أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 ديسمبر 2017

آية الخائن

بقلم د.نضال الصالح




سماءٌ شديدةُ الصفاء، ومترفَةٌ بزرقة شفيفة، وغيمتُنا الرؤوم تحمينا من لظى شمسٍ باهظةِ الجنون، شمسِ حزيران المؤذنةِ بصيفٍ لم يكن قد سبقه صيفٌ. وكانَ كلُّ شيء حولنا مستغرقاً في هدأةٍ فاتنة لم يكن يعكّرُ بهاءها، رغم وطأة الحرّ، سوى أصواتٍ مبهمةٍ تتثاءبُ من بعيد، وترتطمُ بالمكان أشبهَ بعواء ذئابٍ جريحة وقد أشرفتْ على الهلاك، وما إنْ تكاثرتِ الأصواتُ حتى غدتْ عواء حقيقياً، ولكن ما مِن ذئاب، وما إنْ تعالتْ وتصادتْ قريباً منّا كأنّما تحاول أن تحدقَ بنا، حتى علا صوتُ الجليلِ: «صهٍ»، وحتى عادت الهدأة تعطّرُ المكان.  
قالَ الجليلُ، هو يعابثُ بقبضة يده اليمنى لحيته الكثيفةَ والباذخة البياض، كأنّما يتابعُ حديثاً سبقَ: «فما آية المنافق؟»، قلتُ: ثلاث: «إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمن خانَ». قال: «وما آيةُ الخائن؟»، فاحتميتُ بالصمتِ، فلم يكن لي من زادٍ أقوى به على الردّ، فقال: «ثلاثٌ أيضاً، هنّ شقيقاتُ آية المنافق»، وتابعَ: «إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمنَ خان»، ثمّ افترشَ الأرضَ، وأنعمَ النظرَ في نقطة من السماء التي كانت لا تزالُ تباهي بصفائها الشديد، وزرقتها الشفيفة، وسمعتُه يقولُ كأنّما، شأنَه دائماً، يقرأُ من كتاب:
«والخيانةُ درجاتٌ: خائن، وخوّان، وخؤون، وكلّها قبحٌ، بل هي أقبحُ القبحِ، بل هي أدنى منه. والخيانةُ خيانات: خيانةُ الصديق، وخيانةُ الأمانة، وخيانةُ العهد، وخيانةُ المحبوب، وخيانة الكلمة، وخيانةُ الضمير، وخيانةُ الأرض.. الأرض.. الأرض»، وظلّ يردّدُ وثمّة رجفةٌ يرعدُ بها جسده: «الأرض، الأرض، الأرض»، حتى حسبتُ أنْ لن يكونَ بعدها قولٌ، وكانَ ما حسبتُه حقّاً، وكانت رجفةُ الجليل زادت تورّماً، فعييتُ عن فعلٍ، أو شبهه، أردّ للجليلِ به ومن خلاله ما يعيده إليّ، أو يعيده إليه، لكنّه، كشأنه دائماً أيضاً، باغتني بأنّ شيئاً ممّا رأيتُ كان كما لو أنّه لم يكن، وتابع:
«وإنْ قيلَ رُبَّ خيانةٍ أخفُّ وطأةً من أخرى، أو أقسى وطأةً من أخرى، فإنّ الخيانةَ خيانةٌ مهما يكن من أمر مرجعها، أو درجتها، أو وقْعها في الذات المقهورة بها. وثمّة خياناتٌ يمارسها ما لا يعقلُ ضدّ ما يعقل: الدمعُ، والدهرُ، والعافية، والعقلُ. وأقسى ضروب الخيانة خيانةُ الدهر. ويا بُنيّ، لا تختلفُ الخيانةُ في السرّ عن الخيانةِ في العلَن، فكلتاهما إثمٌ ينأى بفاعله عن الإنسانِ، وكلتاهما لؤمٌ. أفلم يقلِ الأوّلون: اللئيمُ كذوبُ الوعد، خؤونُ العهد، قليلُ الرفْد؟ أو لم يقلِ الحليمُ الأحنفُ: ما خان شريفٌ ولاكذبَ عاقلٌ ولا اغتابَ مؤمنٌ؟ ويا بُنيّ، إنّ أحمقَ الحماقةِ، بل غباء الغباء، أن تأمنَ خائناً كنتَ عرفتَ أنّه كذلك، أما قرأتَ صدر بيت لشاعر قديم قوله: لاتَأْمَنَنَّ امْرَأً خان امْرَأً؟ ويا بُنيّ، إنّ المحبّ لا يخونُ، ووحده الحاقدُ، والكاره لنفسه قبل سواه، والغاصبُ، والسارقُ، والكاذب، والكذّابُ، والكذوب، مَن إن ائتمنته خانَ. ويا بُنيّ، وإنْ كانت العرب استبدلت، أحياناً، بالفعل يخونُ الفعل يغلّ، فلأنّها كانت أمسكت بالمرجع من فعل الخيانة، أي الغلّ والحقدُ، والضغينةُ، والدناءةُ، وإنْ كانت شبّهتِ الخائنَ بالذئب، فلأنّ من بعض صفات الأخير الغدرَ، والتربّصَ، والضرَّ، والخديعةَ. وإنْ كانت قالت إنّ الحرَّ لا يخونُ، فلأنّها أدركت، بالفطرة، أنّ العبدَ هو مَن يخونُ، ويغدرُ، ويتربّصُ، ويضرُّ، ويخدعُ».
ثمّ عاودَ الجليلُ صمتَه، ودفعَ إليّ بكتابٍ، وأومأ لي بأن أقرأ، فقرأتُ على غلاف الكتاب: «الفصولُ والغايات»، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخيّ المعرّي، وما إنْ قدّرَ أنّني تعرّفتُ إلى عنوان الكتاب ومؤلّفه، حتى رسم بأصابعه في الفراغ رقماً، فمضيتُ إلى الصفحة، وقرأتُ: «رجْعٌ: مَنْ خانَ الرفيقَ، في الأفيق، خانَ الوالدَ، في الطريف والتالد. والخائن عند الله مقيت»، ثمّ سمعتُه يقولُ: «سُقيا لتربة جدّكِ النابغة، إذْ اختزل صفات الخائن في قوله في هجاء النعمان: 
قَبَحَ اللهُ ثم ثَنَّى بلَعْنٍ                   وارِثَ الصائغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
مَنْ يَضُرُّ الأَدْنى ويَعْجَزُ عن ضُـ     ـرِّ الأَقَاصِي ومَن يَخُونُ الخَلِيلاَ».
وما مضتْ هنيهةٌ من الصمت، حتى أقرأني من دون كتاب قوله: «وكانَتِ العربُ تكنّي عن الرجل الذي لا يخونُ ولا يسرق بقولها: طاهرُ الكُمّ، أو طاهرُ الرِّدْنِ، أي الثوب. ويا بُنيّ، كانَ عبدُ الله بنُ مسعود حدّثَ، فقال: سألتُ النبيّ: يا رسولَ الله، هل للساعةِ مِنْ علمٍ تُعرَفُ به؟ فقال لي: يا بنَ مسعود، إنَّ للساعة أعلاماً، وإنَّ للساعة أشراطاً، ألا وإنَّ مِن أعلام الساعة وأشراطها أن يكون الولدُ غيظاً، وأن يكونَ المطرُ قيظاً، وأن يفيضَ الأشرارُ فيضاً. يا بنَ مسعود، إنَّ مِن أعلام الساعة وأشراطها أن يصدقَ الكاذبُ، ويكذب الصادقُ. يا بن مسعود، إنَّ من أعلام الساعة وأشراطها أن يؤتمنَ الخائنُ، وأن يخونَ الأمينُ. يا بنَ مسعود، إنّ من أعلام الساعة وأشراطها أَنْ يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا، وَكُلَّ سُوقٍ فُجَّارُهَا. يا بن مسعود.. يا بنَ مسعود».
وفيما كانَ الجليلُ يعدّدُ ما كانَ ابنُ مسعود عدّدَ ما كانَ الكريمُ عدّدَ عن أعلامِ الساعة وأشراطها، كنتُ مأخوذاً بالأعلام والأشراط كما لو أنّها الآنَ، الآنَ، وفيما أنا أحشرجُ بأسئلةٍ كأنّها الحرابُ عن زمنٍ تضرّجَ بالمفارقة، افترَّ ثغرُ الغيمة عن غيثٍ عانقُ الأرضَ كعاشقٍ برّحَ الشوقُ به، وسمعتُ، فيما سمعتُ، الجليلَ يردّدُ: «الحرُّ لا يخونُ.. الحرُّ لا يخونُ».

الخميس، 14 ديسمبر 2017

غادة السّمّان.. لماذا؟

https://goo.gl/dRpUxS
بقلم :همام يحيى
مدونات الجزيرة

نجحت غادة السّمّان مرّة أخرى في إثارة الجدل، وإن كان هذه المرّة صورةً باهتة عمّا كانَه يومَ نشرت رسائل غسّان كنفاني إليها. إذا ما أخذنا في الاعتبار الفرق في وسائل التّواصل والتّعبير بين الزّمنين، فسيتبيّن لنا أنّ ضجّة "أنسي" لا تُذكَر مقارنة بضجّة "غسّان". تخيّل لو كان هناك فيسبوك يومَ نشرت رسائلَ غسّان.

لا أريد التّورّط في المساواة بين الأمرين بطبيعة الحال، فرسائل غسّان طويلة وممتدّة، وغسّان مناضلٌ ارتبط بالقضيّة الفلسطينيّة نشاطا سياسيّا وأدَبا كذلك، أمّا أنسي فالرسائل محدودة والفترة قصيرة في حدود ما نعرف، وهو شاعرٌ لطالما نُظِرَ إليه باعتبارِه نخبويّا مفرِطا في النّخبويّة، فليس أديبا مرتبِطا بقضيّة ولا بجماهير.

تُرى هل تُريدُ الأديبةُ أن يُحبَّها الأديب لأنوثتِها أم لأدبِها؟ يمكنُ أن نجيبَ بحسنِ نيّة: لماذا لا يُحبُّها لكليهِما؟ الأمورُ أعقدُ من ذلك للأسف
لكن رغم ذلك كلّه، يظلّ الفرق بين الحدثين مثيرا للتأمّل. تزامنَ نشرُ رسائل غسّان مع تسارعٍ كبيرٍ في مسيرة تصفية قصصنا الكبرى، فالقضيّة الفلسطينيّة التي استُشهد من أجلها غسّان كانت قد شرعت في طريق أوسلو، وكان العراق قد بدأ مرحلة التدمير والتّفسيخ، وكان الاتّحاد السوفييتي قد انهار حديثا، وكان ما يزال ثمّة بقايا لحديثٍ عن ذكورة صافية أو رجولة يُمكن أن يهدّدَها نشرُ رسائل يبدو فيها المناضل بشرا ضعيفا مستكينا يتوسّل لامرأة أن تكتب له، وكان ما يزال ثمّة متّسَعٌ للحديث بحنَق عن أخلاقيّات وخصوصيّات وصورٍ ذهنيّة صافية لا يجوزُ أن تُخدَش ومثاليّات لا يجوز أن تُمَسّ.

أما اليوم، فتبدو غادة متأخّرة جدّا عن الزمن، إذ تنشرُ الرّسائلَ في زمن أصبحت فيه خمسة أقطار عربيّة كبرى على الأقلّ أسماء بلا مسمّيات، والفلسطينيّ الذي كان يصولُ ويجول حيث عاش غسّان اضطراريّا أصبحت تُبنى حولَ مخيّماتِه جدرانٌ فاصلة، والقضيّة الفلسطينيّة نفسُها تبدو ظلّا باهتا لما كانته يومَ كان رجالُها وثوّارُها وأدباؤها وشعراؤها يجوبونَ العالم شرقا وغربا وتحملُهم "الثورة" و"القضيّة" على أعناق الجماهير وإلى صفوة المنابر.

تنشرُ غادة رسائلَها في زمن انتشرت فيه مقولات "النّسويّة" بغثّها قبل سمينِها، وصار فيه من المَعيب أن تُشيرَ ولو مجرّد إشارة إلى أنَّ كونَ امرأةٍ ما امرأةً ساهمَ ولو بدور بسيطٍ جدّا في فِعل فعلتْه أو قولٍ قالته أو موقف اتّخذته، وفي زمنٍ ذابت فيه الفوارق بين الرّجولة والذّكورة والذكوريّة، بحيثُ صارَ أكثرُ الرّجال يخشونَ أن يُضبَطوا متلبّسين بسلوكٍ أو قولٍ أو موقفٍ يخدشُ رهافة المرهَفات وتربّصَ المتربّصات.

تنشرُ غادة رسائلَها في زمن يمكن فيه بضغطة زرّ خاطئة أو غير مقصودة أن تنشرَ محادثةً خاصّة أو صورا بالغة الخصوصيّة ويراها الآلاف في ثوانٍ، وتنطلُق بعدَها كالرّصاصة التي لا يمكنُ لا إيقافُها ولا إرجاعُها.. في زمنٍ يُمكن فيه لمجموعة من مجانين نافذين في فيسبوك أن يفضحوا نسبة محترمة بالمئة من سكّان الكوكب.

قيمة رسائل أنسي تكمنُ في شيء واحد بالأساس: أنّ من نشرتْها هي نفسُها من نشرتْ رسائلَ غسّان يومَ كان الزّمانُ غيرَ الزّمان. لولا رسائل غسّان، لما كانت رسائلُ أنسي لتُثير فينا أكثر من  إعجاب بجمالِ لغتِها، وبنزقِ الشّاب الذي يقول: "إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري".

حُبّ الأدباء:
مجتمع الأدباء ذو سِماتٍ خاصّة يعرفُها من اقتربَ منه ولو قليلا. الأدبُ نفسُه حالة مضطربة من رؤية الوجود والتّفاعل معه، إذ تذوب الحدود لدى الأدباء بين الحقيقة والخيال، والواقع والواجب، والإفصاح والاختباء خلف الاستعارات والمجازات والكنايات، والأدباء امتدادٌ بقدرٍ أو آخرَ لهذه الحالة.

ثمّة توجُّسٌ شديد لدى المرأة تجاه الأديب إذا أحسّت منه انجذاباً نحوَها، وتعرف ذلك كلُّ من تقرّب منها شاعرٌ بالذات. ثمة تخوّفٌ قد يصحّ أو يكذبُ مفادُه أنّ الأديبَ مهجوسٌ دائما بالبحث عن موضوع جديد للقصيدة القادمة أو للرواية التّالية، وهناك اعتقاد شائع -لستُ بصدد نفيه أو تأكيدِه- أنّ الأديبَ مستعدّ دائما للتضحية بما لديه وما هو حقيقةٌ في واقعِه من أن أجلٍ أن يظفرَ بمضمونٍ يمكنُ استخدامُه في عملٍ أدبيّ. الأدباء متّهمون باستمرار بأنّ أحدهم يمكن أن يضحّي بعلاقة رائعة من أجلٍ أن يعيش حزنا لائقا بقصيدة أو مأساة لائقة برواية.

والعكس ليس أقلّ إثارة للتوجّس، فالمرأة التي تجدُ نفسَها موضِعا لإلهام الشّاعر ومُثيرة لشاعريّتِه وُمجرِيةً لقلمِه، تخشى ان تؤولَ امرأة عاديّة إذا انتقلت من اشتعالات الإلهام إلى برودة اليوميّ، ومن ضبابيّة الرغبة المشتَهاة إلى وضوح الواقع الممتلَك، ومن الصّورة الغائمةِ المُحاطةِ بالهالات حين "تَحبِكُ" لحظة الكتابة إلى الصورة الرتيبة حينَ يكونُ شيطانُ الكتابة في سباتِه.

لذا، تعلّمتِ الحكيمات من النساء ما مفادُه: ارضَي بمكانك الأوّل في حياةِ الأديب أو انسحبي منها، لكن لا تطمعي في الدّورين معا. إذا وجدتِ نفسَكِ في إلهامِه وقصيدتِه فلا تطمعي في حياتِه، وإذا وجدتِ نفسكِ في حياتِه فلا تطمعي في القصيدة. ولأنّ هذا ما تعلّمتْه حكيمات النّساء عبر الزمن فلا دورَ لي في إثباتِه أو دحضِه، لكنّ لكل حكمة استثناءات بطبيعة الحال.

يُضافُ لذلك شعورٌ غامضٍ لدى من يكتبُ لها الأديبُ أنّه لا يكتبُ لها، بل يُخاطبُ امرأة كونيّة يراها حالّة فيها أو متلبّسةً بها. بقدر سعادةِ المرأة التي تجدُ نفسَها موضِعا لتجلّي هذه الأنثى المطلقة، فإنّها تظلّ مرتبِكةً إزاء شعورِها بالزّيف، شعورِها بأنّها مُخاطَبة بالكلام، لكن غيرُ مقصودةٍ به.

والأديب؟
أما الأديبُ فهو بدورِه ليس أقلّ توجّسا من النّساء وحبّهنّ، وهاجسُه الدائم هو التّساؤل عمّا إذا كانت المرأة تحبُّه أم تحبُّ صورتَها في أدَبِه، عمّا إذا كانت تراهُ كائنا من لحمٍ ودم أم مرآةً تُريدُ أن ترى نفسَها فيها، عمّا إذا كانت ستبقى بجوارِه حين يكونُ نزِقا نكِدا حادّ المزاج أم ستأخذُ قصائدَها وتمضي. لذا حفظْنا تحذيرَ درويش عن ظهر قلب:

هي لا تُحبُّكُ أنتَ
يُعجبُها مجازُكَ
أنتَ شاعرُها 
وهذا كلُّ ما في الأمر ..

وقال همّام:
والجميلةُ لا تحبُّ سوى المرايا
أو رجالا كالمرايا
لذلك كلّه ولغيرِه، حبّ الأدباء مغامرةٌ خطِرةٌ لطرفيها، إذ يدخُلانِها بتوجّس، ويعيشانِ فيها أجملَ لحظات الاحتراق، وأقسى لحظاتِ الضّجَر، واحتمالاتُ النّهاية والمآل مفتوحةٌ على كلّ المصاريع.

لكن ماذا عن الأديبة؟
ربّما يتخيلُ كثيرون غادة وهي تبتسمُ ابتسامة مكرٍ أو انتصار وهي تنشرُ رسائلَ رجال ينكسرونَ أمامَها ولها، لكنّي أشعرُ تجاهَها بالحزن
وجود أديبة أو شاعرة في وسطِ الأدباء بحدّ ذاتِه حالة قلِقة وشديدة التوتّر. شئنا أم أبينا، أكثرُ الأدباء في التّاريخ والحاضر وفي سائر المجتمعات من أقصى الشّرقِ إلى أقصى الغرب من الرجال. هذا يجعلُ الأديبة تبدأ من موقعٍ مختلفٍ تماما، سواءٌ أكان تفوّقُ الرّجال في الأدب ناتِجا عن ظلمٍ تاريخيّ، أو صورٍ نمطيّة، أو طبيعة الأدب، أو طبيعة المرأة، أو بعض ذلك أو كلّه، فهو في النهاية واقع. واقعٌ على الأديبة أن تتحدّاه.

قولُ هذا أسهلُ بكثير من ممارستِه. فإذا وُجِدَ في الوسطِ الأدبيّ من يُشجّعُ المرأة فهي بين أن تقبلَ التّشجيعَ لأنّ الجميع يحتاجونَه بما في ذلك الرّجال، وبين أن ترفضَ التشجيعَ لأنّه قد يشي بشفقة مبطّنة لا تريدُ من غيرها أن يشعرَ بها تجاهَها. وهي كذلك بين أن تقبلَ الإعجابَ والتّقدير باعتبارِها مستحقةً له، وبين أن تتوجّس منه باعتباره محاولة خفيّة للعبور إليها عن طريق أدبِها. إذا كتبتْ أدبَها بصوتِ امرأة، اتُّهِمَت بأنّها لا تستطيعُ أن تخرج من إطارِ أنوثتِها لتكتبَ أدبا غيرَ نسويّ، وإذا كتبتْ أدبا غيرَ نسويّ، تساءلَ النّقادِ عن غيابِ صوتِها الخاصّ وهواجِسِها الحميمة. المرأة في الوسط الأدبيّ في حقلِ ألغامٍ مزروعة في كلّ اتّجاه.

وماذا لو أحبّها أديبٌ مثلُها؟
هذا وضعٌ شديدُ التّعقيد والالتباس. فهو أديبٌ ينطبقُ عليه ما قلناه من قبل في حبّ الأدباء، وهي امرأةٌ وأديبةٌ في الوقتِ نفسِه، فهي امرأة تُحبُّ أن تُحِبَّ وأن تُحَبّ، كما يُحبُّ الرجلُ أن يُحِبَّ وأن يُحَبّ، وهي كذلك أديبةٌ من داخل البيت، تعرفُ مناورات المجاز وروغان الاستعارات وألعاب الكناية ومكرَ البلاغة.

تُرى هل تُريدُ الأديبةُ أن يُحبَّها الأديب لأنوثتِها أم لأدبِها؟ يمكنُ أن نجيبَ بحسنِ نيّة: لماذا لا يُحبُّها لكليهِما؟ الأمورُ أعقدُ من ذلك للأسف، فهذان الاحتمالان سيظلّان يُطاردانِها، وستظلُّ تجري بينَهُما جريا أبديّا كجريِ هاجرَ اليائسِ بينَ الصّفا والمروة، من دون أملٍ في "زمزم".

أن يتحابّ أديبٌ وأديبة فذلك اجتماعٌ لاحتمالاتٍ تفوق الاحتمال، شيءٌ يُشبِه عِناقَ سحابتين لا يُعلَم خِلالَه ما في هذه من تلك وما في تلكَ من هذه، ولا يُعلمُ بعدَه ما بقيَ من إحداهما فيها، أو عشقا بينَ وترينِ في عود، لا يزيدُ اهتزازُهُما واضطرابُهما متجاورَين إلا في قناعتِهما باستحالة اللقاء.

أخيرا، غادة..
لستُ في موقعٍ يسمحُ لي بالتّكهّن بما دارَ في خَلَد غادة يوم قرّرت نشرَ رسائل غسّان أو أنسي. قد يكونُ لما سبقَ علاقةٌ ما بقرارها وقد لا يكون، غيرَ أنّ شيئا واحدا يبدو لي واضِحا ومُحزِنا في الوقتِ نفسه: لا يمكنُ لرسائلِ العشقِ بعد نشرها أن تظلّ رسائلَ عشق، بل ستصبحُ أدَبا. شاءت غادة ذلك أم لم تشأ، لم تعد الرسائلُ رسائلَ حبّ، بل أصبحت أدبا، أو ربّما تاريخا أو مادّة صحفيّة. تُرى، هل كان هذا هو حكمَ غادة عليها من الأساس؟ أنّ هؤلاء الرّجال أرسلوا لها قصائدَ متنكّرة في رسائل؟ أم أنّ هذا كان اكتشافَها المتأخّر؟ وهل كانَ هذا الاكتِشاف انتصارا لها كأديبةً، إذ استطاعت أن تتعالى على مراوغاتِ الرّسائل وترى فيها أدباً لا رسائلَ عشق؟ أم كان جَرْحاً لأنوثتِها لأنّ هؤلاء الرّجال لم يستطيعوا أن يكتبوا لها رسائلَ عشقٍ حقيقيّة، لا قصائدَ متنكّرة؟.. من يدري؟..

لكنْ أيّا يكُن، بنشرِ الرّسائل، تقرّر غادة أنّها لم تستحقّ وحدَها هذه الرسائل، ولذا لم تستطع أن تحتكرَ ملكيّتَها. تقرّر أنّ فيها شيئا لا يعنيها وحدَها، أنّها لم تُكتَبْ لها تماما، أو ربّما لم تُكتبْ لها بالمرّة. الرسائلُ أو بعضُها بدت لغادة شيئا لا تستطيعُ أن تدّعي ملكيّتَه الكاملة، شيئا لا يمكن لصندوقِ الهدايا أو ملفّ الرّسائل أن ينطويَ عليه في طمأنينة، فنشرتْه لعلّ التّاريخ أو الأدبَ يتحمّلُ عنها عناء هذه الملكيّة.

ربّما يتخيلُ كثيرون غادة وهي تبتسمُ ابتسامة مكرٍ أو انتصار وهي تنشرُ رسائلَ رجال ينكسرونَ أمامَها ولها، لكنّي أشعرُ تجاهَها بالحزن، لأنّها مهما عاشتْ من حبّ مع غير هؤلاء الرّجال، ومهما تحقّق لها من مكاسبَ بالنّشر، إن تحقّق شيءٌ من هذا، قد خسرت شيئا عزيزا جدّا: شعورَ أن تكونَ هي وحدَها، ولا أحد معها، جديرةً بهذه الرّسائل.

الأحد، 10 ديسمبر 2017

الحب وحده لا يكفي يا صوفيا

بقلم: عبد المجدي سباطة
مدونات الجزيرة

رغم أنني من أشد المعارضين لذلك الخلط -الخاطئ في نظري- بين حياة الكاتب الشخصية وعمله الأدبي، إلا أنني في كل مرة يوقعني فيها كتاب معين في غرام أفكاره وحبكته وشخوصه، أجدني مدفوعا بقوة خفية إلى النبش في أدق تفاصيل حياة كاتبه، ظروف مولده ونشأته، تطوره الأدبي، المصاعب والعقبات التي واجهها، لحظات مجده وانكساره، إلخ...      

 قرأت في سنوات مراهقتي الأولى رواية "آنا كارنينا"، أيقونة الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي، بترجمتها الفرنسية، وطالعت قبل بضعة أسابيع واحدة من أجمل رواياته وآخر ما نشر له بعد وفاته، رواية "الحاج مراد"، بترجمة هفال يوسف، ربما كاستعداد نفسي قبل الدخول إلى عوالم أضخم أعماله وأشهرها: "الحرب والسلم". فاستوقفتني معلومة اتفقت على ذكرها معظم المصادر التاريخية:

قامت صوفيا، زوجة تولستوي بنسخ روايته "الحرب والسلم" 7 مرات قبل الاستقرار على نسختها النهائية. مهلا، نحن نتحدث هنا عن عمل روائي ضخم يتجاوز حجمه آلاف الصفحات، وليس بضع مئات فقط! من كانت لتقوم بهذه المهمة الشاقة، لولا امتلاكها الكثير من الصبر، والكثير من الحب؟

اسمها صوفيا بيرز، تعرف عليها ليو تولستوي بعد سنوات طويلة من العزلة، أحبا بعضهما بجنون، لم يكن عمرها يتجاوز آنذاك الثامنة عشرة، فيما يكبرها هو بستة عشر عاما، ورغم أنه سلمها ليلة واحدة قبل زفافهما مذكرات شخصية يعترف فيها بأسوء عيوبه، إلا أن قرارها كان قد حسم: سأتزوجك...مهما كلف الأمر، وتم ذلك بالفعل يوم 23 سبتمبر 1862، لتبدأ واحدة من أعقد العلاقات الزوجية والأسرية في تاريخ روسيا!

بعد ست سنوات من الزواج، وبالضبط عام 1868، بدأت صوفيا في كتابة يوميات تلخص فيها طبيعة علاقتها المعقدة بعبقرية أدبية لن تتكرر، العلاقة التي لم تكن صافية على الدوام، إذ تخللتها المشاجرات والمناكفات والتناقضات مع شخص مزاجي لا يمكن توقع تصرفه القادم على الإطلاق!

صف صوفيا كل هذا بالقول: "يعتريني الضحك لقراءة مذكراتي، فهناك الكثير من التناقضات كما لو كنت الأتعس بين النساء، لكن الذي يجعلني أكثر سعادة هو عندما أكون في غرفتي وأصلي من أجل سنوات عديدة أخرى من السعادة عشتها بالرغم من هذا الشجار الذي أكتبه هنا" واكبت صوفيا تأليف ليو تولستوي لروائعه، الحرب والسلم ثم آنا كارنينا، وقالت عن الأولى: "تولستوي كان يكتب بألم عن معاناة الآباء والأمهات في الحرب وفقدان الأبناء وما عانته قرية أوستريلتر طوال عام كامل وبرودينو وحريق موسكو، لقد تناولت وبإسهاب الحياة السياسية القاتمة والحب والكراهية".

وعن الثانية: "هذه المرة ينحو تولستوي بتاريخ روسيا منحى آخر يختلف جذريا عما قدمه في الحرب والسلم، فهو هنا يقدم تأريخا للحياة الاجتماعية ولا سيما حياة النخبة منهم خاصة النبلاء، تقف في وسطهم آنا كارنينا في صراع بين القلب والعقل، بين الحب والواجب وما بين القديم والجديد، في آنا كارنينا قدم زوجي عصارة جهده وفيها الكثير من نفسه".


لكنها كانت مطالبة أيضا بالقيام بدورها كأم أنجبت 13 طفلا مات بعضهم بسبب الأمراض التي كانت منتشرة بكثرة في تلك الفترة، أم تعنى بكل شؤون منزلها بالرغم من وجود الخادمات، وجميع أنواع المساعدة التي تقدمها لزوجها أثناء عمله، فكانت بالفعل امرأة متعددة المواهب، وزوجة قادرة على النهوض بالمهام التي يتطلبها أن تكون امرأة ما زوجة عاشقة لرفيق عمر شاء القدر أن يكون عبقريا مشهورا. لكن الخيط الفاصل بين العبقرية والجنون لا يكاد يرى، والحب وحده لا يكفي لصنع حياة زوجية سعيدة يا صوفيا!


يمكن القول إن المنعطف في حياة الزوجين ابتدأ مع منتصف حياة تولستوي، بعد تحوله إلى ما يشبه الواعظ الديني، إذ تخلى إلى حد ما عن كتابة الروايات، واكتسب الأتباع من جميع أنحاء العالم، (كان أبرزهم المهاتما غاندي)، فشكل رؤيته الخاصة للمسيحية، منتقدا مظاهر البذخ والتبذير في الكنيسة الأرثوذكسية، وبدأ يطلق التهديدات بالتنازل عن كل ما يملك، (بما في ذلك حقوق طبع أعماله) إلى الشعب الروسي. فاستشعرت صوفيا خطرا شديدا على مستقبل أسرتها بسبب تقلبات زوجها، وأثر ذلك على اتزانها النفسي خلال ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، لتتحول مرغمة إلى امرأة مرعبة خلال العقد الأخير من حياة تولستوي مع بداية القرن العشرين.
تقول الزوجة الصبورة أنها لم تعرف كيف تتعامل مع تولستوي بسبب صعوبة فهمه، فهو يشعرك بأنه متدين وأعماله كلها مكرسة للخير، بينما هو في حقيقة الأمر يريد شيئا واحدا فقط هو الهيمنة، كان على حد قولها متعصبا لرأيه ولما يرى أنه حق.

استفحل الأمر مع اقتراب تولستوي من سن الثمانين، فقد كان يهدد صوفيا باستمرار بتركها وترك الأسرة والعيش على الطراز البوهيمي أواخر عمره، فلم تجد الزوجة بدا من تهديده بالانتحار على طريقة آنا كارنينا بطلة رواية ليو الأشهر، وعندما لم تجد أذنا صاغية منه نفذت تهديدها بالفعل وقفزت إلى إحدى البحيرات محاولة التخلص من كل عذابها، لكنهم تمكنوا من إنقاذها، فقالت: "أريد أن أغادر العذاب لأنني لم أعد أتحمل هذه الحياة الرهيبة ولا أستطيع أن أرى أي أمل".

في النهاية أصر تولستوي على رأيه وترك حياة الترف والثراء، وفر من منزله بإتجاه منزل صغير في قرية استابو بالقرب من إحدى خطوط السكك الحديدية، ليتم العثور عليه ميتا بعدما أصيب بالتهاب رئوي، وذلك يوم 20 نوفمبر 1910 عن عمر يناهز 82 عاما، ودفن لاحقا في حديقة ضيعة ياسنايا بوليانا. دون طقوس كنسية أرثوذكسية كما أراد.

عاشت صوفيا بعده سنوات طويلة من الترمل، وكانت تذهب لزيارة قبره حيث تطلب الصفح منه لإخفاقاتها معه، رغم تسببه هو الآخر في جزء كبير من عذاباتها، وبقيت وفية لذكرى زوجها إلى أن لحقت به في الرابع من نوفمبر من العام 1919.

تشهد مذكرات صوفيا إذن على المصاعب والعقبات التي واجهت امرأة استثنائية متزوجة من رجل ترك بصمته الواضحة في سياق التاريخ العالمي المعاصر، ومع كل المشاعر التي حملتها نحوه إلا أنها كشفت في الوقت نفسه عن مأزقها الذي لم تجد هروبا منه سوى بين أوراقها ودفاتر الصغيرة، ربما لأن الكلمات التي سطرتها كانت تشعرها بالراحة وتخفف من آلامها، تاركة سجلا حافلا بكفاحها ومصدر إلهام لأجيال الحاضر والمستقبل، لعل هذه الأجيال تفهم من خلالها أن الحب وحده لم يكن في يوم من الأيام كافيا لصنع المعجزات!

السبت، 9 ديسمبر 2017

بين الأب وابنته

فنان من أوكرانيا يكشف عن أهمية الحب بين الأب وإبنته ...
صفحة سيدتي الجميلة
https://www.facebook.com/sayidatynetpage/posts/1824460674251267?pnref=story

التفاصيل الصغيرة بين الأب وأبنائه هي التي تجعل منه الأب البطل في عيونهم وقلوبهم... والذي لا يرى إلا نفسه ونزواته، ساقطٌ من عيونهم وقلوبهم. ماذا ينفع أن يراك جميع الناس بطلاً وأنت في عيون أبنائك خائن! وماذا ينفع وجود الجميع حولك... وأبناؤك لا يشعرون بوجودك!




























الجمعة، 8 ديسمبر 2017

مُذكرات الكُتاب: عوالمهم الدفينة

بقلم رضوى أشرف


الإحتفاظ بمذكرة وكتابة مذكراتك قد تكون أفضل مميزات العزلة. فلا توجد طريقة أفضل منها لتقديم نفسك، وخبراتك وأفكارك الداخلية. وهنا يتحدث بعض أشهر الكتاب عن تجاربهم في كتابة مذكراتهم وتأثير ذلك عليهم.

وربما أشهرهم هي الروائية الأسبانية أنايس نين، والتي بدأت في كتابة مذكراتها في عمر الحادية عشر حتى موتها وقد بلغت 74 عاماً، لتخلف وراءها 16 عدداً منشوراً من المذكرات تطرح فيها موضوعات مثل الحب، الحقوق، إعتناق المجهول، معنى الحياة وأسباب الفرح. وتقول عن كتابة المذكرات: “بينما كنت أدون مذكراتي اكتشفت مقدرتي على تسجيل اللحظات الحية. وإحتفاظي بمذكرة طوال حياتي جعلني أكتشف بعض الأسس الجوهرية في الكتابة. وأقصد من حديثي هذا الإشارة لبعض الإكتشافات الهامة التي تنتج عن هذا النوع من الكتابة، وأهمها العفوية والتلقائية. ففي مذكراتي لم أكتب إلا عما أثار إهتمامي بصدق، وما شعرت به حينها، ووجدت أن ذلك الحماس هو ما أحتاجه في الكتابة”.

ومن ثم الكاتبة الإنجليزية الشهيرة فرجينيا وولف، والتي تحدثت عن قدرة المذكرات على الولوج لأعماقنا، حيث تكمن المجوهرات الحقيقية. تقول: “أود أن أشير إلى أن الكتابة في المذكرة لا تعد كتابة بحق. فقد أعدت قراءة مذكراتي للعام الفائت وصدمت بالفوضى العشوائية التي تسودها. ولكنني أعتقد أنه إن توقفت عن الكتابة للتفكير والتصحيح، فإن كتابات المذكرات لن تُكتب أبداً. من أهم مميزاتها أنها تسجل ما كان من الممكن أن أتردد بكتابته في ظروف كتابة عادية.”

أما الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثوريو، فقد نُشرت مذكراته التي كتبها على مدى أكثر من ثلاثين عاماً والتي تناول فيها معنى حياة الإنسان الحقيقية. ويعتبر أن بريق المذكرات موجه في الأساس للقارئ لا الكاتب، ويقول: “أليس من المفترض أن يكتب الشاعر سيرته الخاصة؟ أليس أفضل أعماله هو مذكرات ممتازة؟ نحن لا نرغب بمعرفة كيف عاش بطله الخيالي، ولكن كيف عاش هو، البطل الحقيقي”.

ويشاركه صديقه الكاتب رالف والدو أميرسون الرأي، ويضيف، في جزء من مذكراته الخاصة، “الكاتب الجيد يكتب عن نفسه، ولكن تظل عيناه على خيوط الكون التي تمر من خلاله ومن حوله.”

وقد تكون أشهر وأصغر من كتبت مذكراتها هي الكاتبة الألمانية أن فرانك فمذكراتها “مذكرات فتاة صغيرة”، كانت من أقوى المذكرات التي وثقت حياة كاتبتها والعصر التي عانت فيه، وتقول: “بالنسبة لشخص مثلي، أنها لعادة غريبة للغاية أن أكتب مذكراتي. فبجانب كوني لم أكتب من قبل مطلقاً، لا أعتقد أنني، أو أي شخص آخر، قد يهتم بما قد تقوله فتاة في الثالثة عشر.”

ويقول الكاتب الأيرلندي الشهير أوسكار وايلد، “لا أستطيع السفر بدون مذكراتي. فلا بد للمرء من أن يكون معه شئ مفعماً بالمشاعر ليقرأه في القطار.”

أما الكاتبة والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، فهي مثل نين، ظلت تحتفظ وتكتب مذكراتها منذ سن صغيرة، وكتبت ما يقرب من عشرة أعداد. وتحدثت فيها عن المعتاد ولكن بأسلوبها الخاص، فقد تناولت الحياة والموت. كما أنها كانت تعتبر الكتابة في مذكراتا كوسيلة للتحمية قبل الكتابة الحقيقية. اما بالنسبة إلى أكثر من أثر فيها من كاتبات المذكرات فتعترف بأن فرجينيا وولف ومذكراتها أثرت فيها بشكل بالغ.

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

رسائل فلاديمير نابوكوف إلى زوجته فيرّا... بعيد عنك، حـيـاتي كتابة!

بقلم:الصحبي العلاني

بعيداً عن منطق المفاضلة والتباهي، وعن نوازع التمجيد والمغالاة، فإنّ جلّ الدارسين يُجمعون إجماعاً شبه تامّ على أنّ معجم الحبّ في اللّسان العربيّ من أثرى المعاجم. يكفي أن نفتح كتاب "فقه اللغة وسرّ العربيّة" لأبي منصور الثعالبي (429 هـ)، حتى نتأكّد أنّ للحبّ مراتب وصفات "أوّلها الهوى، ثمّ العلاقة، ثمّ الكَلَف، ثمّ العشق، ثمّ الشعف (بالعين)، ثمّ اللّوعة، ثمّ الشغف (بالغين)، ثمّ الجوى، ثمّ التّيْم، ثمّ التّبْلُ، ثمّ التدليه، ثمّ الهُيوم". وغير ما ذكره الثعالبي في كتابه كثير، كالخَبَل والصّبابة والصّبوة والغمرة والفتون والهُيام والبلابل والدَّنف والحرق... والقائمة تطول! ولكنّ اللافت للانتباه والباعث على الاستغراب أنّ هذا الكمّ الهائل من التشقيقات المعجميّة والتدقيقات الدلاليّة لا توازيه في مستوى الأخبار المنقولة والآثار المشهورة إلّا الخيبات والانكسارات! خيباتٌ وانكساراتٌ تعود إلى الحقبة ما قبل الإسلاميّة في ما رُوِيَ عن عنترة وعبلة، ثمّ في ما نُقل لاحقاً من حكايات لا حصر لها جَمَعت (أو بالأحرى فَرَّقت!) بين كثير وعزّة، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، وابن زيدون وولّادة، وغيرُ هؤلاء "الأزواج" كثير!

كتابة الحب.. بين الحليلة والخليلة
في ما نظَموا من قصائد وما حبّروا من نصوص، لم يتعوّد الشعراء والكتاب العرب أن يتّخذوا من زوجاتهم موضوعاً للإبداع أو مصدراً للإلهام، إلّا ما ندر. فنحن، مثلاً، لا نكاد نعرف شيئا عن زوجة أبي الطيب المتنبي (ت. 354 هـ)، وهو القائل: "وما كنتُ ممّن يَدخل العشق قلبَه/ ولكنّ من يُبصر عيونكِ يعشق"؛ وكذا الأمر مع الشريف الرضيّ (ت. 406 هـ)، وهو القائل: "أنتِ النعيم لقلبي والعذابُ له/ فما أَمَرَّكِ في قلبي وأحلاك!"؛ وأمّا الحصري القيرواني (ت. 488 هـ)، صاحب رائعة "يا ليل الصبّ متى غده/ أقيام الساعة موعده"، فإنّ حكايته مع زوجته أشهرُ من أن يقع التذكير بها وهي التي هجرته دون تطليق وفرّت منه بلا رجعة. وفي هذا السياق، أو بالأحرى في السياق المضادّ له تماماً، يمثّل الشاعر الأمويّ جرير التميمي (ت. 110 هـ)، استثناءً جديراً بالتأمّل والثناء. فقد أقدم على ما لم يُقدِم عليه أحدٌ قبله وعلى ما لم يَسِرْ على هديه شاعرٌ بعده وذلك حين رثى زوجته بقصيدته التي جاء في مطلعها "لولا الحياء لهاجني استِعْبارُ/ ولَزُرْتُ قبرَك والحبيب يزارُ". ولكنّ هذا الاستثناء - بالرغم ممّا فيه من دلالة لا تخفى - ليس إلّا خَرْقاً للمألوف يدعم القاعدة ويؤكّدها بالخُلف.
وقد تفطّن النقّاد القدامى والدارسون المُحدثون إلى هذه الظاهرة، ظاهرة غياب الزوجات عن نصوص مبدعينا العرب (أو بالأحرى - وهو الأصحّ - ظاهرة تغييبهِنَّ) حتّى إنّهم صاغوا ما يُشبه "القانون العامّ" أو "القاعدة المُطّردة". ومُلخّصُها أنّ شعراء العربيّة وأساطين النثر فيها لم يتعلّقوا بـ"الحليلة" مقدار تعلّقهم بـ"الخليلة"! وفرق ما بينهما أنّ الأولى (والمقصود بها الزوجة، أو الزوجات، وقد يتعدَّدْنَ، مَثنى وثلاث ورُباع) ظلّت غائبة عن النصّ رغم حضورها في واقع المبدع وفي حياته اليوميّة وعلى فراشه وبين أحضانه حضوراً يعترف به المجتمع ويُقرّه ويطمئنّ إليه؛ أمّا الثانية (والمقصود بها ذلك "الكائن الهشّ" الذي قد يكون جاريةً، مُلكَ يمين أو أمّ ولد، أو مجرّد "عشق ممنوع" و"وهم مستحيل")، فليس لها من حضور سوى ما ترسمه خيالاتُ الشاعر أو معاني الناثر.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن المفارقة العميقة التي وسمت حياة العرب القدامى والقِسْم الأعظم من المُحدَثين: مفارقة الاعتراف السائد بـ"الحليلة" مُقيَّدةً بأغلال المجتمع التي تضيّق عليها وعلى قرينها الشاعر أو الناثر حدودَ الإبداع، ومفارقة "الكينونة الهشّة" التي تبدو عليها "الخليلة" مجرّد جارِية أو "فنتازما" عابرة.. بصرف النظر عن هذا وعن ذاك، فالمؤكّد لدينا أنّ كتاباً مثل كتاب نابوكوف، "رسائل إلى فيرّا"، لا يمكن إلّا أن يشكّل "حدثاً انقلابيّاً" بالنسبة إلى أيّ قارئ عربيّ قد تتاح له فرصة قراءته... لا لشيء سوى أنّه يعصف بذائقتنا الأدبيّة المستقرّة الثابتة ويتيح لنا أن نرى في الحليلة أكثر ممّا تعوّدنا أن نتخيّله وأن "نُفَنْتَزْمِي" عليه مع الخليلة!

نصف قرن من الرسائل.. وأكثر!
على امتداد نصف قرن ونيف، أي من شهر أيار/مايو 1923، تاريخ أوّل لقاء جمعهما في برلين عاصمة ألمانيا، إلى شهر يوليو/تموز 1977، تاريخ وفاته في مدينة لوزان السويسريّة، لم ينقطع فلاديمير نابوكوف (1899-1977) عن الكتابة إلى فيرّا نابوكوف (1901-1991)، زوجته، إلّا قليلا! وهذا ما يبدو غريباً، بل مجافياً لطبائع الأشياء وأصول المنطق! لا فقط من منظور ما استقرّ لدينا نحن العرب في علم اجتماع الأدب من تفريق بين وضعيّة الحليلة ووضعيّة الخليلة، بل من منظور الثقافة الغربيّة ذاتها. فممّا يُفترض في الزواج، أيِّ زواجٍ، أن يقوم على المُساكنة وعلى العيش المشترك اللّذيْن لا يحتاج فيهما أيّ من الطّرفيْن، لا الزوج ولا الزوجة، إلى اعتماد المراسلات وسيلةً للتواصل.

ولكنّ هذه الوضعيّة العاديّة المألوفة التي تحكم حياة جلّ الأزواج في مختلف الثقافات والأزمنة لم تكن كذلك حقّا بالنسبة إلى عائلة نابوكوف. ولا نعني بالعائلة هنا الزوجَيْن فلاديمير وفيرّا، تحديداً، بل نعني بذلك العائلة الموسّعة، أي والد فلاديمير ووالدته وإخوته ومن كان لهم نسباً وصِهْراً، كما نعني أيضاً العائلة الأوسع، أي الجالية الروسيّة التي اضطرّت إلى مغادرة البلد والاستقرار في برلين وغيرها من العواصم والمدن الأوروبيّة في أعقاب قيام الثورة البلشفيّة (أكتوبر/ تشرين الأول 1917)، قبل أن تُضطرّ مجدّداً إلى مغادرتها باتّجاه باريس ثمّ باتّجاه أميركا إثر اندلاع الحرب العالميّة الثانية (1939 - 1945).
والذي نستخلصه ممّا سلف توضيحه وبيانه أنّ حياة فلاديمير نابوكوف (سواء تعلّق الأمر بعائلته الصّغرى، أو بالعائلة الموسّعة، أو بالعائلة الأوسع) كانت محكومة بالترحال، منذورة للمنفى، مهدّدة بالاغتيال الذي طاول فعلاً والده فأرداه قتيلا في شوارع برلين، شهر مارس/آذار 1922، وظلّ يتهدّد من بعده كلّ نَفَسٍ حرّ وكلّ صوتٍ طليق يريد أن يختطّ لإبداعه أفقاً مغايراً للسائد.
فلا غرابة، إِذَنْ، والسياقان التاريخيّ والشخصيّ على ما وصفنا، أن يجد الزوجان فلاديمير نابوكوف وفيرّا نابوكوف نفسَيْهما في حكم "الزوجَيْن على الورق"، تقريباً، (إن صحّت العبارة، رغم قسوتها!). وذلك ما يبدو لدينا أقرب إلى الاحتمال، خاصّة في المرحلة بين سنة 1923 التي تعارفا فيها، وسنة 1925 التي ارتبطا خلالها رسميّا، وصولاً إلى سنة 1950. فعلى امتداد هذه المرحلة التي كتب فيها فلاديمير نابوكوف لزوجته فيرّا أكثر من تسعين بالمائة من الرسائل المنشورة في الكتاب، ظلّ إيقاع حياته قائماً على الترحال المستمرّ بين عواصم أوروبا ومدنها، بين برلين وباريس وبروكسيل ولندن وبراغ وفرايبورغ وستراسبورغ وكان وصقليّة. ليس له من هدف وراء ذلك سوى أن يجد ما يُقيم به أَوْدَ عائلته وأن يقِيَها شرور الجوع وآلام المرض الذي أصاب فيرّا وحكم عليها بأن تتنقّل بين المصحّات بحثاً عن علاج في ألمانيا على وجه الخصوص.

الرسائل.. الأدب.. الحياة!
ولكنّ هذه الحياة الأسريّة المضطربة التي عاشها الزوجان نابوكوف خلال مرحلة 1923-1950 (أو بالأحرى، هذه التي افترقا في جلّ ردهاتها ولم يجتمعا إلا قليلاً، على شوقٍ لا ينتهي وعلى أملٍ في لقاءٍ غير متوقّع وغير منتظر)، لا ينبغي أن تحجب عنّا الحياة الأخرى التي ظلّت تعتمل بينهما بشكلٍ لم نجد له نظيراً، لا عند الشاعر الفرنسي لوي آراغون (1897 - 1982) وأيقونته ذات الأصول الروسيّة إلزا ترييولي (1896 - 1970)، ولا عند جون بول سارتر (1905 - 1980)، وقرينته سيمون دي بوفوار (1908 -1986)، ولا عند غيرهم.

ولعلّ من أهمّ ما يستوقفنا في حياة آل نابوكوف، كما تكشف لنا عنها النصوص الواردة في كتاب "رسائل إلى فيرّا"، أربع خصائص نعتقد أنّها مميّزة فارقة:
أُولاها: أنّ نمط المراسلات كان على قدر كبير من التنوّع والاختلاف، سواء تعلّق الأمر بالمرحلة الأولى 1923-1950 أو بالمرحلة الثانية 1950-1977. فقد تتّخذ الرسالة حيناً شكل بطاقة بريديّة تحمل إمضاء مُرسِلها، وقد تكون أحيانا أخرى دون إمضاء. وقد يكون نصّها - تارةً - موسّعاً في حدود ما يحتمله نصّ البطاقة، وقد يكون مقتضباً لا يتجاوز الكلمات المعدودة. أمّا الرسائل - بالمعنى المتداول المألوف للكلمة - فقد تراوحت هي الأخرى بين طويل وقصير، وبين ممهور بالإمضاء وغير ممهور.
ثانيتها: أنّ هذه المراسلات، بصرف النظر عن الجانب الكميّ فيها، طُولاً وقِصَراً، ظلّت تُراوح بين أجناس شتّى من الكتابة لا حصر لها. ولا نعني بذلك توزّعها بين الشعر والنثر، بل نقصد - وهذا الأهمّ - اعتمادها أساليبَ وأنماطاً في الكتابة يعسُرُ الإلمام بها جميعا. ففيها من التوثيق نصيبٌ لا يخفى، ومن البوح مقدارٌ لا تخطئه العين، ومن دلع العشّاق وملاطفاتهم وتدليل بعضهم بعضاً ما لا نتخيّل غيابه عن مثل هذه المخاطبات. كما أنّ فيها من التبرّم بالحياة ومن شكوى الدهر ومن الدعوة إلى ضرورة الحذر من المستقبل ما لا نتوقّع أنّ نابوكوف أو فيرّا كانا ذاهلَيْن عنه...
ثالثتها: أنّ الرسائل، منظوراً إليها باعتبارها وحدةً كليّةً (آثرنا عند قراءاتها أن نتعمّد - إلى حين، ولغايات منهجيّة، لا غير - أن نتغاضى عن سياقاتها الزمانيّة وعن مقاماتها المكانيّة وعن تفاصيلها العَرَضيّة الحادثة)، تكشف لنا في العمق عن موقف فريدٍ أصيلٍ ظلّت فيه الكتابة بالنسبة إلى فلاديمير نابوكوف فعلاً من صميم الحياة بل عملا في جوهر الكينونة، لا مجرّد تدوين على الهامش أو تعليق على الحاشية. ولهذا السبب بالذات، فإنّ الرسائل - بصرف النظر عن طولها وعن قصرها، وعن الأنماط والأشكال التي ظهرت عليها - يمكن أن تُتّخذ مدخلاً إلى قراءة مدوّنة نابوكوف الأدبيّة من منظور تكوينيّ لا من زاوية تاريخيّة أدبيّة سطحيّة.
رابعتها، (وهي الأهم، بل إنّها الأكثر مدعاةً إلى الاستغراب والأبعث على الخيبة إلى حدود الحيرة!): أنّ كتاب نابوكوف هذا الذي يمتدّ على أكثر من ثمانمائة صفحة لم يتضمّن ولا حتّى رسالة واحدة كاملة من رسائل فيرّا!
صحيح أنّ بإمكان القارئ الفَطِن أن يتنبّأ - من خلال ردود نابوكوف - بما سبق لفيرّا أن كتبته له، وبما بادرت أحياناً عديدةً إلى تدبيجه من رسائل. ولكنّ السؤال يبقى مع ذلك قائماً دون جواب: لماذا خيّرت فيرّا أن تحتفظ برسائلها لنفسها بعدما استرجعتها من نابوكوف؟ لِمَ لَمْ تسمح بنشرها؟ لِمَ فضّلت أن يكون صوت الشاعر والروائيّ والقصّاص والمترجم والناقد، زوجِها، الصوتَ الطاغِيَ، بل الصوتَ الوحيد؟
أسئلة عديدة مُحيّرة لا حصر لها تحضُرنا في هذا المقام، مقام الخاتمة. أسئلة تعود بنا إلى جدليّة الحليلة والخليلة، وإلى لعبة الخفاء والتجلّي، وإلى بوح شهرزاد الذي يسحبنا مع متعة الحَكْيِ ثمّ لا يلبث أن يُذيقنا "مرارة العزل" مع انبثاق الصباح وامتناع الكلام المباح! ومهما يكن من أمرٍ، فمن المؤكّد أنّ رسائل نابوكوف إلى فيرّا لم تكن إلا إلى فيرّا ولا أحد في "الفنتازما" غيرها... وسواء أكان بعيداً عنها أم قريباً منها، فكلّ ما كتب كان لأجل عينيْها.

الخميس، 30 نوفمبر 2017

عندما تصبحين في الخامسة والأربعين

بقلم: سما حسن
العربي الجديد
https://goo.gl/9rtUSp



غدا أتمّ عامي الخامس والأربعين. يبدو الخبر عادياً للجميع، لكنه ليس كذلك بالنسبة لي؛ فلا زلت أشعر بسعادة الأنثى، لأن شاعرنا محمود درويش خصّ المرأة الأربعينية بالوصف بأنها امرأة بكامل مشمشها، على الرغم من أن هموم اليومي ومشاغله من الحياة الحالية لم تبق على الخوخ أو المشمش في بستان أعمارنا، ولكن بعض المتعة يراودني، خصوصاً حين تطلب مني امرأة تجاوزت الأربعين أن أستمتع بكل يوم من الأربعينية هذه. 

ليس سهلاً أن تستيقظي من نومك، وتجدي نفسك قد أصبحت في منتصف الأربعينات، ففي البيت يتعامل معك الجميع على أنك كتاب معارف وخبرات متحرّك، ولا يوجد شيء تجهله في هذه الحياة، حتى أسرار الكون الغامضة، وما يدور في بعض البلاد من أحداثٍ، فأنت عليم بالحكمة منها، وستنشر تحليلاً لها على مائدة الطعام الجاري تحضيرها، فتجد نفسك ملزماً بأن تستزيد من المعرفة باستمرار. 
يناديك الجميع في الشارع بلقب جديد، ليس "يا آنسة أو يا مدام" مثلا؛ فشوارعنا العربية تحبّ الحميمية حتى في الشارع، وكأنها الشعرة الأخيرة التي لا تكلفهم شيئاً، فالسائق يناديك باسم يا خالة، وهو يسألك عن وجهتك، والبائع يدعو لك بطول العمر بقوله "يا حاجة"، وعليك ألا تبتئسي. 
عند الطبيب تفرحين بأنك لا زلت بخير، فمعلومٌ أن الحواسّ تبدأ بفقدان فعاليتها بعد الأربعين محض كذب؛ فكل شيء على ما يرام، والحديث عن هرموناتٍ تعويضيةٍ لا زال مبكراً، ما دمت تمارسين الرياضة بانتظام، وتختارين الطعام الصحي. 


وحين ترفع ابنتك الصغرى حاجبها مؤنبةً، لأنك تختارين قلم أحمر شفاه زاه، وتخبرك بلوم رقيق أنه مخصّص للصبايا مثلها، ولكنك تتذكّرين أنك قرأت في مجلة مختصة بالجمال أن ألوان الحمرة الزاهية تخفّف من وطأة الخطوط الرفيعة التي تشقّ طريقها حول زوايا الفم فتصرّين عليها. 
في الخامسة والأربعين، لديّ الشجاعة على مصادقة من هن أكبر سناً من السيدات، لأستمع لخبراتهن مع الأعوام المقبلة، وأرى ما يفعله الزمن على وجوههن لأتحسّب، وأتخذ احتياطاتي، ولكني لم أعد واثقةً بأنهن طبيعيات ممتثلات لسنن الطبيعة، بعد انتشار عمليات الحقن والحشو والشدّ وغيرها. ولكن تكفيني متعة المقارنة بين ما أملكه وما قمن هنّ بإصلاحه. 
وسأتبع نصيحة صديقتي التي قالت لي، وهي المهووسة بجمالها وأناقتها منذ صغرها: لم تعد الأربعين هي النهاية، أنظري حولك، فالجميلات في العالم تجاوزن هذه السن بكثير، إنه سن النضج والحكمة والجمال، وكلما أوغلت في التقدم في العمر أصبحت أكثر قدرةً على ابتكار الطرق لإبراز ما بداخلك. وفي كل مرةٍ، تكتشفين كنزاً ثميناً يشدّ الأبصار، ويخطف القلوب، وكأنه سر دفين خرج من باطن الأرض إلى متحفٍ شهير. 
والأهم أنني لا زلت أمتلك شغف الكتابة، فأجد أنها ستنقذني حتى النهاية من هاجس العمر. كثر الكتاب والكاتبات ممن أبدعوا وأبدعن في سنٍّ متأخرة، وقدموا أجمل ما لديهم، وبهذا الشغف أمضي نحو عوالم، سأكتشفها مع انقلاب معايير العمر والشباب في هذا الزمن. 
وعن الحب والمرأة الأربعينية، أتكلم بفخر وزهو، وليس من فراغ. ولكن، نتيجة لأبحاث استقصائية عديدة، وهي أن الرجال يفضلون المرأة الأربعينية، فمرحى مرحى لصديقاتي الأربعينيات اللواتي لا زلن يحتفظن برجالٍ في حياتهن، أو يبحثن عن رجلٍ مناسب؛ فالفرصة لا زالت مؤاتية والاحتفاط به أصبح ميسوراً، لأن الرجل بطبعه، حسب الأبحاث والدراسات، يفضل المرأة الأربعينية في الحب، لأنها واقعية، وشبعت من الدلال، ولا تطلبه باستمرار، كما أنها لا تطلب المديح المستمر، ولديها القدرة على النقاش الهادئ، وإخفاء مشاعرها، لكي تسير مركب الحياة، فلا رجل بلا هفوات، ولا حياة بلا عثرات، كما أن الأربعينية لا تدمن الشكوى والتذمر مثل الفتاة العشرينية، والتي يبتعد عنها من هم في سنها أو أكبر، ويبحثون عن الوهج الخاص لدى التي تمتلك مفتاحاً سحرياً. 

الأحد، 26 نوفمبر 2017

السيناريو «المورسكي» .. هل يُمكن أن يُطرد من بقي من الفلسطينيين في بلاده؟

بقلم: عمر عاصي



فلسطينيو الداخل : «المورسكيون»؟

في قرية «الثغرة» في ريف «غرناطة»، تسكن عائلة «روميرو»، وهي من العائلات المورسكيّة التي بقيّت في الأندلس، بعد طرد أغلب المورسكيين عام 1609 فيما عُرف بـ«الطرد الكبير».
والمورسكي هو المُسلم الأندلسي الذي قرر البقاء في الأندلس، بعد أن سقطت آخر الممالك الأندلسية، وهي مملكة غرناطة، وذلك عام 1492، ثم اضطر أن يُخفي هويّته الإسلامية، ويُظهر أنه مسيحي؛ كي يبقى في بلاده، وفي حديث لـ«ساسة بوست» مع «عبد الصمد روميرو»، الذي اكتشف أصوله الإسلامية صدفةً، وهو يُصلي أمام جّدته «المورسكية»، التي أخبرته أنها كانت ترى جدّتها تفعل ما يفعله في جوف الليل، ولكنها لم تكن تفهم شيئًا مما تفعله جدّتها «المسلمة»، التي كانت تفعل ذلك سرًا؛ خوفًا من أن يُكشف أمرها، ولتبسيط حكاية المورسكيين، قال لنا مازحًا: «نحن مورسكيو إسبانيا وأنتم (الفلسطينيين) مورسكيو إسرائيل»، مشيرًا إلى أن فلسطينيي الداخل هم كالمورسكيين في بقائهم في بلادهم، وتحمّلهم كُل أشكال العنصريّة.
في الداخل الفلسطيني، لم تكن هناك مُشكلة بالنسبة لإسرائيل في بقاء الفلسطيني على دينه الإسلام أو ديانته المسيحية، ولكنها أرادته، بدون هويّته «الفلسطينية العربية»، ومع أنه لم تكن هناك «محاكم تفتيش»، إلا أن الجيل الذي وُلد في الداخل الفلسطيني، بعد النكبة كان يقف في «عيد استقلال إسرائيل»؛ ليغني «في عيد استقلال بلادي.. غرّد الطير الشادي» وهو ما صوّره فيلم «الزمن الباقي» بشكل معبّر.
الكثير من الفلسطينيين كانوا يضطرون لتغيير أسمائهم؛ إذا ما أرادوا الالتحاق بجامعات عبرية، والحصول على سكن طلابي، أو الحصول على عمل: فإبراهيم ـ مثلًا ـ يتحول إلى «أفي»؛ حتى يعود إلى قريته، فيعود إلى طبيعته، كما يذكر الباحث «مهند مصطفى» في كتابه «الحركة الطالبية العربية في الجامعات الإسرائيلية»، تمامًا كما كان لقائد ثورة البشارات «محمد بن أمية» المورسكي اسم آخر إسباني، وهو «فراندو دي بالور Fernando de Valor».
هذا غير أن البعض كان يصل به الحال للتخلي عن هويّته الفلسطينية تمامًا؛ كحكاية «إياد» في فيلم «عرب راقصون» للمخرج الإسرائيلي «عيران ريكليس»، إذ ينتهي المطاف بإياد الذي أرسله أهله إلى مدرسة للمتفوقين في القدس، أن «يستعير» هويّة صديقه اليهودي الذي توفي؛ بسبب إعاقته، كوسيلة للبقاء في مجتمع لا يتقبل العرب الفلسطينيين، ويرفع في مظاهراته شعار «الموت للعرب».

عدم الولاء للدولة! 
في كتابه «انبعاث الإسلام في الأندلس» يكشف المهندس والباحث في تاريخ المورسكيين «علي المنتصر الكتاني» الكثير التفاصيل الدقيقة لقضايا «عدم الولاء» التي وصلت محاكم التفتيش الإسبانية، مثل قضيّة «دييكو دياس»، الذي تعتبر تهتمه من أشهر وأعجب التهم؛ فقد حُوكم؛ لأنه كان:
«يطبخ غداءه بالزيت عوضًا عن شحم الخنزير؛ ويأكل اللحم أيام الجمعة، بدون سبب وجيه؛ ولا يذهب للكنيسة، لا هو ولا زوجه؛ ولا يعلمان الديانة النصرانية لأولادهما؛ ويغسلان أيام الجمعة ويلبسان ملابس فاخرة؛ ويأوي إلى بيتهما مورسكيو مرسية، من بغالين وغيرهم، فيتكلمان معهم باللغة العربية، ويقفلان عليهم الغرفة الساعات الطوال».
واستمرّت المحاكمة عامًا كاملًا؛ كون القاضي شكّ بسبب التهم الموجهة بأن «دييكو» ينتمي إلى «طبقة المسلمين الذين يحتفظون في قلوبهم سرًّا بدين محمد».
بالنسبة لفلسطينيي الداخل ممن بقوا في أراضيهم التي أعلنت عليها دولة إسرائيل عام 1948، فإن فترة الحكم العسكري، والتي امتدّت قرابة عشرين عاما، من عام 1948 حتى 1966، كان يُنظر لفلسطيني الداخل، الذين فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية على أنهم «طابور خامسًا»، و«خطرًا أمنيًا»، وبالتالي بدأ تحديد حريّاتهم، ولعل مجزرة «كفر قاسم» عام 1956 هي من أبرز النماذج، التي تعكس الإجراءات العنصرية، التي تتبعها إسرائيل في هذه المرحلة، ولكن هذا ليس كُل شيء بالطبع.
في السلسلة الوثائقية «أصحاب البلاد» وهي خمس ساعات وثائقية يحضر فيها أكثر من 50 ضيفًا من «أصحاب البلاد» (فلسطينيي الداخل)، تكشف المخرجة «روان الضامن» الكثير من تفاصيل مرحلة خضوع الفلسطينيين في الداخل للحكم العسكري الإسرائيلي؛ إذ يذكر «جمال زحالقة» أنَّ الحاكم العسكري استدعى والده يوم ميلاده، وكان السبب أنه سمَّى ابنه «جمال»؛ بحجة أن «هذا اسم متطرف»؛ لأنه يواطئ اسم «جمال عبد الناصر». ويذكر الشاعر «حنا أبو حنا»، أن مُعلمًا في مدينة «الناصرة» علّم طلابه قصيدة «عليك من السلام يا أرض أجدادي»، ففصل من عمله.


في حديث لـ«ساسة بوست» مع أحد كبّار السن الفلسطينيين، أكّد أنه ذهب أثناء الحكم العسكري ذات يوم لشراء دجاجة من مستوطنة يهودية، فأُلقي القبض عليه وهو عائد، وتم ضربه ضربًا مُبرحًا؛ بحجة أنه ينوي القيام بأعمال تجارية غير شرعية، وأنه يعمل في التهريب.
وذكر لنا آخرون، أنه، حتى من كانوا يعملون في المدن الإسرائيلية بتصاريح، كانوا يلقون أشكالًا من العذاب؛ إذا تم العثور مع أحدهم على كميّة طعام أكثر من حاجته، كأن يأخذ معه ثلاث بيضات ليتناولها في العمل، وكانت هذه حجة كافية لإهانته وضربه، وربما سجنه أحيانًا؛ باعتباره يعمل في التهريب.


الخيانة العظمى!

في روايتها «ثلاثيّة غرناطة» تعرض الروائية الراحلة «رضوى عاشور» تفاصيل الحياة المورسكيّة، بعد سقوط الأندلس حتى الطرد الكبير، وبين السقوط والطرد، ولا تنسى الكاتبة أن تأخذنا إلى تفاصيل «انتفاضة البيازين»، و«البيازين» هو الحي الإسلامي «المورسكي» المتبقي في «غرناطة»، وللتشبيه تؤكد الكاتبة، في مقابلة لها ضمن برنامج «أرشيفهم وتاريخنا» حول ملف سقوط الأندلس، إن انتفاضة البيازين مُشابهة إلى حد كبير بالانتفاضة الفلسطينية الأولى (عام 1987)، والتي عُرفت بانتفاضة الحجارة، وهو ما حصل ـ كذلك ـ في غرناطة؛ إذ راح شباب المورسكيين يرشقون جنود «قشتالة» بالحجارة، وأغلقوا أبواب البيازين، واختاروا مجموعة من أربعين شخصًا تمثّلهم كثوّار.
في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، شارك عدد من فلسطيني الداخل في المدن والقرى العربية داخل إسرائيل، وكانت النتيجة استشهاد 13 شابًا منهم، وفي مُحاولة لتهدئة الأوضاع، تم الإعلان عن لجنة تحقيق إسرائيلية في ما جرى، وكانت الخلاصة بعد 3 سنوات من الاستماع إلى مئات الإفادات، وفحصت آلاف المستندات، وفحصت عشرات آلاف الصفحات من مادّة الأدلّة، مع أنه، لم يكن هناك مبرر لقنص المتظاهرين، في عام 2005 رفضت توصيات اللجنة؛ بتقديم لوائح اتهام ضد من قاموا بقتل المتظاهرين، وفي عام 2008، أغلقت كُل الملفات. وبقي الجنود القتلة، ومن يقف وراءهم بعيدًا عن المساءلة والعقاب؛ لأن «قتل» الفلسطيني العربي، ليس جريمة في المشروع الصهيوني، الذي يدير دولة إسرائيل. وينطبق اليوم هذا على كل «قتل بدم بارد» في الضفة الغربية المحتلة.
وبالعودة إلى الأندلس، فقد اشتعلت ثورة غرناطة الكبرى بين 1568-1570، بعد حوالي 80 عامًا من سقوط الأندلس، وكانت تمثّل حالة اليأس الشديد من المفاوضات مع الإسبان، وإمكانية التعايش السلمي، وقد بدأ الحشد للثورة، وكان يتوقع أن يصل عدد الثوّار إلى 45 ألف ثائر مورسكي، كما يشير الباحث «علي الكتاني»، هذا غير أن الأندلسيين كانوا يأملون بتدخل الدولة العثمانية والمغاربة لمُساعدتهم، إلا أنه، وفي الواقع، فشلت الثورة؛ بسبب خيانة بعض المورسكيين، وعدم وصول المساعدات.

السيناريو الأسوأ

صحيحٌ أن ثورة الأندلسيين لم تنجح، ولكنها أحدثت خوفًا كبيرًا وهلعًا في إسبانيا؛ وكانت النتيجة أن تم تهجير المورسكيين من بيوتهم إلى جميع أنحاء الممالك الإسبانية، ولكن الخوف لم يتوقف، وعوامل عديدة تطوّرت لاحقًا، كانت سببًا في طرد المورسكيين من بلاد الأندلس عام 1609، أي بعد 110 تقريبًا من سقوط الأندلس فعليًا!
إذا تأملنا الحالة الفلسطينية، سنجد أن «جولدا مائير» يوم سئلت عن أسوأ، وأجمل الأيام، التي عاشتها، فقالت «إنه يوم حرق المسجد الأقصى»، فسألوها كيف ذلك؟ فأجابت «لقد تخيّلت أن الشعوب العربية ستحرك الجيوش نحو إسرائيل فشعرت بخوف شديد، ولمّا توّجه العرب إلى مجلس الأمن، شعرت بفرح شديد».
في الأندلس، وكجزء من خطّة الثوار في ثورة غرناطة الكُبرى، بدا أنهم ينوون استخدام ملابس الجيش العثماني؛ لإثارة الرعب في قلوب الإسبان، ومن يقرأ عن تاريخ الإسبان مع المورسكيين يكتشف مدى الخوف الذي كان يثيره ذكر العثمانيين أمام الإسبان، ولكن للأسف، فقد كانت الدولة العثمانية مشغولة عن الأندلسيين يوم طردهم.
وإذا تأملنا قرارات الحكومة الإسرائيلية، نجد أنها قامت مؤخرًا بالإعلان عن الحركة الإسلامية كحركة خارجة عن الحقوق، وتم حظر كُل نشاطاتها، سواء كان سياسية أم إنسانية، كحركة “اقرأ” الطلابية التي كان تخدم الآلاف من طلبة الجامعات، أو «مؤسسة النقب للأرض والإنسان» التي كان تزوّد أهل النقب بلوحات الطاقة الشمسية؛ كي يحصلوا على الكهرباء، وهي من أبسط الحقوق التي يُحرم منها أهل النقب في الداخل الفلسطيني.
والتحريض، ليس ضد الحركة الإسلامية فقط؛ فقد طال أحزابًا، وحركات أخرى، مثل «أبناء البلد» و«التجمع»، وكلها تعمل من أجل تعزيز الهوية الفلسطينية العربية.
فوق كُل هذا فقد هددت «إسرائيل» باعتقال قيادات هذه الحركة، كالشيخ «رائد صلاح»، الذي حُكم عليه بالسجن مؤخرًا، تمامًا كما يتم اعتقال قيادات فلسطينية كثيرة في القدس والضفة الغربية، وبالعودة إلى الأندلس نجد مجلس الدولة «القشتالية» في تاريخ 20 يناير (كانون الأول) 1608 بقيادة الملك الإسباني «فيليب الثالث»، قد أقّر بأن أنجع وسيلة لتسهيل طرد المورسكيين هي اعتقال قياداته.
في تصريحات الشيخ رائد صلاح للجزيرة نت، رجح أن النضال ضد المشروع الصهيوني «سيشمل كل الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر؛ نتيجة نظام فصل عنصري آخذ بالتبلور نهائيًا»؛ وقد تندلع «مخططات صهيونية خطيرة ومجنونة» تستهدف المسجد الأقصى بشكل أكثر مباشرة، والمتابع للحالة الفلسطينية مُنذ «أوسلو» عام 1993 حتى اليوم، يجد أن الأمور آخذة في التعقيد؛ إذ اعتدت إسرائيل على الفلسطينيين بقصفهم جوًا وبرًا في قطاع غزة المحاصر وحده ثلاث مرات بين 2009 – 2014، كما أن «انتفاضة القدس» والتغطية الإعلامية لعملية «نشأت ملحم» في تل أبيب، وهو من فلسطينيي الداخل، قد سببت هلعًا غير مسبوق في «تل أبيب»، لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» أخذ يحرض ضد فلسطينيي الداخل علنًا متوعدًا إياهم باتخاذ إجراءات، وخيّرهم بين «انتمائهم الفلسطيني» و«جنسيتهم الإسرائيلية»، مستخدمًا سلاح «الولاء للدولة».
بحسب الإحصاءات فقد كان عدد الفلسطينيين في الاراضي التي أعلنت عنها إسرائيل حوالي 950 ألف شخص، وبعد تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني؛ بقي حوالي 150 ألفًا فقط، إلَّا أن عددهم اليوم بلغ أكثر من مليون ونصف، ولكن لم يزل شبح الطرد والترحيل، لم يغب تمامًا.
ويعود تاريخه هذا الشبح إلى ثمانينات القرن الماضي؛ إذ بدأت القوى اليهودية المتطرفة بالصعود؛ إذ طالب الحاخام «مائير كهانا» بضرورة ترحيل العرب من «أرض إسرائيل». في عام 2015 أجرى مركز الأبحاث الأمريكي «بيو» استطلاعًا، شارك فيه 6000 مُشارك، تبيّن فيه أن 48 في المائة من اليهود الإسرائيليين، يؤيّدون خيار الترحيل، وبالخوض في تفاصيل البحث نجد أن 36 من «العلمانيين» مع الطرد، ولكن هذه النسبة متواضعة جدًا؛ بالأخص، إذا علمنا أن 71 في المائة من «المتديّنين»، و59 في المائة من «الحريديين»، و54 في المائة من «التقليديين» يؤيدون طرد الفلسطينيين.
هذه الأرقام، ليست سهلة على الاستيعاب، وهي تتطلب منّا الكثير من التأمل، كما يستحق منّا تاريخ المورسكيين في الأندلس أن نتأمله وندرسه بعمق؛ حتى لا يتكرر «السيناريو المورسكي»؛ لأنه لو تكرر، فهذا يعني أن نكبة جديد ستحصل عام 2065!



نقلا عن ساسة بوست:

الجمعة، 17 نوفمبر 2017

نوستالجيا: أغنيات وطنية

عاد ابني الصغير من المدرسة اليوم ليفرحني بخبر أنه قد حصل على درجة كاملة في إلقاء القصيدة الشعرية المطلوبة.. أفرحني ذلك وأنا أثق به في هذا؛ فهو يملك أداءً شعرياً وصوتاً جهورياً ومخارج سليمة للحروف وجرأة أدبية قد لا يتوفر عليها أطفال كثيرون من عمره.. ثم أحضر الكتاب وألقى أمامي بعض أبيات القاضي الجرجاني في عزة النفس.. بعد الانتهاء من إلقائها، فتح كتابه يريد أن يسمعني لحناً (اخترعه) لقصيدة سيأتون على دراستها بعد حين -لأنني ألحّن له القصائد عندما يدرسها-.. ثم بدأت الأبيات تتوالى على لسانه محاولاً أن يتغنى بها: "أردنُّ يا حبيبي.. على ذرى أردننا الخصيب.. الأخضر العابق بالطيوبِ.. الساحر الشروق والغروب.. سمعتُها تقول يا حبيبي".
... فاستوقفَتْني العباراتُ الشعرية تقرع زاويةً منسية من ذاكرتي وتفتح صندوقاً علاهُ الغبارُ فيها.. لتعاود الألحان انسيابها في تلافيف دماغي.. وعادةً ما يكون استطلاعي لشؤونه الدراسية وواجباته المدرسية حفراً في ذاكرة الطفولة- فقلت له: توقف، ألحانها ليست هكذا. ثم تلوتُ على مسامعه لحنَـها الجميل الذي أحفظه عن ظهر قلب، لكنه غاب فيما غاب من طفولتنا التي تغتال تفاصيلَها سنواتُ العمر اللاهثة نحو النهاية.. 
استمتعتُ وأنا أردِّد معه ألحانَ المقطوعة الشعرية الوطنية الخفيفة، اللطيفة على قلوب الكبار قبل الصغار.. ثم أنفقتُ شطراً من نهاري في ربوع اليوتيوب أبحث له عن أصل القصيدة مُغَـنّـاة كي يسمعها.. لأجدها متربعةً بحياء على صفحة اليوتيوب، وكانت المفاجأة أن الذي يغنيها هو مطربي المفضل المطرب السوري محمد جمال.. وقادت متابعة الأغنية إلى أغنيات أخريات من زمن جميلٍ مضى.. زمن الطفولة .. زمن الفن الراقي.. زمن الإبداع الذي كان فيه المبدعُ حقاً هو من يترك بصمة، لا كلُّ من هبَّ ودبَّ.. أو نَقَشَ نقطةً على ورقة .. أو دقَّ ريشة على وتر!!
قادتني الصفحاتُ إلى أغنيات وطنية جميلة من ذلك الزمان لا أدري أين اختفت؟! بل لماذا اختفت؟! أغنيات وطنية طافحة بالمعاني التي تعجز اليوم عنها كلُّ (الفجاجة) و(الضجيج) التي تمتلئ بها أغنياتنا التي توصف بـ(الوطنية)! 
أبرز ما يلفت الانتباه في تلك الأغنيات أن معظم الشعر الوطني الجميل الذي تربَّينا على كلماته كانت من كلمات الشاعر حيدر محمود.. وأن أداء الكلمات كان بحناجر ذهبية تملكها: نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وفيروز .. وأسماء لامعة أخرى في دنيا الطرب، لا أستطيع إدراجَها هنا في هذه المساحة الصغيرة في هذه الخاطرة.. وكانت المقطوعات الموسيقية في مقدمة الأغنيات، تحفةً فنية لا يقل جمال بعضها عن المقطوعات الشهيرة لأغنيات نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ ووردة وفايزة أحمد... وغيرهم من عمالفة الفن والطرب الأصيل.
لا بد أن كثيراً منكم يذكرون (نحبُّه..نحبُّه... كما تحبُّ الزهرةُ الندى..) ويذكرون (معه وبه إنّا ماضون.. فلتشهد يا شجر الزيتون..) ويذكرون (تزهو بعباءات الفرح الأخضر والشالات الوردية...) ويذكرون (أهداب حبيبي كرمة حبٍّ سلطية...).. ويذكرون (عمان في القلب)... وغيرها من أغنياتنا الوطنية القديمة.
أظن أن السر فيما مضى لم يكن في الزمن الجميل .. بل كان في العمل الإبداعي المتكامل: يبدأ من الكلمة الشعرية، ثم يتجسد في صوتٍ دافئ يؤديه، يرافقه اللحن الجميل (المتعوب عليه)... وليس كالأعمال (المسلوقة) التي تُنْجَز اليوم على عجل بمعايير ليس لها في الشعر والموسيقا والذوق الفني .. إلا صوت أجوف لا يُغْني شيئاً!

تجدون هنا بعض الشعر والصوت والموسيقا  الجميلة ..
من أجمل أغنياتنا الوطنية  



الأحد، 12 نوفمبر 2017

أيها المغتربون.. لا تؤجلوا متعة الغربة إلى الوطن



بقلم فيصل القاسم
مهما طالت سنين الغربة بالمغتربين، فإنهم يظلون يعتقدون أن غربتهم عن أوطانهم مؤقتة، ولا بد من العودة إلى مرابع الصبا والشباب يوماً ما للاستمتاع بالحياة، وكأنما أعوام الغربة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب. 
لاشك أنه شعور وطني جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة. فكم من المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة وهم يرنون للعودة إلى قراهم وبلداتهم القديمة! وكم منهم ظل يؤجل العودة إلى مسقط الرأس حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود في النهاية، ودون أن يستمتع بحياة الاغتراب! وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يوفر الدريهمات التي جمعها كي يتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، على أمل التمتع مستقبلاً في ربوع الوطن، كما لو أنه قادر على تعويض الزمان! 
وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح! 
لقد عرفت أناساً كثيرين تركوا بلدانهم، وشدوا الرحال إلى بلاد الغربة لتحسين أحوالهم المعيشية. 
وكم كنت أتعجب من أولئك الذين كانوا يعيشون عيشة البؤساء لسنوات وسنوات بعيداً عن أوطانهم، رغم يسر الحال نسبياً، وذلك بحجة أن الأموال التي جمعوها في بلدان الاغتراب يجب أن لا تمسها الأيدي لأنها مرصودة للعيش والاستمتاع في الوطن. لقد شاهدت أشخاصاً يعيشون في بيوت معدمة، ولو سألتهم لماذا لا يغيرون أثاث المنزل المهترئ، فأجابوك بأننا مغتربون، وهذا البلد ليس بلدنا، فلماذا نضيّع فيه فلوسنا، وكأنهم سيعيشون أكثر من عمر وأكثر من حياة! 
ولا يقتصر الأمر على المغتربين البسطاء، بل يطال أيضاً الأغنياء منهم. فكم أضحكني أحد الأثرياء قبل فترة عندما قال إنه لا يستمتع كثيراً بفيلته الفخمة وحديقته الغنــّاء في بلاد الغربة، رغم أنها قطعة من الجنة، والسبب هو أنه يوفر بهجته واستمتاعه للفيلا والحديقة اللتين سيبنيهما في بلده بعد العودة، على مبدأ أن المــُلك الذي ليس في بلدك لا هو لك ولا لولدك! وقد عرفت مغترباً أمضى زهرة شبابه في أمريكا اللاتينية، ولما عاد إلى الوطن بنا قصراً منيفاً، لكنه فارق الحياة قبل أن ينتهي تأثيث القصر بيوم!
كم يذكــّرني بعض المغتربين الذين يؤجلون سعادتهم إلى المستقبل، كم يذكــّرونني بسذاجتي أيام الصغر، فذات مرة كنت أستمع إلى أغنية كنا نحبها كثيرا أنا وأخوتي في ذلك الوقت، فلما سمعتها في الراديو ذات يوم، قمت على الفور بإطفاء الراديو حتى يأتي أشقائي ويستمعوا معي إليها، ظناً مني أن الأغنية ستبقى تنتظرنا داخل الراديو حتى نفتحه ثانية. ولما عاد أخي أسرعت إلى المذياع كي نسمع الأغنية سوية، فإذا بنشرة أخبار. 
إن حال كثير من المغتربين أشبه بحال ذلك المخلوق الذي وضعوا له على عرنين أنفه شيئاً من دسم الزبدة، فتصور أن رائحة الزبدة تأتي إليه من بعيد أمامه، فأخذ يسعى إلى مصدرها، وهو غير مدرك أنها تفوح من رأس أنفه، فيتوه في تجواله وتفتيشه، لأنه يتقصى عن شيء لا وجود له في العالم الخارجي، بل هو قريب منه. وهكذا حال المغتربين الذين يهرولون باتجاه المستقبل الذي ينتظرهم في أرض الوطن، فيتصورون أن السعادة هي أمامهم وليس حولهم.
لمَ لا يسأل المغتربون عن أوطانهم السؤال التالي ويجيبون عليه، لعلهم يغيرون نظرتهم إلى الحياة في الغربة: هل أقوم بتأجيل الحياة في بلاد الاغتراب من أجل الاستمتاع بمستقبل هـُلامي في بلادي 
كم كان المفكر والمؤرخ البريطاني الشهير توماس كارلايل مصيباً عندما قال: «لا يصح أبداً أن ننشغل بما يقع بعيداً عن نظرنا وعن متناول أيدينا، بل يجب أن نهتم فقط بما هو موجود بين أيدينا بالفعل».
لقد كان السير ويليام أوسلير ينصح طلابه بأن يضغطوا في رؤوسهم على زر يقوم بإغلاق باب المستقبل بإحكام، على اعتبار أن الأيام الآتية لم تولد بعد، فلماذا تشغل نفسك بها وبهمومها. إن المستقبل، حسب رأيه، هو اليوم، فليس هناك غد، وخلاص الإنسان هو الآن، الحاضر، لهذا كان ينصح طلابه بأن يدعوا الله كي يرزقهم خبز يومهم هذا. فخبز اليوم هو الخبز الوحيد الذي بوسعك تناوله. 
أما الشاعر الروماني هوراس فكان يقول قبل ثلاثين عاماً قبل الميلاد: «سعيد وحده ذلك الإنسان الذي يحيا يومه ويمكنه القول بثقة: أيها الغد فلتفعل ما يحلو لك، فقد عشت يومي». 
إن من أكثر الأشياء مدعاة للرثاء في الطبيعة الإنسانية أننا جميعاً نميل أحياناً للتوقف عن الحياة، ونحلم بامتلاك حديقة ورود سحرية في المستقبل- بدلاً من الاستمتاع بالزهور المتفتحة وراء نوافذنا اليوم. لماذا نكون حمقى هكذا، يتساءل ديل كارنيغي؟ أوليس الحياة في نسيج كل يوم وكل ساعة؟ إن حال بعض المغتربين لأشبه بحال ذلك المتقاعد الذي كان يؤجل الكثير من مشاريعه حتى التقاعد. وعندما يحين التقاعد ينظر إلى حياته، فإذا بها وقد افتقدها تماماً وولت وانتهت. 
إن معظم الناس يندمون على ما فاتهم ويقلقون على ما يخبئه لهم المستقبل، وذلك بدلاً من الاهتمام بالحاضر والعيش فيه. ويقول دانتي في هذا السياق: "فكــّر في أن هذا اليوم الذي تحياه لن يأتي مرة أخرى. إن الحياة تنقضي وتمر بسرعة مذهلة. إننا في سباق مع الزمن. إن اليوم ملكنا وهو ملكية غالية جداً. إنها الملكية الوحيدة الأكيدة بالنسبة لنا". 
لقد نظم الأديب الهندي الشهير كاليداسا قصيدة يجب على كل المغتربين وضعها على حيطان منازلهم. تقول القصيدة: «تحية للفجر، انظر لهذا اليوم! إنه الحياة، إنه روح الحياة في زمنه القصير. كل الحقائق الخاصة بوجود الإنسان: سعادة التقدم في العمر، مجد الموقف، روعة الجمال. إن الأمس هو مجرد حلم انقضى، والغد هو مجرد رؤيا، لكن إذا عشنا يومنا بصورة جيدة، فسوف نجعل من الأمس رؤيا للسعادة، وكل غد رؤيا مليئة بالأمل. فلتول اليوم اهتمامك إذن، فهكذا تؤدي تحية الفجر». 
لمَ لا يسأل المغتربون عن أوطانهم السؤال التالي ويجيبون عليه، لعلهم يغيرون نظرتهم إلى الحياة في الغربة: هل أقوم بتأجيل الحياة في بلاد الاغتراب من أجل الاستمتاع بمستقبل هـُلامي في بلادي، أو من أجل التشوق إلى حديقة زهور سحرية في الأفق البعيد؟ 
كم أجد نفسي مجبراً على أن أردد مع عمر الخيام في رائعته (رباعيات): 
لا تشغل البال بماضي الزمان 
ولا بآتي العيش قبل الأوان 
واغنم من الحاضر لذاته 
فليس في طبع الليالي الأمان