أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 16 يناير 2016

ذاكرة أبنائكم



اعتنوا جيداً بذاكرة أبنائكم، خذوا من وقتكم الكثير-وليس القليل- لتمنحوهم ما سوف يحيا في ذاكرتهم! اعتنوا جيدا باختيار الأماكن والناس ..الروائح والأطعمة ..الألوان والأقمشة... لأن كلَّ شيء سيبقى أثرُه في ذاكرة أبنائكم حين يكبرون وحين أنتم أيضا تكبرون.
اليوم أمضيتُ والأهل والأولاد ساعاتٍ قليلة في (حَرثا)، وهي قريةٌ من قرى إربد شمال الأردن، في زيارة لبيت خالتي،


ومنذ أن تكون على عتبات القرية أو في الطريق إليها تنثال إلى الذاكرة انثيالاً كلُّ الصور المختزنة في هذا الشيء العبقري المختبئ تحت شعرك، لتقفز صورُ الطفولةِ أمام عينيك مرةً واحدة وكأنها قد حدثت الآن، وكأنكَ ما فارقتَ المكان ولا الناس .. المواقدُ ما زالت دافئة، والروائح ما تزال تعبق بثيابك، وضحكات إخوانك وأقربائك وأصدقائك تتردد هنا وهناك.
كانت زيارة بيت خالتي أم أنس في حرثا تعني لي الكثير، وهو من البيوت القلائل التي لها بصمةٌ خاصة في ذاكرتي مما يتعلق بطفولتي؛ هناك ما تزال رائحةُ الأفران -أو ما كنتُ أسمّيه أنا رائحة (الحرائق)- أولَّ ما يستقبلنا فيها، وما زلتُ أتلمّسُ البحثَ عن هذه الرائحة في كل زيارة لحرثا...واليوم كانت سماءُ القرية تعبق بهذه الرائحة، وتُحيــي صورَ الطفولةِ في لحظةٍ وتشعلها من جديد.
تستقبلكَ في مدخل البيت شرفتُه الكبيرة المستطيلة، التي احتضنت لعبةَ (صياد السمك)، اللعبة التي قضينا مع أولاد خالتي نحاول تضليل خالتي حتى لا تكتشف أننا قد نقترب من نباتاتها الداخلية المفعمة بالحياة والنضارة! أما خلف البيت فيقع السرُّ الكبيرُ الجذابُ - بالنسبة لي- السرُّ الذي ينتظرنا دوماً، إنه بيتُ الجارة العجوز الضئيلة (أم ذياب)...
كان من عادتِنا أن نذهب إلى هناك، ربما تعجزُ الجارةُ عن استقبالنا أو عن مطاردة شقاوتنا، ولكني ما زلتُ أحنُّ إلى ذلك البيت وأذكره جيدا، فإن لم يعد متيسراً أو لائقاً أن أذهب اليوم إليه - في عمري هذا- بشقاوة الطفولة التي كانت، فإنني أُهرع عادةً إلى المطبخ لأنظر من نافذته التي تطلّ على بيتها الحجري الجميل، الذي ما زال صامداً ينتظر في كل زيارة.
...في زيارة اليوم خرج الأولاد يستكشفون المكانَ المثيرَ لهم، وقد صارت زياراتُ بيوت الأقارب متباعدة، ودون أن يدري أولادي رأيتهم يسيرون على خطوات أمهم - وهي صغيرة- دون انتباه، سعدوا بتناول (أقراص العيد) بزيت الزيتون مع الشاي، سعِدوا بالأجواء الحلوة التي احتضنتْهم في (البَرَندة) وهم يتابعون معي أنني هنا كنتُ أركض، هنا قفزتُ من النافذة، وهنا كنا ننام، ومن هناك نخرج للبئر الحجري تحت شجر الزيتون والرمّان، هنا تلذذنا بطعم (الكْبابْ) الذي تنفرد به منطقة الكْفارات في شمال الأردن -
وهو شيءٌ غير الكباب المشوي وغير الكُبّة -، وإلى الآن لم أذق أطيب من الزيتون الذي تعدُّه خالتي من خير هذه الأرض المباركة.

اعتنوا بذاكرة أبنائكم جيداً، فيما تختارون من أماكن تمضون فيها معهم أوقاتكم، وفيما تختارون من أطعمةٍ أو رحلاتٍ أو ساعاتٍ تقضونها لقراءة قصة أوعمل أشغال يدوية أو لعبة شطرنج ...أو حتى برامج تلفزيونية ستكون ساعاتُها في قادم الأيام ذكرى، لكنّ لكم في هذه الذكرى كلُّ الصورة لا كواليسها الخلفية فقط! 
لأنهم سيحفظون الأماكن والروائح والناس والكلمات وبقايا العمر القادم...سيحفظونها وأنتم فيها!
استمتعوا بأبنائكم، واخلقوا ذاكرتهم وكونوا فيها.

http://www.alwan-group.com/other.php?pid=301


الاثنين، 11 يناير 2016

الصداقاتُ الصامِتة

أحياناً ...تكونُ الصداقاتُ الصامِتةُ البعيدةُ أحلى، وأجمل….وربما أصدق!
...كنت في أثناء العمل على أطروحة الدكتوراه سنة 2007 أذهب يوميا لقضاء ساعات الصباح حتى الظهيرة في مكتبة المجمع الثقافي بأبوظبي، وهي أجمل مكان في تلك المدينة الخليجية، كنت أختار مقعدا معينا على طاولة محددة كل يوم، واستمر ذلك لسنتين تقريبا.
كان رفيق أصبوحاتي على الطاولة المقابلة- شابا بعمر أخي اﻷصغر يأتي للدراسة يوميا.لم نتكلم ولم أعرف شيئا عنه حتى اللحظة، فقط كنت أحفظ شكل رأسه ونظاراته الغامقة فوق عينيه، وآنس بوجوده في ذلك المكان، وحين يغيب كنت أفتقده وأظن قاعة المطالعة ناقصة. 
استمرت صداقتُنا الصامتة نحو سنتين، حتى انتهيت من كتابة أطروحتي، وصارت زياراتي للمكتبة متقطعة. 
ثم... وبعد نحو أربع سنوات، عندما كنت أستعد للرجوع إلى عمان، ذهبت لحضور اجتماع لأحد أندية توستماسترز باللغة الإنجليزية، نادي انطﻻقة، ويا للأقدار!! كان ذلك الشاب حاضرا يومها، رآني كما رأيته، ووقفت فوق عينيه الدهشة التي كانت عندي.. سمعته يتكلم في اجتماعنا ذاك، ورغم ذلك لم أعرف عنه شيئا!! 
إنها من الصداقات الصامتة الجميلة التي ﻻ تنسى؛ 
وربما تكون خيراً من صداقات كثيرة نحسبها صداقة حقيقية، فإذا هي تفشل في أول اختبار . وربما تكون خيرا من صداقات كثيرة نحسبها صداقة حقيقية، فإذا هي تفشل في أول اختبار؛ فقد يدخل أصدقاء تظنهم حقيقيين إلى حياتك، لكنهم ﻻ يتورعون عن إيذائك وعن سرقة الفرح والسعادة والمحبة من أيامك وأحﻻمك، ليبنوا على حطامك سعادة لهم يتبجحون بوقاحة أنها كانت بانتظارهم.

http://ar.arabwomanmag.com/%D8%B5%D9%8F%D8%AF%D9%81%D8%A9%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9/