أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 26 يناير 2019

دفتر للرسم!

بقلم إبراهيم جابر إبراهيم
جريدة الغد
https://goo.gl/Amn38Q

نحن نقضي الوقت بالرسم؛ رسم المرأة التي نحب، أو المرأة كما سنحبّها.
رسم أحلامنا، ورسم أبطالنا، ورسم بلادنا المشتهاة، ورسم جوائزنا، والنهايات السعيدة التي سنحصل عليها (هل يتَّفقُ لغوياً أن تكون النهايات سعيدة!).
وهنا بالضبط تحدث الخيبات. حين تتحطم صورٌ كثيرة باهرة رسمناها، هي غالباً ليست خيبات بالمعنى المضبوط، بل هي سوء تقدير، أو.. قلّة خبرة بالرسم!
نخطئ ثانية، حين نفرط في الإحساس بالخيبة، وسوء الظن في الصور التي تحطمت، رغم أن أصحابها أبرياء تماماً من ألواننا الفاقعة!
الصور التي نرسمها للأشخاص، ليست هي صورهم الحقيقية، فهي غالباً، أو حتى دائماً، مُزوّقة ومثالية وبألوان غاية في الإبهار.. حتى لو كانت ألوانهم الحقيقية باهتة ومنهكة ولا التماعة فيها.
نحن نرسم للناس الصور التي نحب أن نراهم عليها، وبمقاسات فضفاضة، تفاجئهم هم أنفسهم لو رأوها!
وكلنا آخر الأمر ضحايا صُوَر؛ صُوَر نرسمها وصُوَر لا تشبهنا يرسمها لنا آخرون، وصور حقيقية بالغة الأنسنة والطيبة لم ينتبه لها أحد (لا أحد يتذكَّر لك صورتك الأولى؛ الناس دائماً ما يحاكمون الصورة الأخيرة).
وللشخص حين يسقط من إطار مُعلّق على الجدار دويٌّ هائل.. يسمعه الرسّام وحده!
(تلك انتباهة القاتل لصرخة القتيل، أو فزع الصيّاد حين تسقط طريدته على ركبته).
فتلك الظلال التي يضيفها بعضنا لصورٍ في باله هي غير موجودة سوى في باله، وفي علبة ألوانه، وهي ظلال تذوب عند أول شمسٍ حامية أو شتاءٍ غزير أو حتى غيمةٍ ثقيلة، وهي ظلالٌ غير مخلصة، لا تفي بالغرض، ولا تعطي الصورة مقاساتها الحقيقية!
هي محض ظِلال مُضلِّلة، تقودنا ربما للتفكير في تلك العبارة المطبوعة على زجاج المرايا الجانبية للسيارات، والتي تحذر السائق إن نسي (الأبعاد والمقاسات التي تظهر في هذه المرآة غير حقيقية)!
ربما أننا نحتاج لأن تنطبع هذه العبارة في أذهاننا على الصور كلّها، وأن نتخيلها على ظهور الناس والمارّة والأصدقاء؛ كي نحمي أنفسنا من خيبة مُرّةٍ لاحقة، لا أحد مسؤولا عنها سوانا!
والخيبات دروس؛ ربما دروس مُبالغٌ فيها، لكنها ضروريةٌ لننتبه لاحقاً لعبقرية الألوان والنِسَب المطلوبة، والمسموحة، وأن لا نفرط في استخدام ما نحب من ألوان.. بقدر ما ننتبه لاستخدام ما هو حقيقي ومناسب للصورة!
نحن لن نرسم الصورة الحقيقية بحذافيرها، (من يجرؤ على ذلك؟)... ولن نعرف الأبعاد الحقيقية ولو مرةً واحدة، (هل تستطيع أن تواجه المرأة أو الوطن برأيك الواقعي؟)، وسنظلّ نهجس بالألوان الفاقعة والزاهية، ونُعلّقُ حبال الزينة على بيوت من نحب، لكن الدروس أو الخيبات تجعلنا لاحقاً أقرب للرسم الحاذق؛ نرسمُ. ونزوّقُ أيضاً. لكنَّها بنسبةٍ ما؛ تجعلُ الخيبات لاحقاً أخفّ.
وتجعلُ صوت ارتطام البراويز، حين تسقط على الأرض، أقلّ صخباً!
وتجعلنا نحاول لملمة الصورة وقطع الزجاج بأقلّ ما يمكن من جروحٍ في اليدين!
وبأقلّ قدر من المسامير المهجورة على الحيطان.

الجمعة، 25 يناير 2019

كلام ابن الجوزي عن التأليف بالنظر لمراحل عمر العالم

منقول
صيد الخاطر: 241-243، و277-278. دار القلم. دمشق. 1425هـ - 2004م.



فصل: التصنيف المفيد ومراحل عمر العالم
743- رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا تحصى ما خلقوا بعد، ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم.
744- فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صنف صنف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله -عز وجل- عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
745- وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر؛ لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال الحواس. وربما خان الفهم والعقل من قدر عمره؛ وإنما يكون التقدير على العادات الغالبة؛ لأنه لا يعلم الغيب. فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين.
746- ثم يبتدئ بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم، هذا إذا كان قد بلغ مع ما يريد من الجمع والحفظ، وأعين على تحصيل المطالب.
فأما إذا قلَّت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب، فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة، ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين.
747- ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم، ويسمع الحديث والعلم، ويقلل التصانيف إلا أن يقع مهم إلى رأس السبعين.
748- فإذا جاوز السبعين، جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل، فيوفر نفسه على نفسه، إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه؛ فذلك أشرف العدد للآخرة.
ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن اختطف في خلال ما ذكرناه، فـ"نيبة المؤمن خير من عمله"، وإن بلغ إلى هذه المنازل، فقد بينا ما يصلح لكل منزل.
749- وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتخذ لنفسه كَفَنًا. وقد بلغ جماعة من العلماء سبعًا وسبعين سنةً، منهم أحمد بن حنبل، فإن بلغها، فيلعلم أنه على شفير القبر، وأن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.
750- فإن تمت له الثمانون، فيلجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة زاده، وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس، وفي بذل العلم، أو مخالطة الخلق، فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض، وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله.
ويعد: فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه. نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا، ولا يتولى عنا، إنه قريب مجيب.
****
وقال في مقام آخر:
فصل: الاستعداد للموت
878- ما أبله من لا يعلم متى يأتيه الموت، وهو لا يستعد للقائه! وأشد الناس بلهًا وتغفيلًا من قد عبر الستين، وقارب السبعين -فإن ما بينهما هو معترك المنايا، ومن نازل المعترك، استعد- وهو مع ذلك غافل عن الاستعداد.
قال الشباب: لعلنا في شيبنَا ... ندع الذنوبَ، فما يَقُوْلُ الأَشْيَبُ؟
والله، إن الضحك من الشيخ ما له معنى، وإن المزاح منه بارد المعنى، وإن تعرضه بالدنيا -وقد دفعته عنها- يضعف القوى، ويضعف الرأي. وهل بقي لابن ستين منزل؟!
879- فإن طمع في السبعين؛ فإنما يرتقي إليها بعناء شديد: إن قام، دفع الأرض، وإن مشى، لهث، وإن قعد، تنفس، ويرى شهوات الدنيا، ولا يقدر على تناولها، فإن أكل، كد المعدة، وصعب الهضم، وإن وطئ، آذى المرأة، ووقع دنفًا، لا يقدر على رد ما ذهب من القوة إلى مدة طويلة، فهو يعيش عيش الأسير.
880- فإن طمع في الثمانين، فهو يزحف إليها زحف الصغير.
وعشر الثمانين من خاضها ... فإن الملمات فيها فنون
881- فالعاقل من فهم مقادير الزمان؛ فإنه فيما قبل البلوغ صبي، ليس على عمره عيار، إلا أن يرزق فطنة، ففي بعض الصبيان فطنة تحثهم من الصغر على اكتساب المكارم والعلوم.
فإذا بلغ، فليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى، وتعلم العلم، فإذا رزق الأولاد، فهو زمان الكسب للمعاملة، فإذا بلغ الأربعين، انتهى تمامه، وقضى مناسك الأجل، ولم يبق إلا الانحدار إلى الوطن.
كأن الفتى يرقى من العمر سلمًا ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطُّ
فينبغي له عند تمام الأربعين أن يجعل جل همته التزود للآخرة، ويكون كل تلمحه لما بين يديه، ويأخذ في الاستعداد للرحيل، وإن كان الخطاب بهذا لابن عشرين، إلا أن رجاء التدارك في حق الصغير لا في حق الكبير.
882- فإذا بلغ الستين؛ فقد أعذر الله إليه في الأجل، وجاز من الزمن، فليقبل بكليته على جمع زاده، وتهيئة آلات السفر، وليعتقد أن كل يومٍ يحيا فيه غنيمة ما هي في الحساب، خصوصًا إذا قوي عليه الضعف وزاد، فإنه لا محرك كهو. وكلما علت سنه، فينبغي أن يزيد اجتهاده.
883- فإذا دخل في عشر الثمانين، ليس إلا الوداع، وما بقي من العمر إلا أسف على تفريط، أو تعبد على ضعف.
نسأل الله عز وجل يقظة تامة، تصرف عنا رقاد الغفلات، وعملًا صالحًا نأمن معه من الندم يوم الانتقال. والله الموفق.


الأحد، 13 يناير 2019

الجنة السرية

قصة قصيرة
بقلم: ديمة مصطفى سكران

لم أكن أعرف أن المسافة بين قبة قميصه ونهاية كتفه ستشغل تفكيري إلى هذا الحد، كثيرا ما كنت أميل رأسي عن الحاسوب وهو على المكتب المقابل متمنية في سري لو كنت أستطيع إمالته على هذه المسافة الساحرة، لكن وجهي الجدي وملامحي الرزينة ما كانت أبدا لتشي بهذه الأمنية، أنا الموظفة خلود الثلاثينية المحترمة، التي يعرف جميع الزملاء أن عليهم أن ينتقوا كلماتهم بحذر أثناء مخاطبتها، لن يتوقع أحد أن أكون مفتونة بمسافة صغيرة ما بين قبة قميص هذا الرجل وذروة كتفه، آه.. تنهدت في سري!

عندما دخل السيد عبد المعطي إلى المكتب لأول مرة لم أر فيه سوى صلعة رأسه الأمامية وشاربه الكث، كان لقاؤنا الأول خيبة أمل لي بعد ترقب هذا الموظف الجديد لأسبوعين، وأول ما فكرت فيه هو أن الشعر متوزع في رأسه بطريقة خاطئة، فلو ما كان في شاربه كان في رأسه كان ليكون أكثر وسامة بكثير، لكنه لم يكن ليستطيع بالتأكيد أن يعرف ما كان يدور في خلدي في تلك اللحظة، حين حييته تحيتي الأولى بيدي المرفوعة إلى صدري كي لا أصافحه.

لم تعش تلك الخيبة إلا يومين اثنين فقط، فانطباعي عن السيد عبد المعطي تبدل بعد هذين اليومين تبدلا سريعا. بالتأكيد لم يبدأ الأمر من كتفه أو من قبة قميصه، فهذه أمور لم ألحظها إلا لاحقا، لكنه بدأ من كلماته، من صوته! لم أكن أتوقع أن هذا الوجه متواضع الوسامة كان يخفي هذا القدر الكبير من لباقة العبارة ورقة الحديث. لا يتعلق الأمر بمفرداته التي يختارها بعناية ليصوغ جملا ذكية وفصيحة فقط، بل بالطريقة التي يقول فيها هذه الجمل، بهدوئه وموسيقا حروفه، بالطبقة التي يختارها من صوته حين يتكلم. كانت عبارات الشكر التي وجهها إلى أبي راغب مسؤول البوفيه هي المرة الأولى التي لحظت فيها هذا الأمر فيه، حتى أنني أملت رأسي عن الحاسوب لأتأمله وهو يتناول فنجان القهوة من الصينية مبتسما للرجل بود مخاطبا إياه بتلك النبرة الآسرة، وفجأة لم أعد قادرة على رؤية صلعته الأمامية بذات الطريقة التي رأيتها فيها أول مرة، بل بدت خصلات شعره الخلفية وهي مسترخية على هذه الصلعة جميلة للغاية، وبدا شاربه الكث شاربا رجوليا تتوارى خلفه ابتسامة خجولة جذابة! إنها وسامة من نوع مختلف هذه التي يملكها السيد عبد المعطي، وسامة لا تستطيع المرأة أن تلحظها إلا بعد أن تخوض معه حديثا. وهذا ما حدث لاحقا بالفعل، أحاديث وأحاديث، وثرثرات على فناجين القهوة وكؤوس الشاي، وأسئلة عامة وأخرى شخصية تبين لي فيها أن شريكي الجديد في المكتب يحب مطالعة الروايات التاريخية مثلي، وهو فوق ذلك أربعيني أعزب! هل يعني ذلك أنه يمكن أن يكون هو؟ الرجل المنتظر؟

من المبكر جدا قول ذلك ربما، لكن الدوام الطويل في المكتب صار يبدو منذ وجوده ممتعا جدا وسريع الانقضاء، وصرنا نتبادل إلى جانب الأحاديث الكتبَ المفضلة ومقترحات الأفلام والنصائح الشخصية، وصرت أحيانا أرفع رأسي عن الحاسوب أو أستغل انفعاله في حديث سياسي يشيح فيه عني لأسترق النظر إلى تفاصيله، أصابعه الثخينة ذوات العقد، أزرار قميصه المشدود عند الصدر، كاحله الذي يبرز من فوق جوربه عندما يضع ساقا فوق ساق، تفاصيل صغيرة أحتفظ بها لنفسي كالأسرار الدافئة، لكن كنزي الثمين الذي كان يحلو لي استراق النظر إليه دوما هو هذه المسافة الساحرة الممتدة بين قبة قميصه المكوي النظيف البارز من تحت سترته الرسمية وذروة كتفه العريض! كنت أهز رأسي باهتمام مصطنع وأنا أتابع حديثه، بينما يشغلني عما يقول افتتاني الخفي بهذه الجنة الصغيرة، هناك، حيث أود لو أستطيع إلقاء رأسي، تلك الجنة السرية التي تعيش وتتوالد فيها كل أمنياتي. نعم، لا أزال خلود الوقورة التي يحسب لها الجميع حسابا، لا أزال رزينة في مشيتي وكلامي، محتشمة المظهر جادة الملامح، أشد علي حجابي وأعقد حاجبي كلما كلمني رجل، لكن إخفاء إعجابي بالسيد عبد المعطي، والتظاهر بأن كل شيء كان عاديا جدا لم يكن أمرا سهلا علي، كنت مسرورة، مسرورة جدا، وكان وأد البسمات التي تتفتح كزهر المشمش في وجهي بدون توقف عندما أكون معه أكثر الأمور صعوبة في الدنيا علي.

لكنني لم أحتج إلى وأد هذه الابتسامات لمدة طويلة، لأنها ماتت من تلقاء نفسها دفعة واحدة، منذ انتهت إجازة زميلة المكتب الثالثة، الآنسة غنوة، العشرينية الحسناء جميلة القوام، ذات أوشحة الرأس الملونة، والثياب المعطرة، والمكياج المتقن، والأظافر الاصطناعية! كان دخولها الصاخب إلى المكتب بعد شهر الإجازة وحده كافيا ليفسد عليَّ المكتب والسيد عبد المعطي والجنة الجميلة التي تقع بين قبة قميصه ونهاية كتفه. بادرته بتحية ودودة عالية، وبضحكة عريضة كأنها أُخبرت للتو بنكتة، وبيد جميلة ناعمة مطلية بالأحمر ممدودة على طولها نحو يده!


لقد تغير كثيرا بعد قدومها، صرت أرقبه كيف كان يسترق النظر إليها كل حين، أو يفتعل أي مناسبة ليخاطبها. لم تعد الكتب التي أحضرها تثير اهتمامه، ولم تعد أحاديث السياسة والتاريخ تجذبه طالما أن غنوة تملها بسرعة، ولم تعد كلماته الرقيقة المنتقاة التي ينطقها بصوته الساحر موجهة في غالب الوقت إلا إليها! رغم أنه لم يكن ثمة حقا ما يمكن الحديث به مع شابة كهذه، كل ما تستطيع أن تسأل فتاة مثلها عنه هو لونها المفضل وبرجها وحصيلة رحلة تسوقها الفائتة، وكل ما كانت لتستشيرك به هو الحركة التالية في سوليتير العنكبوت الذي تلعبه على حاسوبها أو أي الخواتم الجديدة تليق على طلاء أظافرها! وحين اقترحت عليهما معا مساعدتي لحل الكلمات المتقاطعة في استراحة الظهر، لم يبد له جهلها بعواصم العالم أو أسماء الشعراء أو تاريخ الحرب العالمية الثانية أمرا مريعا! إنها حتى سألت بحواجب مرفوعة وسذاجة قاتلة إن كانت معركة حطين غزوة من غزوات النبي! ولم يفعل السيد عبد المعطي شيئا تجاه بلاهتها إلا التعاطف والمجاملة!

آه حتى الكلمات المتقاطعة لم تفلح، أصبحت أحاديثهما تصيبني بالصداع، وصوته الجميل الذي يهمس به إليها صار عندي نشازا غير محتمل، وصارت كلماته اللبقة المنتقاة تنغرس كالسهام المسمومة في سمعي. أما جنتي الصغيرة التي زرعت فيها كل أمنياتي فصرت أشيح عنها كلما وقعت عيناي عليها، فلم يعد لأملي فيها موطئ قدم.

وكنت أعرف كيف سينتهي هذا كله، فلم يحتج الأمر أكثر من أسبوعين حتى يدرك السيد عبد المعطي أن شابة مثل غنوة يحوم حولها ثلاثة أرباع الموظفين، وأنها لم تكن لتختار أربعينيا أرمل ذو صلعة أمامية وشارب كث وذوق قديم في الثياب على حسن المحاسب الأشقر الشاب الذي يرتدي الجينز ويضع الأوشحة ويثبت شعره بالجل! كانت خيبة السيد عبد المعطي واضحة في وجهه المصدوم عندما قطعت غنوة حديثه معها بفظاظة لتركض نحو حسن حين أومأ لها من الباب. تظاهرت أنا بأني لم ألحظ شيئا بينما كان السيد عبد المعطي يعود إلى مكتبه بخطى مرتبكة وبطيئة!

مر يومان كئيبان في المكتب، السيد عبد المعطي صامت هادئ على غير عادته، غنوة تحاول حل لعبة السوليتير دون أن يبدو عليها أي إدراك لأي شيء، وأنا أتشاغل عنهما معا بملء حقول الجداول في الحاسوب. وعندما غادرت غنوة المكتب مدندنة بأغنية ما، ترك السيد عبد المعطي مكتبه ومال إلي مستندا بكلتي يديه إلى طاولتي هامسا بصوته الجميل ذي اللحن الموسيقي: لم تخبريني أي كتاب تقرئين الآن يا آنسة خلود؟

رفعت بصري عن الحاسب، كان وجهه ودودا جدا، أملت رأسي وعيناي على فردوسي المهجور الخرب، على المسافة بين قبة قميصه ونهاية كتفه، هنا، حيث ماتت أمنياتي وأقفرت جنتي. ابتسمت له ببرود:
_ لا أعتقد أن لدي رغبة بالقراءة هذه الأيام يا أستاذ عبد المعطي. آخر كتاب قرأته كان يحمل عنونا جذابا، لكنه بعد تصفحه خيب أملي!

ابتسم السيد عبد المعطي بارتباك، لا أعتقد أنه أدرك ما أرمي إليه، لكن الكآبة كانت لا تزال بادية عليه. رفع جسده عن المكتب، ارتخت ذارعاه وتهدل كتفاه، وفي تلك اللحظة التي استدار فيها مغادرا بخطاه البطيئة المرتبكة ذاتها، رأيت جنتي الخربة تنهار عن كتفه تماما، وعن ذراعه الممدودة الرخوة كانت أمنياتي اليابسة تتساقط تباعا.

الجمعة، 11 يناير 2019

الأمهات والعاملات

بقلم أسماء الجراد

كنت أعجب دائما من العاملات المنزليات التي تنتهي من أعمال المنزل في وقت قياسي لايمكنني مهما بلغت قوتي فعل ماتفعله بهذه البراعة حتى قررت التحقق من الأمر ومعرفة مالذي يجعلها تنهي أعمالها بهذا الشكل بينما لا أقدر عليه مع عزل (البنية الجسدية والقدرة على الاحتمال).
تعتبر وظيفة التخطيط والتنظيم وظيفة مستقلة بحد ذاتها والتي يدفع لها راتب كامل لكي يرتب صاحبها المهام بشكل جيد ومنسق.. 
تقوم المرأة بهذا الدور في الأسرة دون انتظار الأوامر غالباً من الرجل ويضاف لهذه المهمة الجليلة فهي تقوم غالباً بتنفيذ
75% إلى 90% من هذه المخططات.. 
التخطيط للاستيقاظ صباحاً وتجهيز الأطفال للمدارس ثم معاناة فكرة (ماذا سأطبخ اليوم) 
وماهي الطلبات الناقصة للمنزل؟ 
المشاكل الاجتماعية في أسرتها أو أهل زوجها أو مع صديقتها مشاكل الأطفال اليومية وصراعاتهم وبحثها عن الحلول هذا في حال كان الأطفال كلهم بصحة نفسية وعقلية وجسدية جيدة وإلا سيضاف لها أعباء القيام بشؤون مضاعفة لهم.. عقلها لايتوقف عن التفكير في الاتجاهات الأربعة (حل مشكلة / تجهيز الزوج / حمل هم لفكرة أو معضلة اجتماعية أو دينية/ المنزل يحتاج للتنظيف / رمي القمامة / التواصل مع الآخرين / التخطيط لإجازة الأسبوع / اختبارات الأولاد/ وقت الصلاة / ماما شطّفيني!). 
هذا في حال لم نتحدث عن كونها عاملة أو لديها مشاريع منزلية أو طقوس عائلية أو حلم تسعى لتحقيقه ..
بعد كل هذا الجهد الذهني والجسدي المبذول يظهر كائنٌ ينتظر منها آخر النهار أن تكون بصحة جسدية وقوام ممشوق وطعام لذيذ وبيت نظيف وكلام لطيف وابتسامة جميلة وملابس جاهزة وقائمة بالطلبات التي تريدها منه.. 
ولو وجد منها تقصيراً أو إهمالاً أو حتى رآها تلتقط أنفاسها عند تلفاز أو جهاز فجعها بجملته التي تواطئ عليها كثيرٌ من الرجال:"ماذا كنت تفعلين طوال النهار؟".

أخيراً ...
هل عرفتم الفرق بيننا وبين العاملات؟ 
إنها تأخذ الأمر على شكل وظيفة وأوامر مباشرة دون أن يشغل بالها أمر آخر فهدفها هو العمل الحالي وليس وراءها أية متطلبات أخرى..
بينما ينتظرنا بعد الانتهاء من أعمال المنزل مهام أخرى وتخطيط وجهد ذهني كامل و ليس من ضمن الخيارات الاستلقاء والراحة. 

*******************

كنتُ دائما أراهن على نجاحي وكان النجاح دوما حليفي..
إلى أن أصبحت أماً !!
واكتشفت أنها أصعب وظيفة يمكن أن يتحملها كائن حي..
وظيفة بدوام كامل 24 ساعة لا انقطاع ولا امتناع..
لا إجازات ولا اعتذارات!
لا يمكنني أن أمرض
لا يمكن أن أؤجل أمومتي كما أجلت امتحاني..
و لا يمكنني أن أكون الأولى في الأمومة فليس لها شهادات نجاح!
ولا شهادات تقدير ولا خبرة ولا تُعتمد من أي جامعة!!
شروطها جدا صعبة.. 
ففيها أحاول أن أتعلم كيف أكون حازمة مرنة حاسمة حانية قريبة..!
فيها اضطررت أن أبدل أولوياتي وخصوصياتي وانشغالاتي !!
فيها عزيزتي الأم تتعلمين كيف أنه لابد من تغيير حياتك وأيامك.. 
و كيف تتخلين عن ملابسك المفضلة وكعبك العالي.. !
وشعور ربما اخترت له قصة قصيرة مؤقتا ريثما تضبطين أوضاعك.!!
فيها ستجربين شعور كيف أن زوجك ينام قبلك الف مرة ..
وانت بجانبه ورضيعك على يدك تبكين مرة وتضحكين مرة في منتصف الليل! 
يا رباه .. 
لم أعد أستطيع التفوق كما كنت !!
ولم أعد أستطيع الاعتماد على علمي وثقافتي !!
لم يكن سهلاً علي أبدا استبدال كريم الصباح بقيء طفل صغير..
ولا استبدال عطري المفضل برائحة البودرة على نعومتها.. !
ليس سهلا أبدا ان أرى شعري يتساقط خصلات خصلات !!
أو أن أتخلي قليلا عن هواياتي ..
قراءاتي وتطلعاتي ! 
ليس بالأمر الهيّن أن تكوني معلّمة ومدرّسة وممرّضة ومرضعة وقارئة قصص ومدرّبة في نفس الوقت !!
صدقاً! لا أدري أي فطرة وضعها الله داخل الأم لكي تحب لهذا الحد؟!
وتصنع ما تصنعه كل يوم بنفس الحماس!
لا أدري أي فطرة دفعها الله داخل الأم لتحب هذا الكائن الملائكي .. المشاكس تارة والطيف تارة اخرى بل وتتمنى إرضاءه وسعادته ورؤية الابتسامة على وجهه .. ورؤيته بصحة وعافية!
لا أدري ما السر في دفء الشعور الذي يُخلّفه قُبلة من هذا المخلوق الذى يتغذى عليها ومنها وبها..
صدقا .. 
إن يوماً مضنياً طويلاً من العمل أو الدراسة هو أسهل من محاولة تهدئة طفل صغير! 
أو إقناعه بكتابة حرف في دفتره وهو مصمم على اللعب!
ورغم كل ذلك .... ما من شيء أغلى وأجمل من كوني أم!