أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 13 فبراير 2010

فضل الاستشراق الهولندي على الدراسات الأندلسية


منشور في جريدة الدستور الأردنية (الملحق الثقافي)، الجمعة 12/2/2010
د.رشأ الخطيب

لم تكن الدراسات الأندلسية التي نراها تزدهر يوماً بعد يوم وتلقى اهتمام الباحثين – على هذه الحال دائما؛ إذ يلاحظ أن ثمة فجوة تفصل بين ما صُنِّف حول التراث الأندلسي وبين الدراسات الحديثة التي قامت فيما بعد تعالج المنجز الحضاري للعرب والمسلمين في الأندلس، أو ما اصطلح المستشرقون على تسميته "إسبانيا الإسلامية"، فهناك حلقة مفقودة كان ينبغي لها أن تربط بين تأليف "نفح الطيب" في القرن السابع عشر، وبين نشر متون التراث الأندلسي ومصادره الأخرى وطباعتها على يد المستشرقين في القرن التاسع عشر.



قد يكون "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقّري التلمساني (ت1041هـ/1631م) آخر المؤلفات التي وُضعت عن الأندلس في المدة الواقعة بين بقايا العصور المزدهرة للحضارة العربية الإسلامية وبين بدايات النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، وقد انتهى المؤلف من تصنيفه في حدود سنة 1628، ولا نكاد نلمح في القرون التالية لتأليف النفح عملاً يوازيه بناء ومضموناً في دراسة تراث الأندلس الحضاري المتعدد الجوانب؛ إذ توقفت دراسة التراث الأندلسي أو كادت حتى استأنفها المستشرقون، بعد نحو قرنين من وفاة المقّري.


ويشغل "نفح الطيب" منـزلة مميزة في التأريخ للدراسات الأندلسية في العصر الحديث؛ فقد فتحت معرفتُه والاطلاع عليه البابَ أمام الباحثين في تراث الأندلس فكان هادياً ومرشداً لهم في كثير من المسائل المتصلة بتاريخ الأندلس والحركة الأدبية والفكرية والثقافية فيها، كما كان أول كتاب أندلسي عرف طريقه إلى المطبعة في العصر الحديث في ديار المستشرقين أولاً ثم في البلاد العربية.

وإذا ما ساد الاعتقاد بأن جُلَّ ما بقي من التراث الأندلسي المخطوط -بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس- الذي تُحكِم إسبانيا عليه قبضتَها، سيجعل مستشرقي هذا البلد أَوْلى من غيرهم بفتح باب الدراسات الأندلسية على مصراعيه في العصر الحديث– فإن خيبة الأمل كبيرة؛ إذ قد كانت بدايات الدراسة العلمية المنظمة للتراث الأندلسي قد بدأت في القرن التاسع عشر في هولندا لا في إسبانيا؛ وذلك لعوامل عديدة تتصل بنشأة الدراسات العربية في البلاد المنخفضة وبنشاط المستشرقين في جامعاتها.

كان الهولندي هندريك فايِرْس (ت1840) قد نشر في ليدَن سنة 1830 أطروحته الجامعية التي جمع فيها بعض شعر ابن زيدون من المصادر الأندلسية والعربية المحفوظة في مكتبة جامعة ليدَن، وقد حقّق ذلك الشعر وترجمه إلى اللاتينية، وكان هذا الأستاذ يمضي وقتاً طويلاً مع طلبته في الجامعة يتلو على مسامعهم شعر ابن زيدون وأشعاراً أندلسية أخرى، أتاحتْها له وفرة المخطوطات العربية في مكتبة ليدَن، راجياً أن يكون من بين تلاميذه من يلتفت إلى هذا الشعر الرقيق، لكن لم يطل به العمر حتى فارق الحياة قبل أن يتمّ الأربعين.

وكان من بين أولئك التلاميذ الذين عرفوا الأدب الأندلسي على يديه الشاب هوغفليه Hoogvliet الذي نشر كتاباً سنة 1839 عن بني الأفطس حكام بطليوس بتشجيعٍ من أستاذه، ثم عكف على دراسة رثاء ابن عبدون لبني الأفطس في قصيدته المعروفة بالبسامة، لكن هذا التلميذ توفي ولمّا يبلغ الحادية والثلاثين.

وإذا كانت الدراسات الأندلسية في هولندا قد ابتُليت في بداياتها بوفاة المهتمين بها وهم في خطواتهم الأولى نحو إزالة الغبار عما تراكم من تراث المسلمين في الأندلس، فإن القدر لم يحرم عالَم البحث العلمي في التراث الأندلسي من التلميذ الثاني لفايِرْس الذي سيقيم أركان هذا الميدان، ليس في هولندا وحدها وإنما على مستوى أوروبا والعالم.

كان ذلك التلميذ رينهرت دوزي (ت1883) ، وقد كانت ميوله تجاه دراسة الرومانسية ودراسة أوروبا العصور الوسطى قد تحققت معاً في مجال دراسة "إسبانيا الإسلامية"، التي كانت تغلّفها أوائل القرن التاسع عشر الصبغة الرومانسية بتأثير بعض الكتّاب أمثال: شاتوبريان في روايته "مغامرات آخر أحفاد بني سرّاج"، وواشنطن أرفينج في روايته "الحمراء".

درَس دوزي على أستاذه فايِرْس وهو الذي عرّفه على المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ليدَن حيث كان يعمل مديراً لقسم المخطوطات العربية فيها، وقد دفعه أستاذُه إلى البحث في تاريخ بني عبّاد حكّام مدينة إشبيلية، وكان دوزي موفّقاً في هذا الاختيار فأنجز أطروحته الجامعية عن تاريخ بني عباد واستكمل البحث في الموضوع حتى نشره سنة 1846 بعنوان "أخبار بني عبّاد عند الكتّاب العرب"، ثم انبرى هذا التلميذ النجيب وأتمّ تحقيق القصيدة البسامة لابن عبدون التي كان زميله قد بدأ في دراستها من قبل.

كان دوزي مجتهداً ومتعدد الاهتمامات، حتى إنه أنفق بعض أوقاته في شهر العسل الذي كان يمضيه في ألمانيا- يبحث في مكتباتها ويقلّب المخطوطات العربية فيها، وقد اكتشف من بينها كتاب "الذخيرة" وهو من المصادر الأندلسية المهمة. وألفى نفسه يؤسس لميدان الدراسات الأندلسية بالعديد من الإنجازات، كان من أهمها: العمل على تحقيق بعض المصادر الأندلسية المخطوطة ونشرها للمرة الأولى، وهي من المصادر التي لا غنى عنها للمبتدئ وللمتخصص في الأندلس، وقد اجتمع له من العمل فيها مادة غزيرة لم تتح لغيره من قبل في هذا الباب، أغنت مقالاته وبحوثه التي عالج فيها تاريخ المسلمين وحضارتهم في الأندلس.

وقد تجلت ثمرة جهود دوزي –بغضّ النظر عن آرائه المثيرة للجدل- في كتابه "تاريخ مسلمي إسبانيا"، وهو من الكتب "الكلاسيكية" في مجاله، كان قد نشره سنة 1861 باللغة الفرنسية، وطُبع أكثر من عشرين مرة حول العالم، وتُرجم إلى لغاتٍ عديدة، العربية واحدة منها.

ومن بين المستشرقين الهولنديين الذين كانت لديهم اهتمامات بجوانب من التراث الأندلسي ميخائيل دي خويه (ت1909)، الذي اشتهر بعمله على إخراج مجموعة من المصادر عُرفت بـ"مكتبة الجغرافيين العرب". وكان من جهوده فيما يتصل بالتراث الأندلسي– عمله مع أستاذه دوزي سنة 1866 على إخراج قطعة من "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للشريف الإدريسي (ت560هـ/ 1166م)، وفيها القسم الخاص بإفريقيا والأندلس، مع ترجمة إلى الفرنسية. ونشْره سنة 1897 "صلة تاريخ الطبري" لعَريب بن سعد القرطبي (ت370هـ/980م)، الذي اختصر فيه تاريخ الطبري وأضاف إليه تاريخ المغرب والأندلس. كما أعاد دي خويه تحقيق رحلة ابن جبير (ت614هـ/1217م) التي كان الإنجليزي وليم رايت (ت1889) قد نشرها باللغة العربية سنة 1852 عن نسخة وحيدة في مكتبة ليدَن.

ومن الجوانب الأخرى التي شجّعت على الاهتمام بالدراسات الأندلسية في هولندا: اقتناء المخطوطات العربية ومن بينها الأندلسية؛ الذي ابتدأ أواخر القرن السادس عشر مع العناية بتدريس اللغة العربية إبّان تأسيس جامعة ليدَن سنة 1575.

فقد كان الحرص على اقتناء المخطوطات العربية من الأعمال التي نفذها مجموعة من المستشرقين الهولنديين -الذين أقام بعضهم في المشرق أو في المغرب- بالتعاون مع تجار المخطوطات الشرقية. وقد نشط هؤلاء المستشرقون في القرن السابع عشر على وجه التعيين؛ إذ تمكنت مكتبة جامعة ليدَن في ذلك القرن من اقتناء مجموعة مهمة من المخطوطات العربية، حققت لها سمعة علمية رفيعة على مستوى أوروبا وعلى مستوى العالم في مجال الدراسات الشرقية.

وتجدر الإشارة إلى أن هولندا تحتفظ بمجموعة من المخطوطات الأندلسية المهمة بعضها فريدٌ على مستوى العالم، فمكتبة جامعة ليدَن تضم النسخة الفريدة التي نعرفها لما وصل إلينا من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي (ت456هـ/1064م)، وهي إحدى المخطوطات في مجموعة ليفي فارنر (ت1665) الذي كان سفيراً لهولندا في القسطنطينية، وهو أحد تلامذة المستشرق الهولندي ياكوب خوليوس (ت1667) أستاذ العربية في ليدَن، وقد عمل فارنر في أثناء إقامته هناك على جمع ما أمكن من الكتب، كان من بينها نسخة الطوق التي اشتراها عام 1660 في القسطنطينية، وحين توفي وهَبَ مكتبته التي احتوت ألف مخطوطة شرقية- إلى مكتبة الجامعة.

وتضم المكتبة كذلك مجموعةً من مصادر التراث الأندلسي كانت موجودة في مكتبة ليدَن منذ القرن السابع عشر، وهي ثمرة لإقامة بعض المستشرقين الهولنديين في المغرب واتصالهم بأهله ، مثل أستاذ العربية في ليدَن توماس إربينوس (ت1624) الذي أمضى بعض الوقت يتعلم اللغة العربية ويعلِّمها –تعلمها على يد المغربي الأندلسي الموريسكي أبي القاسم الحجري- وقد جمع بعض الكتب العربية، المخطوطة، لكن مجموعته تلك لم تصل بكاملها إلى مكتبة ليدَن بعد وفاته بل أخذت طريقها إلى إنجلترا؛ حين اشترتها مكتبة جامعة كامبردج.

أما خليفته ياكوب خوليوس الذي اشترك في بعثة دبلوماسية إلى المغرب 1623 فقد استغل وجوده هناك في الحصول على بعض الكتب العربية، وتشير مراسلاته المحفوظة في مكتبة الجامعة مع بعض الوسطاء العرب من تجار الكتب، إلى الجهد والمال الذي أنفقه في سبيل الحصول عليها. وتحتفظ جامعة ليدن بمجموعته الشرقية في مكتبتها، ومن بينها مصادر أندلسية مهمة مثل: "قلائد العقيان" و"البيان المُغرِب"، أفاد منها في القرن التاسع عشر- دوزي ومن قبله أستاذه فايِرْس في البحوث الأولى التي أُنجزت في ميدان الدراسات الأندلسية في العصر الحديث.

وهكذا يتبين من النظر في تاريخ الاستشراق الأوروبي أن ميدان الدراسات الأندلسية الحديث يدين بالفضل في بداياته إلى جهود المستشرقين في هولندا؛ وكان مما أعانهم على هذا بعض العوامل منها: أن إسبانيا وريثة التراث الأندلسي ومهد ما بقي منه من شواهد وآثار- قد اتخذت موقف العداء الصريح والقطيعة التامة تجاه كل ما يذكّرها بماضيها حين كانت تحت حكم المسلمين، وكان من مظاهر تلك القطيعة التعتيم على التاريخ العربي الإسلامي فيها، لذا فإن إسبانيا لم تعتنِ بالتراث الأندلسي المحفوظ لديها إلا عندما نشطت الدراسات الأندلسية على يد مستشرقي الدول الأخرى.

ومن جانب آخر أتاحت ظروف التاريخ والجغرافيا لهولندا بعض العلاقات الدبلوماسية والتجارية النابعة من المصالح المشتركة- مع دولة المغرب؛ فقد جمع بين هولندا والمغرب عداؤهما المشترك لإسبانيا، التي كانت تحتل قسماً من الأراضي الهولندية، وفي الوقت نفسه تعادي المغرب جارتها اللدود على الضفة المقابلة للمتوسط، مما جعل التقارب ممكناً بين هولندا والمغرب، وقد تجلى هذا التقارب على صعيد العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين البلدين، بما تتطلبه هذه العلاقات من الحاجة إلى زيارات أو سفارات متبادلة، والحاجة إلى مترجمين على دراية باللسان العربي واللسان اللاتيني. فكانت العلاقات بينهما سبباً قوياً في معرفة المستعربين الهولنديين المخطوطات المغربية التي ضمت جزءاً جيداً من التراث الأندلسي، وليس أدلّ عليها من صفحات أقدم وثيقة تؤرخ لبدايات الدراسات العربية في أوروبا وتحتفظ بها مكتبة ليدَن، وهي صفحاتٌ من معجمٍ عربي-لاتيني كان في مُلْك بعض المستعربين الهولنديين، وتظهر في تلك الصفحات صورة الكلمات العربية مكتوبة بالقلم المغربي لا المشرقي؛ مما يشير إلى أن مَنْ كتبها من الأوروبيين كان قد تعلّم الكتابة العربية على الرسم المغربي الأندلسي المعروف في المغرب، وهو قلم غير منتشر بين أوساط الكتّاب والنسّاخ في المشرق على نحو واسع.