أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

الوجه الآخر لآينشتاين

آلاء حمدان
مُنع آينشتاين من أن يكون طالباً رسميّاً في الجامعة بسبب رسوبه في كلّ المواد ما عدا الكيمياء والفيزياء والرياضيات. ولكنّ بعض الأساتذة سمحوا له بالحضور بشرط الالتزام كأيّ طالب، ولكن في النّهاية لن يحصل على شهادة منهم.
خلال ذلك، تعرّف على امرأة عبقريّة، اسمها كان ميليفا، ولقّبها هو بـ"دولي"؛ لأنّها تشبه الألعاب والدّمي الرّوسية، وكانت هي الطّالبة الأنثى الوحيدة التي سمحت لها العادات والتقاليد في ذلك الوقت في السعي وراء دراستها الجامعية في مجال مختصّ بالذّكور.
كانت الأذكى، بل وصفها البعض بأنّها متقدّمة بمراحل عن آينشتاين في التّفكير خارج الصّندوق. نجحت في كلّ الاختبارات بل وساعدت آينشتاين على اجتياز اختبار هام له.
في مرحلة ما، نشأت بينهما علاقة حبّ قويّة، وحملت بطفله الأوّل من خلال علاقة غير شرعيّة. لم تستطع بسبب ذلك تقديم امتحان التّخرج وفقدت بذلك شهادتها. 
عند حملها بطفلها الأوّل عادت لوالدها، وأخبرته أنّها رسبت في الاختبار، فقال لها بحماس "لا بأس، هناك اختبار قادم. لنبدأ التحضير له". وعندما حضنها اكتشف أنّها حامل. واكتشف أنّ جهده خلال كلّ تلك السّنوات التي مضت لأن يُخرج للعالم عالمة جديدة سيضيع فور ولادة هذا الطّفل.
كان والدها قد سعى بين كلّ المدارس ليوافقوا على ادخال ابنتهم الصّفوف التي كانت تعجّ بالأولاد، وربّاها على الجديّة في العمل وأن لا تتزوّج إلا بمن سيقف إلى جانبها ويشدّ على يديها وإن طال انتظارها.
الجميع كان يتوقّع فشلها في مرحلة ما، فهي امرأة، وبرأيهم لن تصل إلى أيّ مكان. مكان المرأة بيتها وزوجها، وخُلقت فقط لذلك.
(حسب الروايات التّاريخية، فإنّ طفل آينشتاين الأول مجهول الهويّة، ومصيره مجهول. فقد فُقد في عامه الثّاني. يقال أنّها كانت فتاة، ومرضت وتوفت، ويقال أنّها أصبحت من ذوي الحاجات الخاصة فتم ارسالها لبيت خاص وإنكار أصلها، أو تم عرضها للتّبني. ما يعرفه العالم أنّ هناك ابنة له، لا يعرف أيّ أحد ماذا حصل بها وأين ذهبت رغم كلّ الأبحاث التي لم تتوقف حتّى عامنا هذا)
بعد أعوام تزوّجا، دولي وآينشتاين، وأنجبت دولي طفله الثّاني فالثّالث. كانت علاقتهما أكثر من رائعة. كان كلّما فكّر بمشروع جديد يجد زوجته تسهر لأجله تكتب المشاريع معه وتفكّر، وأحياناً عندما يكون مرهقاً يستيقظ فيجدها قد كتبت كلّ البحث له، بل وصححت له الأخطاء التي لم ينتبه إليها.
كانت والدة دولي تسكن معهم وتهتم بالأطفال والمنزل عند انشغال ابنتها. ولكن اضطر آينشتاين بسبب عمله إلى السفر لبلاد أخرى وفجأة وجدت دولي نفسها تترك العلم والأبحاث وتقضي معظم وقتها تنظّف المنزل وتحضّر الطعام.
حاولت دولي بشتّى الطّرق الموازنة، ولكن كسل آينشتاين وأنانيّته المفرطة جعلها وحيدة، ولم يترك أيّ خيار لدولي، فتركت دولي كلّ شيء لتهتمّ بأبنائها، ووافقت أن تكون فقط ربّة منزل في سبيل تربيتهم. ( "فقط"، لأنّه بالنّسبة لها هذا ما لا تريده بتاتاً).
زادت الخلافات بين آينشتاين ودولي، كلّما رأته ينطلق في هذا العالم من مؤتمر إلى محاضرة إلى جائزة، وهي التي ترمي نفسها على الكنبة بعد ترتيب غرف الأطفال محاولة تذكّر آخر معادلة قامت بحلّها.
تضخّمت أنانيّة آينشتاين وعشقه للعلم عندما بدأت أبحاثه بالانتشار، وفي مرحلة ما تعرّف على فتاة جميلةأخرى، ونشأت بينهما علاقة، ومن بعد ذلك طلب الطّلاق من دولي.
وصف آينشتاين بيته مع دولي "بالغائم"، وبيته مع عشيقته "بالمشمس". فهو كان يرى في دولي الزّوجة الغاضبة، غير السعيدة، شعرها منكوش وتقضي وقتها تنتظر عودته من رحلاته لتسأله أين كنت. بينما كان يرى في عشيقته المرأة الذّكية الأنيقة، تلبس أجمل الألوان ودائما معطّرة وشعرها مصفّف. ولكنّ دولي رفضت الطّلاق. وبناء على القوانين اليهودية في ذلك الوقت لا يستطيع آينشتاين تطليق زوجته إلا بموافقتها، ولأنّها رفضت، وضع هو قائمة بالأمور التي يجب على دولي القيام بها في سبيل إنجاح هذه العلاقة.
وهذا ما احتوته القائمة:
١- توفير ٣ وجبات ساخنة يوميّاً
٢- الخروج للسّوق مرّة كل يومين للتّبضّع
٣- تنظيف المنزل يوميّاً دون مساعدة أحد
٤- عدم سؤال آينشتاين أي شيء عن عمله واجتماعاته
٥- عندما يطلب منها آينشتاين أن تغادر غرفة ما لأنّه مشغول بالتّفكير، عليها المغادرة فوراً دون اعتراض.
٦- أن لا تطلب منه أي مَهمّة منزليّة.
٧- قطع أي علاقة حميمية بينهم.
٨- أن لا ترافقه في أيّ اجتماع ولا رحلة عمل.
رغم أنّها كانت تعرف بخيانته، إلا أنّها نفّذت الشّروط خوفاً على أطفالها، ولأنّ المجتمع في ذلك الوقت كذلك كان ينظر للمرأة المطلّقة على أنّها "منحوسة" بينما ينظر للرّجل الخائن على أنّه يمر "بنزوة" أو أنّ زوجته بالتأكيد مقصّرة معه.
كانت تجلس لساعات تبكي لوحدها وهي ترى كل ما حلمت به، وكل ما حلم به والدها قد أصبح من الماضي. حتّى أنّ آينشتاين قام بنشر الكثير من الأبحاث التي كتبتها هي وبجهدها، وعندما طلبت منه وضع اسمها على البحث بجانب اسمه ردّ عليها "أنا وانتِ واحد، وليس من الضّروري التّفرقة بالأسماء". ومضت هذه الحال حتّى أصبحت زوجته انساناً شبحاً لا يعرفها أيّ أحد بعد أن كانت أذكى طالبة علوم في أوروبا كاملة.
بعد أن استحالت الحياة بينهما، تفرّقا دون طلاق لسنوات، وعاشا في بلدين مختلفين. قبل أن يعود ليطلب الطّلاق ليستطيع الزّواج من عشيقته.

هذه قصّة رجل عظيم عبقريّ، نعرف من علومه الكثير ولا نعرف عن حياته إلا القليل القليل.
سيرته مليئة بالتّخبطات الاجتماعيّة التي جعلته يشعر أنّ العلوم والبحث والنّجاح أولوية له، بينما الأولويّة لزوجته هي رعاية الأطفال. بطريقة غير مباشرة أشعرها أنّ ما يقدّمه للعالم.. أهم مما تقدّمه هي.
آينشتاين كان عبقريّاً بلا شك، وقدّم للعالم ما لم يقدّمه كل من سبقه، وحتى بعد الطلاق. ولكنّه حرم دولي والعالم مما كانت قد تكونه، وأنكر في أبحاثه أيّ دور لها في فترة كان فيها ضعيفاً وحتى هو كان يشكّ في علمه.
إيماني بفطرة الأمومة لدى المرأة ايمان قويّ، ولكن إيماني قويّ كذلك بأنّ هناك أحيانا نزعات أخرى ورغبات قد تتفوّق وتطغى وتنتصر على هذه الفطرة.
دولي لم تسعد يوماً في حياتها.. ولم ترد يوماً إنجاب أيّ طفل. وآينشتاين عاش يحمل ذنب أنّه حَرَمَ من يحب (دولي)، ممّا تُحب (العلوم)، وحوّلها لإنسانة لا تريد أن تكونها بسبب خضوعه لمجتمع حدّد لكل جنس، دوره.
وماتا على ذلك..
بعد مرور ١٠٠ عام على هذه القصّة، لا زالت تتكرّر كلّ يوم في مجتمعات كثيرة.
هذا هو دورك، وهذا هو دوره، وما غير ذلك لا يصحّ.. 

السبت، 23 سبتمبر 2017

هذا الحبّ المُستَحدث

بقلم شهلا العجيلي

يتحدّث (ويل ديربيشاير) في مقدّمة كتابه الذي يحمل عنوانَه مقالي هذا ( This modern love) عن الكيفيّة التي ولدت فيها فكرة الكتاب، وكيف حوّل تجربة شخصيّة مفعمة بالمعاناة إلى نجاح ساحق، إذ يعدّ كتابه هذا، وهو أوّل مؤلّفاته المكتوبة، من الأكثر مبيعاً عبر العالم منذ صدوره في العام 2016، عن دار (بينجون راندوم هاوس) في بريطانيا. ويشير إلى ما يسمّيه ألم الفقد بسبب الحبّ، ويرجو أن يشفي بهذا الكتاب مكابدات ملايين المحبّين! لقد استطاع أن ينجز مؤلّفه عن طريق التفاعل مع قاعدة عريضة من متابعيه على منصّات تواصليّة عديدة، وعبر تبادل الخبرات معهم، فكتب عن العلاقات الإنسانيّة في عالم ما بعد الحداثة الذي ينماز بواقعه الافتراضيّ، وبتعدّد وسائل التواصل التي تفرض أدبيّاتها على أرقّ عواطفنا وأكثرها خصوصيّة. استطاع (ديربيشاير) أن ينجو بالتواصل مع الآخرين من تفاعلات كادت تودي به إلى دوّامة الاكتئاب والفشل، وتمكّن أيضاً من مساعدة الآخرين على الشفاء. يقول إنّه حين انفصل عن حبيبته شعر بأنّه قد دفن جزءاً منه لن يستعاد إلى الأبد! لم يطلب عوناً ممّن يعرفهم، لكنّه بدأ بالبوح للغرباء عبر وسائل التواصل، وبدأ يتلقّى رسائل المواساة، ومن ضمنها تجارب وذكريات قاسية للآخرين. وحين صارت الرسائل بالعشرات بدأ يشعر ببعض الجدوى، وبدأت آلامه تسكن، وفارقه الشعور بالوحدة، وكأنّ طاقة الألم توزّعت، فتضاءل أثرها على الفرد، لتعود من جديد إلى شكل آخر من أشكال الطاقة الفعّالة والمحبّبة. نعم لقد أنجز كتاباً رائعاً!
يبلغ (ويل ديبريشاير) ثلاثة وعشرين عاماً، وهو صانع أفلام بريطانيّ، ومدوّن، ويوتيوبر، له ما يزيد على مليون متابع على اليوتيوب وإنستغرام، وتويتر، وتتضمّن الفـــــيديوهات الخاصـــــّة به، نصائح حول العلاقات الإنسانيّة، والصحّة الذهنيّة، وخطط العـمل، والثقافة اليوميّة غير العالمة، والرحلات، إنّه واحد من الذين يُطلق عليهم لقب (مدرّبو الحياة) أو (وسطاء حياتيين). 
أعلن عبر قنواته عن رغبته في منهجة العمل لتأليف كتاب عن العلاقات في هذا المجتمع، مجتمع ما بعد الحداثة، وعن تمايزاتها عن العلاقات في حقب أخرى، إذ يشير إلى أنّنا نعيش في مجتمع معقّد، وفي فضاء يكتنف النقيضين معاً: تواصل دائم وعزلة لا تريم! طرح على متابعيه ستة أسئلة، عن الذكريات، ولحظة الانسحاق أو التهافت نتيجة الانفصال، وعن المفردات المؤثّرة، والصور، والأفكار…فكتبوا رسائلهم، ونشرت على المواقع بشفافيّة. أجاب بعضهم برسائل طويلة، وبعضهم الآخر أجاب بعبارات مقتضبة، وبعضهم بكلمة أو بصورة، فأدرج ذلك في الكتاب وفاقاً لمنهجة محدّدة تأخذ بعين الاعتبار نوع الرسالة من غير تحرير، أو نقد، أو وصاية أخلاقيّة، ولم يتدخّل حتّى في القواعد أو الترقيم، لقد ترك الرسائل تتكلم عن أصحابها.
تقبّله جمهور واسع، وثق به، و آمن بهذا المشروع عبر العالم، من ثمانية وتسعين بلداً، إذ كان مجموع الإجابات 15570، موزعة على بريد Gmail ، وتويتر، وإنستغرام…وجاءت الردود من ثمان وتسعين بلداً في العالم، خلال ستّة أشهر، وكانت أعمار الأكثر مشاركة بين 16 و 24 عاماً ، وبلغ عمر أصغر مشارك اثني عشرعاماً، وعمر أكبر مشارك واحداً وثمانين عاماً! 
يشير (داربيشاير) إلى أنّ الحبّ في العصور الحديثة فكرة معقدة، فنحن متّصلون جدّاً، ولسنا كذلك في الوقت عينه، وإنّ كتابه قد يجيب على أسئلة حول سيرورة عالم ما بعد الحداثة في مجال العلاقات بين البشر، فهل يجعلنا التواصل الإلكترونيّ المتاح دائماً أقرب؟ هل تمنحنا المسافات سعادة حقيقية أو انكساراً حقيقياً؟ وهل يمكننا الحفاظ على العلاقات عبر المسافات، مضحّين باحتياجاتنا الأساسية في القرب الفيزيائيّ، والملامسة، والبوح وجهاً لوجه! من جهة أخرى علينا أن نكون مغتبطين بهذه الحقبة، إذ ما كان مستحيلاً في العصور السابقة صار عادياً اليوم، وقد فرض سلوكات وأدبيات جديدة ثوّرت طريقة تفكيرنا بالحب، وكيفية تفاعل واحدنا مع الآخر.
بــــدأ كتابــــه بســطر للشـــــاعــــــر الرومــــانسيّ كيتــس: “I have so much of you in my heart”، أحمل أكثرك في قلبي! وجاءت كثير من الإجابات شعراً، واكتنفت صوراً فنيّة، وإشارات ثقافيّة في الفنّ، والأدب، والسينما، والأغاني…سنجد بعض الرسائل تكتنفها المرارة، وبعضها بسيطاً وعفويّاً، وبعضها مضحكاً، وبعضها يحمل الامتنان، لكنّها مجتمعة تجعلنا نفكر باحتياجاتنا ورغباتنا الأساسية، وتعكس حقيقة المجتمعات الكوزموبوليتانيّة، وتفاصيلها اليوميّة، وتمنح في الوقت ذاته مادّة إنسانيّة اجتماعيّة نحتاج إليها في الكتابة، وتكشف عن الرغبات التي لا تشيخ. 
صُمّم الكتاب نتيجة لحركة على منصّات تفاعليّة عدّة، وهذا يمنحنا مجالاً خصباً للعمل تحت مظلّة نظريّة التلقّي، من غير تهميش المؤلّف طبعاً، وأعتقد أنّه لابدّ للنقد الأدبيّ بل الثقافيّ من توجيه اهتمامه نحو هذه الأنواع الناشئة من الكتابة، والتي ما تزال بعيدة عن التصنيف، بل بعيدة عن الاعتراف الرسميّ بها في ثقافتنا العربيّة، على الرغم من تفاعل الشباب معها بشكل يثير الأسئلة ويوسّع الهوّة الثقافيّة بين الأجيال، وبين أشكال الكتابة أيضاً. هل نعدّها كتابة وثائقيّة، أم أدبيّة؟ هل هي أدب اعترافات أم مدوّنات إلكترونيّة؟ لعلّها مصنّفات أخبار، أو قصص أدبيّة غير خياليّة…
لابدّ هنا من أن نرفع القبّعة لذلك الشاب الذي عرفناه في قرطبة، في القرن الخامس الهجريّ، إنّه ابن حزم الأندلسيّ، صاحب المغامرة الشجاعة في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والإيلاف)، الذي وضعه وله من العمر ثمانية وعشرون عاماً، هو حقّاً مغامرة رائدة ومبكّرة، وتحتاج قلباً رقيقاً، وجبلّة صافية، وذكاء فطريّاً، وثقافة، فأهل الطباع الخسيسة أبعد ما يكونون عن الشعور بالدقائق اللطيفة للقلب والعقل!
يشير مؤلّف (هذا الحبّ المستحدث) إلى اأنّ كل رسالة من هذه الرسائل حيوية، وقوية، وشخصيّة بطريقتها، وهي تتشابه ولا تتشابه، مثل قصص الحبّ عموماً، إذ لكلّ قصّة حب بداية، ووسط ،ونهاية. بدأت إحدى الرسائل بعبارة تقريريّة تقول: «إنّ الوقوع في الحبّ قرار يشبه قرارك أن تؤلّف كتاباً. «! تقول رسالة أخرى: «القطع المتناسبة تتلاقى، على حدّ قول فرانك سيناترا: غالباً أنتَ تحبّني بالطريقة ذاتها التي أحبّك بها!»، وتقول رسالة ناقدة: «قد يكـــون الوقوع في الحبّ أحياناً كالقفز في برميل مملوء بقناديل البحر، وعليك أن تخرج منه بأقلّ العضّات!»، ويختم صاحب الكتاب قائلاً : «مهما كان رأيكم، فالحبّ شيء مهم، بل الشيء الوحيد الأكثر أهميّة، الذي يمكن للإنسان منحه وتلقيه».

الأحد، 10 سبتمبر 2017

التدوينة باعتبارها جنساً مستقلاً

بقلم: ياسين عدنان
جريدة العرب 

يكاد التدوين الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي يتكرّس باعتباره جنسًا صحافيًّا خاصًّا، بل وأدبيًّا لدى البارعين فيه. فمثلما كان لدينا أدبٌ للرسائل يمكننا اليوم الزعم أن أدبا جديدا قيد التشكل في المشهد الإلكتروني هو أدب التدوين. إذ نبغ في أكثر من بلد عربي مدوِّنون بارعون تألقوا بشكل لافت وصار لهم مئات المتابعين و”المُليِّكين” والمُعلّقين يترقبون تدويناتهم الجديدة بفارغ صبر ويتفاعلون معها بحماس.

وبتعدُّد أقلام المدوِّنين تعددت أساليبهم وجماليات التدوين لديهم. ففيهم من يتوسّل البداهَة لغة ومنطقًا، ومنهم من يكتب بلغة شرسة غير مروّضة. فيهم من يتوسل الاستعارة وبينهم من برع في اقتناص المفارقات الفكِهَة. فيهم من يكتب بمزاج خاسر على الدوام، وفيهم من يصوغ تدويناته بروح مرحة ساخرة.

وفيهم من يقترح السُّرود والمحكيات الخفيفة، وفيهم من يكثّف التأملات والإشراقات الفكرية، وبينهم من يفضّل الاشتباك مع الشأن العام وقضاياه الساخنة. الأقلام متعدّدة والأساليب متباينة ومجالات التدوين متنوّعة، وفي البراح الإلكتروني الفسيح متّسعٌ للجميع.

لكن الملاحظ هو أن عددا من المدونين الذين لمعت أسماؤهم في الآونة الأخيرة سرعان ما انتقلوا إلى مجالات أخرى لم يكن التألق فيها مضمونا دائما. فمن انتقل منهم إلى عالم الصحافة سرعان ما وجد نفسه مُحاطا بالخطوط الحمراء، مطالَبًا بلجم حركته الحرة الرشيقة وضبطها على إيقاع الخط التحريري للجريدة.

وبينهم من اعتبر تدويناته التي أطراها شعب الفيسبوك مجرد تدريب على الكتابة الأدبية، فجازف باقتحام الأحواز الأدبية ليكتشف أن للجنس الأدبي إكراهات لم يوفَّق أغلب المدوِّنين الذين جرّبوا حظهم مع “سمك القرش” في أعالي السرد المزاوجة بينها وبين النَّفَس الحرّ المفتوح للتدوينة الإلكترونية. هكذا جاءت بعض أعمال المدوّنين الأدبية على طرافة مادتها فقيرة إلى التماسك والمتانة والبناء السردي المحكم.

ومع ذلك، يجب الاعتراف أن الكتابة الإلكترونية بشكل عام بدأت تنفث بعضا من روحها في الأدب الذي نكتبه اليوم، والمؤكد أنها بدأت تساهم جديًّا في تجديد أدب المستقبل. فقط يبقى علينا التفكير في التدوينة الإلكترونية باعتبارها جنسا أدبيا جديدا كالقصة القصيرة جدا وكالقصيدة الومضة مثلا، ونبحث في أسرار بلاغتها تماما كما اشتغلنا على بلاغة النادرة والمثل والأحجية والحكاية الشعبية.

والأهم هو أن نعطي للمدوِّن الإلكتروني قيمته الاعتبارية تماما كالشاعر والروائي والقاص، فلا يبقى حبيس نظرة دونية للتدوين تعتبره كتابة من درجة دُنيا أو تدريبًا حرًّا على الكتابة الصحافية والأدبية.

قبل أشهر فقط استقبل المغرب المدوِّنة الأميركية الشهيرة أماندا سيرني استقبال النجوم. خُصِّصت لها جولات سياحية وبرامج ترفيهية، وكان واضحا أن جهات في وزارة السياحة المغربية تعاملت بجدية مع هذه الزيارة في إطار خطّتها للترويج للمغرب كوجهة سياحية عالمية.

سبب ذلك أن أماندا سيرني فرضت اسمها في بلدها كمدوّنة وصار لها تأثير كبير على آلاف القراء، حتّى أنّ وزارة السياحة في بلد مثل المغرب ستخطب ودّ المدوّنة الشابة وتراهن على اليوميات التي ستكتبها أماندا من المغرب ويتلقّفها آلاف القرّاء في بلاد العم سام للترويج للبلد في أوساط الأميركيين.

فمتى يصير لمدوّنينا المؤثرين نفس الوضع الاعتباري ونفس التقدير دون أن يضطروا للتسلل إلى حياض الصحافة واقتحام المجال الأدبي لإضفاء القيمة على ما يكتبون؟