أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 أبريل 2018

حُمّى الحنين إلى فلسطين…

بقلم سهيل كيوان
جريدة القدس العربي
في الوقت الذي تُعد فيه حكومة إسرائيل للاحتفالات بالذكرى السبعين لتأسيسها، وتدعو رئيس هندوراس للمشاركة، وهذا يوافق، ثم يعتذر لأسباب وصفها باللوجستية، في هذا الوقت من السنة بالذات، تزدهر أمراض الربيع، وأحد أعراضها، حنين المهجّرين الفلسطينيين في الشتات إلى قراهم ومدنهم.
تستيقظ آلام الحنين في هذا الموسم بالضبط، مع بزوغ زهر اللوز في آذار/مارس، وتشتعل مع برقوق نيسان/أبريل، ليصبح إشعاعا حارقا يدمي الصدور والعيون في أيار/مايو. 
من بين هؤلاء المرضى بالحنين صديقي أبو أنس، المقيم حاليا في مخيم إربد في الأردن عند شقيق زوجته، أتى قادما إليه، منذ سنوات قليلة مع أم أنس، من مخيم حمص، بسبب الحرب الأهلية في سوريا. 
تعرفت على أبي أنس، من خلال «الفيسبوك» منذ سنوات، كثيرا ما يكتب تعقيبات على منشوراتي، خصوصا تلك المتعلقة بلقاءات مع طلاب المدارس، فهو أستاذ في اللغة العربية، عمل مدرِّسا فترة طويلة في السعودية، وعمل في مخيم حمص، عاد مؤخرا ليجدّد نشاطه في التعليم، في مخيم إربد، عن طريق إحدى الجمعيات.
ثورة الاتصالات محت سبعين عاما من غباش في الرؤية، ألغت الحدود، وأعادت للجريمة حدّتها ووحشيتها. 
يرن الهاتف على المسنجر، «محادثة كاميرا تنتظرك»، إنه أبو أنس، أفتح الكاميرا، أرفع يدي محييا، ويرد أبو أنس بالمثل.
- صباح الخير أخي أبو سمير، اليوم اتصلت لأطوف معك في سوق مخيم إربد، هنا بعض الشبان يريدون أن يسلّموا عليك. 
- أهلا أخي أبو أنس بك وبالشباب. 
- خذ هذا الشاب يبيع الخضار. يطل وجه شاب على الشاشة. 
- مرحبا مرحبا، أنا من حيفا، من بيت الحسن، هل تعرف بيت الحسن؟
- طبعا أعرف، من لا يعرف بيت الحسن؟!
- بيت جدي في وادي الصليب، هل تعرف وادي الصليب؟
- أهم معالم حيفا التاريخية، أقام فيه قبل النكبة آلاف العمال العرب من مختلف الجنسيات لقربه من الميناء، فيه تأسست جمعية العمال الفلسطينية عام 1926، وانضم إليها أكثر من عشرة آلاف عضو، وفيه مسجد الاستقلال، وعشرات المعالم التاريخية، تحاول البلدية أن تخفيها وتشوّهها، وتبني المباني الجديدة على أنقاضها. 
- طيّب خذ هذا الطيراوي يريد أن يسلم عليك.
- أهلا وسهلا.
- أنا من طيرة حيفا، في مخيم إربد حوالي خمسة آلاف مواطن أصلهم من الطيرة.
- أهلا وسهلا بالطيراوية. 
- كيفكم أنتم بفلسطين؟ 
- الحمد لله نحن بخير.
- الله يعينكم.
- الله يعين الجميع. 
- تعرف طيرة حيفا؟
- طبعا أعرفها، فيها الكثير من المعالم العربية، غرف المدرسة، وبيت المختار، والمقبرة الكبيرة، وغيرها، ولكن لا توجد سوى أسرة واحدة أو اثنتين من العرب. هذه الأسرة في صراع مع البلدية حول الأرض التي تملكها العائلة، فهي في موقع مهم في وسط المدينة، البلدية حوّلت معظم الأرض إلى حديقة عامة، كي تحرم هذه العائلة من البناء عليها، هناك محاكم بينهم منذ سنوات. 
- خذ هذا الزلمة من إجزم.
- أهلا أخي الجزماوي. 
- هل تعرف إجزم؟ 
- طبعا أكبر قرى الكرمل، مساحتها أكثر من ستة وأربعين ألف دونم، كان عدد سكانها أكثر من ثلاثة آلاف عام النكبة، أقيمت على أرضها كيبوتسات، يعني تعاونيات اشتراكية.
- خذ هذا جاري من أم الزينات..
- أهلا بالزيناتي أهلا.
- أم الزينات حلوة، صحيح؟
- من أجمل قرى فلسطين، قرى الكرمل كلها جميلة، ومنها أم الزينات، وعين حوض، وجبع، وعين غزال وكفرلام، وأبو شوشة، وغيرها، كان عدد سكان أم الزينات عام النكبة حوالي ألف وسبعمئة نسمة، على أكثر من إثنين وعشرين ألف دونم، من أجمل قرى فلسطين، طرد منها جميع سكانها. بقي منهم قلائل يعيشون في القرى القريبة مثل عسفيا.
- طيّب خذ هذا من عراق المنشية. 
- أهلا حبيبنا.
- تعرف عراق المنشية؟ 
-طبعا، هذه تابعة منطقة مجدل عسقلان، أقرب لغزة.
- صحيح، تحياتنا لكم يا أهلنا وأخوتنا.
يعود الهاتف إلى يد أبي أنس: 
- أنا بحب إتصل فيك، إنت بتغيّر لي مزاجي، شو ناوي تكتب هذا الأسبوع لـ «لقدس العربي»؟ 
- الحقيقة عندي موضوع عن كلب ألماني محكوم بالإعدام، يا سيّدي هذا الكلب المحترم قتل صاحبته وإبنها فحكموا عليه بالإعدام، فأقيمت حملة لجمع مليون توقيع ضد إعدام الكلب، وأنا أضم صوتي ضد إعدامه، سأقترح إقامة لجنة تحقيق لمعرفة سبب ارتكابه الجريمة، يجب التروي قبل الحكم على الكلب، يعني يا أخي ليس عدلا أن يقتل البشرُ الكلابَ بلا حساب، وحتى أن بعضهم يأكل لحمها، وعندما يَقتلُ كلبٌ إنسانا تقوم الدنيا ولا تقعد، هذا نوع من العنصرية والاستعلاء على الكلاب. 
- والله مقالاتك مشوّقة، ولكن أخي أبو سمير، الشباب هنا يطلبون أن تكتب عنهم، عن سوق إربد، عن حنينهم لفلسطين، أنتم عرب 48 تعطونا نفَسا، أنتم شهادتنا بأنها بلاد كانت عامرة، ولم تكن فارغة، كما تزعم الحركة الصهيونية.
- أخي نحن وأنتم واحد، الصدفة فقط، هي التي أبقتنا هنا، وأنتم هناك، كان ممكنا جدا أن أكون أنا في مخيم حمص، وأنت هنا في مجد الكروم.
- هل يوجد لاجئون خارج فلسطين من مجد الكروم؟ 
- طبعا، أكثرهم في مخيمات شاتيلا، وعين الحلوة، وبرج البراجنة، وبرج الشمالي، والرشيدية، ومنهم في مخيم حمص، والرمل قرب اللاذقية، واليرموك.
- خذ هذا واحد من الحَدَثة؟
-هلا هلا..
- مرحبا أهلنا في فلسطين، «والله مشتاقين»، هل تعرف الحدثة؟ 
- الحدثة؟ طبعا من قرى الهياجنة – أبو الهيجا – أكثر أهل الحدثة يقيمون في مدينة طمرة، وفي الذكرى السابعة والستين للنكبة، أقيمت مسيرة العودة السنوية على أرض الحدثة وهي سهلية خصبة، مساحتها أكثر من عشرة آلاف دونم، مزروعة بكروم اللوز والزيتون، فيها مَجْمعٌ كبير لمياه الأمطار، تقع جنوب غرب طبريا، يستغل أرضها مستوطنون من الجوار (سارونة وكفار كيش)، قدّم المستوطنون شكوى ضد جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين، وادعوا بأن المشاركين في المسيرة، سرقوا ثلاثة أطنان من اللوز اليابس عن الشجر، أقسم بالله، يا دوب قطف بعض الشبان بضع حبات من اللوز، مسيرة العودة أزعجتهم فعاقبوا المنظمين.
- بدنا مقالك عن الجولة، في سوق مخيم إربد.
- طيّب خيّا أبو أنس، ولا يهمك، بحاول لأنه اليوم الإربعاء، والوقت محشور.
- طيّب، لكان أتركك بأمان الله.
- الله معكم، منحكي.
- إن شاء الله، منحكي.

الأربعاء، 4 أبريل 2018

مذكرات نسائية: حبل الغسيل

21/9/2016
الغسيل ... من الأعمال المنزلية التي تقوم بها ربّات البيوت في مختلف بقاع الأرض، وقد تغيرت طقوس هذه العملية وما يرافقها على مرّ الزمان مع انتقال الغسيل من عملية يدوية إلى عملية آلية، ومن كمياتِ ملابس قليلة إلى إنتاجٍ وفيرٍ جعل الفرد العادي في يومنا يملك من الثياب في خزانته ما لم يكن يملكه كبار القوم في غابر الأيام.
ولعل من أشهر القصص وأجملها المرتبطة بالغسيل وطقوسه -أيام كان الغسيل يتم قرب مياه الأنهار الجارية- قصة تعارف الأمير الأندلسي محمد  بن عباد باعتماد الرُّمَيكية، التي كانت تقوم بعملها المعتاد في غسيل الملابس على ضفة نهر الوادي الكبير، وانتهى اللقاء بينهما بحكايةٍ ما زالت تُروى تفاصيلُها في الكتب وتحكي جمال الحب واستمراره من القصور إلى المنافي ثم القبور.
ومهما اختلفت طرائقُ غسيل الملابس بين الماضي والحاضر وبين منطقة وأخرى إلا أن (نشر الملابس) بعد الانتهاء من غسيلها هو مرحلة لا بدّ منها، ولم يكن ممكناً تجاوزها إلا عندما تمَّ اختراعُ مجففات الملابس الكهربائية، وهي ترفٌ قد لا تملكه إلا نسبةٌ معينة من العائلات في مجتمعاتنا الفقيرة التي تملك شمساً ساطعةً على مدار العام، وتملكها نسبة محدودة كذلك في المجتمعات الغنية التي تؤمن بترشيد استهلاك الموارد في بيئةٍ ملبدة بالغيوم تحتفي بالشمس أيّما احتفال لو انكشفت عنها الحُجُبُ سويعاتٍ في النهار.

ولأني من اللواتي تصيبهن لعنةُ الغسيل مراتٍ عديدة خلال الأسبوع كي تكفي متطلبات أربعة أطفال، فإنّ لي مع الغسيل قصةً لا تختلف عن كثيرٍ من قصص الفتيات، اللواتي قد لا يعرفن طريقاً للغسّالة إلا حين تصير الواحدةُ في بيتها، فتجد أنه لا مفرّ من قدرها الجديد في مواجهة أعمالٍ منزليةٍ تكون في انتظارها خلف الباب الذي تدخله بثوبها الأبيض ليلة الزفاف.
ولئن كان غسيلُ الملابس قد أضحى أمراً لا يسرق الوقت والجهد مع انتشار الغسالات الأوتوماتيكية، التي تعفي ربات البيوت من مراحل الغسيل العديدة التي ترهق البدن وتجفف البشرة وتذهب بساعات النهار ... فإن نشرَ الغسيل مسألةٌ أخرى، لم تتخلص منها الكثيرات مع اضطرارها لاستعمال الحِبال لتجفيف الملابس.
تتعدّد أشكالُ مجففات الملابس وتختلف من مجتمعٍ لآخر ومن دولةٍ لأخرى. وتكمن وراءها فلسفةٌ من نوعٍ خاص تجاه الحياة لا يدركه كثيرٌ من الناس. فإن كان أجدادُنا اتخذوا من أغصان الأشجار وحجارة الأسوار مكاناً  ترتمي عليه الملابس الرطبة حتى تجف، فقد فرضَ أسلوبُ الحياة  ونمط العمارة المعاصرة علينا أشكالاً متنوعةً لتجفيف الملابس  تلتقي في معظمها على فكرة الحبل الرفيع الذي  تُعلَّق عليه الثياب.
لكن السفر والتجوال في بلاد الله الواسعة الذي يمنحك فرصةً رائعةً لتدرك أن الناس من نفسٍ واحدة مخلوقون، لا يمنع أنّ لكلٍّ منهم طريقتَه في أسلوب الحياة التي يرتضيها وتختلف تفاصيلُها بين بلد وآخر، بما ينمُّ عن اختلافاتٍ ثقافية وراء تلك المظاهر التي قد نمرّ عليها مرورَ الكرام في جولاتنا السياحية.
أذكر أنني أول عهدي ببيتي وحياتي العائلية قد اتخذتُ شيئاً جديداً لتجفيف الملابس، وهو منشر الغسيل، فقد اعتادت أمي وجدتي وقريباتهنّ وجاراتهنّ أن ينشرنَ الغسيل على حبالٍ طويلة تمتد على أسطح المنازل والبنايات وساحات البيوت، تستعرض فيها كلُّ واحدةٍ نظافةَ القطع القماشية ونصاعة ألوانها وهي معروضةٌ فوق الحبال بطريقةٍ تسرُّ الناظرين قائلة: هذه شهادتي على أنني ست بيت!!

وعندما أخذتُ في تجهيز بيتي- أقدمتُ على شراء منشرِ الغسيل المعدني في تجربةٍ جديدة لم نعهدها في العائلة، وقد سررتُ بمتعة نشرِ الملابس على حبلٍ لا يتجاوز ارتفاعُه خصري، يمنح اليدين راحةً وهي تقوم بترتيب القطع فوق الحبال القصيرة التي لا تتجاوز مترا بنظامٍ لا استعراض فيه؛ لأن صاحبَ البيت وحده هو من يدرك جمال ذلك النظام، لا الجيران أو المتطفلين كما في نشرِ الملابس على حبالٍ طويلةٍ فوق أسطح البنايات أو الأماكن المكشوفة. وقد حباني اللهُ وقتَها في منزلي بشرفةٍ مشمسةٍ تتسع لمنشرِ الغسيل، فكانت تلك التجربةُ أولَّ شيءٍ أجده يسيراً من مراحلِ عمليةِ الغسيل المرهقة التي تستنزف الجهدَ والوقت... والتي لا بُدّ منها فوق هذا كله!!
وكما تُستَقبَل الأشياءُ الجديدةُ عادةً ما بين رفضٍ وقبول- انتشر الهمزُ واللّمزُ من عائلتي الجديدة بأنّ الغسيل يجب أن تضربه الشمس والهواء خارج الجدران، فما هذه الطريقة في نشر الغسيل أيتها العروس؟! كان هذا التعليق قد استقرّ في باطن عقلي خلايا نائمة تصحو على كل حبل غسيل يصادفني في الشوارع والبنايات وبيوت الأصدقاء وعلى الأرض أمام صالونات الحلاقين، ثم توارى ذلك التعليق حتى غاب. وصرتُ أرى أن الأصل في تجفيف الملابس في الشقق الحديثة هو تلك الحبال المعدنية القصيرة اليسير تناولها وتخزينها، بدل إضاعة الوقت في صعود الأدراج واعتلاء أسطح البنايات ورفع الأيدي لتعليق الأقمشة على الحبال العالية في استعراض مكشوف.
وقد واظبتُ على شراء منشر غسيل مناسب في كل بلد انتقلت للإقامة فيه، وكانت محطتي الأولى في أبوظبي المدينة الخليجية الحارة شديدة الرطوبة، التي يعيش عامة المقيمين فيها في أبنية شاهقة أو متوسطة الارتفاع تخلو معظم الأحيان من الشرفات التي قد تنفع لتجفيف الملابس، لكن الأجواء الحارة الرطبة تجعل تجفيف الملابس في الشرفات  أمراً عبثيا لا طائل منه إذ تعود الأقمشة أكثر رطوبة من ذي قبل وتصبح ذات رائحة غير طيبة، لكن الصورة النمطية لسيدات البيوت في بلادنا الشرقية تجعل الحبال خارج النوافذ وفي الشرفات وفي الأزقة الضيقة بين البنايات مشهداً مألوفاً في الأحياء . حتى اضطرت البلدية إلى منع تلك الممارسات تحت طائلة المخالفات بذريعة تشويه المنظر الحضاري للمدينة!
وكنتُ شخصياً أجد في تلك المشاهد تلوثاً بصرياً يؤذي الذائقة الحضارية للسكان ويجعلهم يعتادون هذه التشوهات (العمرانية) كما اعتادوا مناظر أكياس القمامة قرب الحاويات المخصصة لها!!
إزاء كل هذا رجعت إلى ما اعتدتُ عليه في بداية حياتي البيتية من نشر الغسيل على منشرٍ صغير، ولكن هذه المرة صار تجفيف الملابس داخل الشقة المكيفة وقرب النوافذ الواسعة صديقة الشمس. وقد نجح الأمر وتغلبت بذلك على ما كنت أعتقد أنه معضلة. وتكرر الاعتقاد بوجود المعضلة عندما انتقلت للإقامة في أقصى الشمال البريطاني في مدينة إدنبرة الاسكتلندية، حيث الأمطار الغزيرة طوال العام، وحيث الغيوم لا تكاد تغادرنا، وحيث الشقق الضيقة الخالية من الشرفات ..
وعندما سارعتُ للبحث عن (منشر غسيل) مناسب أعجبني أنني وجدتُ ضالتي  في تصميم جديد لم يفت الإنجليز أن يلائم نمط الحياة التي يعيشون، وكان أجمل ما في فكرة التصميم أنّ ما اعتدْنا عليه من تجفيف الملابس على شكل أفقي قد غدا عمودياً، في تصميم خاص لمنشر غسيل مناسب للمساحات الصغيرة تنتظم فيه الحبالُ المعدنية القصيرة فوق بعضها لا بجانب بعضها بعضاً؛ على نحو يتيسَّر فيه أن تقف الملابسُ الرطبة قرب لوحة التدفئة المركزية فتجفّ على نحوٍ أسرع من كونها على حبالٍ أفقية متراصة جنباً إلى جنب!
لم تنته قصتي مع نشر الغسيل حتى هنا، بل إنني في زيارتي للأندلس الحبيبة إلى قلبي ذات صيفٍ حار، وفي أثناء إقامتي في أحد البيوت القديمة في غرناطة، اضطررتُ لغسل الملابس، وحين فكرتُ في تجفيفها  لم أجد أمامي في الشقة الصغيرة شيئاً مناسباً لا أفقياً ولا عمودياً!! ثم التفتُّ من النافذة إلى الفناء الداخلي المجاور وهو ركن أساسي في البيوت الغرناطية العربية المستمدة فكرتها من (أرض الديار) في البيوت الشامية العتيقة، لأجد أن صاحبة الشقة المسـتأجرة قد أعدَّت مجموعةً من الحبال في المكان، وكأني أستعيد رائحةَ التاريخ المشترك بيننا، أستعيده في تاريخ أمي وجدتي وجارتي وقريبتي وغيرهن في بلادي، اللواتي أنفقن من أعمارهن ما تيسَّر منها في مهمة تجفيف الملابس على الحبال المعلقة على أسطح البنايات.
بعدستي.. من شوارع تل أبيب
 وهو التاريخ (المشترك) ذاته الذي التقطَتْهُ عيوني في مدينة تل أبيب على واجهات البنايات (الحديثة) في الشوارع المتواضعة التي تخترق وسط المدينة، حيث تنتشر الحبال التي تحمل الأقمشة من مختلف الأحجام والألوان، في مشهدٍ يحمل في داخله تناقضات المشهد السياسي المحيط بالمكان. لكنّ بعض اللمسات الفنية لا يضير؛ إذ تنتشر حول معظم حبال الغسيل   سواترُ بلاستيكيةٌ مفتوحة من الأسفل ومن الأعلى، وهي فقط تحيط بمكان تجفيف الملابس، وتستر قبح الأقمشة الرطبة عن العيون، بحيث لا يظهر لأعين المارّة منها شيء، وفي الوقت نفسه تبقى معرَّضةً للهواء الطلق حتى تجف تماماً. في محاولةٍ معقولةٍ للحفاظ على المناظر الحضارية اللائقة للمدينة، وفي الوقت نفسه لا يُظلم سكانُ الشقق المحرومون من الشرفات- من تجفيف ملابسهم بطريقة صحّية وطبيعية.
أما آخر وقفاتي مع حبل الغسيل فكانت قبل بضعة أشهر في الصين، التي شاهدتُ فيها شيئاً لم أره من قبل، ألا وهو نشر الملابس على شرفات الشقق والبيوت، بحيث تعلَّق كل قطعة على علّاقةِ الملابس العادية، ومن ثمَّ تُرفع تلك العلّاقة على سلسلةٍ حديدية عريضة قريبة من سقف الشرفة وتُترك الملابس لتجفَّ في الهواء، فترى الشرفات وقد تحوّلت إلى ما يشبه أن تكون خزانة ملابس لأحدهم مفتوحة أمامك تنظر إلى محتوياتها، ولكنْ ليس في غرفة جارك ... بل في الشارع!.
بعدستي.. مبنى سكن الطلاب
 في جامعة صن يات سين في مدينة  جوهاي/ الصين

الاثنين، 2 أبريل 2018

خط القرار

بقلم: بروين حبيب
جريدة القدس العربي

ولد الحب أولا، ثم ولدت الخيانة بعده، ثم ترافقا معا على خط قدري واحد، مشى الحب في المقدمة، ومشت الخيانة في أثره مستاءة من تلك المسافات التي تفصل الفائز الدائم في تلك المسيرة الحياتية الغريبة.
قدّم الحب قرابينه الجميلة، واستخدمت الخيانة طقوس الاحتيال التي خبرتها بالفطرة للاستيلاء على محاصيل الحب دون عناء…
ثم جاءت الأسطورة الدينية لتؤكد على امتداد جذور الخيانة في التركيبة الآدمية، دون أن نفهم تماما هل كان آدم أول الخلق أم أنه المعجزة التي فصلت تاريخ البشرية إلى نصفين، ما قبل الذكاء وما بعده، مع أنه في كل الحالات هبط من جنان الله بعد أن خان الثقة الربانية..!
ثم جاءت الكتب على اختلافها، لتؤكد أن الخيانة هي التي تصنع الحدث، و هي التي تغذي الحياة بالاستمرار، وهي التي تُبنى عليها جماليات الأقوال و المقولات و الحكايات. فقبل تلك الخيانة العظمى لم تعد السكينة تسود الكون إلى يومنا هذا. 
تتلوّن الخيانة بألوان قوس قزح، أي أنها ترتدي أجمل حللها، و لها قدرات عجيبة غريبة، إذ بإمكانها أن تخترق السماء والماء، وتشق دروبها في الأراضي الوعرة وتبني مبانيها الشاهقة فينا وحولنا، فتجمع الخونة بالمحبين، وتكسر قلوبنا، وتفرق بين الناس، وتنشئ بينهم عداوات لا نهاية لها، ومع هذا لا نجد سبيلا لنبذها نهائيا من حياتنا، وكأنّها الملح الذي يعطي مذاقا طيبا لأيامنا، وكأنّها بكل أقنعتها البراقة روح الحياة، وكل ملذاّتها…
لا مكاسب للخائن حتى وإن كانت لنفسه، لأنّه لا يتلذذ بالنهايات السعيدة، و لا تهدأ نفسه إلا بتلويث حياة من حوله، لا ود علني له، ولكن الجميع يكن له محبة مبطنة، أو لنقل إنه محاط بالقبول الخفي، وإن كرهه البعض فإن البعض الآخر بحاجة إليه إلى أن تتحقق مآربه، ولهذا يُصِرّ على ممارسة هوايته علنا، ليس تباهيا بل ترويجا لمواهبه، ويبدو أن فعل الخيانة مقترن بمتعة ما، وإن كانت مؤقتة ويتبعها في الأخير ندم وحسرة، و إلاّ لماذا يخون الحبيب حبيبه والصديق صديقه…والآدمي خالقه؟ 
يولد الخير، ثم يليه الشر مرادفا، يجتمع الخير بالحب، و يجتمع الشر بكليهما، ألم يقل الأقدمون « و من الحب ما قتلـ«؟ فكيف للحب أن يقتل؟ و كيف للشر رغم بشاعته أن تُمنَح له فرصة ليعيش إلى الأبد؟ و إن شئنا أن نطرح الأسئلة المستحيلة فلنبدأها بالسؤال الذي يتهدد كل أسس إيماننا، لماذا يُمنح الشيطان فرصة ليعيش؟ ويُعاقب آدم عبر رحلة أرضية طويلة الأمد يرى فيها كل أنواع الأهوال مع سلالته…فيما ينتهي دور الشيطان في بدايته، ويصبح مقتصرا على إطلالات قليلة هي تبعات الكارثة التي حدثت بسببه.
يدور الأدب في فلك الحب والخيانات والدسائس أيضا، وكلما كان قريبا من هذه النفس العامرة بالمشاعر المتناقضة، كلما كان الأدب أنجح، وأقرب للمفهوم الإنساني العميق…
ويبدو أن خط الحب وحده لا إثارة فيه، وهو نفس خط الخير، وأن الحكمة من هذه الحياة تكمن في هذا الصراع المستمر بين هذه المشاعر المتناقضة.
حتى الناس يكتفون بهذه العناصر كملح لحكاياتهم، وهم لا يطلبون أكثر منها، أما القلة الذين يريدون حياة مثالية، تنبع من العدم الذي نجهله وتسلك مسارا واضحا وجميلا ومملا فهؤلاء حتما نقاد حالمون…فالخيانة والغدر و التخلي و ما شابهها أشياء تسكننا، وليس من الضروري أن نراها عند الجيران أو في الأفلام أو نقرأ عنها في القصص الديني لننسبها لكبير الخونة أو في مسرحيات شكسبير لننسبها للساحرات الشريرات، كل تلك العناصر المقيتة موجودة في داخلنا، وهي تتناسل في خلايانا وتتوالد عبر أجيال البشرية جمعاء…
في نصوصنا لا شيء مُبتكر، نحن نصف الأشياء كما نعيشها، نصف تلك الأصوات الصاخبة في داخلنا، و التي لا يسمعها الآخرون، نصف الخيانة كما هي في أعماقنا، سواء قمنا برعايتها علنا أو بقمعها وإخماد عنفوانها، إذ يبدو أن ازدهار تلك المشاعر والسلوكيات البغيضة خاضع حكما لقرارات نتخذها خلال عملية التفكير. بالتالي لا أدري إلى أي مدى يمكننا أن نحتفظ بتلك الشرور في صناديق رؤوسنا وتفكيرنا وقلوبنا؟
هل يمكن تخيل العملية بعد تفكيك عناصرها الأساسية، والتركيز عبر منظار الرؤية لتبَيُّنِ منبع الشيء وطريقة قمعه؟
تبدو العملية بأسرها عملية معقدة وهي في الغالب لا تهم الأغلبية منا، لكن هذا ما فعله بالضبط كل الذين اخترعوا الأدوية لأمراض مستعصية، و أجهزة لتسهيل حياتنا، وغيرها من عمليات التفكيك التي كشفت البنية الحقيقية لكل مكون أمامنا…
كلنا نتاج عملية تركيب لعناصر عديدة، وكما في علم الكيمياء الذي كشف سر الماء والهواء ومكونات العالم الذي نعيش فيه، فكذلك هو جسم الإنسان، اكتشف علم التشريح بعضا من أسراره، وتطورت العلوم لتفكك كل عضو من أعضائه، والآن نقف عند هذه النّفس التي تعج بكل ما يصنع منا ما نحن عليه، من رغبات وميولات وصفات جيدة وأخرى سيئة.
و أعتقد أن ما قرأناه لسيزار لومبروزو في الثانوي، ونحن مراهقون، ما كان يجب أن ندرسه آنذاك، لأن إستيعابنا للموضوع كانت تواجهه قلّة التجربة و قلة القراءات، وفي ذلك العمر ما كنا لنناقش تلك النظريات جميعها، بل كنا نتقبل النظرية مرفقة بنفيها جملة وتفصيلا لأنها لا تتفق مع خلفياتنا الدينية و الثقافية، ولعل أكثر ما جعلنا نقذف بشخص لومبروزو إلى سلة المهملات التي في رؤوسنا هي أنه يهودي، وهذا كان سببا كافيا آنذاك لتأكيد خبله…
أما الجامعات الجادة والأكاديميات المخصصة للبحث فقد وضعت معطيات الرجل أمامها وتعاملت معها بشكل علمي، ما أفرز نتائج مبهرة لدراسات حول موضوع الإجرام وفكك ألغازا قربت الحقيقة لمحاربي الجريمة و السلوكيات العدائية، ولعلنا نهمل فضله في التأسيس لعلم الجريمة، وإطلاق اختبار الكذب عبر جهاز يقيس نبض القلب…
عودتي لنظرية لومبروزو تقوم على كون الشر والخيانة والغدر وحب إيذاء الآخر بذور مختبئة فينا ولها ما يغذيها دائما، ولكي لا نبرر وجودها و نبيحه بسبب تلك المغذيات توقفت عند الحد الفاصل بين الخير والشر وهو « خط القرار» و هو وحده يرمي المسؤولية على صاحبه، و إن كنت أدرجت بعض العناصر الشريرة تحت عنوان واحد فإن ما يكتبه الروائيون عادة لا يختلف عن هذا العنوان الشامل لما عاشوه وعايشوه، فكل تعب وليد تراكمات، و كل حادثة خيانة تصادفها ثقة زائدة، والعجيب اليوم أن تلك الثقة سواء زادت أو نقصت إنما سببها مادة يفرزها الدماغ، وأن الرغبة في الخيانة كذلك…
خط القرار ذاك في النهاية ليس أكثر من تأثير مادة في أدمغتنا. بالله عليكم ألا تدهشكم « كيمياء الرأس « هذه؟ ألا يدهشكم أننا مستقبلا قد نُعدّل جميعا لنصبح كائنات مسالمة وطيبة؟ ألا يخيفكم أن تتناولوا تلك الحبة السحرية التي تمحي كل أثر للشر فيكم؟ شخصيا يخيفني الأمر..!