بقلم: ياسين عدنان
جريدة العرب
يكاد التدوين الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي يتكرّس باعتباره جنسًا صحافيًّا خاصًّا، بل وأدبيًّا لدى البارعين فيه. فمثلما كان لدينا أدبٌ للرسائل يمكننا اليوم الزعم أن أدبا جديدا قيد التشكل في المشهد الإلكتروني هو أدب التدوين. إذ نبغ في أكثر من بلد عربي مدوِّنون بارعون تألقوا بشكل لافت وصار لهم مئات المتابعين و”المُليِّكين” والمُعلّقين يترقبون تدويناتهم الجديدة بفارغ صبر ويتفاعلون معها بحماس.
وبتعدُّد أقلام المدوِّنين تعددت أساليبهم وجماليات التدوين لديهم. ففيهم من يتوسّل البداهَة لغة ومنطقًا، ومنهم من يكتب بلغة شرسة غير مروّضة. فيهم من يتوسل الاستعارة وبينهم من برع في اقتناص المفارقات الفكِهَة. فيهم من يكتب بمزاج خاسر على الدوام، وفيهم من يصوغ تدويناته بروح مرحة ساخرة.
وفيهم من يقترح السُّرود والمحكيات الخفيفة، وفيهم من يكثّف التأملات والإشراقات الفكرية، وبينهم من يفضّل الاشتباك مع الشأن العام وقضاياه الساخنة. الأقلام متعدّدة والأساليب متباينة ومجالات التدوين متنوّعة، وفي البراح الإلكتروني الفسيح متّسعٌ للجميع.
لكن الملاحظ هو أن عددا من المدونين الذين لمعت أسماؤهم في الآونة الأخيرة سرعان ما انتقلوا إلى مجالات أخرى لم يكن التألق فيها مضمونا دائما. فمن انتقل منهم إلى عالم الصحافة سرعان ما وجد نفسه مُحاطا بالخطوط الحمراء، مطالَبًا بلجم حركته الحرة الرشيقة وضبطها على إيقاع الخط التحريري للجريدة.
وبينهم من اعتبر تدويناته التي أطراها شعب الفيسبوك مجرد تدريب على الكتابة الأدبية، فجازف باقتحام الأحواز الأدبية ليكتشف أن للجنس الأدبي إكراهات لم يوفَّق أغلب المدوِّنين الذين جرّبوا حظهم مع “سمك القرش” في أعالي السرد المزاوجة بينها وبين النَّفَس الحرّ المفتوح للتدوينة الإلكترونية. هكذا جاءت بعض أعمال المدوّنين الأدبية على طرافة مادتها فقيرة إلى التماسك والمتانة والبناء السردي المحكم.
ومع ذلك، يجب الاعتراف أن الكتابة الإلكترونية بشكل عام بدأت تنفث بعضا من روحها في الأدب الذي نكتبه اليوم، والمؤكد أنها بدأت تساهم جديًّا في تجديد أدب المستقبل. فقط يبقى علينا التفكير في التدوينة الإلكترونية باعتبارها جنسا أدبيا جديدا كالقصة القصيرة جدا وكالقصيدة الومضة مثلا، ونبحث في أسرار بلاغتها تماما كما اشتغلنا على بلاغة النادرة والمثل والأحجية والحكاية الشعبية.
والأهم هو أن نعطي للمدوِّن الإلكتروني قيمته الاعتبارية تماما كالشاعر والروائي والقاص، فلا يبقى حبيس نظرة دونية للتدوين تعتبره كتابة من درجة دُنيا أو تدريبًا حرًّا على الكتابة الصحافية والأدبية.
قبل أشهر فقط استقبل المغرب المدوِّنة الأميركية الشهيرة أماندا سيرني استقبال النجوم. خُصِّصت لها جولات سياحية وبرامج ترفيهية، وكان واضحا أن جهات في وزارة السياحة المغربية تعاملت بجدية مع هذه الزيارة في إطار خطّتها للترويج للمغرب كوجهة سياحية عالمية.
سبب ذلك أن أماندا سيرني فرضت اسمها في بلدها كمدوّنة وصار لها تأثير كبير على آلاف القراء، حتّى أنّ وزارة السياحة في بلد مثل المغرب ستخطب ودّ المدوّنة الشابة وتراهن على اليوميات التي ستكتبها أماندا من المغرب ويتلقّفها آلاف القرّاء في بلاد العم سام للترويج للبلد في أوساط الأميركيين.
فمتى يصير لمدوّنينا المؤثرين نفس الوضع الاعتباري ونفس التقدير دون أن يضطروا للتسلل إلى حياض الصحافة واقتحام المجال الأدبي لإضفاء القيمة على ما يكتبون؟