عنده.وإن كان هذا الأدب قد أجاب على سؤال جدليّة النّضال والأدب،وبرهن على إمكانيّة تسخير الأدب لصالح النّضال،وانتصر لهذا البرهان بالاستشهاد على أيدي أعدائه الذين انهزموا أمام قلمه وأمام روحه الأبيّة،فإنّ رسائله إلى غادة السّمّان المنشورة في كتاب خاص هي من تجيب على أسئلة الرّجل والقلب والحبّ والمعاناة في حياة غسّان،وهي إجابات لا تنتقص من قيمته وبطولته وكفاحه وشرف استشهاده،بل تُعلي من قيمته الإنسانيّة والجماليّة التي انتصرت للحبّ حتى في أحلك الظّروف وأقساها وأبشعها.وهل هناك أعظم من قلب عاشق على الرّغم من القسوة والظّلم ومرارة النّضال؟!
البعض رأى أنّ نشر هذه الرّسائل هو انتقاص مقصود من هيبة غسّان كنفاني،وهذا اعتقاد شخصيّ لا فائدة من مناقشته لا سيما أنّه لا يملك البرهان والدّليل؛فلكلّ شخص حقّ في أن يتبنّى ما يريد من القناعات،ولكن المهمّ في هذا الأمر أنّ هذا النّشر هو دعوة جميلة وشخصيّة من غادة السّمّان لكي تبوح المرأة العربية لاسيما المبدعة بمكنونات إبداعها حتى ولو كان في ذلك بوح بتفاصيل شخصّية ما دام في ذلك مدٌّ للإبداع العربيّ بالمزيد من المنتجات الإبداعيّة الرّاقية الجميلة.
قد يقول قائل إنّ الدّفع في هذا الاتّجاه من النّشر والبوح هو دعوة جريئة،وقد تكون خطيرة لأجل نشر تفاصيل الحياة الشّخصيّة لكثير من المبدعين لأجل الشّهرة أو لفت النّظر أو تصدير أفكار خاصّة أو ترويج كتابات ذات اتّجاهات معيّنة،وهذا قول لا يستحقّ النّقاش؛لأنّ الخوض فيه يعدم إرثاً إبداعيّاً إنسانيّاً عملاقاً يشمل ما أنتجته البشريّة من إبداع وتنظير ونقد حول علاقة الحبّ بين الرّجل والمرأة بكلّ تعقيداتها وخصوصيتها وجماليتها وأهميّتها.ولو افترضنا جدلاً أنّ هذا الإعدام الجائر قد وقع فعلاً،لكنّا حُرمنا من أرث كبير من الأدب لاسيما الشّعريّ والقصصيّ منه على المستوى الكتابيّ أو على المستوى الشّفاهيّ،ولكنّا حُرمنا من أن نمتّع بكلّ ذاك الحبّ الذي يغمر البشريّة بأجمل التّجارب وأرقاها،وليس في ذلك انتقاص لكاتب أو مبدع أو راوٍ،ولو كان الأمر كذلك ما رأينا شاعراً يكتب قصيدة في حبيبته،ولا سمعنا راوياً ينقل لنا ملحمة حبّ،ولا خلّدت الأقلام والأفئدة والذّاكرات أسماء العاشقين وسير المحبّين الذي اجتمعوا على إدراك أنّ الحبّ ارتقاء بالبشريّة، لا هبوطاً بها.
الأقدمون عبر التّاريخ أقدموا على نشر تجاربهم ومشاعرهم في الحبّ دون خوف أو خجل أو قلق،فرأينا قصائد الحبّ وملاحمه وقصصه وسيره،وحفظنا أسماء أعلامه،وسمّينا أبناءنا وبناتنا على أسماء العشّاق والعاشقات،والغرب الذي نراه أنموذجاً محتذى دون تفكّر قد خطا خطوات حقيقيّة وكبيرة في أدب الاعتراف لاسيما من جانب النّساء،وفي بلادنا لا نزال ننصب المشانق لقلب إن خفق وليد إن كتبت،ونلمز بخبث أيّ كتابة نسائية تحاور قلباً أو جسداً،ونسجنها في سجن الاتّهام،متى سنكتب عن قلوبنا ومشاعرنا وتجاربنا دون خوف؟! كيف سنتقدّم ولا نزال نخشى أن نقول إنّ لنا قلوباً تخفق بحبّ ما؟ في حين نُعلّم أن نجاهر بالكره دون خجل أو استحياء!
إن طلبنا أن نعدم رسائل غسّان كنفاني إلى غادة لسبب أو آخر فعلينا من المنطلق نفسه أن نطالب بإعدام قلوبنا ومشاعرنا وتجاربنا وأحلامنا،بل علينا في الشّأن نفسه أن نطالب بإعدام إرث البشريّة كاملاً في الحبّ والعشق والجنس والجسد كي ننتصر لفكرة مزعومة بالدّفاع عن مبدع مناضل فلسطينيّ نريد أن ندفع عنه أجمل تهمة وأعظم فعل إنسانيّ،ألا وهو الحبّ الذي إن طرق قلب إنسان فقد ظرف ولطف ونظف كما قال فيلسوف ما.
من له أن يعدم قلباً قد عشق،أو أن يحرق أوراقاً تدلّ على أنّ رجلاً عاشقاً قد مرّ في هذه الحياة؟!من له أن يلعن غادة السّمّان وهي تهمس في آذاننا، وتحكي لقلوبنا اللاهثة خلف الحبّ:"نعم كان ثمّة رجل اسمه غسّان كنفاني،وكان له وجه طفل وجسد عجوز..حين اقرأ رسائله بعد عقدين من الزّمن أستعيده حيّاً،ويطلع من حروفه كما يطلع الجنّي من القمقم حارّاً ومرحاً صوته الرّيح"؟!
كم نحتاج إلى دروس في الحبّ تبدّد ما في قلوبنا من صقيع وكره وحقد،نحن في حاجة حقيقيّة إلى تعميم ثقافة الحبّ بكلّ أشكالها لعلنا ننجح في يوم ما في أن نهدم مجتمع الكراهيّة الذي نعيشه لنمارس إنسانيتنا ووجودنا ونحقّق مدنيتنا بعيداً عن الحقد والكره والكبت والإجحاف بحقّ قلوبنا وأرواحنا.
أنا شخصيّاً أسجّل شكري لغادة السّمّان التي سمحتْ لي وللقرّاء أجمعين بأن نشاركها في قلبها ومشاعرها وأسرارها وخصوصيتها انتصاراً للأدب والجمال والعشق،لقد سمحتْ لي أن أرتّل معها قولها:"نعم،كان ثمّة رجل اسمه غسّان كنفاني التصق بعيني زمناً كدمعة نقيّة،وانتصب فوق أفقي كقوس قزح"،بفضلها استطعتُ أن أعرف غسّان كنفاني الإنسان الذي كان يحاصره الحبّ ويهدّه،فيغدو به أقوى وأجمل وأعظم،كنتُ قد قرأتُ إنتاجه الإبداعيّ والنّقدي كاملاً في صغري،ثم أعدتُ قراءته في فترة دراستي في درجة الدّكتوراه،ولكنّني اكتشفتُه بحقّ عندما قرأتُ رسائله إلى غادة،لقد أصبح حينها بملامح واضحة وبقلب نابض وبأنفاس زكيّة،عندها أصبح –في نظري وإدراكي- بطلاً حقيقيّاً بقلب نابض يعرف العشق والحزن والألم،لا مجرّد بطل من ورق على ورق لأجل الورق،فالرّجل الحقيقيّ في نظري هو صاحب القلب الكبير العاشق الذي يتسع لحبّ امرأة ما كما يتّسع لأجلّ القضايا وأشرفها،وينشغل بها.
وقد أدركتْ غادة السّمّان هذه الحقيقة،ونشرتْ رسائل غسّان إليها،فخلّدته في سِفْر العشق كما خلّده قلمه وأدبه ودفاعه عن قضيته الفلسطينيّة واستشهاده في سبيلها في سِفْر البطولة والرّجولة والنّضال الموصول الذي لا يعرف فتوراً،ولذلك صمّمتْ على أنّ حبيبها غسّان كان بطلاً كامل الحضور لا مجرّد صورة نمطيّة تقليديّة هشّة،ولذلك قالتْ بكلّ صراحة ووضوح:"لم يكن فيه من الخارج ما يشبه صورة البطل التّقليديّة:قامة فارعة،صوت جهوريّ زجاجيّ،لا مبالاة بالنّساء(إلى آخر عدّة النّضال)لأنّه كان ببساطة بطلاً حقيقيّاً،والأبطال الحقيقيون يشبهون الرّجال العاديين رقّة وحزناً لا نجوم السّينما الهوليووديّة الملحميّة،غير العادي في غسّان كان تلك الرّوح المتحدّية،النّار الدّاخليّة المشتعلة المصرّة على مقاومة كلّ شيء ،وانتزاع الحياة من بين منقار رخّ القدر،نار من شجاعة كلّ شيء حتى الموت".
والسّؤال الذي يطرح نفسه في ظلّ هذه المبادرة الشّجاعة من غادة السّمّان هل هي إرهاصة محتملة للمزيد من الخطوات المماثلة من الأديبات العربيّات؟ لعلّ الإجابة عن هذا السّؤال هي في يد الأديبات المبدعات العربيّات اللواتي حتى هذه اللّحظة يلذن –في الغالب- إلى الصّمت في إزاء أدبهن الذي يشكّل بوحاً أكان رسائل شخصيّة أم روايات أو قصصاً أم غيرها من أجناس الفنون الإبداعيّة؛فالمبدعة العربيّة لا تزال في الغالب أجبن وأضعف من أن تبوح بحبّها صراحة دون أن تحيله إلى التّرميز في أشكال إبداعيّة تزعم زوراً وكذباً أنّها من مخيّلتها الإبداعيّة بعيداً عن تجربتها الشّخصيّة الحقيقيّة.
ولنا أن نفترض بشيء من التّمنّي الحارّ أنّ المبدعات العربيّات لو اتّجهن اتّجاه غادة السّمّان،وقرّرن البوح بمشاعرهن وتجاربهنّ،ونشرن إبداعهن في هذا الصّدد،فهنّ دون شك سوف يمددن الأدب العربيّ بل والإنسانيّ بأجمل الرّشفات الإنسانيّة وأكثرها صدقاً.بل قد تعمّم هذه الحالة الإبداعيّة الجميلة،ويتّجه نحوها الرّجل المبدع العربيّ ليسهم في مدّ هذه الرّشفات بالمزيد من الإبداع الإنسانيّ الخالد،فلنا أن نقترح أنفسنا رموزاً للعشق والحبّ بدل الاستجداء من مخزون عشقيّ انحصر في الذّاكرة العربيّة في حالات محدّودة قليلة،فغدونا أوتاداً مسنّدة على ذكرى بعض القلوب التي خفقت في زمن ما،وجادت قريحتها بإبداع يخلّد هذا الحبّ،وبقيت البشريّة العربيّة تعيش على فتات قلوب الآخرين الرّاحلين!
لا نعرف من هي المبدعة العربيّة التي سوف تكون الثّانية بعد غادة السّمّان في هذا الدّرب،ولكنّني متأكّد أنّها لن تكون الأخيرة فيه،وهي تنشر ما كتبت،ولا تؤاخذ غادة لأنّها لم تنشر رسائلها إلى غسّان،واكتفت بنشر رسائله إليها بحجّة إنّ هذه الرّسائل ظلّت في حوزة غسّان،ولم تستردها منه،إذ تقول في هذا الشّأن :"الشّهيد غسّان كنفاني قُتل والعلاقات الدّبلوماسيّة بيننا على أفضل حال،ولم يحدث ما يستدعي قطع العلاقات وسحب الرّسائل والسّفراء،بعبارة أخرى:رسائله عندي ورسائلي عنده كما هي الحال لدى متبادلي الرّسائل كلّهم"،وهي بطبيعة الحال لا تملك نسخاً منها :" ليست لدي مسودّات عن تلك الرّسائل العابرة،ولا "فوتوكوبي"-استعمال النّاسخات لم يكن شائعاً يومذاك،الأمل الوحيد في نشر رسائلي هو أن يتكرّم من بحوزتهم الرّسائل بالإفراج عنها"،بل إنّها قد وجّهت نداء مكتوباً على هامش نشر هذه الرّسائل لكلّ من يملكها أو يملك بعضها أن يسلّمها لها كي تنشرها،ولكن يبدو أنّ نداءها ذهب أدراج الرّيح،ومن له أن يملك جرأة البوح كما تملكها غادة السّمّان؟! أظنّهم قليلاً من البشر.
إنّني أؤمن بأنّ غادة السّمّان عندما أفرجت عن هذه الرّسائل ونشرتها كانت أديبة كاملة الالتزام للأدب،كما كانت كاملة الوفاء لإبداع غسّان،وفي ذلك تقول:"ولعليّ كنتُ حنثتُ بعهدي لغسّان على نشر تلك الرّسائل،لو لم أجد فيها وثيقة أدبيّة وسيرة ذاتيّة نادرة الصّدق لمبدع عربيّ،مع الوطن المستحيل والحبّ المستحيل،وثيقة ثريّة بأدب الاعتراف الذي تفتقر إليه مكتبتنا العربيّة،والرّسائل بهذا المعنى تسدّ نقصاً سبقتنا الأمم الأخرى إلى العطاء في مجاله،وتؤسّس لنوعٍ جميل من الأدب ما زلنا نتهيب أمام بحاره،ومن أجدر من القلب العربيّ الثّريّ للخوض في لجّته".
كما أنّها كانت في الوقت نفسه مخلصة لذاكرة عشق رأت أنّ من الظّلم أن يموت بموت من مارسوه،وتبّنت فكرة أنّه إرثٌ إنسانيّ،وانطلقت من هذا التّبنّي في رحلة نشره وتحمّل أوزار ذلك،لتتيح لنا جميعاً أن نصافح إنسانيّة غسّان،وأن نشاركه تجربة قلبه،وأن نراه على حقيقته دون أصباغ وأقنعة تشوّهه،وتحول دون رؤية قسماته البشريّة الجميلة الرّائقة.
الآن أستطيعُ أن أكتبَ في دفتر قلبي كلمات غادة التي قالتْ ذات صدق وبوح:" نعم،كان ثمّة رجل اسمه غسّان كنفاني،جسده المهترئ بالنّقرس لا يرسمه جيّداً،ولا يعبّر عنه،ولكنّ حروفه تفعل ذلك بإتقان،وحين أقرأ رسائله بعد عقدين من الزّمن أستعيده حيّاً".
أعترفُ بأنّ غادة السّمّان كانت الأكثر جرأة والأجمل والأصدق والأذكى من سائر الأديبات العربيّات عندما نشرتْ هذه الرّسائل،كما كانت الرّائدة في هذا الدّرب،وأزعم أنّ في هذا الدّرب الكثير من الإنتاج الإبداعيّ الذي على المرأة العربيّة المبدعة أن تكشفه للشّمس والنّور والبهاء،وحتى ذلك الوقت ستكون الأمنية حاضرة بأن يتحوّل صمت المرأة المبدعة إلى إنتاج يعرف طريقه نحو النّشر كما عرف دربه نحو الورق والتّدوين،وأن نبوح جميعاً كما باحت غادة السّمّان ذات قرار.

السبت، 28 يونيو 2014

رشا الخطيب تدرس الأدب الأندلسي في ضوء الدراسات الاستشراقيّة البريطانية


http://www.addustour.com/17260/%D8%B1%D8%B4%D8%A7+%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8+%D8%AA%D8%AF%D8%B1%D8%B3+%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8+%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AF%D9%84%D8%B3%D9%8A++%D9%81%D9%8A+%D8%B6%D9%88%D8%A1+%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%91%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9.html

عمان - الدستور يقف كتاب «الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقيّة البريطانية» لرشا عبدالله الخطيب على اهتمام المستشرقين والباحثين في بريطانيا بالأدب الأندلسي، وحاول بيان ذلك الاهتمام ومظاهره، وتفسيره في ضوء خصائص المدرسة البريطانية، وفي ضوء ميدان الدراسات الأندلسية والعناية بها في أوربا. وبحسب مقدمة الكتاب فـ»إن المدرسة البريطانية هي جزء من النظرية الغربية العامة تجاه الأندلس، تتفق معها في أشياء، وقد تفترق في أخرى، بيد أن الملاحظة التي تميز بها عمل المستشرقين والباحثين في بريطانيا في مجال الدراسات الأندلسية عامة هي أن عملهم في ذلك الجانب كان محاولة لإثبات حضور بريطانيا في هذا المجال من الدراسات، والبحوث الشرقية، وخاصة دراسة الأدب الأندلسي والذي حظي بالكثير من الاهتمام من المدارس الأوربية كالإسبانية والفرنسية. إن البحث في موضوع الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية موضوع مثير في وقت تتجه فيه الأنظار نحو الغرب، لتتلمس لديه أصداء التجربة الحضارية التي أنجزها العرب والمسلمون فيما مضى والتجربة الأندلسية على وجه التحديد لما لها من صدى مميز عند أبناء العروبة والإسلام. وتتجلى أهمية البحث في مثل هذا الموضوع كون الأعمال التي أنتجها المستشرقون الأوروبيون عن حضارتنا ضخمة وتحتاج إلى جهود جبارة من أجل الوقوف عليها وكشف إيجابياتها وسلبياتها». يحاول الكتاب الصادر عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، رصد ما أنجزه المستشرقون والباحثون البريطانيون عن الأدب الأندلسي ودراسة أعمالهم – التي تأتي تمثيلاً لظاهرة الإستشراق – بوصفها جهداً علمياً لدراسة حضارة الشرق وتراثه، والإهتمام بقيمة هذا الجهد بعيدا عن ربطه بدوافع المستشرقين وغاياتهم التي قد لا تروق لأهل الشرق، وذلك بالتاريخ لهذه الظاهرة في إطار بيئتها العامة. كما يحاول الكتاب الالتزام بمفردات العنوان الذي يحمله وهو «الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية» إذ ينصرف المقصود هنا من (الأدب الأندلسي) إلى الأدب بمعناه الإبداعي؛ أي النصوص الإبداعية من شعر ونشر وما ينضوي تحتهما من فنون أدبية متنوعة عرفتها الأندلس وأبدعها أعلامها.

الاثنين، 9 يونيو 2014

الترجمة في الأندلس ودورها في النهضة الأوروبية الحديثة

        

كتاب: الترجمة في الأندلس ودورها في النهضة الأوروبية الحديثة
عرض وتقديم: د. رشأ الخطيب

اسم الكتاب: الترجمة في الأندلس ودورها في النهضة الأوروبية الحديثة
المؤلف: مصطفى داودي
الناشر:  دار التنوير، الجزائر - 2012
عدد الصفحات: 331


المقال منشور في مجلة ( المنتدى )، منتدى الفكر العربي/ عمّان، المجلد 29 العدد 259 كانون الثاني-نيسان 2014

ما زال للأندلس سحر خاص يجذب الباحثين في سعيٍ متواصل لاستكناه أسرار هذه التجربة الحضارية الفريدة في العالم، ومن هذه المساعي قدم د. مصطفى داودي (أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة زيان عاشور/ الجزائر) محاولته لدراسة الترجمة في الأندلس، وهو موضوع جدير بالبحث والتحقيق، وفيه جوانب متعددة تكشف عنها الترجمة بوصفها وسيلة من وسائل التواصل الحضاري والتثاقف بين الأمم، التي اكتسبت أهمية خاصة في الأندلس زماناً ومكاناً؛ لما لها من دور في النهضة الأوروبية الحديثة التي تقطف البشريةُ اليوم من ثمارها.
تتضمن هذه السطور عرضا وصفيا لمحتويات الكتاب وملاحظات نقدية على منهجية البحث وتنفيذه.

عرض المحتوى:
انتظم الكتاب في مقدمة وفصول أربعة، في خطة حاول فيها المؤلف استقصاء فعل الترجمة في الأندلس، وأهلها والقائمين عليها، وتمثلاتها على المستقبِلين لها من أفراد ومجتمعات، وما كان لها من دور في النهضة الأوروبية. فكان قد وقف في الفصل الأول على الحياة السياسية والفكرية في الأندلس، وفي الثاني على نشأة الترجمة بالأندلس، وفي الثالث على رحلة المعرفة الإسلامية إلى الغرب، ثم كانت المحطة الأخيرة حول الترجمة والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب.
ويكمن الدافع على إصدار هذا العمل في إبراز الدور الحضاري للأندلس وما قدمته للحضارة الإنسانية، خاصة في النهضة الأروربية الحديثة، وهو دافعٌ له وجاهته وأهميته، رغم محاولات طمس دور الحضارة العربية الإسلامية من قبَل بعض العلماء الأوروبيين لأسباب عنصرية أو دينية، أو لأسبابٍ تتعلق بمجرد الجهل بما قدمته الحضارة العربية الإسلامية في مسيرة الحضارة الإنسانية الشاملة.
وقد نبه المؤلف على أن دراسة التاريخ الأندلسي تمتاز عن غيرها من دراسة التاريخ الإسلامي بأنها تتطلب النظر في الرواية العربية من جهة وفي الرواية غير العربية من جهة أخرى، لأن واحدة منهما لن تقدم إلا صورة منقوصة الجانب عن التاريخ الأندلسي ولا تكتمل الصورة إلا بالرواية المقابلة الأخرى.
وقد انتهج الباحث في عمله هذا منهجاً مؤتلفاً من مناهج عدة: التاريخي والوصفي والاستقرائي والإحصائي؛ نظرا لاتساع مادة البحث زمناً وموضوعا، وكان من بينها اللجوء إلى المنهج الإحصائي موفقاً في محاولةٍ جيدة للإحاطة بالمصنفات التي جرى تأليفها أو دخولها إلى الأندلس في مختلف العصور، وكانت سببا في قيام الترجمة في تلك البلاد بعد حين، وكان لهذا المنهج ميزة يتحلى بها الكتاب وهي الإتيان بمسرد للمصنفات المتنوعة في الأندلس التي كان لها دور في الحركة الفكرية وفي حركة الترجمة التي تمت هناك وأسهمت في النهضة الأوروبية الحديثة.

الفصل الأول: نبذة عن الحياة السياسية والفكرية بالأندلس
 وقف المؤلف في الفصل الأول وقفة طويلة على الحياة السياسية والفكرية في الأندلس منذ القرن السادس حتى التاسع الهجري (ق12- ق15م) وقد استغرق منه هذا الفصل نحو سبعين صفحة ابتدأ بالقول فيها على أصل لفظ الأندلس وخاض في تفاصيل التاريخ السياسي للمسلمين هناك، وربما كان هذا تطويل في قول معاد مكرور في مظان كثيرة ومصنفات سابقة عديدة حول الأندلس.
ويرى المؤلف أن الثقافة الأندلسية الخاصة والحياة الفكرية الأندلسية لم تنشأ هناك بمجرد فتح تلك البلاد وخضوعها للمسلمين؛ إذ ظلَّت الأندلس تستقبل عناصر الإنتاج الفكري وتدوِّن التراث الشفوي حتى استقرار عهد الإمارة الأموية فيها بعد الفتح بنحو أربعين عاما، وهي المدة التي شهدت دخول التأثيرات الفكرية والثقافية إلى الأندلس، كما امتازت بالتطلع إلى الثقافة المشرقية ودخول المؤلفات والمصنفات الكبرى قادمة من المشرق، هذا إلى جانب انتقال طلبة العلم بين المشرق والأندلس وبث العلوم والمعارف في أرجائها. وفي العصور التالية للإمارة بقي المجتمع الأندلسي على صلته بالتقدم الحضاري الذي وصلت إليه البلاد، إلى أن تفرّق علماء الخلافة الأموية على بلاطات ملوك الطوائف التي أتاحت الفرصة للمعان مدنٍ جديدة بالعلوم والآداب. كما أسهم الانفتاح والحرية في أن يكون عصر ملوك الطوائف أزهى العصور فكريا. واستمر الازدهار الفكري والعلمي في العصور التالية على نحوٍ ما. وعلى الرغم من التراجع السياسي الذي بدأ يصيب الأندلس إلا أنها بقيت منارة إشعاع حضاري، جعل من الحضارة الأندلسية بمجملها ومختلف جوانبها هي الدافع الأكبر في ظهور ما يعرف بالنهضة الأوروبية من خلال الترجمة في الأندلس.

الفصل الثاني: نشأة الترجمة بالأندلس
كان من عوامل ظهور الترجمة استقرار الوضع السياسي في أوروبا ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي، ويقظته وتحرره من سلطان الكنيسة الذي ران عليه لقرون، ثم كان الاتصال الثقافي  بين أوروبا والمسلمين، الذي أدى إلى ظهور حركة الاستشراق (الاستعراب)..ونتيجة لهذا كله نشطت الترجمة على نحو خاص نظراً لبعض المتغيرات التي طرأت على الوضع السياسي والاجتماعي هناك.
وقد نهض بعبء الترجمة طوائف عدة في المجتمع الأندلسي امتهنت الترجمة وتكسَّبت بها، منذ القرن الحادي عشر، وكانت الترجمة في ذلك الوقت غير دقيقة تماما بحيث تجري عبر وسيط غالبا ما كان يهودياً يترجم من العربية إلى القشتالية الدارجة، ومنها يقوم شخصٌ ثالث بالترجمة إلى اللاتينية.
ويقرر المؤلف في مستهل هذا الفصل أن الحضارات البشرية تشترك جميعا بأنها تقوم على قدرٍ من النقل وقدر من الإبداع، بينما تريد الحضارة الأوروبية أن تجعل من نفسها حضارة إبداع وابتكار وأن تجعل من الحضارة الإسلامية حضارة نقل وتقليد لا أكثر، وهذا مما لا يصح؛ فالترجمة والنقل هما وسيلة تبادل ثقافي بين الحضارات، لذا استعرض المؤلف الترجمة عند بعض الشعوب كالإغريق والسريان والمسلمين، وبيَّن أن المسلمين حتى منتصف القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي قد وقفوا في النقل والترجمة على تراث اليونان والفرس والهند، وبعد عصر النقل هذا ابتدأ عصر الابتكار والإضافة... وقد أدت الترجمة إلى نتئج مهمة انتهت بظهور حضارة متميزة .
أما العوامل التي ساعدت على ظهور الترجمة بالأندلس فكانت: استقرار الوضع السياسي في أوروبا ابتداء من القرن الحادي عشر حيث تراجع الضغط الإسلامي في صقلية والأندلس، وازدادت الحملات الصليبية على الشرق والسيطرة على بيت المقدس، والغنى الذي أصابته أوروبا وبداية تحكمها بالتجارة وارتفاع مستوى المعيشة هناك. ومن روح الاستقرار هذه بدأ الأوروبيون الاهتمام بعالم ما وراء أوروبا خاصة العالم الإسلامي. كما رافق ذلك كله يقظة الفكر الأوروبي والتحرر من الكنيسة إلى جانب الاستقرار السياسي والاجتماعي في عصر الحروب الصليبية، وأخذت أوروبا تنهج نهجاً جديداً نحو العلم والتحرر الفكري.
ومن العوامل المساعدة على ظهور الترجمة بالأندلس كذلك: الاتصال الثقافي بين المسلمين والأوروبيين، ومن مظاهره وفود بعض الأوروبيين إلى مراكز العلم الإسلامية، الذين أصابتهم الدهشة مما كان يدور في حلقات العلم الإسلامية، فأخذوا العلم على أيدي العلماء المسلمين في الأندلس، التي كانت منبعاً حضارياً للعلوم والمعرفة. خاصة بعد سقوط طليطلة 477ه/1085م، وقيام مدرسة الترجمة فيها برعاية ألفونسو العاشر الحكيم، كما جرت عدة اتصالات أخرى بين الجانبين عن طريق البعثات العلمية.
وحين وجد الأوروبيون عندما بدؤوا نهضتهم تراثا هائلا لا ينضب لدى المسلمين  بدأ الاهتمام بتعلم اللغة العربية وزيادة الوفود إلى المدن الأندلسية، وظهرت حركة الاستعراب (الاستشراق)، وهو الاهتمام بدراسة الحياة الحضارية للأمة الشرقية وكان لهذه الحركة أثر عظيم في أوروبا والعالم العربي، وكانت جزءا من الصراع الحضاري بينهما، وهي تمثل الخلفية الفكرية لهذا الصراع؛ فقد كان اتصال الأوروبيين بالعرب قد أكد التفوق الحضاري الإسلامي، فعدّوا تعلُّم العربية والدين الإسلامي هو الطريق لهدم الإسلام؛ لأن تحطيمه بقوة السلاح ربما يكون أمرا مستحيلا، ولهذا عكفوا على العمل على ترجمة المؤلفات الإسلامية والقرآن الكريم.
والخلاصة أنه طرأ تغيرٌ كبير على المجتمع الغربي في أواخر العصر الوسيط، من انهيار الإقطاع وقيام المدن، وظهور شخصية الفرد، وقيام الممالك المستقلة الحديثة، ونموّ القوميات، وظهور اللغات الرومانثية المنبثقة عن لاتينية العصور الوسطى، ونشوء الجامعات...أي أنه بإيجاز: انهيار عصر بنظمه وتقاليده وأفكاره ومُثُله وفلسفته، وبداية عصر جديد له أوضاعه التي كانت أسسها ومنابعها الأولى العمل على مواكبة التطور الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل على نقل معالم هذه الحضارة إلى اللسان الأوروبي وهو ما يمكن تسميته بعصر الترجمة في أوروبا الذي كان داعماً للنهضة الأوروبية الحديثة.
أما عن ظهور الترجمة بالأندلس فقد كانت الحضارة الإسلامية قد نقلت من حضارات سابقة دون أن تنسب لنفسها ما أخذته من غيرها، وحفظت عبر الترجمة علوم الأوائل والتراث اليوناني انطلاقا من ميزة الحضارة الإسلامية القائمة على القيم النبيلة لهذا الدين. في حين كان الأوروبيون أحياناً ينحلون لأنفسهم الكتب الإسلامية التي ينقلونها، ولم يتحقق التواصل الإيجابي بين الحضارات إلا عن طريق حركة الترجمة، باعتبارها خير وسيط لربط الثقافات بعضها ببعض، وخير معبر عرَّف أوروبا بالعلوم العربية واليونانية.
وكانت حركة الترجمة ذات طابع علمي؛ إذ كان مسارها شبيها بما كان لدى المسلمين أول عهدهم بالترجمة من حيث الاهتمام بالعلوم..وكانت حركة الترجمة هذه محدودة حتى انتعشت بقوة في القرن الثاني عشر الميلادي واستمرت لما بعد القرن الخامس عشر.
ولم تنته وهذه الترجمات إلى الغرب دفعة واحدة وإنما على دفعات، وقد اضطلع بها المستعربون في الأديرة في أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية، وتميزت في أوائلها بسيرها العفوي غير المنتظم، وأغلبها كان تعاملات في شؤون يومية مع القضاة، وتجدر الإشارة إلى أن معظم الأندلسيين كانوا يتكلمون الرومانثية بحكم التعامل اليومي.
ولاننسى أهمية الدور غير المباشر لعلماء المسلمين في إسبانيا في التثقيف العام - من خلال أساليبهم التعليمية_ على الجامعات المسيحية الأوروبية، ونتيجة ذلك انتقلت الترجمات العلمية للتراث اليوناني إلى أوروبا.
أما عن طوائف الترجمة في الأندلس: فقد كان المستعربون من أبناء الطائفة المسيحية وسطاء بين المسلمين والأوروبيين، ولا تسعفنا المصادر حولهم بكثير معلومات، فلا نعرف الكثير عنهم، وقد أشير لهم بلفظ عجم الأندلس أو الروم أو النصارى أو النصارى المعاهدون أو عجم الذمة، أما لفظ مستعرب فظهر متأخرا، لكنه كان جاريا على ألسنة الناس قبل ذلك في كتابات نصارى الأندلس سواء باللاتينية أو الإسبانية، وظهر المصطلح في القرن الثالث عشر الميلادي في وثائق النصارى الأندلسيين في البلاد التي استولى عليها النصارى وكانوا يكتبون وثائقهم بالعربية. واللفظ الذي كان مستعملا عند عرب الأندلس هو العجم أو نصارى الذمة، ومما ساعد في ظهور هذه الفئة تسامح المسلمين معهم في حرية العقيدة، وقد أسهمت حياتهم الجديدة في أن يتأثروا كثيرا بالحضارة العربية الإسلامية فأقبلوا على تلقي العلوم واللغة العربية وتتلمذوا على العلماء المسلمين، وأصبحوا بذلك رسلا للحضارة العربية نتيجة إتقانهم اللغتين العربية واللاتينية معا، فاستطاعوا إيصال العلوم الإسلامية إلى الإسبان والأوروبيين.
والحقيقة أن تعلُّق المستعربين باللغة العربية كان كبيرا؛ إذ إن كتبهم وأناجيلهم إلى القرن الرابع عشر كانت مكتوبة بالعربية، وكان أسقف إشبيلية قد وضع في القرن الثاني الهجري ترجمة عربية للتوراة في متناول المستعربين. وشارك المستعربون في نقل العلوم في طليطلة ولكن إنتاجهم الأدبي كان ضئيلا سواء باللاتينية أو العربية، ولهذا فاللقاء الحقيقي بين الحضارة الإسلامية والمجتمعات الأوروبية كان على يد المستعربين عبر مدارس الترجمة أو من خلال هجرتهم من البيئة الإسلامية إلى الغرب اللاتيني؛ إذ كانوا مسلمين حضاريا ومسيحيين فكريا وروحيا.
أما اليهود فقد عاشوا في الأندلس في ظل التسامح الإسلامي واندمجوا بسرعة في المجتمع الإسلامي واستعربت ألسنتهم، وتولوا مناصب كبرى هناك، واشتهر كثير منهم بالعلم والأدب، وقد كانت الأندلس جنة اليهود خلال العصور الوسطى وما كان لهم أن يحققوا ذاتهم ببعث لغتهم العبرية وأدبهم العبري إلا في الأندلس، بل إن بعض علماء اللغة المسلمين أعانوا اليهود على تقعيد نحْوِ اللغة العبرية.
تعد القرون من العاشر حتى الثاني عشر العصر الذهبي لليهود في الأندلس، وشكَّلت الحقبة المرابطية منها نقطة مهمة في تطور تاريخ الفكر اليهودي؛ إذ لمعت أسماء العديد من المفكرين في شتى مناحي المعرفة كالفلسفة والطب والشعر... واشتهر من بينهم ابن جبرول وابن ميمون الذي حاول التوفيق بين أرسطو والعهد القديم بتأثير الفارابي وابن سينا، واشتهر منهم في الشعر العربي موسى بن عزرا من أهل غرناطة، واهتم اليهود بحي بن يقظان فترجمها إلى العبرية موسى النربوني، كما تُرجمت مقامات الحريري إليها أيضا.
كان اليهود من عوامل نشر الثقافة الإسلامية في الغرب: نشروها بأنفسهم باتصالهم بالمسيحيين أو من خلال تزويد الغرب بالكتب والمصادر الإسلامية وإسهامهم في حركة الترجمة في القرون الوسطى، وكانوا وسطاء لنقل الثقافة الإسلامية إلى أوروبا فكثير منهم يكتب بالعربية، وحين هاجروا من الأندلس حملوا معهم الكتب العربية وترجموها للعبرية، وكان دورهم قد برز أيضا حين لجأوا إلى جنوب فرنسا وأقاموا في بروفانس وأسسوا المكاتب والمدارس في مونبلييه، وأخذوا يدرِّسون فيها الطب والرياضة والنبات على طريقة العلماء العرب، كما درّسوا فلسفة ابن رشد التي تتلمذ عليها بعض اليهود.
ومن الطوائف الأخرى التي عُنيت بالترجمة في الأندلس الطلبة المتجولون ومدارس الترجمة، كمثل مدرسة طليطلة التي تأسس فيها مركز للترجمة منذ القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وتُرجمت فيها العلوم الإسلامية والإغريقية برعاية ألفونسو العاشر الحكيم ملك قشتالة نصير العلم، الذي حاكى الخليفة الأموي في قرطبة الحَكَم المستنصر في رعايته العلم والعلماء. وكمثل مدارس أخرى في المدن الأندلسية منها: مدرسة سرقسطة، ومدرسة تُطيلة وهي من ثغور الأندلس وكان يقطنها جالية يهودية مهمة، ومدرسة إشبيلية وقرطبة وبلد الوليد.
أما طرق الترجمة فلم تبدأ الترجمة الحقيقية إلا في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، حين اتجهت الأنظار إلى الأصول اليوناينة، وأنشئت بعض المعاهد لتعليم اللغات العربية والعبرية، وتوافر في طليلطلة مجموعات متخصصة في الترجمة، وكان النقل يجري من العربية أولاً إلى القشتالية ثم منها إلى اللاتينية، ولم يكن المترجمون بمستوى واحد لذا تفاوتت ترجماتهم تبعاً لتمكنهم من اللغات التي ينقلون منها أو إليها، وتنوعت الترجمة مابين الترجمة بالمعنى والترجمة الحرفية التي تلتزم ترتيب الجملة العربية، مما أدى إلى دخول ألفاظ عربية في اللغة العلمية والفلسفية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأوروبيين عنوا كالعرب بنقل الكتب العلمية، ولم تقف الترجمات عند المصنفات العربية الإسلامية بل تعدَّتها إلى المصنفات اليونانية التي كانت منقولة إلى العربية، مثل كتب جالينوس وأرسطو وإقليدس.
وبلغ الاهتمام بترجمات مدرسة طليطلة ذروته في عهد ألفونسو العاشر الذي توسعت في عهده ترجمة الكتب العربية لتشمل مجالات مختلفة غير العلوم مثل الألغاز والموسيقى والأغاني والقصص.
والخلاصة التي يراها المؤلف في هذا الفصل بعد استعراض نشأة الترجمة بالأندلس أن الأصالة قدر مشترك بين جميع الحضارات، وأن كل حضارة نقلت وأبدعت وكان لها سمة تميزها بين الأمم، وأن الإنسانية وحدة متفاعلة وثقافتها واحدة يضيف اللاحق فيها إلى السابق، وتعد الحضارة الإسلامية أكبر موروث أخذه الأوروبيون بإقبالهم على ترجمة المؤلفات الإسلامية في شتى العلوم، وكان لذلك أبلغ الأثر في نضوج الفكر الأوروبي وانبثاق النهضة الأوروبية الحديثة.

الفصل الثالث: رحلة المعرفة الإسلامية إلى الغرب
أخذت رحلة المعرفة الإسلامية سبيلها إلى الغرب بالترجمة من طرق عدة كان منها: ترجمة العلوم الدينية والاجتماعية، وترجمة العلوم الرياضية والطبيعية، وترجمة العلوم العقلية. وجدير بالذكر أن هذه الرحلة تشابهت مع رحلة المعارف اليونانية والهندية والفارسية في طريقها إلى اللسان العربي من قبل، وذلك من حيث اهتمامها بالدرجة الأولى بالعلوم العقلية والفلسفية؛ خاصة لأن الأوروبيين وجدوها فرصة لاسترداد تراثهم اليوناني الضائع، عبر الترجمات العربية للإرث اليوناني.
وهذا لا ينفي ملاحظة أن حركة الترجمة كانت في أساسها موجهة نحو التعليم الطبي واستمرت قوية بهذا الاتجاه حتى القرن السادس عشر، وخلال تلك القرون كانت اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية قد استوعبت أهم كتب الطب العربية التي اعتُمدت مناهج للتدريس في الجامعات الأوروبية الناشئة آنذاك، وظلت ذلك حتى زمن قريب.
فقد كان استقرار المسلمين في الأندلس قد جعل المستعربين يتأثرون بهم ومن أهم مظاهر ذلك استعراب لسانهم، فأناجيلهم كانت بالعربية وكذلك حواشي الكتب والتراتيل الكنسية وغيرها، وقد ترجم اليهود التوراة إلى العربية وكان ذلك من مظاهر استمرار عملية الترجمة وعدم توقّفها في القرون الوسطى، ثم سعَوْا ترجمة القرآن الكريم منذ القرن العاشر بمحاولات بطرس المبجل في مدرسة طليطلة، ومن الأعمال التي تُرجمت كذلك للملك ألفونسو العاشر في طليطلة: وصفٌ مفصل لعروج النبي صلى الله عليه وسلم للسماء، كما نشط اليهود في ترجمة العلوم الدينية لإبراز دينهم اليهودي.
أما في ترجمة العلوم الأدبية فقد دخلت أنماط من الأدب العربي إلى أوروبا كانت مظهرا من مظاهر الحركة الثقافية هناك؛ حيث ضاق الأوروبيون ذرعاً بالقيود التي تفرضها عليهم الكنيسة، ونشدوا في الأصقاع الإسلامية ما يغنيهم عن فقر أدبهم وزيفه.. وأعقب ذلك تسلُّل للأدب العربي إلى مختلف الآداب الأوروبية، مما مهد للنهضة الفكرية الأوروبية وبزوغ فجر الأدب الأوروبي، الذي نجد فيه من سمات الأدب العربي الكثير، وما كان ذلك ليكون لولا عملية الترجمة عن العربية.
ولم تقتصر عملية الترجمة فقط على نقل الأعمال والكتب التي ألَّفها العرب بل كذلك الكتب التي ألفها اليهود، وكانت اتجاهات الترجمة تنحو نحو الشعر والقصة أكثر من غيرها، وبعضها انتقل إلى أوروبا بالتناقل الشفوي للقصص العربي ذات المغزى الأخلاقي وبعض قصص ألف ليلة وليلة، وظهرت بعض التأثيرات العربية في الروايات المشهورة مثل دون كيشوت والكوميديا الإلهية..
في حين يتمثل أثر الشعر في أشعار التروبادور في منطقة البروفانس، وتأثير الموشح والزجل الأندلسي. ومن أهم الملامح الواضحة ملحمة السيد التي احتوت على صور وأخلاق عربية ومؤثرات إسلامية كثيرة.
وإلى جانب هذا اهتموا بالترجمة في موضوعات التاريخ، وترجمة الموسيقى خاصة رسائل الكندي والفارابي وابن باجة وابن سينا، كما اتجهت بعض الترجمات نحو ترجمة علوم الرياضة والطبيعة والحياة والرياضيات، حيث اشتهر بالأندلس عدد من العلماء وكانت مجمل أعمالهم قد جرى ترجمتها في الأندلس إلى اللغات الأوروبية إلى جانب الحساب والجبر والهندسة التي لم يكن الأوروبيون يعرفون عنها شيئا في القرون الوسطى، حتى تُرجمت كتب إقليدس وغيرها من تراث اليونان الهندسي إلى اللاتينية عن طريق العرب. يضاف إلى هذا كله الترجمات التي نقلها الأوروبيون في مجال ترجمة علم الحيوان والنبات وعلم الهيئة الفلك خاصة في مدرسة طليطلة، والكيمياء والفيزياء.
أما ترجمة العلوم الطبية وعلوم الصيدلة فقد تُرجمت مؤلفات طبية عديدة لعدد من الأطباء المسلمين، تدل على مدى ما وصله الطب لدى المسلمين في الأندلس بالذات، وأعظم أعمال الترجمة في الطب كانت تلك التي قام بها جيرار الكرموني في طليطلة، وتركزت على نقل مؤلفات كبار الأطباء إلى اللاتينية كالقانون لابن سينا، الذي طبع منه نحو عشر طبعات حتى نهاية القرن الخامس عشر، وظهرت منه طبعة كذلك بالعبرية فيما بعد.
ثم ظهرت شروح وتعليقات لا تعد على كتاب القانون باللاتينية والعبرية، حتى لكأنه (إنجيل الطب) في القرون الوسطى. وتُرجمت أرجوزة ابن سينا في الطب إلى اللاتينية، وتُرجم كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي الأندلسي- إلى اللاتينية والبروفنسية والعبرية، وقد جعلت جامعة أكسفورد من هذا الكتاب مرجعا أساسيا لدراسة الجراحة حتى القرن الثامن عشر.
استمر الاتجاه نحو ترجمة التعليم الطبي قوياً حتى القرن الخامس عشر، وبهذا استوعبت اللاتينية -لغة العلم في ذلك الوقت- أهم كتب الطب العربية، وعلى ضوئها أنشئت مدارس الطب في مونبلييه وأكسفورد وكمبردج. ثم يعرض المؤلف بعد ذلك ثبتاً لبعض الفلاسفة مع موجز لكل منهم. لا داعي له.

الفصل الرابع : الترجمة والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب
إن هذه الرحلة الطويلة للمعرفة الإسلامية وانتقالها إلى أوروبا عبر القرون تفضي بنا إلى الفصل الرابع الذي يكشف فيه الباحث - من خلال المقابلات التي عقدها بين واقع أوروبا قبل القرن الثاني عشر وواقعها بعد ذلك- بجلاء عن دور المعرفة الإسلامية في النهضة الأوروبية الحديثة بمجالاتها المتعددة من الأدب والفلسفة إلى الجغرافيا والطب والفلك مرورا بالعلوم والرياضيات، حتى الموسيقا.
فقد كانت أوروبا تعيش في تخلُّف وتراجع، في الوقت الذي كان العالم الإسلامي في نهضة وحضارة، وفي مجال الثقافة كان الجهل هو الطابع المميز لأوروبا؛ لأن وسائل نقل العلم كانت مجهولة، وأسعار الكتب مرتفعة جدا، والأمية متفشية بين الناس، وكانت اللاتينية لغة الكنيسة - المؤسسة الثقافية الوحيدة وهمزة الوصل بين التراث القديم والثقافة المعاصرة-، وقد سادت الطبقية المجتمع الأوروبي في حين كان المجتمع الإسلامي ينعم بالمساواة.
ومنذ تتويج شارلمان امبراطوراً لفرنسا في القرن التاسع الميلادي بدأت بوادر النهوض تدبُّ في أوروبا ثم خفتت ثانية حتى القرن الثاني عشر، وكان من أبرز ملامح النهضة التطلع نحو الحضارات الجديدة: الإسلامية منها خاصة، التي بدأت تتسرب إلى أوروبا عبر ثلاثة معابر: الأندلس وصقلية والحروب الصليبية.
ومن هنا يبين المؤلف دور المعارف الإسلامية في قيام النهضة الأوروبية، وهي معارف متنوعة منها: الأدب حيث كان الاحتكاك المباشر -منذ القرن الثاني عشر حتى الخامس عشر- بين المسلمين والأوروبيين قد أدى إلى نشوء الأدب الأوروبي، وكان دخول أنماط الأدب العربي للأدب الأوروبي مظهرا من مظاهر الحركة الثقافية بعامة هناك.
ففي الشعر شاع الشعر الغنائي الذي ينظمه الجوالون التروبادور، واشتهرت بعض الملاحم الشعرية مثل ملحمة رولان عن مغامرات شارلمان والفرنجة ضد العرب في القرن العاشر الميلادي، وأشعار أخرى شبيهة بأشعار الموشحات والسِّيَر العربية، وكانت معظم تلك الأشعار تميز النهضة الأدبية في أوروبا وتشترك مع الآداب العربية في موضوعاتها حول الحب والأساليب والصياغة الشعرية. كما تأثرت القصة الأوروبية عند نشأتها بما لدى العرب من فنون قصصية أيضا كألف ليلة وليلة، وساعد هذا التأثير في توجُّه الأوروبيين نحو النزعة الرومانتيكية، وهناك بعض الكتب التي اشتهرت في الأندلس التي كان لها أثرها على الكتاب الأوروبيين بحيث ظهر تأثيرها في روايات البيكارسك، وفي أدب الأسفار كرحلات جلفر، وروبنسون كروزو..وغيرها من مظاهر تشير إلى أن الأدب العربي بمختلف فنونه كان المحرك لنشأة الآداب الأوروبية.
****
    
        ونخلص مع الباحث بعد رحلته الطويلة في الكتاب بما ضم من إحصاء للأعمال التي جرت ترجمتها أو بعض المصنفات التي جرى ترحيلها، وبما كشف من عمل دؤوب وجهد محمود، نخلص إلى أن الأصالة قدر مشترك بين الحضارات جميعا ولم توجد بعد حضارة تفردت بالإبداع أو تفردت بالنقل، فالإنسانية وحدة متفاعلة يضيف اللاحق فيها إلى ما تركه السابق، لذا فالحضارة الإسلامية في الأندلس كانت أهم موروث أخذه الأوروبيون عندما أقبلوا عليها بالترجمة والنقل، وصارت فيما بعد دافعا لهم ليعكفوا على دراسة لغات الشرق وتاريخه وآدابه ودينه في الحركة الواسعة التي عرفت بـ الاستشراق. ولم يتوقف دور الترجمة على مجرد النقل من لسان إلى آخر، بل إنها تَبِعَتْها حركةُ النهضة التي نعيش جميعا في ظلها اليوم من أدنى الأرض إلى أقصاها.
*****************************
    
       ومع ما للكتاب من قيمة توثيقية ومعرفية، إلا أن ملاحظات أخرى لا يمكن إغفالها في هذا المقام، ذلك أن الكتاب يمثل أنموذجاً من نماذج النشر في العالم العربي، وهي نماذج تتكرر حتى ليخالها المرء ربما لا تنتهي، وما أقصد إليه هنا مسائل فنية تتعلق بنشر الكتاب مطبوعاً على ورق وتقديمه للقرّاء.
فإنه مما أثار كاتبة هذه السطور لكتابة ما يأتـي،  التوجيه الرباني إلى إتقان العمل؛ ذلك أن  الله يحبُّ إذا عمل أحدنا عملا أن يتقنه، ويبدو أن مسألة إتقان العمل ما زالت غائبةً بوعي أو دون وعي عن عالم النشر العربي، الذي يخلو في بعض الأحيان من أعمال التدقيق والتحرير لما يصدر من بحوث ودراسات تضمها دفات الكتب قبل طباعتها ونزولها إلى الأسواق، وهذا ينتقص من الفائدة المرجوّة من نشر الكتب والمعرفة العلمية.
فقلةٌ من دور النشر العربية تجعل من هذه المهمة في مقدمة أولوياتها، كي تخرج في كتبها ومنشوراتها إلى النور بثوب قشيب، لا يغمط الكاتب منزلته ولا يغمط القارئ المتلقي الفائدةَ المرجوَّة، لهذا تخرج الكتب أحياناً ملآى بالأخطاء التي كان يمكن تداركها..وعلى ذلك يتطلَّب هذا العرض منا الوقوف عند بعض الملاحظات التي لا يمكن إغفالها نوردها على سبيل التذكرة؛ لأن مثل هذا الجهد المبذول في الكتاب يستحق أن يسعى صاحبُه والقائمون على إخراجه للنور – وكل صاحب قلم- أن يكون قريبا إلى الكمال.
ومن النظرة الأولى فالكتاب من ناحية إخراجه الفني على مستوى عالٍ: غلاف أنيق مصقول، صفحات وطباعة فخمة، مريحة للنظر وللقراءة، خفيف الوزن، جميل التنسيق.
إن موضوعا كمثل موضوع هذا الكتاب الترجمة في الأندلس هو موضوع مهم يكشف أسرار هذا الجسر الحضاري الذي نقل أوروبا من عالم القرون الوسطى إلى عالم العصور الحديثة بقوة وثقة. ويتصل هذا الموضوع بأسباب كثيرة وبمواضيع أخرى كالاستشراق والآداب المقارنة والتبادل الثقافي وما أشبه، مما يتطلب اللجوء إلى سرد أسماء الأعلام في هذه المجالات الفكرية وأسماء المصنفات والكتب والمؤلفات،  ويتطلب الدقة على نحوٍ كبيرٍ في ضبط رسم الأعلام بالعربية وبالأحرف اللاتينية، إلى جانب عدم إغفال تواريخ الوفاة على أقل تقدير؛ فالكتاب في جوهره اتخذ الطابع التأريخي، وما التاريخ إلا زمان ومكان، فإن أُغفل واحدٌ منهما خرج البحث التاريخي عن مراده.
ومن الملاحظات الأخرى في الكتاب الاعتماد على مصادر ثانوية في بعض الأحيان في نقل حقائق، وتكرار الاعتماد على مصدر محدد في نقاط معينة بحيث يجعل الصفحات تبدو وكأنها ملخص لأفكار ذلك المصدر (مثل الحديث عن ترجمة العلوم الدينية الذي يجعل القارئ يشعر أنه كله عن اليهود بسبب مصادر الباحث).
وقد اعتمد المؤلف أيضا في موضوع الحياة الفكرية في الأندلس على رسالة دكتوراه غير منشورة لمحمد الأمين بلغيث (الحياة الفكرية في عصر المرابطين) وهذا غير كافٍ للحديث عن هذا الموضوع؛ خاصة أن الرسالة لا تتطرق للحياة الفكرية في جميع عصور الأندلسية.
هذا إلى جانب الخلط بين مستويات المصادر ما بين أولية وثانوية، الذي أدى إلى خلط أفكار كثيرة في الفروع والأصول، وخلط المصادر المتقدمة بالمصادر المتأخرة وأحيانا الاعتماد على مراجع عامة غير متخصصة؛ فمثلا المعلومة التي تقول إن أبناء أوروبا كانوا يتعلمون من العرب الأندلسيين أشار المؤلف فيها إلى مراجع عدة منها مراجع عامة غير متخصصة، وهكذا. أما المصادر الأجنبية في حواشي البحث فليس لها أرقام في متن الكتاب تحيل على الحواشي.
وهناك بعض المعلومات التي ليس لها داعٍ في بعض الأحيان، ففي مقدمة الكتاب عرضَ المؤلفُ لأهم مصادره في البحث ومراجعه، وصار هذا الجزء من المقدمة كأنه عرضٌ تعريفي موجز بالمصادر الأندلسية ، ولكنه على أهميته مما لا داعي له؛ فقد كان من الأفضل للمؤلف أن يقف عند النقاط المميزة لكل مصنَّف منها بما له صلة بموضوع كتابه الترجمة في الأندلس، وبمدى ما يمكن أن يضيفه كل منها لموضوع الكتاب.
فمعظم المصادر التي عرَّف بها هي معروفة لدى الباحثين في التراث الأندلسي ، ونُشر عنها الكثير، إذ إن الدراسات الأندلسية لم تعد مع القرن الحادي والعشرين موضوعاً جديداً، كما كان منذ قرن مثلا، حين كان التعريف بمثل تلك المصادر وأصحابها ضرورة لا بد منها في الكتب التي عالجت تراث المسلمين في الأندلس.
كما أن المؤلف في حديثه عن ترجمة أعمال الفلاسفة المسلمين مثلا قد عرض سيراً موجزة لتراجم بعض مشاهير الفلاسفة المسلمين، وكان يكفي مثلا لو أنه أحال إلى مظانّ ترجماتهم.
أما ما بقي في النفس مما يقع في باب الخطأ أكثر منه في باب الملاحظة، فكانت الأخطاء الطباعية التي امتلأ بها الكتاب؛ وهي مكررة على نحوٍ ملحوظ وفي صفحات كثيرة مما يجعل ذكرها جميعا – أمراً متعذراً، لذا سأتوقف عندها دون ذكر الصفحات..
أولا: الأخطاء الإملائية والنحوية التي يمتلئ بها الكتاب، بما لا يمكن التجاوز عنه دون الإشارة إليه، وهي تبدأ من أخطاء إملائية بسيطة، كألف التفريق بعد كل واو تنتهي بها كلمة اعتقادا أنها واو الجماعة (وا) ، بحيث كانت حتى أسماء بعض الأعلام التي تنتهي بواو، يضاف بعدها ألف تفريق، كمثل أسماء مدن وأشخاص وأنهار: كنهر ايبيروا، يبدوا، أرسطوا، ....وغيرها كثير.
هذا إلى جانب أخطاء إملائية أخرى منتشرة على صفحات الكتاب كمثل: النهظة ، ابتداءاً ، هاؤلاء، مواضع همزات الوصل والقطع، القرءان مرة يكتبها بهذا الشكل ومرة القرآن..
ثانياً: الأخطاء في أسماء الأعلام والالتباس فيها، وعدم التعريف بالأعلام أو الإحالة إلى مصادر تعرّف بهم في حواشي الصفحات.
وأخطاء أخرى من مثل التصحيف الذي حصل في اسم ابن أبي أصيبعة صاحب (طبقات الأطباء) حيث ورد اسمه مرسوما على النحو الآتي: ابن أبي الطبيعة. وهذا التصحيف مكرر في الحواشي كثيرا عند الإشارة إلى كتابه طبقات الأطباء.
الخطأ في اسم كتاب ترجمات الأشواق بدلاً من ترجمان الأشواق
كما أن المؤلف أحيانا ربما لا يميز حين يتحدث عن شخصٍ في أكثر من موضع أنه يتحدث عن الشخص نفسه، نفسه نظرا لاختلاف رسم أو نطق حروف اسمه. في حين كانت بعض أسماء الأعلام الأجنبية التي ذُكرت في متن الكتاب تبدأ بحروف لاتينية صغيرة، وليس بالحروف الكبيرة.
****