فتحَ حوارٌ قصير مع طالبتي سناء، بمناسبة وفاة الرسام
ممتاز البحرة مبتكر شخصية باسم ورباب، فتح الحوارُ معها نوافذَ الذكرى على سنواتٍ
خاليات أوائل عهدي بالدراسة الابتدائية، حين كانت مناهج "باسم ورباب"
رفيقة جيلٍ من الفتيان والفتيات تربّى برفقة تلك العائلة بأفرادها وجيرانها
وأصدقائها... وحكاياتهم التي لا تنتهي في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي
الحقل... وفي كل مكانٍ من وطننا الجميل، رافقناهم فيه من اليوم الأول للمدرسة حتى
عطلة الصيف.
هيَّجت العباراتُ ذاكرتي فتلاحقت صورُ طفولتي أمام عينيّ
ولقائي الأول بكتاب القراءة الجديد من بطولة باسم ورباب، فللوهلة الأولى لم يكن
لقائي به ودياً على الإطلاق؛ ذلك أني كنتُ قد قطعتُ أشواطاً من دراستي الابتدائية
بكتبٍ شاحبة باهتة الألوان، أشواطاً لا تتيح لي أن أكون كإخوتي واحدةً من التلاميذ
الذين سيدرسون المنهاج الجديد بكتبه الملونة البهيجة! لكنّ ذلك لم يمنعني من
استراق الوقت للنظر فيه ومذاكرته مع إخوتي وجيراني.
وللذين يتذكرون فإن منهاج "باسم ورباب" قد بدأ
تدريسه في مدارس الأردن أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين،
وكان شيئاً جميلاً لعروبتنا أن نقرأ في الصفحةالداخلية لغلاف الكتاب، أنه قد "قررت
وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية تدريس
هذا الكتاب في مدارسهما".
لم يكن شيئاً مستحيلا ولا مستهجناً أن يدرس أبناء دولةٍ
(جمهورية) وأبناء دولةٍ (ملكية) منهاجاً واحداً!! فتجري على ألسنتهم جميعاً دروسٌ
واحدة وأناشيدُ واحدة، ذلك الجيل في البلديْن ما زال يذكر الأنشودة الأولى التي
يترنم بها تلميذ الأول الابتدائي بعد خطواته في القراءة " ماما ماما .. يا
أنغاما.. تملأ قلبي بندى الحبِّ.." وكلنا نعرف من هو عمي منصور النجار الذي يبدع في يده
المنشار.. وفي الشمال وفي الجنوب كانت القلوب تهفو غرباً وتنشد "فلسطين داري
ودرب انتصاري"..
لم يكن ذلك مستحيلاً فلماذا لا ندرس الآن شيئاً مشابها
في المدرسة كما ندرس في الجامعة مثلاً؟! وأغلب المناهج الجامعية في العالم تتقاسم
خطوطاً معرفيةً عامةً يدرسها الجميع، ونحن في أقسام اللغة العربية على سبيل المثال
ندرس من المحيط إلى الخليج المنهج نفسه ..
فلماذا لا نقدر على شيءٍ مشابهٍ في مدراسنا؟؟ اليوم نبدو عاجزين حين نلتفت حولنا لنجد
كل مدرسة خاصة تتخذ لنفسها شرعةً ومنهاجا يوافق هواها!!
لم يكن ذلك مستحيلاً في زمن كانت تجمعنا فيه بضعُ قنواتٍ
تلفزيونية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كانت قلوبُنا جميعا رغم أن منابتنا
شتى!
كنت أستمتع بمتابعة برنامج طلائع البعث للفتيان الصغار
على القناة السورية دون أن يخطر ببالي يوما أن ذلك قد يطغى على حبي لبلدي الأردن،
ما الذي يمكن أن نخسره لو تم توحيد مناهج اللغة العربية في بلادنا العربية؟؟ سيكون
قطعةً من حلم الوحدة العربية يتحقق، ماذا جنيْنا من تفرقنا واختلافنا؟؟! زادت القُطرية
وفشت، وتوالت الأحقاد ونمت.
لقد وحَّدت بين قلوبنا
وتطلُّعاتنا من قبل مناهجُ غرست فينا حبَّ اللغة العربية دون وعظ ودون دروس، كان
الكتابُ المدرسي الملون شيئاً جديداً مبهجاً لنا نحن الصغار في الأردن، ولمّا لم
يكن واجباً دراسياً عليّ فإنني كنتُ أقلّبه باستمرار، وما زلت لليوم أذكر كيف كنت
أتابع على صفحاته خطوط الرسام وألوانه في اللوحات المتلاحقة لأبطاله صفحةً بعد صفحة.
كانت نصوصُ الكتابِ مكتوبةً بخطِّ اليد بحجمٍ مناسب
مضبوطة بالشكل بقدر معقول، يجعل تلميذ الصف الأول يتابع بيُسرٍ وبهجةٍ وشغف شكل
الحروف والمقاطع في الكلمات.
نعرف ونعترف أن الزمن يتغير، وأن الأجيال تتبدل، وأن ما
كان في زمنٍ سابقٍ يلائم جيلاً،قد لا يلائم بالضرورة جيلاً في زمان آخر. لكن ما
الذي يمنع من استلهام التجارب الماضية لإنجاز حلولٍ للمشكلات الحاضرة؟!
ليس الوقوف على الرسومات والألوان والخطوط في الكتاب
المدرسي إلا مدخلاً يقودنا بالضرورة للحديث عن الذائقة الأدبية والفنية التي
نصقلها وننميها لدى أولادنا في المدرسة -من غير توجيهٍ مباشر قد يضايقهم- لنأخذ
بأيديهم إلى الجمال والرقة، فالكتاب
المدرسي -خاصةً للصغار- ينبغي أن نُلقيه بيد فنانٍ عاشق لمهنته، فنانٍ له مدرسة
يشق طريقه وسط الزحام بروحه الخاصة، بعيداً عن قوالب الوظيفة وسجون الروتين التي
قد يُلقى فيها الرسام إنْ كان موظفاً في وزارة تربية!
والحديث يجر حديثاً فعلى قدر استمتاعي بالكتاب منهاج "باسم
ورباب" برسوماته المميزة، حتى أصبحتُ أعرف أسلوب الفنان البحرة في أي صفحة قد
تصادفني، فإنني (حين أقدمتُ على العمل بالتدريس الصفوف الابتدائية أوائل التسعينات
وكانت وزارةالتربية قد بدأت تطبيق مناهج جديدة) هالني المستوى الرديء أو البدائي
للرسوم التوضيحية والتعبيرية المرافقة للنصوص في الكتب المدرسية، خطوطٌ ضعيفة جدا
للحركة والتعبير تجعل الطالب يقف حائراً أمام اللوحات فلا يدري أهي تشرح وتوضح
الدروس؟ أم تُلقي في وجهه الأسئلة والألغاز؟ وتتركه فريسةً لهذا القبح لا يدرك أن
للجمال وجهاً آخر بعيداً عن هذا العبث القبيح والذوق الفَجّ المنفِّر .
ومن المواقف التي لا أنساها في هذا أنني وقفتُ حائرة مع
طلبتي في درس التعبير الشفوي والمحادثة المعد قبل درس القراءة؛ إذ كان على الطلبة أن
يتحدثوا عن اللوحة المرافقة للدرس، فاختلفت مذاهبُهم فيها بسبب رداءة الرسومات فلم
يكن الحكم ممكناً على الشخضيات فيها إنْ كانت سعيدة أم غاضبة أم حائرة أم غير ذلك،
فالرسومات تبدو أنها مرسومة على عجل بريشة مبتدئ لا تكاد تختلف عن رسومات التلاميذ
أنفسهم.. كانت مرسومةً بريشة صاحبِ وظيفة (الإخراج الفني).
يومها قفز إلى ذهني فوراً اسمُ واحدٍ من الرسامين
المعروفين في الأردن سمير مطير، فلماذا لا يكون أمثالُه من الذين يزينون صفحات
الكتب المدرسية بالصور والرسوم؟ ثم ما لبث
أن تحققت أمنيتي حين رأيتُ أعمالَه الجميلة المتقنة الاحترافية في كتبٍ تعليمية
بعيدة عن التعليم الحكومي، خاصة تلك الكتب المنشورة في دار المنهل، وتحسرت على
موهبة مثله تضيع في بحر بلادنا الذي يبتلع أبناءه الموهوبين.
كانت الكتبُ في منهاج "باسم ورباب" قريبةً من
طفولةِ الأطفال، قريبةً من حياتهم اليومية وانشغالاتهم البريئة، وأفراحهم الصغيرة
وأحلامهم الكبيرة، وكانت تقدم في جُمَلٍ معدودة ونصوص رشيقة - معرفةً وسلوكاً
وقيمةً تعجز عنها توجيهات مباشرة كثيرة، في مقطوعاتٍ تتراوح بين الخبر والسرد
والحكاية والقصة.. والأناشيد التي لا غنى عنها بأقلام كبار الشعراء. لم
يؤلف(المؤلفون) أنشودةً كي يحشوا بها عقل التلميذ بمواعظ وافتخارات لا تمس روحه، بل
كانت الأناشيدُ قطعةً من روحه بمعانيها القريبة من القلب، وأهم ما فيها ألا وهو سر
النشيد: الموسيقا والرشاقة اللفظية، فلا العبارة ثقيلة مصطنعة تتعثر على اللسان ، ولا
الموسيقا غائبة بين فخامة العبارة وجزالة الفكرة.
وما زال جيل "باسم ورباب" إلى اليوم بعد عقود وعقود
يحفظ تلك الأناشيد الرشيقة، ويترنم بها كلما طرَقتْ كلمةٌ منها أسماعه.
ومن الطرائف الجميلة التي أذكرها مع إخوتي وجيراني، أننا
حين كنا ننتهي من إنشاد النشيد ننطق باسم الشاعر الراحل سليمان العيسى كأنه جزء من
النص وهو مبدعه، وهو الشاعر الذي كان علامةً بارزةً ورفيقاً دائماً في الكتاب كما
هي رسومات ممتاز البحرة. كنا نتعلّم اللغةَ والمفردةَ والتركيبَ والموسيقا والعَروض
والوزنَ الشعري ... بلا مصطلحات وبلا حدود تُثقل على أَفهام الأطفال.