أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 27 يوليو 2017

أحمد مطلوب في كتابه رفيقة عمري.. ردُّ الجميل إلى حواء

بقلم: د.فاضل عبود التميمي
جريدة الزمان

نادراً ما تكتب المرأة المثقّفة عن زوجها في المجتمع الشرقي، فالكثيرات يحجمن عن ذلك لأسباب تتعلّق بالخوف من مجانبة الموضوعيّة، أو الابتعاد عن تهمة الانحياز إلى الزوج بوصفه مشاركا فاعلا في الحياة لا سيّما حين يكون على قدر عال من الأهميّة الأدبيّة ، أو الاجتماعيّة ،أو العلميّة، ومنهّن من تصرف النظر عن هذه المهمّة بدوافع نفسيّة مختلفة، والواقع يشير بقوّة إلى نساء كَتَبْنَ عن أزواجهنّ كتبا مهمّة، فقد قُدّر لي أنْ أقرأ لـ(سوزان طه حسين) التي كتبت: (معك) عن تجربتها الحيّة مع عميد الأدب العربي زوجها (طه حسين) قد تكون هذه المرأة استثناء؛ لأنّها فرنسيّة الأصل، لكنّها -والحق يقال- تطبّعت بطباع الشرق وعاداته، وصارت أمّا مصريّة بامتياز، من النساء اللائي كتبن عن سيرة أزواجهنّ: (عبلة الرويني) التي كتبت سيرة زوجها الشاعر(أمل دنقل) في كتابها: (الجنوبي)، ثمّ (غادة السمّان) التي كتبت:(بشير الداعوق كأنّه الوداع) وفيه تحدّثت أول مرّة عن حياتها الزوجية ،وعشقها لزوجها الراحل الذي رافقته أربعين عاما كانت بالنسبة لها تاريخا شخصيّا لا ينسى.

أمّا في العراق فإنّ د. خديجة الحديثي قد أخذت على عاتقها مسؤوليّة الكتابة عن زوجها:(د.أحمد مطلوب) حين أصدرت كتابها الأخير:(رفيق عمري في كتابات الآخرين)، ويبدو لي أنّ الأزواج المثقفين يحجمون عن الكتابة عن زوجاتهم لأسباب كثيرة يقف في أوّلها الخجل المتوارث الذي جعل الحديث عن الزوجة يدخل في باب الحياء الموروث الذي تدحضه قامات النساء السامقات، وهنّ يمارسن وجودهن الفاعل في الحياة عاملات، و عالمات ، وأمّهات يشار إليهنّ بالبنان.
وربّما كان الدكتور أحمد مطلوب، و من باب ردّ الجميل إلى زوجته التي ابتدأت الكتابة عنه بوصفه شريكا لعمرها ، قد خاض تجربة الكتابة عن زوجته د. خديجة الحديثي ليصنّف كتابا استذكاريّا عنها، وهي لمّا تزل على قيد الحياة تعطي أكثر ممّا تأخذ في كتابه الموسوم بـ(رفيقة عمري) الصادر عن المطبعة المركزيّة في جامعة ديالى 2015، وقد جعله أستاذ الأجيال متنا يمور بما يشتهي القارئ المحبّ لشخصيّة خديجة الحديثي التي أجزم أنّ تاريخها ينبض بالبياض، والحبّ النقيّ لمن كان معها زميلا، أو طالبا ، أو جارا ، أو قريبا ،أو بعيدا فقد جُبلت هذه المرأة العراقيّة الراقية، والرقيقة على طبع الأمّهات الرابضات في منابع الطيبة ،والحنان ، فضلا عن أنّ الله سبحانه - وهذا من حسن حظّها-حباها علما ومعرفة ، وتسامحا ، وخصالا يندر أنْ تجتمع كلّها في عقل امرأة تعيش في عصر متقلّب الأهواء ،والولاءات.
كتب د. مطلوب مسترجعا صورتها الأولى قائلا: (كان من بين نساء العراق فتاةٌ وُلدت في قرية جنوب البصرة ،وتلقّت تعليمها في البيت لا متوسطة، ولا ثانوية في قريتها ودخلت في عام 1952م كليّة الآداب والعلوم) ص3، وقال واصفا إيّاها بعبارات ميسورة استمدت دلالاتها من تواضعها الجم في الجامعة، وفي بيتها أيضا:(ولم أرها يوما تشكو من تعب، أو تردّ من يسعى إليها لتعينه) ص5،وكان صيتها ملء الأسماع في العراق، وخارجه انتدبت للتدريس في جامعة الكويت ، وألقت محاضرات في جامعة وهران بالجزائر، ودعيت إلى المؤتمرات العالميّة فمثّلت العراق في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في إندونيسيا سنة 1965م ، وحضرت المؤتمرات العلميّة في العراق، والأردن ،وقدّمت فيها البحوث، وترأست اللجان وكانت في جميعها مثالا يحتذى للمرأة المتعدّدة المهام، فضلا عن أنّها كُرّمت عدّة مرات لتميّزها.
لقد عُرفت الدكتورة بتواضعها المميّز، تواضع العلماء الذين يرون في ما وصلوا إليه بداية الانطلاق نحو العلم ، وكأنّهم في أوّل الطريق ، حدّثني يوما زميلي وقريبي الشهيد د. كريم أحمد جواد التميمي -رحمه الله- ،وهو من طلابها النابهين ،والمقربين إلى قلبها وعقلها عن تواضعها قائلا: كانت استاذتنا تدرّسنا في إحدى مراحل البكالوريوس في آداب بغداد ،وكانت تملأ بخط يدها سبورة القاعة شرحا وتعليقا على شواهد النحو أملا في تقريب المادّة إلى الأذهان ، وكانت كلّما امتلأت السبورة عمدت إلى تنظيفها بيدها الكريمة مرات وليس مرة واحدة، وهي في عمرها الجليل من دون أن تنتدب طالبا، أو طالبة للمهمّة ، كما يفعل قسمٌ من أساتذتنا، ما قاله التميمي جزء يسير يكشف شغف الدكتورة بالدرس الجامعي ، وتعلّقها بأساسيّات المهنة ، وتقاليدها، ليحيل على سجاياها ، وخصالها التي يعرفها الجميع.
بُني الكتاب الذي جاء بأربعمئة وخمس وخمسين صفحة على (ثلاثة وثمانين) نصّا ، لم أسمّها فصولا بل سميّتها (نصوصا) لاختلافها في مضمونها الدلالي بين نصّ سيرة، وقصائد، ومقالات، ومقابلات، و وثائق ، على وفق الآتي:
1- السيرة: 
في نصوص السيرة أدخل د. مطلوب في متن الكتاب سيرتين الأولى: السيرة العلميّة التي تتبّع فيها المصنّف الحديثيّة بدءا من تحصيلها الدراسي والعلمي وصولا إلى إشرافها على رسائل الماجستير و أطاريح الدكتوراه ، وانتهاء بالجوائز التي حصلت عليها ، والكتب المؤلّفة التي بلغت اثني عشر كتابا في النحو، و الصرف والمدارس النحويّة، وتيسير النحو ، والكتب المحقّقة التي بلغت عشرة كتب ، والكتب المدرسيّة التي ألّفت فيها كتابين ،والبحوث التي بلغت اثني عشر بحثا ،والمواد الموسوعيّة التي بلغت خمس عشرة مادة. 
أمّا السيرة الأخرى التي كتبها أستاذنا مطلوب فسيرتها الحياتيّة التي تتبّع فيها حياتها بدءا من الولادة في (السيبة) جنوب البصرة ، حتى اقامتها في بغداد أطال الله في عمرها ، وعمره ، وهي ما اصطُلح عليها نقديّا بـ(السيرة الغيريّة) التي يكتبها أديب عن سيرة غيره، وقد لفت انتباهي فيها أنّ د. مطلوب استبدل اسم (خديجة) بـ(وفاء)، ولعلّ ذلك يردّ إلى أنّه وجد في لفظة (وفاء) ما يقارب حقيقة المرأة التي أخلصت له ،ولبيته فكانت وفاء في وفاء.
و سيرة الأستاذة خديجة حافلة بالإشارات إلى الأمكنة التي صارت جزءا من عالمها، فـ(السيبة) قرية لا شارع فيها سوى ذلك الذي يربطها بـ(الفاو)،وقد دخلت كليّة الآداب (على استحياء ونظراتها معقودة على الأرض ، وخطواتها متعثرة ، حتى إذا ما بدأ الدرس الأول وَجَدَتْ نفسها بين سبعة طلاب ،وثلاث بنات طالبات فاطمأنت قليلا) ص20، فكانت خطوبتها بعد عامين من تعارفهما على مقاعد الدرس الجامعي ، ثمّ الزواج والعمل في الإعداديّة المركزيّة ببغداد، وهو معيدٌ في كليّة الآداب، ثم السفر إلى القاهرة للدراسة ، والعودة الى بغداد ، والعمل في الكويت ، والرجوع إلى بغداد التي لم يفارقاها بعد ذلك.
2- القصائد: 
وهي مجموعة من القصائد التي كتبها د. أحمد ، وكانت د. الحديثي موضوعا قويّا فيها، منها قصيدة:(ستّون) التي كتبها بمناسبة مرور ستّين عاما على زواجه منها، وقد قسّمها الشاعر على مجموعة أقسام كلّ قسم يتحدث عن رؤية معينة، فالاستهلال الذي كتبه شعرا عموديّا كان مقدمة للاحتفاء بالمناسبة، تلاه (اللقاء) الذي وقف من خلاله الشاعر عند أوّل لقاء كان بينهما، و(الطفولة) الذي تحدث فيه عن بواكير حياته في تكريت، و (بعد اللقاء) ، و (الاعتقال)، و(الإبحار)، و(المناجاة)، و(القرار)، و(عند الوداع)، القصيدة كتبت في العام 1957بنفس قصصي سلس عبّر فيه الشاعر عن تجربة حياتيّة بطلاها هما معا، فضلا عن قصائد أخرى كتبت في د. الحديثي منها: حبيبتي، وطيف، وأطياف، وحبيبتي، وعشرون، ووطن وزهرة ، و زهرتي، القصائد جميعها التي كُتبت في الدكتورة إمّا على وفق الشكل التفعيلي المعروف، أو العمودي الموروث جامعها المشترك : خديجة الحديثي بما تملك من مزايا جميلة أهّلتها لأن تكون زوجة ،وأمّا، وأستاذة أجيال، يقول في قصيدة (طفولة) مستذكرا مكانه الأول والخطاب لها:
حبيبتي (تكريت) كانت مرتعي الجميل
وكنت طفلا لا أعي حوادث الزمن
لكنّ أمي وأبي قالا وفي عيونهم أحزان
قد كان فيها العيش مرّا يصرع الانسان... ص31.

وقد بيّن الدكتور المصنّف طبيعة هذه القصائد حين قال:(لكلّ قصيدة زمن وموقف فقصيدة (عند الوداع) صورة لموقف من الفراق جديد ، أي بعد خروجي من المعتقل ورحيلي الى (كركوك) لا برغبة ولكن بما اقتضته ظروف من تُفكّ عنه القيود، ومثّلت العراق - يعني د. خديجة - في (المؤتمر الإسلامي بإندونيسية) فكانت قصيدة (طيف)، ومثلها (أطياف)، و(عشرون)، و(وطن وزهوره)، وفي سنة 2004 تَوَجَّهَتْ إلى (مكّة المكرّمة ) لأداء فريضة الحج فكانت (زهرتي)، وكان ما أصبت به من مرض وحي (سلافة حب)، و(زهرة المنى)، وكانت هذه القصيدة تعبيرا عن صدق المسيرة التي قطعناها خلال عشرات السنين) ص6، يقول في قصيدة (الإبحار) ، والخطاب لمّا يزل موجّها إليها: 
حبيبتي سِرْنا وسارتْ معنا قوافلُ الأعوام
تحمُلُنا، نحمُلُها حبّا وما زلَّت بنا الأقدام 
نقذفُها، تقذفُنا في لجّة التيار
وانطلقَ البحّار
في قلبه عزيمةُ الأحرار
وصرخةُ الثوار...ص38.
3- ذكريات: 
وقد كتبها د. عبد الإله الصائغ التي ذكر فيها ):تسنمت الدكتوراه التي جعلني أدين لأفضل الأساتذة المربين الدكاترة: خديجة الحديثي –أم الأساتذة والطلبة بجدارة – وأحمد مطلوب ، وعناد غزوان ،وهادي الحمداني، وعبد الجبار المطلبي ،ورزوق فرج رزوق ، وجلال الخياط ، وسعدون الزبيدي[لعلّه علي الزبيدي] ، وإبراهيم حرج الوائلي ، وصلاح خالص ، وعلي جواد الطاهر ، وعدنان محمد سلمان...) ص78، وفي هذه الذكريات أماط الدكتور الصائغ اللثام عن قضايا كثيرة عاشها في كليّة الآداب لا يتّسع المقال لسردها.
4- مقالتان
كتبهما الدكتور شوقي ضيف –رحمه الله – عن د. الحديثي الأولى عنوانها: (كتاب أبنية الصرف في كتاب سيبويه) التي صارت فيما بعد مقدمة كتابها الذي كان في الأصل رسالة ماجستير أشرف عليها د. عبد الحليم النجار، وصدر في بغداد 1965م، والأخرى عن اطروحتها (أبو حيان النحوي) التي صارت مقدمة للكتاب بالاسم نفسه ، وصدر في بغداد 1966م ، وفي المقالتين أشاد ضيف بجهود د. خديجة وعلمها .
5- الدراسات التي كتبها طلاب الدكتورة الحديثي
 وهي دراسات علميّة وافية ناقش فيها كاتبوها كتب د. الحديثي عرضا وتحليلا ، وكانت بأقلام : د. محمد عبد المطلب البكّاء الذي كتب:(الدكتورة خديجة الحديثي صدق العزيمة والسبق العلمي)، ود جليل كمال الدين الذي كتب(سيبويه حياته وكتابه)، ومحمد حسين الصغير الذي كتب مقالة بالعنوان السابق نفسه، ود كريم أحمد جواد التميمي –رحمه الله- الذي كتب دراستين الأولى:(من أعلام الفكر النحوي المعاصر في العراق: الدكتورة خديجة الحديثي)، والأخرى: (سمات النحو البغدادي في ضوء كتاب بغداد والدرس النحوي)، ففي هذه الدراسات جميعا وقف الدارسون على أبرز ما يميّز الدكتورة الحديثي منهجا ، وإجراءات .
6- اللقاءات: 
وهي مجموعة من اللقاءات الصحفيّة التي أجريت للدكتورة قام بها عددٌ من الصحفيين العراقيين والعرب منهم: تهاني الرتقالي مراسلة مجلة المجالس الكويتية التي كانت حياة الدكتورة الخاصّة محور إحداها، وإبراهيم القيسي الذي أجرى ثلاثة لقاءات معها وكان عِلْمُ الدكتورة ،وبحثها متنها الأساسي، وفائدة [لعلها فائدة ال ياسين] التي أجرت لقاء محوره اهتمامات الحديثي وأثر القرآن الكريم في تعلّم العربيّة، وعالية طالب التي سألت عن الأخطاء اللغويّة عند المذيعين ، والصحافة الأدبيّة ، ومقابلة مهمّة جدا أجراها حميد المطبعي كان عمادها العربيّة والحضارة ، فضلا عن فلسفة د. الحديثي الحياتية، ومقابلة أخرى أجرتها الصحفيّة أسماء محمد مصطفى كان موضوعها النشاط العلمي الخاص للأستاذة الحديثي ، فضلا عن مقابلة أجرتها فاطمة العتبي تعلّقت بالبدايات الصعبة التي عاشتها أستاذتنا ،ومراحل دراستها، ومقابلة أخيرة أجراها سليم شريف لها سمت سيكولوجي تقصّى من خلالها الأجواء الروحانيّة للدكتورة ، وفي المقابلات جميعها أفاضت الدكتورة الحديثي الحديث عن تجربتيها في التعلّم ،و التعليم ، والتأليف، فضلا عن علاقاتها الإنسانيّة مع من يحيط بها.
7- مقدمات كُتُبِها: 
(أبنية الصرف في كتاب سيبويه)، و(أبو حيان التوحيدي) ،و( كتاب سيبويه وشروحه)، و(سيبويه)،و(الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه) و(دراسات في كتاب سيبويه)، و(موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف)،و(المدارس النحويّة)، و(المبرد سيرته ومؤلفاته)، و( بغداد والدرس النحوي)، و(تيسير النحو)، و( ابن الأنباري)، وهي فيها جميعا انطلقت من منهجيّة العرض العام للكتب لغرض الكشف عن فصولها ومباحثها.
8- مقالات أخرى كتبتها د. الحديثي في :
(عيد المعلم)، و( أشهر فاتنات التاريخ)،و( الرائدة) ،و( لغة الضاد)، فهي مقالات منوّعة استهوتها موضوعاتها فراحت تتأمل فيها وأجادت.
9- دراسات موجزة كتبتها الدكتورة
بتكليف من المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم في تونس، وموسوعة الحضارة الإسلاميّة في (عمّان) كتبتها بمنهجيّة علميّة توخّت من خلالها الدقّة والموضوعيّة، وإحقاق الحقّ وهي: (ابن الانباريّ) ،و(ابن جابر الهوّاري)، و(ابن سيّد الكناني الإشبيلي)، و(ابن كيسان)، و(ابن الفَرُّخان)، و(ابن المرحل المالقي)، و(ابن مُغَلِّس الأندلسي)، و(أبو حيان النحوي)، و(أحمد الحملاوي) ، و(أحمد الهاشمي)، و(الاسم ودلالاته العربيّة)، و(إعراب القرآن)، و(ثعلب)،و (الزجاجي) ، و(نفطويه)...، واضح من خلال قراءة تلك المتون أنّها كُتبت بنفس موسوعيّ موجز حاول الإحاطة بالعلم المشار إليه ، أو الموضوع لغرض الكشف عن اسهاماته في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
10- مقالتان كتبتا عن الحديثي
ونشرتا في الصحافة العراقيّة وقد خلتا من اسمي كاتبيهما الأولى:(خديجة الحديثي) ونشرت في جريدة الرأي البغداديّة في 15/ ت1/ 2000 والأخرى: (بغداد والدرس النحوي) وقد نشرت في جريدة الزمن في 7/ ت1/ 2001.
11- الوثائق: 
وفيها نُشرت قرارات حصول د. الحديثي ود أحمد مطلوب على شهادات البكالوريوس ، والماجستير، والدكتوراه .
12- الخاتمة: 
كتب د. أحمد مطلوب خاتمة الكتاب بروح أرادت الإشارة إلى حياته بوصفه (مصنّف) الكتاب؛ ولهذا عمد إلى الحديث عن بداياته العلميّة، والجوائز التي حصل عليها، والوظائف التي شغلها، والمجامع العلميّة التي عمل فيها عضوا مؤازرا، أو عاملا، أو مراسلا في مجامع عربيّة كثيرة.
وتحدّث أستاذنا في الخاتمة نفسها عن مؤلّفاته، وحياته الاسريّة، وأولاده، وبناته، وقد جعل للخاتمة ملاحق تضمّنت: رسالة شعريّة بمناسبة إصدار الكتاب أرسلها ابنهما الأكبر: أثير وهو يحمل دكتوراه في أمراض المفاصل والتأهيل الطبي، ورسالة نثريّة كتبها ابنهما الآخر: نضير حامل شهادة البورد العربي في الأمراض الجلديّة، ثمّ قصيدة بالمناسبة نفسها كتبتها الحفيدة رفل أثير.

وبعد: فكتاب (رفيقة عمري) ليس كتاب سيرة غيريّة خالصة فحسب، إنّما هو كتاب استذكاريّ استحضر فيه (المصنّف) الأستاذة الدكتورة خديجة الحديثي في سيرتيها الحياتيّة والعلميّة، ثمّ أضاف إلى متنه ما كتبه عنها بعض أساتذتها، وطلابها الذين كان لها ولمّا يزل موقفٌ في نفوسهم، وقد قطعت شوطا جليلا من حياتها وهي تدرّس أو تحقّق كتبا، أو تبحث في مظان التراث، فضلا عن أثرها في تاريخ تعليم النحو، والصرف في العراق والوطن العربي.
والكتاب الاستذكاري ينحو منحى قريبا من المادة الموسوعيّة بسبب سعة عقل الشخصيّة المحتفى بها، وهي هنا شخصية د. خديجة الحديثي التي كتبت في حقول علمية وثقافية لا يمكن انكارها، فضلا عن حضورها الطاغي في الوسط الاكاديمي بوصفها أوّل امرأة عراقيّة، وربّما عربيّة تختصّ بعلمي النحو، و الصرف، ولو قيّض لأستاذنا د. أحمد مطلوب أن يعثر على كلّ ما كُتب عن الدكتورة لكان كتابه موسوعة بمجلدات، فقد قدّر لكثير ممّا كُتب عنها أن تلتهمه النيران التي باغتت مخزن الأسرة الذي كان بمنزلة ارشيفها في نيسان 2008.
تحيّة حبّ وعرفان لأستاذنا د. أحمد مطلوب الذي كانت له إسهاماته في التعليم العالي ، والتأليف ، والكتابة في النقد العربيّ القديم والحديث ، والبلاغة ، والتحقيق ، والشعر ، والمذكّرات ، فضلا عن رياسته الجمع العلمي العراقي ، وكان له الفضل في كشف ما غمض من حياة استاذتنا د. خديجة الحديثي.

الاثنين، 24 يوليو 2017

عصر "هواة المراسلة"!

لا نعرف كثيرا عن وسائل تكوين الصداقات قبل الستينيات والسبعينيات، ولا كيف كان الناس يجدون من يشبهونهم.. اجتماعيات الحياة عبر التاريخ مجهولة للغاية، حتى في تلك العصور التي نحسب أننا أحطنا بها علما.. نكتشف ذلك حين نفتش في التفاصيل، حين نسأل أسئلة تبدو في عصر جيلنا ساذجة بديهية.. مثلا: كيف كان الناس يتعرفون إلى بعضهم؟ هذا السؤال الذي لا يبدو موضع تفكر مهم عند جيل مواقع التواصل، وسيبدو أكثر سطحية عند الأجيال اللاحقة التي لا نعرف كيف ستلعب التقنية في تصوراتهم عن حياة السابقين.
حاجة الإنسان إلى البوح والحكاية متأصلة فيه منذ نزل إلى الأرض، وشغف البحث عمّن يشبهونه ظل -دائما- ميزان رحلة الراحة والقرار، لا شك أن الناس عبر التاريخ حاولوا أن يكسروا جدران المحيط الصغير، ليصلوا إلى أوسع أفق ممكن، لكن كيف؟ التفاصيل الصغيرة تبدو دائما عصية على الترصد والمراقبة.. التقنية تبتلع التفاصيل، التطور يبدو أسرع من الوقوف على الخبايا.. حياة الناس خلال السنوات العشر الأخيرة بدت هيسترية، اختراعات انطلقت واستخدمت واختفت على هامش التاريخ، التقنية ابتلعها، لم ولن يلتفت إليها أحد!
أتذكر قبل خمس سنوات فقط، أعلنت شركة أمريكية متخصصة في العقار عن تصميم "ثوري" لدورات المياة في المنازل الراقية، كان "الاختراع" عبارة عن مكتبة يتم ملؤها بكتب خفيفة متنوعة تُرفق بجوار المرحاض، لتسلية المستخدم أثناء قضاء حاجته.. اقتصاديون توقعوا أن تحصد الفكرة ملايين الدولارات.. مثقفون قالوا إن الفكرة ستسهم في رفع حجم الإقبال على القرآءة.. وساخرون تحدثوا عن أجيال ستبني ثقافتها في دورات المياه، أو كما أسماها أحدهم حينها بظاهرة "الثقافة الحمامية".
لم يكن يدور بخلد أحد من هؤلاء أن الفكرة "العبقرية" ستنهار قبل أن تبدأ، وأن شركة صغيرة متخصصة في إنتاج التطبيقات الذكية، ستنسف "عبقرية" الاختراع الباهر، عبر تطبيق صغير يضم سلسلة ألعاب تسلية على شاشة الجوال الذكي.. مَن قد يفكر اليوم في بناء مكتبة في حمام بيته؟.. يصيح شاب عشريني: "ما هذه الفكرة السخيفة!".. صدقني -عزيزي- كانت فكرة عبقرية حين انطلقت!
انظر كم الأمر مضحك؟ أنا -ابن السبعة والعشرين عاما- أحكي عن "ذكرياتي" التي لا يعرفها أبناء هذا الجيل! هل تدرك الآن كيف تبتلع التقنية تفاصيل التاريخ؟ لقد أصبحنا عواجيز وأصحاب قصص حصرية لمجرد أننا أدركنا أياما قبل اختراع الهواتف الذكية أو الإنترنت!.. بإمكاننا اليوم أن نحكي للصغار قصصا يفتحون من غرابتها أفواههم.. بينما نحن نتذكرها كأنها بالأمس القريب!
إن مصطلح الجيل اختلف كثيرا هذه الأيام.. قديما كان الجيل يعني من عاشوا نحو مئة سنة أو يزيد.. نقول جيل الستينيات، وجيل السبعينيات.. التطور كان بطيئا، من السهل أن تجد قواسم مشتركة بين سكان الأرض لقرن كامل.. اليوم، يبدو هذا الأمر مستحيلا، فمواليد التسعنيات وحدهم يمكن تصنيفهم إلى أجيال مختلفة.. مختلفة تماما!
من سيفكر بعد عشرين عاما في أن يقرأ ردودًا صرف عبد الوهاب مطاوع شطرا من عمره في خطها، ظنّا أنه يحجز مساحة في ذاكرة التاريخ ستكون عصية على النسيان؟
قبل سنوات فقط، شهد التاريخ واحدة من طرق التواصل المرهقة، ربما لم تعد تلتفت إليها الأجيال المعاصرة رغم أن بعضهم قد استخدمها فعليا، وبالقطع لن تسمع عنها الأجيال اللاحقة شيئا.. "أبحث عن مطلقة"، "أريد علاقة جادة".. عبارات على هذا النحو كانت تظهر على شاشة التلفاز ضمن "شريط الشات"، وأخرى في جروبات الياهو ومواقع محادثات الجافا ومنتديات التواصل.. كلها كانت وسائل للتعارف، ظن أصحابها أنهم يمسكون طرف التقدم حينما اقتحموها، اليوم كثير منهم ينزوي خارج التطور، فقد تجاوزته التقنية وابتلعته تطورات التاريخ.
حكى لي أبي -مرة- كيف أن ثورة وسائل التواصل في عصره كانت الهاتف الأرضي، الذي لم يكن متوفراً في كل البيوت، والهاتف الآلي لا يمكنك تحصيله إلا في المحافظات والمدن الكبيرة، أما القرى المحظوظة، فلم يكن أمام أهلها إلا طلب الرقم بواسطة عامل "السنترال" الذي يتولى عملية التوصيل مع الطرف الآخر، وكان التواصل الدولي يعني انتظار ساعات للعثور على لحظة الحظ التي يكون فيها الخط الدولي غير مشغول.
قبل والدي بجيل واحد، كانت وسيلة تواصلهم المثالية هي البريد العادي، (وقتها لم يكن عاديًا)، كان نافذة جيلهم للتواصل مع العالم الخارجي سواء ضمن أنحاء البلد الواحد، أو خارج حدود البلاد.. وكان لها طقوسها الخاصة، كما يصفها المدون زاهر هاشم: "كنا غالباً ما نرفق الرسالة بصورة أزهار وأطفال سعداء، أو نضع رشة من العطر على الرسالة، وأحياناً نرسل بعض الأزهار والنباتات المجففة للتعبير عن المشاعر، بسبب عدم وجود الوجوه التعبيرية للتعبير عن الفرح أو الحزن".
هل تسمع عن بريد الجمعة في صحيفة الأهرام؟ الأمر ليس بعيدا، فقط قبل سنوات، بإمكانك أن تدرك بعضا منها على شبكة الإنترنت.. حين ستقرأ بعض تلك الرسائل، ستتذكر فجأة الحلقات الإذاعية الشهيرة في الراديو حين تحكي فتيات معاناتهن في الحب لصاحب الصوت الرخيم البارز.. لكن هل تجد ذلك يختلف كثيرا عما يدور الآن في مواقع تبادل الأسئلة والإجابات وتطبيقات الصراحة؟ هل استوعبت أن كلّا منّا صار اليوم يمتلك إذاعته الخاصة وبرنامجه المميِز؟ هل فكرتَ -مرة- لمَ فقدت تلك المراسلات متعتها حين أصبحت في متناول الجميع؟ من سيفكر بعد عشرين عاما في أن يقرأ ردودًا صرف عبد الوهاب مطاوع شطرا من عمره في خطها، ظنّا أنه يحجز مساحة في ذاكرة التاريخ ستكون عصية على النسيان، لا في وجودها كعنوان، وإنما في تفاصيل سطورها وكلماتها.. كلنا يعرف اليوم "بريد الجمعة"، لكن كم منّا قرأ شيئا منه؟.. أخبرك أمرًا، يوما بعد يوم، سيجيئ جيل لن يعرف حتى عن عنوانها شيئا.. سوف يبتلعها التاريخ أيضا!
في صحافة الستينات والسبعينات، انتشرت زوايا متخصصة بهواة المراسلة، يرسل القراء صورهم وينشرون عناوينهم ويعلنون رغبتهم بالمراسلة وبناء صداقات مع آخرين، كان الشباب يتبادلون معلومات الأصدقاء ويرشحونها لبعضهم البعض، بصورة تقترب مما يجري في فيسبوك حالياً لكن بطريقة بدائية.. يدفعني الفضول أحيانا كثيرة إلى استعراض مجموعة من صور وأسماء تعود لعدد من هواة المراسلة، أسماء منشورة قبل عام 1970.. أصحابها كانوا في العشرين من أعمارهم حينها، هذا يعني أنهم الآن في أواخر الستينات.
كثيرا ما أتأمل صورهم والمعلومات تحتها، وأتمنى لو أصل إلى بعضهم -هذه الأيام؛ لأسأله: هل حققت مراسلتك غايتها؟ هل راسلك أحد؟ هل كنت تتخيل وقتها أن تعيش إلى زمان الفيسبوك -كما أعيش- لأراقب التقنية في سكون، في انتظار الثورة التواصلية القادمة، التي ستجعل من يقرأ هذه التدوينة بعد أعوام يصيح متعجبًا: كاتب مسكين.. منبهر بزمان الفيسبوك القديم!
الأجيال اللاحقة لن تعرف كيف كانت معاناة سابقيهم في الحصول على شبيه، في الوصول إلى مساحة للبوح دون خوف أو قلق، خارج حدود الجوار
التفكير في التفاصيل مرهق جدا، إحدى المراسلات كانت لفتاة تعتذر عن نشر صورتها، وأخرى كتبت في شروط استقبالها للمراسلات أنها "للفتيات فقط".. هل تجد ذلك يختلف كثيرا عن مثيلاتهن في عالم الفيسبوك اليوم؟ ألا تزال تلك الكلمة -هي هي- منسوخة فوق حسابات بعض بنات جيلنا؟ هل ثمة تطابق في القضايا ونقاط الخلاف؟.. ولمَ خافت تلك الفتيات من نشر معلوماتهن؟ هل كن سلفيات قبل السلفية؟ أم أن اشتراطات مجتمعية منعتهن من ذلك؟ هل كان المجتمع وقتها يرى في من تفعل ذلك تحررًا زائدا لا يليق بمقام زوجة ولا مسؤولية بيت وحياة؟ هل كن يخشين التحرش؟ هل كانت بعضهن فعلا تستقبل "مراسلات" من شبان غير مسؤولين؟ هل كانت تلك الصفحات وقتها مكانا لاصطياد الفتيات؟.. تفاصيل وتفاصيل وتفاصيل!
يضرب هاشم مثالا على إحدى الرسائل التي استقبلها حين وضع معلوماته في زاوية "هواة المراسلة" في السبعنيات.. كانت الرسالة تقول: الأخ العزيز: أرسل لكم كلماتي هذه عبر أثير الشوق والحنان لتصل إليكم وأنتم في أتم الصحة وموفور العافية، كلماتي هذه أسطرها بمداد من الشوق، وأعطرها بعبق من الذكريات التي لا تنسى، آملاً أن تصلكم وأنتم تكتسون ثوب العافية".. تلك الرسالة التي ظل قرابة أسبوعين يراقب صندوق البريد في انتظار أن تطرح بذرته أي ثمرة.. يظل التراسل بالبريد متواصلا أشهر كاملة، والقصة السعيدة هي من تنتهي بلقاء، وهو أمر كان نادر الحدوث.
غاية القول، جريان الحياة أسرع منا، التقنية تبتلع تفاصيل تاريخ الأجيال، وسهولة التواصل هذه الأيام جعلت من العلاقات بمختلف أنواعها من صداقة وحب وبغض وتحالف وعداء، أمرا فاقد القيمة.. الأجيال اللاحقة لن تعرف كيف كانت معاناة سابقيهم في الحصول على شبيه، في الوصول إلى مساحة للبوح دون خوف أو قلق، في معاناة البحث عن صديق عمر أو توأم روح، خارج حدود الجوار.