أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 فبراير 2018

أمومة المتن وأمومة الواقع.. كيف لا تقتل الأمهات أولادهن؟

بقلم:أروى الطويل
مدونات الجزيرة

قرأت موضوعا في إحدى المواقع الصحفية يتحدث عن جرائم الأمهات تجاه أبنائهن، الموضوع لم يقدم أي حلول أو تعمق في الظاهرة، هو فقط رصد الظاهرة وتصاعدها، خاصة مع ارتفاع احتمالية "إعلام" الناس بس، ذكرني هذا بمقال طويل قرأته لإيمان مرسال، تحت عنوان "الأمومة والعنف"، تتحدث فيه عن الأمومة بصفتها تماهٍ بين ذاتين، وكطاقة حب وعطاء لا محدودين حسب قولها، تتحدث إيمان عن أمومة المتن، وأمومة الهامش؛ أمومة المتن حيث هي السائدة، الأمومة المثالية التي لا كَدر فيها، العطاء التام، والتّضحية المطلقة، والتماهي التام مع الطفل، الأمومة المقدسة التي لا يمكن أن تصيبها أو تشوبها شائبة، أمومة المتن هي الأمومة العامة الجمعية الاجتماعية الدينية، حيث الجنة تحت أقدام الأمهات، وحيث الأمهات هن المقدسات للأبد..
 هي الأمومة التي يتحدث عنها مجد كيال في روايته "مأساة السيد مطر" بتصرف أذكره هنا "الابن يقتل كل احتمالات أمه، ...أليست الحياة هي الاحتمالات؟ الأم مقابل أمها معدومة الاحتمالات، معدومة الإمكانيات، إنها تقف هنا أمام الحقيقة الوحيدة بالنسبة إليها.. في هذه اللحظة تحرم الأم مما يسمونه الخطيئة أو الرذيلة، ..ما يتحدث عنه السيد مطر هو بالضبط ما تتحدث عنه إيمان، أمومة المتن الطاهر المكتوب والمنمق..
أمومة الواقع هي الأمومة في عالم يعشق التأنيب، التأنيب على كل شيء وأي شيء، إذا كنت أمّا فاستعدي للتأنيب على الرضاعة الصناعية أو الطبيعية. 

أمومة المتن التي تنقل الشابات المنطلقات الحالمات الطموحات لعالم جديد مملوء بالألم، ألم الإحساس بالذنب، حيث لا شيء فيه أصدق منه، وترتد المشاعر كلها على نفسها، ليكون الإحساس بالذنب جامعا للأمهات الجديدات، عن نفسي لم أر أمّا لا تشعر بالذنب، دائما وأبدا، البكاء يجمعهن والألم والحيرة، واعتدت على أن أراها حتى بدون سبب منطقي، شعور الأم بالذنب بدهيّ غير مسبب.. 
أما أمومة الهامش حسب إيمان "فهي أمومة قد تجد شظاياها السرديّة في بعض كتب الطب والنصوص الأدبيّة وقصص الجرائم الأسريّة، حيث هناك أصوات متفرقة تحاول -عبر المرض النفسيّ أو الكتابة أو الجريمة- التعبير عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها"
وأحب أن أضيف هنا عن "أمومة الواقع" -وهي أمومة خاصة جدا، خاصة بكل أم- تجربة دقيقة ومنفصلة عن كل شيء عدا واقعها المعيش يوميا، أمومة الواقع حيث الأمومة لا يمكن الرجوع فيها ولا عنها، حتى لو فقدت الأم كل أبنائها دفعة واحدة، لا يمكن أن تعود عن وضع الأمومة، يمكن للمرأة أن تتزوج وتنفصل، أن تعمل ثم تستقيل، ولكن لا يمكن للأم أن تكون أمّا ثم تكون "لا أم" ..
أمومة الواقع هي الأمومة في عالم يعشق التأنيب، التأنيب على كل شيء وأي شيء، إذا كنت أمّا فاستعدي للتأنيب على الرضاعة الصناعية أو الطبيعية، على الولادة الطبيعية أو القيصرية، على قرار الإطعام في عمر الأربعة أشهر، أو الستة أشهر، على العمل والأمومة في آن أو الأمومة وفقط، أنت مذنبة دائما، وإذا قررتِ أن تنصاعي للمؤنِّب؛ سيظهر شيء جديد تستحقين أن تؤنبي عليه.

أمومة الواقع في عالم بين بين، هو متخلف تماما عن العالم والحضارة والمحيط، ولكن تحكمه قيم الرأسمالية، والحداثة، لكنها ليست رأسمالية تماما، ولا حداثة تماما، هي كما أسلفت بين بين، حيث يكون مطلوبا من الانسان أن يبدل وجهه بسرعة تتماشى مع الأحداث والعالم، وهكذا على النساء أيضا، وبالطبع الأمهات، عالم بلا قوانين محسومة، يتحرك بسرعة هائلة بين نقيضين، ومطلوب من الأمهات أن تجاري كل شيء بأداء لا يختل ولا يحيد عن المثالية..
أمومة الواقع هي الأمومة التي تنحي إنسانية الأمهات لصالح أمومتهن، فإذا كنت أستاذة جامعية، أو طبيبة، أو صحفية أو أي وجه آخر من وجوه الامتداد الإنساني وأصبحتِ أمّا، فستنحى كل هذه المواهب اجتماعيا، وسيتم النظر لك أنك "أم" مع نظرة اشمئزاز وقلب الشفاه مع بعض الترهيب وتوقع لأداء سيء وغير مناسب، كونك أم يعني الافتراض تلقائيا بنقصان الأهلية، دون التساؤل عن الحقيقة..
أمومة الواقع هي ببساطة الأمومة المسكوت عنها، لأن الأمهات يخجلن ويستحيين ويشعرن بالعار أن يصرحن بالحقيقية، وإن حدث؛ فيتم التعامل معها باعتبارها "أمومة هامش"
أمومة الواقع هي "الأمومة المقهورة دائما"، الأمومة المقهورة بالحليب المحتبس في أثداء الأمهات في ساعات العمل، المقهورة بالنظرة المحتقرة لأجساد الأمهات بعد الشقوق الطولية والعرضية اللازمة للأمومة، الكلف والكيلوجرامات الإضافية الإلزامية، الأمومة المقهورة في الشركات والمؤسسات تحت لائحة "أنتن الأقل انتاجا"، الأمومة المقهورة بعدم التأثر، عدم التأثر بموت العائل أو الزوج، الأمومة السائرة كقطار فوق كل الظروف وحتى فوق جسد الأمهات أنفسهن إن استلزم الأمر ذلك..
الأمومة المقهورة تحت تحمل عبء الإنجاب وحيدة في حالات كثيرة، وتحمل المرأة وحدها اللوم عن التربية وسوئها دون الحديث عن اختلال معاني القوامة وواجباتها، وانقلاب الأوضاع وتقهقر أدوار الآباء في مقابل تحميل الأمهات كل أدوار التربية..
الأمومة المقهورة من أثر التصورات الخيالية عن كل شيء، فتتشكل فيه الأمومة من جديد في المخيال الخاص بالأنثى، تكون فيه الأمومة عبئا حقيقيا، عبئا على الجسد والجمال، عبئا على سعادتها الشخصية، عبئا على سكينتها، عبئا على مالها..
أمومة الواقع هي ببساطة الأمومة المسكوت عنها، لأن الأمهات يخجلن، ويستحيين ويشعرن بالعار أن يصرحن بالحقيقية، وإن حدث؛ فيتم التعامل معها باعتبارها "أمومة هامش" منبوذة ومكروهة.
في عالمنا تزداد الهوة بين أمومة المتن وأمومة الهامش وأمومة الواقع، حتى لو اقتربت الأمهات من أمومة المتن، فإنها لن تنفك عن واقعها، عن أحلامها التي انفصلت عنها وربما نبذتها، لن تنفك عن نظرة المجتمع الساخطة دائما، إن جلست لتربية أطفالها، أو إن خرجت للعمل الدؤوب في الشركات والمؤسسات المرموقة، النظرة الساخطة تطاردها وتغطيها برداء الذنب والعار دائما..
مهما اقتربت من أمومة المتن، فستظل أمومة الواقع تطاردها، الواقع الذي يخبرنا عن معدلات العنف الأسري، عن التحرش في المنزل والشارع والجامعة وبيئة العمل، كيف لي كأم أن أطمئن أبنائي في واقع غير مطمئن؟ مهما اقتربت من أمومة المتن، فستظل أمومة الواقع تطاردها، ماذا لو هجرني زوجي؟ ماذا أصلا لو كانت أمّا وحيدة بلا ظهر ولا عائلة ممتدة؟ ماذا لو كانت أمّا مطلقة بلا عائل؟ ماذا لو كانت أمّا متزوجة ولكن زوجها زوج متخل عن واجبه العائلي، فتصبح هي كأم كل شيء؟ وماذا لو كانت الأم الأرملة، والتي يتعامل معها وكأنها الأرملة السوداء، مع التعديل الدائم على كل خطوة وكل نظرة..؟
أمومة الواقع القاسية جدا، وفي نظري هي أقسى حتى من أمومة الهامش، فأمومة الهامش ستجد دائما من يبرر لها، "يا حرام مريضة"، سينظر لأمومة الهامش دائما بصفتها الاستثناء الذي يثبت القاعدة، والذي سيُستأصل لا محالة، لن ينظر لأمومة الهامش بصفتها إهمالا أو تقصيرا أو خروجا عن مجتمع يستدعي المحاصرة والعزل والعقاب والإبادة أحيانا... لكن أمومة الواقع تستدعي كذلك، أعرف عددا لا بأس به من الأمهات يخفين ما يفعلن مع أولادهن خوفا من الأم أو الحماة أو المجتمع عموما.. إذا كانت الأمومة خائفة فكيف يمكنها أن تكون أمومة جميلة أو رائقة؟
في أمومة المتن هناك أسئلة غير مجاب عنها دائما.. ماذا لو لم آخذ فرصتي للتعرف على ذاتي وإمكاناتها؟ ماذا لو لم آخذ فرصتي للتعرف على نفسي الحقيقة؟ ماذا لو نظرت للمرآة فلم أجد إلا وجها مشوها؟ ماذا لو لم أجدني في سرديتي الخاصة أو في سردية المجتمع العامة؟ ماذا لو تعرضت لما لا يمكنني أن أتجاوزه وأتخطاه؟ كيف يمكننا الفصل بين الاستبداد المتوحش الذي يحيطنا من كل اتجاه، وبين أدوارنا تجاه الأمومة؟ إجابات هذه الأسئلة هي من تصنع وتخلق أمومة الواقع، والسكوت عنها وتجاهلها هو ما ينتج أمومة الهامش..
عندما قرأت الموضوع الصحفي الذي أشرت له في أول التدوينة فكرت بيني وبين نفسي أن السؤال خطأ، إذا كانت هناك أم عانت من تحرشات جسدية ونفسية، وطفولة بائسة، وفقر، واستبداد، ثم تزوجت -كامتداد طبيعي لحالتها- من مدمن مخدرات منفك عن أسرته وعائلته ويعنفها، ثم أنجبت بدل الطفل ثلاثة أو أربعة، كيف لا تقتل أولادها؟؟ السؤال الصحيح هو كيف لا تقتل أولادها وتتخلص منهم؟ هذا هو السؤال الحقيقي، هؤلاء الأمهات مشكورات بكامل الامتنان أنهن قادرات على المحافظة على الشعرة -وأنا متأكدة من أنها شعرة- التي تحفظ عليهن عقولهن وتمنعهن من قتل أولادهن في عالمنا البائس الموحش..
سيكون عالمنا رائعا لو استطاعت الأمهات أن تعشن تجربة الأمومة كلها في المتن، حيث السكينة والهدوء والأمور المحسومة سابقً، والتقديس والعطاء المطلق، عالم لا تحكمه النيوبرالية، ولا الشركات الكبرى، ولا تحولات هائلة من مجتمع يقدس الأمومة لمجتمع ينبذ الأمومة ويحتقرها، لكننا عالقون في العالم الحقيقي؛ حيث لا شيء مثاليّ سوى أننا بشر يمكننا أن نخوض التجربة ..



الجمعة، 16 فبراير 2018

العمران جوا

بقلم: محمد معاذ شهبان
مدونات الجزيرة

في رحلتي الأخيرة إلى باريس أواخر شهر ديسمبر الماضي، وبُعيد لحظات من استقرار الطائرة في الجو مُغادرة مطار مراكش نحو فرنسا، جلستُ بمحاذاة النافذة متأملا المباني الكبيرة والمساكن البسيطة وهي تزداد صغرا في الحجم كلما ارتقت الطائرة في العلو، فكانت تبدو بلونها الأحمر متفاوتة من حيث التناسق والمعمار، يغلبُ عليها طابع الاختلاف البيِن على مستوى الواجهات والأسطح لحد يُفقدها جمالها الذي يستهوي الرائي وهو يتأملها متجولا بين دروبها غير مُدرك للشكل الذي تبدو عليه للعيان من فوق..
يشد انتباهك ذلك المعمار الذي لا يُفصح عن هويته وقد تداخلت أركانه دون أن تتركَ لمسة فنية على لوحة مدينة بحجم مراكش، فتتزاحم الصحون الهوائية مترامية من سطح لآخر وتبدو المساحات الخضراء وقد حوصرت من الجهات الأربع من قبل حيتان العقار الجشعة لضم كل ما وجدته أمامها. ثم ما تلبث الطائرة أن تتجه جهة الشمال الغربي عابرة جبالا ومدنا صغيرة، وبين هذه وتلك تبدو الأراضي الشاسعة عذراء خالية تماما من أي نشاط بشري.

تعبر المحيط الأطلسي فتلمح آخر نقطة من أفريقيا -طنجة- في الشمال يحُفها البحران الأطلسي غربا والمتوسط شرقا وهي تقابل أندلس الأمس بشكل بهي معلنة بدايةَ حكاية عنوانها أوروبا، وما أدراك ما أوروبا
وأنا أطالع كل تلك المساحات من على متن الطائرة قلت لنفسي: "ما بالنا نتخبط في أزمة السكن وتذهب نصف أجورنا في مصاريف الكراء وقد بسط الله لنا كل هذه الأراضي؟" لعله سؤال بعيد عن إكراهات الواقع  لكن له الحق أن يُطرح وأن يجد إجابة كافية. من الجو تبدو الأمور مختلفة تماما بخلاف ما تراه العين بشكل محدود في مساحة محدودة، هنا من الجو تتضح الصورة بشكل جلي لا زيادة فيها ولا نقصان، وإن كانت عين المتأمل غير مستوعبة لكل ما يمر أمامها في وقت وجيز فإن كل سحابة تحمل تحتها ما تحمله من مناظر ومشاهد قد تروقها أحيانا وتزعجها أحيانا أخرى.
بلا مساحيق هي الأرض من فوق، والجميل أن إبداع الخالق في الطبيعة يسر الناظرين سواء مررت بجبال أو وديان أو بحار، الطبيعة منتظمة بحكمة المصور بديع السماوات والأرض، متناسقة في تمازج الأخضر بأزرق البحار والطيني بالبياض الناصع على الجبال، ولا أبلَغ من جمال طبيعة الله سبحانه. تلك البحار اللامتناهية التي تفصل يابسة عن أخرى فسرعانَ ما تنقلك من خصائصَ جغرافية معينة إلى أخرى، تعبر المحيط الأطلسي فتلمح آخر نقطة من أفريقيا -طنجة- في الشمال يحفها البحران الأطلسي غربا والمتوسط شرقا وهي تقابل أندلس الأمس بشكل بهي معلنة بدايةَ حكاية عنوانها أوروبا، وما أدراك ما أوروبا...

ولجنا الأجواء الإسبانية عصرا وكان السحاب متباعدا تاركا للناظر متعةَ الاستمتاع بما يبرز تحته، يَظهر العمران في قرى إسبانيا المترامية شامخا بجدرانه البيضاء وأسقفه التي تتوسط أعلاها المداخن التي تنعكس عليها أشعة الشمس مشكلة لوحة جميلة. تبدو الدروب المخترقة لأزقة القرى والشوارع المعبدة على مستوى المدن وقد تفرعت بشكل جميل ثم تتلاقى في نقطة ما وتعود لتتفرع فاسحة المجال للعمران والمساحات الخضراء.
قبيل مغرب الشمس تستقبلنا الأجواء الفرنسية وقد أُنيرت شوارعها بأضواء هادئة غير فاقعة وكأنها تطريز على ثوب اختير بعناية. تلوح في الأفق باريس الجميلة يتوسطها برج إيفيل بمنارته التي تبث أضوائها في الأرجاء الأربعة على طول كيلومترات، تبرزُ الدوائر أو المقاطعات العشرون المكونة لباريس "les arrondissements" وقد تراصت بشكل هندسي معماري أنيق ضابط للتوسع العمراني غير آبه بالرأسمالية التوسعية التي لا تُلقي بالا لجمالية المدن وخصوصياتها فكبرياء باريس لا يقبل لها إلا أن تزداد جمالا وانتظاما. تبدأ الطائرةُ في الانخفاض تدريجيا في الأجواء معلنة قرب هبوطها بباريس فتزداد الصورة وضوحا، تلمح "المولات الكبرى" والمطاعم وقد أفصحت علاماتها التجارية عن هويتها، حتى أنني أتذكر أن أضواء المرور في الشوارع الكبرى بدت متقاربة لحد كبير منظمة حركة السير والسيارات فتظهر لك السيارات متوقفة بأضوائها الخلفية الحمراء وأخرى ماضية إلى حال سبيلها وقد أذنت لها أضواء المرور الخضراء.
وأنا أنزل من الطائرةِ إلى المدرج أَدركت حينها أن ما نراه ونحن فوق مهم بمكان في تشكيلِ انطباعنا عن البلاد التي يعبرها مسيرنا، فإن صلح العمران وأُحسنت هندسته أثلجت الصدور وإن غلبت العشوائية وبدا التخبط في التعمير واضحا نُغصت النفوس ولو كانت في متعة سفر..