أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

الأنوثة المنهزمة

بقلم بروين حبيب
جريدة القدس العربي
تتعثّر حياة المرأة العربية عدّة مرات، وتحدث فيها شروخ، وتقلبات، وانقطاعات مع المراحل السّابقة بشكل يشبه البتر المؤلم، بين الطفولة والبلوغ، ثم بين البلوغ والزواج، ثم بين الزواج ومراحل غير متوقعة، كالطلاق أو التّرمّل، ثم بين أن تكون أما وحماة وجدّة. يتخلّل هذا المسار الحياتي حصار عائلي واجتماعي يمارس على الأنثى بكل الوسائل، حتّى أن حياتها تبدو ملكا للآخرين وليست ملكا لها.
بين المراحل تكتشف المرأة في الغالب أن حياتها يجب أن تُعدّل وفق معطيات جديدة، كأن تتخلّى عن أصدقائها الذكور، بمجرّد دخولها عمر البلوغ، ليس فقط لأن العائلة ستضع حدًّا لتلك العلاقات البريئة، بل لأن أصدقاءها أنفسهم سيحوّلهم المجتمع إلى كائنات متوحشة، تقلل من احترامها، تبدأ تلك التحولات «المستذئبة» تظهر عليهم لتتسع المسافات بشكل أوتوماتيكي بينهما، قد يستلزم الأمر أيضا التخلّي عن صديقات حسب المعطيات نفسها، إذ تصنف الفتاة حسب لباسها، وسلوك بعض أهلها، الذي قد لن يعجب العامّة. 
قد يحدث أيضا أن تُكوِّن صداقات جديدة في الوسط الجامعي، لكنّها صداقات قد لا تدوم طويلا، فبعد الزواج تقطع المرأة في الغالب كلّ صلاتها بماضيها الجامعي، لتبدأ حياة جديدة، تنغمس خلالها في علاقات زوجها ومحيطه، يحدث للمرأة ما يحدث للسمكة حين تخرج من ميـــاه مالحة، وترمى في حوض ماء حلو أو العكس، وهنا على معجزات الله كلها أن تجتمع لتجعل هذه المرأة تتعايش مع الوسط الجديد، بكل طقوسه المختلفة عمّا عاشته سابقا.
كتبت المرأة عن حالاتها هذه، ولكن سرعان ما صُنِّف أدبها على أنّه نسوي، أو نسائي، وكلاهما يمثل «تهمة» ما، وكأنّ الكتابة عن المرأة وللمرأة جريمة أدبية يحاسب النقد ممارسها. بعض الكاتبات يتنصّلن من هذه «التّهمة» بتصريحات غريبة، ينفين عن أنفسهن صفة «النّسوية»، ويكدن ينفين صفة الأنوثة عنهن أيضا، يتملّصن من الأسئلة الملغّمة بتلك الإيحاءات التي تضيّق عليهن الخناق، كونهن كتبن مآسي بنات جنسهن. تنفي الأغلبية أن يكون الأدب ذكوريا، أو نسويا، فيما نحن نعيش في منظومة ذكورية ضخمة، بما فيها الأدب، ألم يلجأ ناشر ج. ك. رولينغ إلى وضع الأحرف الأولى من اسم الكاتبة خوفا من تأثير اسمها سلبا على المبيعات؟ أليست حيلة التخفّي خلف حرفين لا هوية لهما ولا جنس، هروبا صريحا من «المؤنث» الذي قد يُسقِط القارئ في بلبلة عاطفية تحيل إلى رفض الرواية؟ حدث ذلك في أواخر القرن العشرين، إذن لا عتب على جورج صاند مثلا، التي تقمّصت شخصية رجل حتى في لباسها قبلها بقرن ونيف، هي المولودة باسم «أمنتين أورور لوسيل دوبان»!
الحرب على النّصوص النسائية أخذت أشكالا مختلفة، ويبدو أنّها بدأت من النّقد نفسه، حين قُرِئ على أنّه أدب جنس، وقد بالغ بعض الأكاديميين العرب في اعتبار ما كتبته النساء أدبا «بورنوغرافيا»، ما أبرز جهلهم الكبير بين ما يكتب في الأدب، وما تقدمه المواقع والأفلام الإباحية.
القارئ بدوره يقرأ نص المرأة باحثا عمّا يدينها – بعد الرّدة الدينية الغريبة التي أصابت المجتمعات العربية – وقد يقلب الصفحات بدون قراءتها تماما، إن لم يجد فيها فقرات إيروتيكية، ثم ينتهي مصير الكتاب، إمّا منسيا بين الرفوف، أو موضع شبهة وثرثرة وتهجم وتشويه سمعة، وغيرها من الأمور السيئة التي يخترعها قارئ «نصف متعلّم، ونصف متديّن».
ومع أن «الإيروتيكا» أو «الإيروسية» جنس قديم في تاريخ الأدب العربي، والمكتبة العربية تزخر به، من امرؤ القيس إلى الجاحظ، إلى الأصفهاني، إلى التوحيدي وابن حزم، والتيجاني والسيوطي والنفزاوي وغيرهم… إلا أن تقزيم عمل المرأة مهمة سهلة على من يتخذ «المشاهد الجنسية» ذريعة لذلك، ما جعل المرأة تختلط عليها المفاهيم، فالنص الذكوري الذي يبالغ أحيانا في توصيف الجنس، لا يلحق صاحبه ما يلحق المرأة التي تشبهه، من أذى. مع ملاحظة أن الرجل يعيش ويكتب متحررا من كل القيود الاجتماعية، فيما تعيش المرأة مكبّلة في الغالب، بل إنها تكبّل شخصياتها في نصوصها، ولا تسمح لهن بالتمرّد خوفا من الإسقاطات التي قد تضعها موضع شخصياتها، ولهذا السبب ربما نجد عددا لا بأس به من الكاتبات العربيات اللواتي يكتبن بأسماء مستعارة، وبعضهن حققن شهرة كبيرة، إلا أنهن بعيدات تماما عن الأضواء، ما يوفّر لهن حماية شخصية في أوساطهن الضيقة.
الذائقة الذكورية تحاملت كثيرا على نص المرأة، تماما كما على حياتها الخاصّة، ما يجعلها كائنا تابعا، حتى نحن نرى الأعاجيب في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، حيث تجاوزت النساء السخرية القاتلة، التي يوجهها الرجال لهن، كما تجاوزن التهميش المقصود لغايات عديدة، منها ما هو غير أخلاقي تماما كطريقة للضغط عليهن.
يقف ذكورنا أيضا في صف الحياد حين تتعلّق المسألة بحق من حقوق المرأة، فلا تُسَجَّل المواقف بوضوح بشأنهن، وإنه لأسهل على كاتب أو مثقف أن يعارض بشراسة كل الأنظمة العربية مجتمعة، على أن يقف في صف نص نسائي يدين جريمة الاغتصاب مثلا. كما يمكنهم الدفاع عن حرية المرأة مادامت ليست أختا أو ابنة أو زوجة لهم، وهذا جزء من ازدواج الشخصية العجيب الذي يعانون منه، والصراحة أن ذلك راجع لنقطة مهمة، وهي انعدام الثقة تماما داخل منظومة الذكور، رغم سيطرتها على مفاصل الحياة الرئيسية في مجتمعاتنا.
تلي هذه الذائقة الباسطة لجناحيها على النّعيم الذي نعيش فيه، نصوص تنتقد الذكورة بشدة، إذ لا تخلو قصصنا ورواياتنا وأشعارنا من الخيانة والطعنات المباغتة، والمعاناة التي لا تنتهي، بسبب انكسار العلاقات بين الرجل والمرأة، هناك هوّة عميقة جدا بينهما، حتى أنه من النّادر أن نجد علاقة ناجحة إنسانيا في الواقع بين مثقف ومثقفة عربيين.. لا أدري أين أجد النّماذج، لهذا أنتظرها من قرائي الأحباء، بدون تحامل إضافي عليّ، كوني أكتب من باب البحث عن معادلة تحدث التوازن بين الذكورة والأنوثة في عالمنا العربي الأعرج. 
إذن إذا ظلّ الخطاب يرفل بأثوابه القديمة «المجندرة»، هل سنفكّر في نصوص عميقة تحفر في الذات الإنسانية وتخرج أثقالها وكنوزها؟ هل سنبلغ مرحلة النُّضج الفكري التي تحرّرنا من الصفات الدنيئة، التي جعلت نصوصنا أدلّة على مشاعر الخوف والكراهية والتخوين؟ إن تلك الساعة المرتقبة لن تحين ونحن عالقون بين عقارب ساعة متوقفة منذ أمد طويل، مع أنه من الممكن جدا أن نتصالح مع ماضينا المتحرر، ونبني حاضرا خاليا من التوترات والقيود، لتسهيل حياتنا، كونها قصيرة جدا، ولا تحتمل هذا التكرار الممل لغلبة الذكور وانكسار الإناث.
يا إلهي ماذا يضيف انكسار أنثى لانتصار ذكر؟
أي قاعدة بائسة نعيش وفقها طيلة قرون؟ وهذا المنتصر الشهم يجرُّ أنثاه المنكسرة، يجرّها ويمشي، يجرها ويزداد انحناءً، يجرُّها ويتعثَّر، يجرها حتى تخونه قدماه فيقع.

الاثنين، 15 أكتوبر 2018

نساء مذهلات

بقلم: فرح أشباب
مدونات الجزيرة
https://goo.gl/g4ZiD6
منذ مدة قصيرة أنشأت إحداهن مجموعة نسائية مغربية على الفايسبوك أطلقت عليها اسم  la Superbe، التي تعني "الرائعة"، النعت الذي تتشارك فيه كل نساء العالم دون استثناء. كان الأمر بمثابة اللعبة في بداية الأمر، كانت كل واحدة تقدم نفسها على حدة وترافق التقديم بصور لها وهي غالبا مبتسمة، تحكي عن تجاربها وحياتها وماذا غيرت هذه الأخيرة فيها وكيف واجهت مشاق الحياة وصعابها. بين ليلة وضحاها صارت المجموعة تشمل تقريبا 200.00 سيدة من مختلف الأعمار، مراهقات وشابات وأمهات وجدات من مختلف أنحاء المغرب ويستمر تقديمهن لأنفسهن لحد الساعة والبسمة تعلو وجوههن دون كلل أو ملل. 
ولأن الصورة تستحوذ على الانتباه أكثر من سطور مكتوبة فإنك غالبا ما تجد نفسك تمرر الصور لتشاهد نساء من كافة الأعمار، حرفيات، خياطات، ربات بيوت، طالبات، نساء عاملات، معلمات، مهندسات، طبيبات، عسكريات، محاميات..  يزاولن أعمالهن، يقمن بالرياضة، يقمن بواجبهن المهني، بهواياتهن، بتربية أطفالهن. فما إن تنتهي من الصور وتبدأ بقراءة النص حتى تتسل دمعة إلى عينيك وتسقط سقوطا حراً لم يأذن لها أحد به. يا إلهي! كيف لا زالت هذه السيدة تبتسم رغم ما حل بها ورغم ما قاست خلال حياتها؟ كيف لم تستطع ظلمات الدنيا أن تخطف ذلك النور الساطع من وجهها؟ وكأن ذلك النور مقدس لا تتحكم فيه قوانين الفيزياء ولا غيرها، كطائر العنقاء الذي ينبعث من الرماد بعد ما ظن الجميع أنه تلاشى من شدة النار حسب المعتقد الإغريقي. 
التقيت بالكثير من النساء من كافة الفئات وتعلمت من خلالهن أن المرأة قوية أكثر مما نتصور، أكثر مما تتصور هي كذلك، لست بصدد بدء مقارنة بين الرجال والنساء لأن ذلك ليس موضوعنا، بل حقا لأن المرأة مبهرة بكل المقاييس، فحين تعتقد أنها ذبلت وسقطت أوراقها تزهر من جديد رغم الصعاب والتقدم في السن ورغم كل شيء.  لماذا أقول هذا وأشيد بهؤلاء النساء المذهلات، لأنهن حقا أهل لذلك. ماذا فعلن ليستحققن ذلك؟ فعلن الكثير جدا. 
من القصص التي أبهرتني أم شابة تزوجت في سن جد مبكّر وأنجبت ثلاث فتيات تباعا، استحملت قسوة زوجها وأهله كثيرا ونظرة كل الذين يشفقون عليها لأن بطنها لم تنجب سوى البنات لتقرر أنها لن ترضخ للظلم فطلبت الطلاق بعد ظلم كبير وبدأت حياتها من جديد، حصلت على الباكالوريا والتحقت بالجامعة رغم قصر اليد ورغم الفقر ورغم مسؤولية الثلاث بنات لتصبح اليوم إطارا عاليا ومستشارة تواصل ومقدمة برامج. شابة في العشرين من عمرها تحكي عن معاناتها بعد بتر ساقها عندما كانت طفلة نتيجة لعض كلب لها، كانت قبل الحادثة عداءة تفوز في كل السباقات لينتهي حلمها بعد ذلك وتصير غير قادرة على المشي بدون عكاز. قطع الكلب جناحها لكنه لم يمزق روحها القتالية، لتنتفض بعد ذلك وتشرع في التدريب على كرسيها المتحرك لتصير اليوم بطلة وطنية وافريقية في التنس وتطمح اليوم إلى خوض غمار تظاهرات رياضية دولية.
أمهات فقدن أعز ما يملكن، فلذة كبدهن، نساء حاربن ولا يزلن يحاربن السرطان والمرض الذي استوطن عنوة أجسادهن الفتية، أخريات حاربن الجهل والفقر والعنف والظلم وبنين أنفسهن من لا شيء ماعدا الإيمان بأن غدا سيكون أفضل، سيدات في خريف العمر عاشوا قصص حب وزواج ناجحة هددتها صعاب الدنيا لكنها لم تفلح في تدميرها، أمهات ربين أولادهن بمفردهن وأوصلنهن إلى بر الأمان بعد تخلي الأزواج عنهن في بداية الطريق أو منتصفها.  نساء تخلين عن مهنهن الحالية من أجل بدء تخصص آخر كان شغفهن منذ البداية لكن شيئا حال دون ذلك. والكثير من القصص والتجارب المبهرة حقا والتي يطول حكيها وربما تُنسى تفاصيلها لكنها تشرح الصدر بعد أن تغرق القلب والعيون دموعا. تعلمت منهن الإيمان والحب. فلعل ذلك الإيمان الذي ينبض في قلوبهن جميعا هو منبع ذلك النور الذي يعلو محياهن كلما تقدمن في السن، ولعل ذلك الحب الذي يقدمنه دون مقابل رغم قساوة الحياة هو ما يجعل منهن نساء رائعات ومختلفات. لا فرق بين نساء العالم سوى قدرتهم على منح الحب بدون مقابل. 
لم أشعر من قبل بهذا القدر من الفخر لأنني امرأة، لكنني شعرت به عندما سمعتهن يحكين بدون حرج عن معاركهن الضارية مع الحياة: زوج خان العشرة، سرطان لا يرحم، موت غادر، موت رفيق الدرب، فقر مدقع، تضحية تلامس الخيال... وكيف تغلبن على كل المصائب بالإيمان والعمل والاجتهاد والصبر والمثابرة والعزيمة، بالكرم والطيبة. رأيت فيهن أحلامي وأحلام الكثيرات من الفتيات الشابات اللواتي أضعن طريقهن ويشعرن بالإحباط والاكتئاب حتى قبل أن يبدأن المعركة الحقيقية مع الحياة. رأيت في عيونهن الأمل والكرم اللامشروط والقوة والحب والليونة والإصرار من أجل كسر أصنام الجهل والظلم وكل ما يمكن أن يثني امرأة عن تحقيق أحلامها والسير بأسرتها إلى بر الأمان. رغم مساوئ المواقع الاجتماعية الكثيرة إلا أن مجموعة كهذه تزرع في المتصفح الحماس لتغيير وضعيته إلى الأفضل وتبعث فيه روحا جديدة من الإرادة والعزيمة والإيمان بأن غدا سيكون أفضل وذلك هو كل ما يحتاجه الشخص من أجل السير قدما ولو كان مشواره محفوفا بالجمر.