بقلم شهلا العجيلي
يتحدّث (ويل ديربيشاير) في مقدّمة كتابه الذي يحمل عنوانَه مقالي هذا ( This modern love) عن الكيفيّة التي ولدت فيها فكرة الكتاب، وكيف حوّل تجربة شخصيّة مفعمة بالمعاناة إلى نجاح ساحق، إذ يعدّ كتابه هذا، وهو أوّل مؤلّفاته المكتوبة، من الأكثر مبيعاً عبر العالم منذ صدوره في العام 2016، عن دار (بينجون راندوم هاوس) في بريطانيا. ويشير إلى ما يسمّيه ألم الفقد بسبب الحبّ، ويرجو أن يشفي بهذا الكتاب مكابدات ملايين المحبّين! لقد استطاع أن ينجز مؤلّفه عن طريق التفاعل مع قاعدة عريضة من متابعيه على منصّات تواصليّة عديدة، وعبر تبادل الخبرات معهم، فكتب عن العلاقات الإنسانيّة في عالم ما بعد الحداثة الذي ينماز بواقعه الافتراضيّ، وبتعدّد وسائل التواصل التي تفرض أدبيّاتها على أرقّ عواطفنا وأكثرها خصوصيّة. استطاع (ديربيشاير) أن ينجو بالتواصل مع الآخرين من تفاعلات كادت تودي به إلى دوّامة الاكتئاب والفشل، وتمكّن أيضاً من مساعدة الآخرين على الشفاء. يقول إنّه حين انفصل عن حبيبته شعر بأنّه قد دفن جزءاً منه لن يستعاد إلى الأبد! لم يطلب عوناً ممّن يعرفهم، لكنّه بدأ بالبوح للغرباء عبر وسائل التواصل، وبدأ يتلقّى رسائل المواساة، ومن ضمنها تجارب وذكريات قاسية للآخرين. وحين صارت الرسائل بالعشرات بدأ يشعر ببعض الجدوى، وبدأت آلامه تسكن، وفارقه الشعور بالوحدة، وكأنّ طاقة الألم توزّعت، فتضاءل أثرها على الفرد، لتعود من جديد إلى شكل آخر من أشكال الطاقة الفعّالة والمحبّبة. نعم لقد أنجز كتاباً رائعاً!
يبلغ (ويل ديبريشاير) ثلاثة وعشرين عاماً، وهو صانع أفلام بريطانيّ، ومدوّن، ويوتيوبر، له ما يزيد على مليون متابع على اليوتيوب وإنستغرام، وتويتر، وتتضمّن الفـــــيديوهات الخاصـــــّة به، نصائح حول العلاقات الإنسانيّة، والصحّة الذهنيّة، وخطط العـمل، والثقافة اليوميّة غير العالمة، والرحلات، إنّه واحد من الذين يُطلق عليهم لقب (مدرّبو الحياة) أو (وسطاء حياتيين).
أعلن عبر قنواته عن رغبته في منهجة العمل لتأليف كتاب عن العلاقات في هذا المجتمع، مجتمع ما بعد الحداثة، وعن تمايزاتها عن العلاقات في حقب أخرى، إذ يشير إلى أنّنا نعيش في مجتمع معقّد، وفي فضاء يكتنف النقيضين معاً: تواصل دائم وعزلة لا تريم! طرح على متابعيه ستة أسئلة، عن الذكريات، ولحظة الانسحاق أو التهافت نتيجة الانفصال، وعن المفردات المؤثّرة، والصور، والأفكار…فكتبوا رسائلهم، ونشرت على المواقع بشفافيّة. أجاب بعضهم برسائل طويلة، وبعضهم الآخر أجاب بعبارات مقتضبة، وبعضهم بكلمة أو بصورة، فأدرج ذلك في الكتاب وفاقاً لمنهجة محدّدة تأخذ بعين الاعتبار نوع الرسالة من غير تحرير، أو نقد، أو وصاية أخلاقيّة، ولم يتدخّل حتّى في القواعد أو الترقيم، لقد ترك الرسائل تتكلم عن أصحابها.
تقبّله جمهور واسع، وثق به، و آمن بهذا المشروع عبر العالم، من ثمانية وتسعين بلداً، إذ كان مجموع الإجابات 15570، موزعة على بريد Gmail ، وتويتر، وإنستغرام…وجاءت الردود من ثمان وتسعين بلداً في العالم، خلال ستّة أشهر، وكانت أعمار الأكثر مشاركة بين 16 و 24 عاماً ، وبلغ عمر أصغر مشارك اثني عشرعاماً، وعمر أكبر مشارك واحداً وثمانين عاماً!
يشير (داربيشاير) إلى أنّ الحبّ في العصور الحديثة فكرة معقدة، فنحن متّصلون جدّاً، ولسنا كذلك في الوقت عينه، وإنّ كتابه قد يجيب على أسئلة حول سيرورة عالم ما بعد الحداثة في مجال العلاقات بين البشر، فهل يجعلنا التواصل الإلكترونيّ المتاح دائماً أقرب؟ هل تمنحنا المسافات سعادة حقيقية أو انكساراً حقيقياً؟ وهل يمكننا الحفاظ على العلاقات عبر المسافات، مضحّين باحتياجاتنا الأساسية في القرب الفيزيائيّ، والملامسة، والبوح وجهاً لوجه! من جهة أخرى علينا أن نكون مغتبطين بهذه الحقبة، إذ ما كان مستحيلاً في العصور السابقة صار عادياً اليوم، وقد فرض سلوكات وأدبيات جديدة ثوّرت طريقة تفكيرنا بالحب، وكيفية تفاعل واحدنا مع الآخر.
بــــدأ كتابــــه بســطر للشـــــاعــــــر الرومــــانسيّ كيتــس: “I have so much of you in my heart”، أحمل أكثرك في قلبي! وجاءت كثير من الإجابات شعراً، واكتنفت صوراً فنيّة، وإشارات ثقافيّة في الفنّ، والأدب، والسينما، والأغاني…سنجد بعض الرسائل تكتنفها المرارة، وبعضها بسيطاً وعفويّاً، وبعضها مضحكاً، وبعضها يحمل الامتنان، لكنّها مجتمعة تجعلنا نفكر باحتياجاتنا ورغباتنا الأساسية، وتعكس حقيقة المجتمعات الكوزموبوليتانيّة، وتفاصيلها اليوميّة، وتمنح في الوقت ذاته مادّة إنسانيّة اجتماعيّة نحتاج إليها في الكتابة، وتكشف عن الرغبات التي لا تشيخ.
صُمّم الكتاب نتيجة لحركة على منصّات تفاعليّة عدّة، وهذا يمنحنا مجالاً خصباً للعمل تحت مظلّة نظريّة التلقّي، من غير تهميش المؤلّف طبعاً، وأعتقد أنّه لابدّ للنقد الأدبيّ بل الثقافيّ من توجيه اهتمامه نحو هذه الأنواع الناشئة من الكتابة، والتي ما تزال بعيدة عن التصنيف، بل بعيدة عن الاعتراف الرسميّ بها في ثقافتنا العربيّة، على الرغم من تفاعل الشباب معها بشكل يثير الأسئلة ويوسّع الهوّة الثقافيّة بين الأجيال، وبين أشكال الكتابة أيضاً. هل نعدّها كتابة وثائقيّة، أم أدبيّة؟ هل هي أدب اعترافات أم مدوّنات إلكترونيّة؟ لعلّها مصنّفات أخبار، أو قصص أدبيّة غير خياليّة…
لابدّ هنا من أن نرفع القبّعة لذلك الشاب الذي عرفناه في قرطبة، في القرن الخامس الهجريّ، إنّه ابن حزم الأندلسيّ، صاحب المغامرة الشجاعة في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والإيلاف)، الذي وضعه وله من العمر ثمانية وعشرون عاماً، هو حقّاً مغامرة رائدة ومبكّرة، وتحتاج قلباً رقيقاً، وجبلّة صافية، وذكاء فطريّاً، وثقافة، فأهل الطباع الخسيسة أبعد ما يكونون عن الشعور بالدقائق اللطيفة للقلب والعقل!
يشير مؤلّف (هذا الحبّ المستحدث) إلى اأنّ كل رسالة من هذه الرسائل حيوية، وقوية، وشخصيّة بطريقتها، وهي تتشابه ولا تتشابه، مثل قصص الحبّ عموماً، إذ لكلّ قصّة حب بداية، ووسط ،ونهاية. بدأت إحدى الرسائل بعبارة تقريريّة تقول: «إنّ الوقوع في الحبّ قرار يشبه قرارك أن تؤلّف كتاباً. «! تقول رسالة أخرى: «القطع المتناسبة تتلاقى، على حدّ قول فرانك سيناترا: غالباً أنتَ تحبّني بالطريقة ذاتها التي أحبّك بها!»، وتقول رسالة ناقدة: «قد يكـــون الوقوع في الحبّ أحياناً كالقفز في برميل مملوء بقناديل البحر، وعليك أن تخرج منه بأقلّ العضّات!»، ويختم صاحب الكتاب قائلاً : «مهما كان رأيكم، فالحبّ شيء مهم، بل الشيء الوحيد الأكثر أهميّة، الذي يمكن للإنسان منحه وتلقيه».