بقلم: محمد معاذ شهبان
مدونات الجزيرة
في رحلتي الأخيرة إلى باريس أواخر شهر ديسمبر الماضي، وبُعيد لحظات من استقرار الطائرة في الجو مُغادرة مطار مراكش نحو فرنسا، جلستُ بمحاذاة النافذة متأملا المباني الكبيرة والمساكن البسيطة وهي تزداد صغرا في الحجم كلما ارتقت الطائرة في العلو، فكانت تبدو بلونها الأحمر متفاوتة من حيث التناسق والمعمار، يغلبُ عليها طابع الاختلاف البيِن على مستوى الواجهات والأسطح لحد يُفقدها جمالها الذي يستهوي الرائي وهو يتأملها متجولا بين دروبها غير مُدرك للشكل الذي تبدو عليه للعيان من فوق..
يشد انتباهك ذلك المعمار الذي لا يُفصح عن هويته وقد تداخلت أركانه دون أن تتركَ لمسة فنية على لوحة مدينة بحجم مراكش، فتتزاحم الصحون الهوائية مترامية من سطح لآخر وتبدو المساحات الخضراء وقد حوصرت من الجهات الأربع من قبل حيتان العقار الجشعة لضم كل ما وجدته أمامها. ثم ما تلبث الطائرة أن تتجه جهة الشمال الغربي عابرة جبالا ومدنا صغيرة، وبين هذه وتلك تبدو الأراضي الشاسعة عذراء خالية تماما من أي نشاط بشري.
تعبر المحيط الأطلسي فتلمح آخر نقطة من أفريقيا -طنجة- في الشمال يحُفها البحران الأطلسي غربا والمتوسط شرقا وهي تقابل أندلس الأمس بشكل بهي معلنة بدايةَ حكاية عنوانها أوروبا، وما أدراك ما أوروبا
وأنا أطالع كل تلك المساحات من على متن الطائرة قلت لنفسي: "ما بالنا نتخبط في أزمة السكن وتذهب نصف أجورنا في مصاريف الكراء وقد بسط الله لنا كل هذه الأراضي؟" لعله سؤال بعيد عن إكراهات الواقع لكن له الحق أن يُطرح وأن يجد إجابة كافية. من الجو تبدو الأمور مختلفة تماما بخلاف ما تراه العين بشكل محدود في مساحة محدودة، هنا من الجو تتضح الصورة بشكل جلي لا زيادة فيها ولا نقصان، وإن كانت عين المتأمل غير مستوعبة لكل ما يمر أمامها في وقت وجيز فإن كل سحابة تحمل تحتها ما تحمله من مناظر ومشاهد قد تروقها أحيانا وتزعجها أحيانا أخرى.
بلا مساحيق هي الأرض من فوق، والجميل أن إبداع الخالق في الطبيعة يسر الناظرين سواء مررت بجبال أو وديان أو بحار، الطبيعة منتظمة بحكمة المصور بديع السماوات والأرض، متناسقة في تمازج الأخضر بأزرق البحار والطيني بالبياض الناصع على الجبال، ولا أبلَغ من جمال طبيعة الله سبحانه. تلك البحار اللامتناهية التي تفصل يابسة عن أخرى فسرعانَ ما تنقلك من خصائصَ جغرافية معينة إلى أخرى، تعبر المحيط الأطلسي فتلمح آخر نقطة من أفريقيا -طنجة- في الشمال يحفها البحران الأطلسي غربا والمتوسط شرقا وهي تقابل أندلس الأمس بشكل بهي معلنة بدايةَ حكاية عنوانها أوروبا، وما أدراك ما أوروبا...
ولجنا الأجواء الإسبانية عصرا وكان السحاب متباعدا تاركا للناظر متعةَ الاستمتاع بما يبرز تحته، يَظهر العمران في قرى إسبانيا المترامية شامخا بجدرانه البيضاء وأسقفه التي تتوسط أعلاها المداخن التي تنعكس عليها أشعة الشمس مشكلة لوحة جميلة. تبدو الدروب المخترقة لأزقة القرى والشوارع المعبدة على مستوى المدن وقد تفرعت بشكل جميل ثم تتلاقى في نقطة ما وتعود لتتفرع فاسحة المجال للعمران والمساحات الخضراء.
قبيل مغرب الشمس تستقبلنا الأجواء الفرنسية وقد أُنيرت شوارعها بأضواء هادئة غير فاقعة وكأنها تطريز على ثوب اختير بعناية. تلوح في الأفق باريس الجميلة يتوسطها برج إيفيل بمنارته التي تبث أضوائها في الأرجاء الأربعة على طول كيلومترات، تبرزُ الدوائر أو المقاطعات العشرون المكونة لباريس "les arrondissements" وقد تراصت بشكل هندسي معماري أنيق ضابط للتوسع العمراني غير آبه بالرأسمالية التوسعية التي لا تُلقي بالا لجمالية المدن وخصوصياتها فكبرياء باريس لا يقبل لها إلا أن تزداد جمالا وانتظاما. تبدأ الطائرةُ في الانخفاض تدريجيا في الأجواء معلنة قرب هبوطها بباريس فتزداد الصورة وضوحا، تلمح "المولات الكبرى" والمطاعم وقد أفصحت علاماتها التجارية عن هويتها، حتى أنني أتذكر أن أضواء المرور في الشوارع الكبرى بدت متقاربة لحد كبير منظمة حركة السير والسيارات فتظهر لك السيارات متوقفة بأضوائها الخلفية الحمراء وأخرى ماضية إلى حال سبيلها وقد أذنت لها أضواء المرور الخضراء.
وأنا أنزل من الطائرةِ إلى المدرج أَدركت حينها أن ما نراه ونحن فوق مهم بمكان في تشكيلِ انطباعنا عن البلاد التي يعبرها مسيرنا، فإن صلح العمران وأُحسنت هندسته أثلجت الصدور وإن غلبت العشوائية وبدا التخبط في التعمير واضحا نُغصت النفوس ولو كانت في متعة سفر..