أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 يونيو 2011

خطبة 10: حكايتي مع الأندلس

ا

الخطبة رقم (10)
الهدف: أَلْهِم جمهورَك

عنوان الخطبة: حكايتي مع الأندلس

"أن تمتلك حلما فهذا يعني أنك قد وجدت نفسك!".


ألقيت يوم السبت 11/6/2011
في الاجتماع رقم 100 لنادي أبجد توستماسترز في أبوظبي

منذ نحو سنتين وقفت موقفي هذا وقدمتُ خطبتي الأولى في توستماسترز، خطبة "كسر الجمود"، حدَّثتكم فيها عن طفولتي وجزءاً من حياتي، واليوم أقف عند إكمال الخطبة العاشرة من مسار المتواصل المتمكن، فخَطَر في بالي أن أصل الخطبةَ الأولى بالعاشرة، على ما بينهما من فارقٍ زمني يزيد عن سنة ..لأستكمل الحديث عن بعض نفسي.
اخترتُ لكم موضوعاً شخصياً لصيقاً بي، وهذا الشيء اللصيق بي أصبح جزءاً من شخصيتي وهاجساً من هواجسي... إنـها حكايتي مع الأندلس.
الأندلس.. وما أدراك ما الأندلس عند رشأ؟؟
متى سمعتُ بهذه الكلمة للمرة الأولى؟ لا أذكر !!.. نعم ببساطة لا أذكر !
ربما مرَّت هذه الكلمة مروراً عابراً أيام المدرسة ولكني لم أتوقف عندها، ولا أذكر منها شيئاً أبداً!!....أما متى ابتدأتْ الأندلس تتغلغل في كياني وتستقر وتأخذ حيزاً في حياتي فهذا ما أعرفه جيداً. فقد بدأتُ أعشق شيئاً اسمه الأندلس عندما أخذتُ مادة الأدب الأندلسي في السنة الدراسية الجامعية الثانية - يعني منذ نحو عقديْن من الزمان- ، ولا أنكر أنَّ الأستاذ اللطيف الوسيم الرقيق، د. صلاح جرار ،كان له أثرٌ في أنْ جعلَ الأندلس تلتصق بي منذ ذلك الحين، ولا أنكر فضلَ أستاذي عليّ في أنه عرَّفني هذا الشيء الرائع، وفتح قلبي على تلك النقطة المضيئة في تاريخنا وحضارتنا.
ما أذكره من تلك المادة - وهو كذلك مرتبط بفضل أستاذي عليَّ- هو طريقته في التدريس؛ إذ كان يعتمد على أن يقدم للطلبة خطة المادة ومفرداتها في بداية الفصل الدراسي، ويطلب فيها مجموعةً من القراءات المخصصة لكل موضوع منها، ويترك للطلبة الحرية في أن يطّلعوا على المادة ويتزوَّدوا بما يناسبهم ليكونوا أهلاً للنقاش وللحوار الذي يدور حول قضايا الأدب الأندلسي ..المتعددة. وكانت المحاضرةُ - عادةً- تقليدية: تقوم على الإلقاء وقليل من الحوار، إلا أن أسلوبَ الأستاذِ الآسِـرَ كان يملأ عليَّ قلبـي وعقلي.
وإذا ما تجاوزتُ الأستاذَ وأثره في أن أعرف ما الأندلس، فإنّ الأدب الأندلسي إلى جانب ذلك هو من أجمل محطات الأدب العربي، وهو على الرغم من كل ما يمكن أن يقال- فضيلةٌ ومزيةٌ من مزايا الأدب العربي لا ينكرها إلا جاحد!
...وهكذا كانت بدايتي مع الأندلس ..وبداية معرفتي بالأدب الأندلسي وأشهر موضوعاته: شعر الطبيعة والموشحات الأندلسية.
ومما أذكره في مرحلة البدايات هذه أنَّ ما جعل موضوعَ الأندلس جميلاً وقريباً إلى نفسي ما كنتُ أكتبه في أوراق الإجابات للامتحان؛ فقد كتبتُ إجابة رائعة - بنظري- عن شعر الطبيعة في الامتحان، وزادني ثقةً بما كتبتُ، ما سجَّله أستاذي تعليقاً على ورقتي؛ إذ كتب كلمة (أحسنتِ) التي أذكرها إلى اليوم مرسومةً إلى جانب الدرجة التي نال غيري مثلَها، لكنْ.. ما حظي أحدٌ منهم بـ الـ(أحسنتِ) التي حظيتُ بها أنا !
والأجمل من هذا الامتحان كان ما علَّمني إياه أستاذُنا الفاضل دون فرض ودن إكراه؛ فهو يترك لنا حرية القراءات والتوسع والاطلاع على المواضيع المتعلقة بالأدب الأندلسي..وفي الامتحان كذلك يترك لنا حرية التعبير واعتناق الآراء واختيار الشواهد الملائمة....المهم أنْ تدافعَ عن رأيك وتنتصر له بالحجة المناسبة. والآداب والعلوم الإنسانية –كما تعلمون- تخضع عامةً وفي بعض جوانبها للآراء أكثر من خضوعها للقوانين الصارمة التي لا تتغير.
..وهكذا ارتبطت الأندلس في نفسي بمنهج تعليميٍّ راقٍ، كنتُ أتمنى أن يسير عليه أستاتذتُنا جميعا؛ فقد تعلَّمْنا ما معنى الاطلاع واتساع الأفق، لكي يكون الطالبُ قادراً على النقد والتمييز بين الغثِّ والسمين فيما يصادفه من قضايا تتعلق بالمادة التي يدرسها؛ كان أستاذُنا يطبق المنهج الذي يسعى إلى حل المشكلات والتفكير الإبداعي...وغيرها من مصطلحات تطوير التعليم الحديث التي يصدع بها التربويِّون رؤوسَنا، وهم للأسف لا يدركون منها إلا القشور.
لذلك لا أنسى أنني على الرغم من اجتهادي والتزامي في المادة، إلا أنني قصّرتُ نوعاً ما في الامتحان النهائي؛ حين فاجأني سؤالٌ لم أتوقعه، وهو يدل على ذكاء المدرِّس، والإجابة عنه تدل على ذكاء الدارس؛ فالأندلس يضم تاريخها السياسي والثقافي عصوراً متعددة متتابعة، وطلب أستاذنا أن نذكر تلك العصور ونمثِّل على كل عصر منها لأعلام الأدب شعراً ونثراً، ونـمثل كذلك لأعمالهم المعروفة، وهذا المطلوب معقول ...أما المفاجئ لي وما لم أتوقعه فهو أن نذكر لكل عصر من تلك العصور مجموعة من المصادر التي تتحدث عن ذلك العصر، ويمكن أن نرجع إليها للاستزادة عنه، ولكن دون أن نكرر اسم المصدر لأكثر من عصر.
وهذا سؤال ذكي يتصل بمنهجية البحث؛ وهي كيف يصل الباحث إلى المعلومة الدقيقة من المصادر الأصيلة وثيقة الصلة بالموضوع، وهذه المنهجية هي إلى اليوم، ولدى الباحثين في مختلف التخصصات، هي علامة من علامات سلامة منهج البحث العلمي ووضوحه والاطمئنان إلى نتائجه لدى الباحثين.
... من هنا ابتدأت الحكاية، ووجدتُ في الأندلس سحراً لا يقاوَم، سحراً خاصاً جاذباً، فحلَّت في قلبي واستعصت على الخروج، فبدأتُ أدعم دراستي هذه بتخصصي الفرعي في مادة التاريخ، وكنتُ أبذل ما في وسعي، حتى طلب مني أستاذ التاريخ الأندلسي - د. محمد حتاملة- أن أترك دراسة اللغة العربية وأتوجه إلى قسم التاريخ..لكن الأوان كان قد فات !
ثم تابعتُ اهتمامي بالأندلس التي صرتُ أرى فيها تجربة تاريخية وإنسانية فريدة، ومثالاً على التسامح والرقي الحضاري والألق الثقافي الذي لم أجد له مثيلاً في حضارات أخرى.
وهكذا وفي أثناء دراستي الماجستير قررتُ أن أتعلم اللغة الإسبانية، وما زالت لدي حلماً أسعى إلى تحقيقه كاملاً يوماً ما. وفعلاً كان لديّ الوقت لأحضر دروس اللغة الإسبانية التي تُقَدَّم لطلبة البكالوريوس في الجامعة، وكنت أحضرُ تلك الدروس دون تسجيل رسميّ في المادة، ولكني تفوقتُ فيها بحمد الله، وقد فرحتُ جداً بتعلُّمي اللغةَ الإسبانية وأفدتُ منها كثيراً، وكانت سعادتي لا توصف .
نعم... صرتُ أفكُّ الحرفَ الإسباني! وما زلتُ أضع هدف إتقان اللغة الإسبانية إلى الآن حلماً ينبغي الوصول إليه يوماً ما! حتى أشعر بالرضا عن نفسي حين أقول إن تخصصي هو الأندلس.
وقد صار اسم الأندلس في تلك المرحلة من حياتي جزءاً مني، حتى إنني علَّمتُ ابنتي الأولى أن تنطق بـ ( أ ن د ل س)، تماماً كما تنطق بابا أو ماما ..وقد فعلَتْ وأحسنَتْ!
كما أنني في تلك المرحلة من حياتي (1997) أنـهيت دراسة الماجستير برسالة كانت بعنوان "تجربة السجن في الشعر الأندلسي" وكأنه لا فكاك من هذا السجن اللذيذ ! مما زادني اقتراباً من الأندلس ..اقتراباً سيجعل من الأندلس حلماً من أحلامي على الدوام.
... وغابت الأندلس .. وإسبانيا ماثلةٌ أمام عينيّ ..كنتُ أحلم وما زلت بأن يكون لديّ –مثلاً- طرازٌ أندلسي في بيتي، ربما لم أحقق ذلك بعدُ على أرض الواقع لأسباب مختلفة، لكن الرحلة إلى هناك ظلت في بالي. 
وكان مما أثلج صدري في تلك السنوات وأرضى غروري " الأندلسي" – مجموعةُ مسلسلاتٍ تاريخية عربية لأستاذنا د. وليد سيف كاتباً، والمخرج السوري حاتم علي وطاقم الممثلين معه، فكانت الثلاثية الأندلسية: صقر قريش، 
وربيع قرطبة

وملوك الطوائف

كانت من أروع ما شاهدتُ .. وما يمكن أن تشاهدوا ! فكتبُ التاريخ ...وصفحات التاريخ... وأحداث التاريخ التي ماتت ومات أبطالُها .. تُبعث حية تسعى أمامكم، تدبُّ في أوصالها روحٌ جديدة لتنشرها وتصل إليكم.
هذه المسلسلات كانت من الأشياء المهمة التي زادت صلتي بالأندلس وأحيتْها من بعد رقاد، وزادتني حلماً أنني ينبغي أن أطأ تلك الأرض.. وألمس ذلك الماضي في ثياب الحاضر..
ثم كانت الرحلة إلى المغرب جارة الأندلس (عام 2008) إبان دراستي في مرحلة الدكتوراه، التي غيَّرت حياتي، وعلى الرغم من قِصَرها إلا أنـها كانت عميقة التأثير، وزادت صلتي بالتراث الأندلسي عن طريق الاستماع إلى الموشحات الأندلسية التي تمثل منجزاً إبداعياً من منجزات الأندلس حيّاً إلى اليوم، بفضل المحافظين على هذا الطرب الأصيل.
وهذا ما جعل الأندلس حاضرةً في حياتي في كل وقت وفي كل آن ..وشكراً للإنترنت التي أتاحت الحصول على تسجيلات الطرب الأندلسي الفريد، والطرب الغرناطي الرائع، التي أستمع إليها يومياً منذ عودتي من المغرب، وهي كلَّ يوم تزيد صلتي بالأندلس وتدفعني إلى تحقيق الحلم بزيارتها ورؤيتها عيانا.
وهو ما تحقق في الصيف الماضي فكانت حقاً رحلة العمر، زيارة إسبانيا اليوم أندلس الماضي، وقد جعلتْني تلك الرحلة -إلى اليوم- أقف مبهورة مندهشة أمام هذا التراث الحاضر الباقي على الجدران وفي الأزقة والشوارع، وفي الجبال والوديان..وفي القصور والبيوت والأسواق. إنـها الأندلس، إنه عبق الوجود العربي الإسلامي لا ينفكّ عن تلك البلاد ولا يزول، رغم مرور مئات السنين من محاولات الطمس المتعمد والانقطاع عن الماضي الإسلامي ..لكنك مع كل هذا تجد أن رائحة التاريخ في إسبانيا قوية شديدة..تفوح في كل مكان .. لا يقدر على التغلب عليها أقوى أنواع العطور والروائح.
كانت الرحلة التي أعرض أمامكم بعضاً مما سجَّـلَـتْهُ ذاكرتي وانطبع في آلة تصويري.
وإذا ما كان الشاعر قد قال يوما: 
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلام فكلامٌ فموعدٌ فـلقاء
ففراقٌ يكونُ فيه دواءٌ أو فراقٌ يكون منه الداءُ

فهل كان بعد اللقاء فراقٌ فيه الدواء؟ ..أم أن ذلك الفراق قد أورث داءً ليس منه شفاء؟ فزيارتي للأندلس جعلتني أود بشدة أن أعاود زيارتها..وحتى شريك العمر وشريكي في رحلة إسبانيا- على الرغم من موقفه تجاه التجربة الأندلسية وتحفظاته عليها- إلا أنه يذكرها باستمرار ويعاوده الحنين إلى شوارع غرناطة وأزقتها والناس سائرة فيها غادية رائحة. فكيف الحال بي أنا ..والأندلس في قلبي وعقلي كل هذه السنين؟

....... وهكذا مضت حكايتي مع الأندلس وتمضي إلى اليوم ، حلماً لذيذاً وتوقاً لا ينتهي، وأنا سعيدة بـها وبحياتي معها..
ففكِّر في نفسك وانظر في داخلك: فما أجمل أن تمتلك حلماً لأن هذا يعني أنك قد وجدتَ نفسك...وأنْ تجد نفسك يعني أنك ستذوق طعم الحياة وستقطف ثمرتها الطيبة، لا أن تمر بك الأيام والسنون تكافح وتنافح ... ثم ترتاح في النهاية للأبد ..وأنت لا تستطعم في فمك إلا بقايا...اللاطعم، الذي تجرَّعتَه دون أن تدري؛ لأنك أمضيتَ عمرك دون أن تمتلكَ حلماً !