أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 29 مارس 2019

“نكران الجميل”.. تشويه للعلاقات الإنسانية

بقلم: تغريد السعايدة
جريدة الغد
يشعر المرء بالدھشة والتساؤل بكلمة ”لماذا؟“ عندما یواجه نكران الجمیل من الآخرین، وقد یكون ھذا الشخص أحد المقربین له، كما تقول أم عمر، التي تتحفظ على الكثیر من المواقف التي مرت بھا، واستنتجت للحظات ”أن فعل الخیر یجب أن لا یقدم إلا لمن یستحقه!“. لم تكن أم عمر تنتظر من معاملتھا ورعایتھا لوالد زوجھا سوى كلمات التقدیر والاحترام فقط، خصوصا أنه رجل كبیر السن یحتاج للمساعدة في تفاصیل یومیاته كافة، فلم یكن منھا سوى معاملته معاملة الوالد، على حد تعبیرھا، إلا أنھا لم تجد منه

الثلاثاء، 26 مارس 2019

من برلين: كل ما أفكر فيه هو الحجاب يعلو رأسي

بقلم: ديمة مصطفى سكران
مدونات الجزيرة

أن تكون المرأة محجبةً في الغرب يعني أن تعُدَّ على نفسها أنفاسها، لأن الآخرين يعدون ويسجلون، ويسترقون النظرات المرتابة أحيانا، أو يحدقون بوقاحة أحيانا أخرى!

عندما تَعْلَق العملةُ الورقية، أو يقفز إلى الشاشة ألف خيار كالطلاسم بلغة غير العربية، فإن ماكينة بيع التذاكر تتحول هي الأخرى إلى أوربي أشقر متجهم بعينين زرقاوين وأنف حاد، تماما كذلك الصف الطويل من الرجال والنساء المستعجلين الذين يقفون خلفي، أستطيع أن ألمحهم بعيون حدسي ينظرون بتكرار إلى ساعاتهم، ويبربرون بكلمات لم نتعلمها في دروس اللغة!

وفي تلك اللحظات التي أقف فيها متعرقة مشوشة الذهن، حائرة بين طلب المساعدة من صاحب الوجه العكر خلفي، وبين ترك العملة الورقية العالقة متدلية من الماكينة كلسان هازئ، فإن كل ما أفكر به هو الحجاب الذي يعلو رأسي!

فلو لم يكن موجودا لكنت أمام الماكينة مجرد امرأة علقت عملتها الورقية وتحتاج المساعدة، ولكنني أغدو مع الحجاب تلك المسلمة الساذجة التي لا تعرف كيف تستخدم آلة بيع التذاكر، لأنها قادمة من تلك البقعة البعيدة حيث لا يملك الناس هناك آلات لبيع التذاكر، لأنهم يستخدمون الحمير للتنقل، أو يتعلقون بأبواب الحافلات المزدحمة.

الحجاب والدفاع الدائم عن النفس
لا يتعلق الأمر بالفعل بعملة نقدية عالقة أو بشاشة لا تستجيب للأوامر، بقدر ما يتعلق بتلك المسؤولية الكبيرة التي تستشعرها المحجبة في الغرب تجاه حجابها، بخوفها العظيم من أن تؤكد بسلوك أحمق منها أي فكرة خاطئة من هذه الأفكار المسبقة حولها أو حول أبناء جلدتها ..
خوفٌ يجعلها تنسحب أكثر فأكثر من المجتمع، محاولةً ألا تظهر قدر الإمكان، أن تختبئ، أن تتوارى في الظل، وتواري حجابها تحت قبعة صوفية، أو في شكل توربان مائع الهوية، يجعلها تفضل أن تبتاع من الإنترنت على أن تقف أمام طاولة الحساب، أن تبقى جائعة على أن تجرب حظها مع ماكينة أخرى لبيع الأطعمة الخفيفة، أن تمضي وقتها في البيت على أن تدخل النادي الجديد في الناصية، أن توقع على عقد الهاتف الجديد باستعجال على أن تسأل عن التفاصيل الغامضة فتبدو كالبلهاء!

أن تكون المرأة محجبةً في الغرب يعني أن تعُدَّ على نفسها أنفاسها، لأن الآخرين يعدون ويسجلون، ويسترقون النظرات المرتابة أحيانا، أو يحدقون بوقاحة أحيانا أخرى!

تشعر المرأة المحجبة في الغرب أنها في حالة جدال دائم مع كل ما يحيط بها، جدال رغم صمته لا يتوقف، تستخدم فيه المحجبة كل حركاتها وسكناتها لتدحض حجج الطرف الآخر، والطرف الآخر لا يبذل كثيرا من الجهد في الإعلان عن رأيه.
إن نظرة باردة واحدة، أو تجاهل لتحية ودودة، أو كلمة عابرة متأففة، كافية لأن تلقي في وجه المرأة المسلمة كل القناعات التي يؤمن بها هذا الآخر، لتتحول إلى حالة من الدفاع الدائم عن النفس في كل حركة وسكنة، فهي حين تمسك الهاتف كأنها تقول: "انظروا أنا أجيد استخدام الهاتف رغم أني محجبة"، وحين تفتح كتابها لتقرأ رواية باللغة الإنجليزية، كأنها تقول: "انظروا أنا أقرأ بالإنجليزية رغم أني محجبة"، وحين تميل برأسها على كتف زوجها، كأنها تقول: "انظروا أنا أعامَل من زوجي باحترام رغم أني محجبة".

إنها تحاول دوما أن تبرر نفسها، أن تعتذر عن أمر ما لا تعرفه، أن تثبت شيئا للآخرين الذين قد يكونون مهتمين بالفعل بكل ما تفعل، وقد لا يكونون، ولكنها لن تستطيع أبدا الخروج من فكرة أنها محط الأنظار وفي موضع اتهام، تارة بكونها وجها فاقعا للهوية الإسلامية "المعادية"، وتارة بكونها رمزا لاضطهاد النساء من قبل الرجال.

الحجاب وهندسة المسافات
وحتى عند التعرف على الأصدقاء الجدد، أو الانخراط في مجتمع جديد، فإنهم غالبا لن يبدؤوا بالتعامل معها على أنها فلانة بذاتها قبل تجاوز تلك المرحلة الطويلة جدا من التعامل معها على أنها تلك المرأة التي تضع شيئا غريبا على رأسها.

إن معظم الحوارات العادية تنحرف فجأة بطريقة أو بأخرى لتدور حول حجابها، فيما إذا كانت قد أجبرت على ارتدائه، فيما إذا كانت تضعه طوال الوقت، فيما إذا كانت تنام به، فيما إذا كانت تستحم به! سيكون دوما هناك رحلة طويلة من الأسئلة قبل أن يكتشف الآخرون أنها تحت ذلك الحجاب مجرد إنسانة عادية، وقد لا يصل البعض إلى هذا الاستنتاج على الإطلاق.

هناك دوما مسافة من الرفض، من الإشعار المقصود أحيانا وأحيانا غير المقصود بالاختلاف، والذي يبلغ ذروته في خوف المحجبة على حياتها، وحاجتها هي لأن تضع المسافات، لكن هذه المرة مسافات من نوع مختلف ..
فهي بحاجة لأن تترك مسافة أمان عندما تنزل الأدراج، فتبقى متمسكة بالإبريز خشية أن تتلقى دفعة من الخلف، كما حصل لتلك الفتاة المحجبة في مترو الأنفاق في برلين في شتاء 2016، ولعلها بحاجة إذن أيضا لأن تترك مسافة أمان عن سكة القطار، لأن بعضهم قد يبدون مستعدين لدفع امرأة محجبة إلى السكة عند اقتراب القطار، وهي بحاجة لأن تترك مسافة أمان عندما تعبر الشارع  فترى شبانا متجمعين بقناني البيرة يتفوهون بعبارات لا تفهمها، وهي بحاجة إلى كثير من التلفت في كل شارع خاو وعند كل منعطف.

لا يسيطر هذا الخوف دائما، لكنه لا ينام أبدا، يظل في حالة نصف إغفاءة، ليتيقظ عند أدنى إشارة.

شرعنة العنصرية في سوق العمل
وفي سوق العمل يصبح إيجاد وظيفة ملائمة كالبحث عن إبرة في كومة قش، فبالإضافة إلى الأسماء العربية التي ينطقها الأجانب بصعوبة، وبالإضافة إلى السمرة، والملامح الشرق أوسطية، هناك في صورة أوراق التقديم ومقابلات الوظائف فوق ذلك كله الحجاب!

لا يتعلق الأمر إذن بقلة الوظائف التي تستطيع المرأة المحجبة أن تؤديها بنجاح، بقدر ما يتعلق بحساسية أرباب العمل تجاه وجود امرأة محجبة في طاقم العمل، حساسية مبررة أحيانا باضطرار الموظفة للتعامل المباشر مع الزبائن على اختلاف أطيافهم، وغير مبررة أحيانا أخرى إلا برفض وجود الحجاب كرمز ديني تحت سقف هذه الشركة ..
الأمر الذي أقرت شرعيته محكمة العدل الأوربية في 14 من شهر مارس/آذار عام 2017، مانحةً الحق للمؤسسات بأن تحظر ارتداء الحجاب من قبل موظفاتها ضمن عدد من الرموز الدينية الأخرى، ومشرعنةً طرد الموظفات المحجبات دون أن يعتبر ذلك تمييزا على أساس الدين.

ولا يبدو هذا الحكم إلا كمحاولة متذاكية لحظر الحجاب بطريقة قانونية تحافظ فيها أوربا على ماء وجهها أمام ادعاءاتها بحمل راية القيم الرفيعة. فالحجاب وحده هو المقصود هنا، بينما يُظهر الأوربيون كثيرا من التسامح مع أغطية الرأس الهندية وعمائم النساء الأفريقيات وأوشمة الصلبان على السواعد المكشوفة.
ولم تخطئ مفوضة الحكومة الألمانية لمكافحة التمييز كريستينا لودرز حين صرحت، بعد صدور قرار محكمة العدل الأوربية، بأن حظر الحجاب قد يصعب اندماج المسلمات في سوق العمل، فإن كثيرا من الكفاءات تُستبعد من طلبات التقديم للوظائف بسبب الحجاب، قبل أن تُمنح المرأة فرصة لإثبات نفسها، الأمر الذي تحول إلى كابوس للشابات المسلمات، اللواتي يضعن على رأس قائمة تحديد خياراتهن الدراسية والعملية في المستقبل درجة تقبل الحجاب في مجال العمل الذي يرغبن به، وذلك قبل ميولهن الشخصية، وأهليتهن للنجاح في هذا المجال.

الحجاب، إنه هنا أكثر من اللازم
يُقال إن شعور المرء بأعضاء جسمه يبلغ أكثر تجلياته عند تتألم هذه الأعضاء، فلو كنتَ مسترخيا في سريرك ستكون حقيقة أن لديك قدما مثلا أو حتى إصبع قدم صغير أمرا قابعا في قاع لا وعيك بهدوء وبلا مشاكل، لكن إن كان إصبع قدمك الصغير قد اصطدم بعنف بإطار الباب قبل دقائق أو سقط عليه طبق زجاجي ثقيل، فإنك جراء الألم لن تكون واعيا بأي جزء من جسمك أكثر من وعيك بأنك تملك بالفعل إصبع قدم صغير، وهو هنا بالفعل، لأنه يؤلمك بشدة ولن يدعك تنام!

وكذلك الحجاب، يتجسد في وعي المرأة المسلمة في الغرب أكثر من أي شيء آخر فيها، أكثر حتى من وعيها بذاتها، فهي تشعر به دوما حين تكون موجودة في شوارع البلدان غير المسلمة، وفي مطاعمها، وأمام ماكينات بيع التذاكر في محطاتها ..
ولا تكاد تشعر بشيء سواه، إنه هنا، فوق رأسها طوال الوقت، كما لو أنه يؤلمها، كما لو أنها تتحول كلها إلى حجاب فقط، كما لو أنها تتحول من كونها إنسانا عاديا إلى مجرد كيان يحمل هذا الشيء العملاق الكبير الذي يسمى حجابا، وعلى حجابها هذا يعلق كل شخص تراه في الطريق أفكاره المسبقة وقناعاته والقصص التي قرأها في منتديات الإنترنت وسمعها عنها من زملاء العمل..
لذا فهي تمشي وهي تجر وراءها هذه الأثقال المريعة من كل تلك الأفكار المسبقة، وكلما زادت تلك الأفكار ثقلا كما صار مشيها أثقل وحركتها أكثر صعوبة.

لن نطرح الأسئلة عن مستقبل المحجبات في الغرب، ولن نناشد أحدا، ولن نحول الأمر إلى مناحة، لكن الوعي بصعوبة الحياة كامرأة محجبة في الغرب يحتم على الجميع عمل كل ما يمكن عمله لتحسين هذا الواقع، في مواجهة موجة يمينية متطرفة، تعلنُ عن نفسها بشكل متزايد وبلا مواربة، ولعل آخر تجلياتها كان المذبحة الإرهابية الدامية في مسجد مدينة كرايستشيرش في نيوزيلاندا قبل يومين.

الاثنين، 18 مارس 2019

الحب الأخير

بقلم: لانا مامكغ

 
انشغلتُ بمراقبته من حينٍ لآخر؛ خمسينيٍ مكتنز، صلفِ الملامح، به غلظةٌ في بنيته وصوته ذكّرتــــني بممثّــــل قديم اشتهر بأدوار الشّر في السّينما المصريّة، ولم أعلم لماذا خلته من محدثي النّعمة … ثروةٌ طارئة شجّعته على الارتباط بتلك الشّابة العشرينيّة التي ترافقه، لينجبَ ذلك الطّفل الذي بدا أنّه شُغلُه الشّاغل طوال الوقت، لأقولَ لنفسي باستهزاء: طبعاً، لابدَّ من إثبات الذّكورة والفحولة المطلوبة في لقاء خريفِه بربيعها … لابدَّ من إنجابِ مخلوقٍ بريء يتّسلى به فيما تبقّى له من عمر!
حدث هذا خلالَ إحدى الرّحلات السّيّاحيّة، حين بقيتُ أرصدُ حالة الرّجل إلى أن لمحتُ الطّفلَ يبتسمُ لي ذات صباح، فاقتربتُ بسعادة لأحيي الرّجلَ والصّبيّة وأنا أداعبُ الصّغير وأقول: «الله يخليكم لبعض أنت والمدام أستاذ، ويحميه لكما، فرصة سعيدة «. وفيما كنتُ أهمُّ بالابتعاد وصلني صوتُ الرّجل يشكرني ليضيفَ ضاحكاً: «هذه ابنتي، وليست المدام … وهذا حفيدي، تفضّلي إشربي معنا قهوة». وفعلاً لم أقوَ على الاعتذار، فانضممتُ لهم وأنا أوّبخ نفسي على توّقعاتي السّخيفة … إذ عرفتُ أنّه سافرَ خصّيصاً إلى بلد الغربة حيث تستقرُّ ابنتُه وزوجها، حتى يُحضرَها والصّغير ليشاركاه هذه الرّحلة، ثمَّ قال بتأثّر: «أبوه مشغول جدّاً، ولم يتمكّن من قضاء الإجازة معي هذا العام، وأنا اشتقتُ لحفيدي، والباقي عندك … « فتبادلنا الضّحكات إلى أن أضافَ وهو يحتضنُ الطّفل، وبنبرةٍ مشحونةٍ بالحزن: « آه لو تعرفين حالتي لمّا تنتهي الإجازة، ويحينُ موعدُ عودته إلى هناك، كلّما أتذكّر هذا اليوم أشعر بقلبي يكاد يتوقّف!».
وهكذا، غادرته مطرقةً وأنا نادمةٌ على خيالاتي البلهاء! 
ثمَّ حدث أن حضرتُ أحدَ المؤتمرات الرّسميّة في بلدٍ عربي ذات مرّة، ليقوم بمرافقتي إلى المطار يوم العودة أحدُ مسؤولي الجهة الدّاعية كما أوحت به هيئته وعمره. بدا متنفّذاً في المكان فأنهى الإجراءاتِ جميعَها بسرعة غير متوقّعة، إلى أن انتهى بنا المطاف في قاعة انتظار باذخة الأناقة … 
مرَّ وقتٌ ما وكلٌ منّا منشغلٌ بتصفّح هاتفه المحمول دون أن نتبادلَ حرفاً واحداً، ثمَّ ليُعلنَ عن تأخير الرّحلة لمدّة ساعتين … نظرتُ نحوه وأنا أتأفّف لأفاجأ بملامحِه هادئةً محايدة لا تحملُ أيّ تعبير، فشغلتُ نفسي بقراءة بعض المطبوعات حولي حتى سئمت. الوقتُ كان يمضي بطيئاً ممّلاً في قاعة بدت فيها درجةُ الحرارة حول الصّفر بقليل كما بدا لي حينها، فقلت لاختراق حاجز الصّمت القاتل، وكمحاولةٍ يائسة لكسر جليدِ المكان: «الجوّ ملتهب في الخارج، وباردٌ جداً هنا … «فهزَّ رأسه موافقاً من دون أن ينظرَ نحوي!
بدأ السّأمُ ينخرُ في كتلتي العصبيّة وأنا أتأملُ ألوانَ السّتائر، والجدران، والّلوحاتِ التّجريديّةَ الغامضة، والبحثُ الجادّ عن الثّقوب الّلعينة في السّقف كمحاولةٍ لاكتشاف مصدر الهواء القطبي الذي يحتلُّ المكان، والزّمان كذلك … ذاك الذي تجمّدَ وصارَ عصيّاً على المضيّ!
سألته دون تفكير وأنا أعبثُ بمكوّنات حقيبتي اليدوّية بلا سبب: «عفوأ، هل لديك أبناء؟ بماذا تحبُّ أن أناديك؟». هنا، فوجئتُ به يلتفتُ نحوي بكامل جسده ليجيبَ بحماسة: «لديّ الكثير منهم، ولديّ حفيدةٌ أيضاً… « فوجئت به يغيّر جلسته، ويقتربُ منّي وقد فتحَ هاتفه على بعض الصّور ويبدأ في الحديث والشّرح «هذه حفيدتي … انظري ما أحلاها، لا أراها إلا في نهاية الأسبوع، أعدُّ الدّقائق حتى تأتيني!» وبدأ يُقلّبُ صورَها واحدةً بعد الأخرى، منذ كانت في يومها الأوّل حتى دخلت الرّوضة قبل شهر … وأنا أردّدُ: «ما شاء الله … ما شاء الله … ما شاء الله»!
كان يُحدّثني عن حركاتها، وطريقة نطقها للكلمات، وماذا تحبُّ من الألعاب، وكيف يضبطها تعبثُ بأغراضه، وكيف أنَّ الأمرَ يُفرحه بدلَ أن يُزعجَه، أو أنّه نسي بالأحرى كيف يغضبُ من شقاوتها!

وهكذا حتى حان وقتُ المغادرة، فأوصلني إلى باب الطّائرة وهو ما زال يقلّبُ في الصّور وأنا أردّدُ بصـــبر: «ما شاء الله … ما شاء الله!».
 
وماذا بعد، إلهي كم كتبنا وقرأنا وانشغلنا بما يُسمّى الحبّ الأوّل … لكن يبدو أنَّ الحياة تُهدينا ما يمكن أن نطلقَ عليه «الحبّ الأخير» ذلك المتمثّل في ولعِــــنا بمخلوقاتٍ صغيرةٍ رائعة تملأ قلوبنا المتعبة في نهاية العمر بكميّاتٍ من الرّقة والرّهافــة والعذوبة، وتهدمُ ببراءة كلَّ ما اصطنعناه من وقارٍ وتماسكٍ وهيبة مزعومة في مسيرة حياتنا، مخلوقات تملأ قلوبنا حبّاً وشغفاً وفرحاً لم نعرفه في تجاربنا العاطفيّة السّابقة البائسة مهما ادّعينا غير ذلك!

السبت، 16 مارس 2019

هل غياب «عيد الجدة» عربيا ظاهرة إيجابية؟

بقلم: غادة السمان
جريدة القدس العربي
احتفلت فرنسا يوم 3 ـ 3 بعيد الجدة، وكما في الأعياد الغربية كلها.. يصير الأمر مناسبة تجارية مع اقتراحات بالهدايا التي يمكن تقديمها للجدة في عيدها، كالوسادة الدافئة كهربائياً، والأزهار، والجهاز التلفزيوني الحديث العصري، أو الخف المنزلي الدافئ، وسواها من الهدايا، وفقاً للإمكانيات المادية للأحفاد والأولاد، مع زيارة (سنوية!) غالباً للجدة في (بيت المسنين). لدينا في عالمنا العربي «عيد الأم» وليس لدينا «عيد الجدة».. وذلك في نظري ظاهرة إيجابية، فالجدة هي أولاً أمّ، وبالتالي يشملها عيد الأم، فلماذا نجد في الغرب تلك الظاهرة الاحتفالية التي تخفي خلفها، كقناع، حقيقة أليمة يعيشها معظم المسنين الغربيين.

الجدة ليست بطارية مستهلكة!

لست مبهورة بكل ما هو غربي، ولا أجد كما يقول المثل «كل افرنجي برنجي»، بل ثمة عادات تنبثق من تراثنا الروحي كعرب، وعلى رأسها احترام الجدات والأجداد الذين لا يتم التخلص منهم في «بيوت الراحة» المنتشرة بكثرة في الغرب كما لو أن المسن صار بطارية مستهلكة، إذ يتم إيداعه في أحد البيوت الخاصة بذلك ولها أسماء براقة، ولكن جوهر القضية هي أنه يتم إيداع الجدة المسنة في ما يشبه (الفندق) الكئيب من الدرجة الثالثة الخاص بأمثالها من المسنين الذين قلما يزورهم الأولاد والأحفاد. وهذه الأماكن التي تعتبر عتبة للقبر والمرحلة الأخيرة من الحياة قبل الموت نادرة الحضور في بلادنا العربية، فالجدة تظل تعيش مع أسرة ابنها أو ابنتها ولا تشعر بأنها من نمط الأعباء البشرية، بل تظل من بعض نسيج الأسرة العربية حتى الموت معززة مكرمة، والأحفاد يسعدون بها لأنها (تفسدهم) بالدلال!

من يبحث عن (بيبي سيتر) والجدة هناك؟

في الغرب ثمة مهنة رائجة اسمها (بيبي سيتر)، أي الشابة التي تعتني بالأطفال حين يغيب الأبوان. وثمة مكاتب خاصة بذلك في الغرب للتوظيف.
في عالمنا العربي تقوم بالمهمة غالباً الجدة، وذلك رائع، لأن المرء يضمن حنانها وحرصها على الأحفاد. وتعامل الجدة مع حفيدها أمر لا يمكن أن أشتريه بالمال..
وثمة أفلام رعب عديدة حول الصبايا اللواتي يأتين إلى بيت ما للعناية بالأطفال لساعات غياب الأبوين في سهرة ما، ويأتي العشيق ويؤذي الأطفال، وقد يعتدي عليهم جنسياً أو ما شابه من الحكايات..
وتلك الأفلام تجسد مخاوف الأسرة الغربية من شابة لا يعرفون عنها شيئاً يسلمونها رعاية أطفالهم وبيتهم ولو لساعات، هذا بينما الجدة التي يمكن الاطمئنان إليها وحدها تعيش الوحشة في «بيوت المسنين».
ثم إننا نسمع حكايات حقيقية تصل إلى المحاكم عن سوء معاملة بعض الممرضين للمسنين في المشافي الخاصة بهم، تصل حتى ضربهم أو سرقة بطاقات الائتمان بعد معرفة الرقم السري لاستخدامها في الحصول على المال من الآلة الخاصة بذلك المنتشرة في الشوارع.

مع أي اسرة تقيم الجدة الغربية؟

وتكوين الأسرة الغربية صار يختلف عن العربية، وبالذات بعد السماح في بعض الأقطار الأوروبية كفرنسا بزواج رجلين أو امرأتين، أي بزواج المثليين..
فجدة من هي التي ستعيش في بيت كهذا؟ وهل سيكون لها أحفاد في حال زواج (ذكرين) كما المطرب الشهير صديق الليدي ديانا البريطاني إلتون جون (وزوجه)، أو كما كان مصمم الأزياء الشهير ايف سان لوران وزوجه… وهنالك أيضاً ما يدعى في الغرب (الأسرة التي أعيد تركيبها) حيث أولاد المطلقين يعيشون في بيت واحد مع نصف الأخ أو الأخت. فأي جدة من الجدات سيقع الخيار عليها لتعيش معهم وهي غريبة عن «نصف الأولاد»!

مؤسسة الجدات والأجداد العرب

أعترف بأنني أحترم الأسرة العربية التقليدية على الرغم من نموذج الأب «سي السيد» وقد تجثم على صدور بعض البنات والأبناء، ولكنها متماسكة بمعنى ما وتحترم الجدات والأجداد، ومن طرفي لم أكن أقبّل يد أحد حتى أبي، باستثناء جدتي.. ولا نجد الجدة عبئاً بل بركة، ثم إنها تنقل إلينا على نحو عفوي التراث، بدءاً بالطبخ ومروراً بالقصص التي تروى للأطفال، وما زلت أذكر قصص جدتي التي كانت ترويها لي وأنا طفلة، ولعلها اخترعت بعضها بنفسها كقصص عن ثلاث بنات «يغزلن ويأكلن» أي يعملن.. وسواها من الحكايات التي أطلقت سراح خيالي منذ طفولتي، ولعل حكايات جدتي هي الشرارة التي أوقدت نار خيالي وجعلت مني روائية، ولست حقاً مدينة لشكسبير وفرجينيا وولف ونجيب محفوظ وفدوى طوقان وبيكيت ويوسف إدريس وسواهم لا يحصى، بقدر ما أنا مدينة إلى حكايات جدتي في طفولتي.. وكانت (روائية) سرية تخترع معظمها!

ما زلنا نرفض «بيوت الكرامة»

نطلق في عالمنا العربي أسماء جميلة للبيوت التي يعيش فيها المسن/المسنة بعيداً عن الأسرة، وهو أمر غير محبب في لبنان وعالمنا العربي عامة إلا في حال الضرورة القصوى. ومرة كنت في زيارة عمل صحافية إلى دار كهذه في بيروت، ووجدت المسنات جالسات في قاعة كبيرة يتسامرن، وقالت لي المتبرعة بالإشراف عليهن إن فلانة (وأشارت إلى سيدة تسعينية) هي والدة الشهير في لبنان مالاً ونفوذاً (فلان..)، وأعترف بأنني شعرت بالنفور منه، وتساءلت: لماذا لا يحتفظ بأمه في (الفيلا) الكبيرة التي يقطنها، ولماذا لا يحضر لها من تعتني بها وهو يملك المال لذلك بدلاً من سلخها عن الأسرة وحرمانها من أحفادها ومنه؟
قد أكون كاتبة متمردة، ولكن ليس على التراث الجمــيل إنسانياً في حياتنا العربية، و«عيد الجدة» عندنا هو كل يوم من احترامها وحبها والامتنان لها وللجد طبعاً، وحضورها في البيت العربي.

الخميس، 7 مارس 2019

عمّان ضحية الإغواء العقاري

بقلم: إبراهيم غرايبة
https://bit.ly/2UHD6P6
مشكلة عمان هي التنظيم الذي يخضع لإغواء تجارة العقارات، والحلّ ببساطة هو الابتعاد عن السيول ومجاري المياه الطبيعية، لقد ألحق تحويل الأودية ومجاري مياه المطر والينابيع إلى مجال عقاري للبناء والسكن والتجارة ضررا كبيرا بالبيئة والطبيعة ومصادر المياه وأحواضها، وأرهق البنية التحتية للمدينة العاجزة عن استيعاب وصرف مياه الأمطار، وضاعف الكلفة على التخطيط والإنشاء، ويؤدي كل عام إلى كوارث ووقوع ضحايا، وهذه ليست ملاحظة جديدة لكنها تقال في كل عام وفي كل مناسبة تسقط فيها الأمطار، كل هذه التضحيات والتكاليف الهائلة والمرهقة التي ندفعها باستمرار لأجل تحويل مساحات محدودة من مسار الأودية ومساقط المياه وأحواضها إلى عمائر سكنية وتجارية مدفوعين بإغواء الثمن المرتفع للأرض!
في جميع مدن العالم وأكثرها ازدحاما تظل الأودية والسيول والأنهار مناطق خالية من البناء، وفي قلب لندن وباريس ونيويورك على بعد أمتار من المباني الشاهقة الارتفاع وخيالية الثمن تجد الأنهار والأودية والغابات كأنك في الأمازون، مسارات نهر التيمز والسين وهيدسون على سبيل المثال تخترق المدن وتسير في قلبها إلى جوار ناطحات السحاب كما هي في الغابات والفضاءات الخالية من السكان والمباني،.. بل إن المدن جميعها تحتفي بأنهارها وطبيعتها وتحولها إلى فضاء جميل تتنفس منه المدينة وأهلها.
لا يمكن وصف ما حدث لعمان من إلغاء لمسار السيل وتحويله إلى مباني وأسواق، والاعتداءات على الأودية والينابيع ومسارات المياه سوى أنه جريمة حضرية سوف نظل ندفع ثمنها على مدى العقود القادمة، وستكون النهاية كما هو قانون الطبيعة ترك هذه الأماكن وعودتها سيول طبيعية وغابات ومصادر للمياه والترفيه والسياحة والسمك والغذاء، وسوف تظل تروى في التاريخ أسطورة تحدي الطبيعة وخنق المدينة وإزالة قلبها وتحويله إلى كتل اسمنتية قاتلة وخانقة، ثم في النهاية ينبعث القلب كما العنقاء ويجرف في مساره كل هذه المؤسسات والأعمال المفتعلة!
يبدو الحلّ اليوم مكلفا برغم أنه كان ممكنا أن يكون بلا تكلفة، لكن في النهاية إن لم يكن اليوم فسوف يكون غدا لن نجد حلا للكارثة سوى ملاءمة الطبيعة والبيئة في التخطيط الحضري للمدينة والأحياء والمرافق، فالمدن في التاريخ والجغرافيا تتشكل حول الأنهار ومصادر المياه ويكون الفضاء المحيط بها ساحة عامة مقدسة، وتحيط بها في الأماكن القريبة والآمنة الأسواق والمعابد والمحاكم والمؤسسات والمسارح والمدارس ودور الثقافة والفنون، ويمضي أهلها شطر نهارهم فيها للعمل والتجارة والالتقاء والتشاور والتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وتصوراتهم لذاتهم ومجتمعاتهم، ويمضون أمسياتهم في الترفيه والنشاط الاجتماعي والثقافي،... وفي ذلك ينشئون الموارد والأعمال ويدبرون الإنفاق والتضامن والتكافل الاجتماعي من مواردهم المحيطة بقلب المدينة والممتدة حولها، ويكونون قادرين دائما على تنظيم وتدبير شؤونهم وأولوياتهم واحتياجاتهم الأساسية بلا موارد إضافية أو خارجية أو بقدر معقول ومقدور عليه من الموارد الممكن اجتذابها، وبلا تدخل حكومي أو سياسي إلا بالقدر الذي تحتاج إليه المشاركة وتوزيع الأدوار والمسؤوليات.
تراودني اليوم مشاعر وأفكار غريبة ومحزنة في ملاحظة قصص ومسار المدن والأعمال والأسواق والمؤسسات والإدارات العامة في بلادنا وتاريخها الحديث، .. كأننا نعمل ضد أنفسنا، وكأننا نسخر مواردنا وجهودنا وأفكارنا للخراب!!