أرشيف المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات من أوراق منتصف العمر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات من أوراق منتصف العمر. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 16 أغسطس 2020

كتاب " هذا أبي: عبدالله الخطيب، سيرة وذكريات "

كتابي الجديد 
" هذا أبي : عبدالله الخطيب ، سيرة وذكريات " 
الصادر في بيروت، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020 

أردت لهذا الكتاب أن يكون وفاءً لذكرى أبي في حياتي، وتذكاراً لمروره على هذه الأرض، التي مرَّ عليها ما لا نحصيه من الناس.
فهو كتاب في سيرة عبدالله الخطيب، التي امتزجت بسيرة مَن عرَفَهُ عن قُرب، ومَن كان قطعة من حياته.




 







الأحد، 2 فبراير 2020

حجابي في حياتي (في اليوم العالمي للحجاب)

رشــأ الخطيب


حجابي في حياتي (1)

في نهاية الأسبوع الاعتيادية التي نقضيها في إربد، لعبتُ مع ابن عمي ذي الثلاث سنوات في شرفة بيتنا الواسعة، وما زالت ابتسامته مطبوعةً في ذاكرتي، بأسنانه البيضاء الصغيرة وشعره الأسود.
 وصل الخبر بعد يومين؛ سقط عليٌّ من الطابق الأول في بيت جدي، ليستقر رأسه الجميل على الرصيف، ويغيب أياماً.. ثم قيل: رحمه الله!
كان رحيله مفاجئاً وحزيناً، جعلني أقرِّر ارتداء الحجاب، وأنا التي أعشق البنطلون وأؤجل فكرة الحجاب وأقول: "سأتركه إلى أن أصيرَ في الأربعين".. وكنتُ أظن الأربعين بعيدة!! فإذا هي تأتيك في عشيةٍ أو ضحاها!
قررتُ ارتداء الحجاب في سنتي الجامعية الثانية،

الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

رحلة في " أسرار باريس"


بقلم: رشأ الخطيب
لم تعد الكلمات اليوم كافية للتعبير عن الارتحال فيما نطلق عليه (أدب الرحلة)...
إن رحلة اليوم كما يمارسها الناس لا تكون مكتملة بلا (كاميرا)...يلتقط الرحالة اليوم صوراً في رحلاتهم أكثر مما يكتبون عنها، حتى الكُتَّاب منهم، فكيف يمكن للكاميرا أن تحلَّ محل القلم في أدب الرحلة اليوم؟
إن هذا كله يدعونا إلى أن ننظر إلى أدب الرحلة بعين نقدية جديدة.. ويدعونا إلى أن نرى أدب الرحلة في أعمال إبداعية متنوعة منها مثلا هذا البرنامج، فإنه

الأربعاء، 4 أبريل 2018

مذكرات نسائية: حبل الغسيل

21/9/2016
الغسيل ... من الأعمال المنزلية التي تقوم بها ربّات البيوت في مختلف بقاع الأرض، وقد تغيرت طقوس هذه العملية وما يرافقها على مرّ الزمان مع انتقال الغسيل من عملية يدوية إلى عملية آلية، ومن كمياتِ ملابس قليلة إلى إنتاجٍ وفيرٍ جعل الفرد العادي في يومنا يملك من الثياب في خزانته ما لم يكن يملكه كبار القوم في غابر الأيام.
ولعل من أشهر القصص وأجملها المرتبطة بالغسيل وطقوسه -أيام كان الغسيل يتم قرب مياه الأنهار الجارية- قصة تعارف الأمير الأندلسي محمد  بن عباد باعتماد الرُّمَيكية، التي كانت تقوم بعملها المعتاد في غسيل الملابس على ضفة نهر الوادي الكبير، وانتهى اللقاء بينهما بحكايةٍ ما زالت تُروى تفاصيلُها في الكتب وتحكي جمال الحب واستمراره من القصور إلى المنافي ثم القبور.
ومهما اختلفت طرائقُ غسيل الملابس بين الماضي والحاضر وبين منطقة وأخرى إلا أن (نشر الملابس) بعد الانتهاء من غسيلها هو مرحلة لا بدّ منها، ولم يكن ممكناً تجاوزها إلا عندما تمَّ اختراعُ مجففات الملابس الكهربائية، وهي ترفٌ قد لا تملكه إلا نسبةٌ معينة من العائلات في مجتمعاتنا الفقيرة التي تملك شمساً ساطعةً على مدار العام، وتملكها نسبة محدودة كذلك في المجتمعات الغنية التي تؤمن بترشيد استهلاك الموارد في بيئةٍ ملبدة بالغيوم تحتفي بالشمس أيّما احتفال لو انكشفت عنها الحُجُبُ سويعاتٍ في النهار.

ولأني من اللواتي تصيبهن لعنةُ الغسيل مراتٍ عديدة خلال الأسبوع كي تكفي متطلبات أربعة أطفال، فإنّ لي مع الغسيل قصةً لا تختلف عن كثيرٍ من قصص الفتيات، اللواتي قد لا يعرفن طريقاً للغسّالة إلا حين تصير الواحدةُ في بيتها، فتجد أنه لا مفرّ من قدرها الجديد في مواجهة أعمالٍ منزليةٍ تكون في انتظارها خلف الباب الذي تدخله بثوبها الأبيض ليلة الزفاف.
ولئن كان غسيلُ الملابس قد أضحى أمراً لا يسرق الوقت والجهد مع انتشار الغسالات الأوتوماتيكية، التي تعفي ربات البيوت من مراحل الغسيل العديدة التي ترهق البدن وتجفف البشرة وتذهب بساعات النهار ... فإن نشرَ الغسيل مسألةٌ أخرى، لم تتخلص منها الكثيرات مع اضطرارها لاستعمال الحِبال لتجفيف الملابس.
تتعدّد أشكالُ مجففات الملابس وتختلف من مجتمعٍ لآخر ومن دولةٍ لأخرى. وتكمن وراءها فلسفةٌ من نوعٍ خاص تجاه الحياة لا يدركه كثيرٌ من الناس. فإن كان أجدادُنا اتخذوا من أغصان الأشجار وحجارة الأسوار مكاناً  ترتمي عليه الملابس الرطبة حتى تجف، فقد فرضَ أسلوبُ الحياة  ونمط العمارة المعاصرة علينا أشكالاً متنوعةً لتجفيف الملابس  تلتقي في معظمها على فكرة الحبل الرفيع الذي  تُعلَّق عليه الثياب.
لكن السفر والتجوال في بلاد الله الواسعة الذي يمنحك فرصةً رائعةً لتدرك أن الناس من نفسٍ واحدة مخلوقون، لا يمنع أنّ لكلٍّ منهم طريقتَه في أسلوب الحياة التي يرتضيها وتختلف تفاصيلُها بين بلد وآخر، بما ينمُّ عن اختلافاتٍ ثقافية وراء تلك المظاهر التي قد نمرّ عليها مرورَ الكرام في جولاتنا السياحية.
أذكر أنني أول عهدي ببيتي وحياتي العائلية قد اتخذتُ شيئاً جديداً لتجفيف الملابس، وهو منشر الغسيل، فقد اعتادت أمي وجدتي وقريباتهنّ وجاراتهنّ أن ينشرنَ الغسيل على حبالٍ طويلة تمتد على أسطح المنازل والبنايات وساحات البيوت، تستعرض فيها كلُّ واحدةٍ نظافةَ القطع القماشية ونصاعة ألوانها وهي معروضةٌ فوق الحبال بطريقةٍ تسرُّ الناظرين قائلة: هذه شهادتي على أنني ست بيت!!

وعندما أخذتُ في تجهيز بيتي- أقدمتُ على شراء منشرِ الغسيل المعدني في تجربةٍ جديدة لم نعهدها في العائلة، وقد سررتُ بمتعة نشرِ الملابس على حبلٍ لا يتجاوز ارتفاعُه خصري، يمنح اليدين راحةً وهي تقوم بترتيب القطع فوق الحبال القصيرة التي لا تتجاوز مترا بنظامٍ لا استعراض فيه؛ لأن صاحبَ البيت وحده هو من يدرك جمال ذلك النظام، لا الجيران أو المتطفلين كما في نشرِ الملابس على حبالٍ طويلةٍ فوق أسطح البنايات أو الأماكن المكشوفة. وقد حباني اللهُ وقتَها في منزلي بشرفةٍ مشمسةٍ تتسع لمنشرِ الغسيل، فكانت تلك التجربةُ أولَّ شيءٍ أجده يسيراً من مراحلِ عمليةِ الغسيل المرهقة التي تستنزف الجهدَ والوقت... والتي لا بُدّ منها فوق هذا كله!!
وكما تُستَقبَل الأشياءُ الجديدةُ عادةً ما بين رفضٍ وقبول- انتشر الهمزُ واللّمزُ من عائلتي الجديدة بأنّ الغسيل يجب أن تضربه الشمس والهواء خارج الجدران، فما هذه الطريقة في نشر الغسيل أيتها العروس؟! كان هذا التعليق قد استقرّ في باطن عقلي خلايا نائمة تصحو على كل حبل غسيل يصادفني في الشوارع والبنايات وبيوت الأصدقاء وعلى الأرض أمام صالونات الحلاقين، ثم توارى ذلك التعليق حتى غاب. وصرتُ أرى أن الأصل في تجفيف الملابس في الشقق الحديثة هو تلك الحبال المعدنية القصيرة اليسير تناولها وتخزينها، بدل إضاعة الوقت في صعود الأدراج واعتلاء أسطح البنايات ورفع الأيدي لتعليق الأقمشة على الحبال العالية في استعراض مكشوف.
وقد واظبتُ على شراء منشر غسيل مناسب في كل بلد انتقلت للإقامة فيه، وكانت محطتي الأولى في أبوظبي المدينة الخليجية الحارة شديدة الرطوبة، التي يعيش عامة المقيمين فيها في أبنية شاهقة أو متوسطة الارتفاع تخلو معظم الأحيان من الشرفات التي قد تنفع لتجفيف الملابس، لكن الأجواء الحارة الرطبة تجعل تجفيف الملابس في الشرفات  أمراً عبثيا لا طائل منه إذ تعود الأقمشة أكثر رطوبة من ذي قبل وتصبح ذات رائحة غير طيبة، لكن الصورة النمطية لسيدات البيوت في بلادنا الشرقية تجعل الحبال خارج النوافذ وفي الشرفات وفي الأزقة الضيقة بين البنايات مشهداً مألوفاً في الأحياء . حتى اضطرت البلدية إلى منع تلك الممارسات تحت طائلة المخالفات بذريعة تشويه المنظر الحضاري للمدينة!
وكنتُ شخصياً أجد في تلك المشاهد تلوثاً بصرياً يؤذي الذائقة الحضارية للسكان ويجعلهم يعتادون هذه التشوهات (العمرانية) كما اعتادوا مناظر أكياس القمامة قرب الحاويات المخصصة لها!!
إزاء كل هذا رجعت إلى ما اعتدتُ عليه في بداية حياتي البيتية من نشر الغسيل على منشرٍ صغير، ولكن هذه المرة صار تجفيف الملابس داخل الشقة المكيفة وقرب النوافذ الواسعة صديقة الشمس. وقد نجح الأمر وتغلبت بذلك على ما كنت أعتقد أنه معضلة. وتكرر الاعتقاد بوجود المعضلة عندما انتقلت للإقامة في أقصى الشمال البريطاني في مدينة إدنبرة الاسكتلندية، حيث الأمطار الغزيرة طوال العام، وحيث الغيوم لا تكاد تغادرنا، وحيث الشقق الضيقة الخالية من الشرفات ..
وعندما سارعتُ للبحث عن (منشر غسيل) مناسب أعجبني أنني وجدتُ ضالتي  في تصميم جديد لم يفت الإنجليز أن يلائم نمط الحياة التي يعيشون، وكان أجمل ما في فكرة التصميم أنّ ما اعتدْنا عليه من تجفيف الملابس على شكل أفقي قد غدا عمودياً، في تصميم خاص لمنشر غسيل مناسب للمساحات الصغيرة تنتظم فيه الحبالُ المعدنية القصيرة فوق بعضها لا بجانب بعضها بعضاً؛ على نحو يتيسَّر فيه أن تقف الملابسُ الرطبة قرب لوحة التدفئة المركزية فتجفّ على نحوٍ أسرع من كونها على حبالٍ أفقية متراصة جنباً إلى جنب!
لم تنته قصتي مع نشر الغسيل حتى هنا، بل إنني في زيارتي للأندلس الحبيبة إلى قلبي ذات صيفٍ حار، وفي أثناء إقامتي في أحد البيوت القديمة في غرناطة، اضطررتُ لغسل الملابس، وحين فكرتُ في تجفيفها  لم أجد أمامي في الشقة الصغيرة شيئاً مناسباً لا أفقياً ولا عمودياً!! ثم التفتُّ من النافذة إلى الفناء الداخلي المجاور وهو ركن أساسي في البيوت الغرناطية العربية المستمدة فكرتها من (أرض الديار) في البيوت الشامية العتيقة، لأجد أن صاحبة الشقة المسـتأجرة قد أعدَّت مجموعةً من الحبال في المكان، وكأني أستعيد رائحةَ التاريخ المشترك بيننا، أستعيده في تاريخ أمي وجدتي وجارتي وقريبتي وغيرهن في بلادي، اللواتي أنفقن من أعمارهن ما تيسَّر منها في مهمة تجفيف الملابس على الحبال المعلقة على أسطح البنايات.
بعدستي.. من شوارع تل أبيب
 وهو التاريخ (المشترك) ذاته الذي التقطَتْهُ عيوني في مدينة تل أبيب على واجهات البنايات (الحديثة) في الشوارع المتواضعة التي تخترق وسط المدينة، حيث تنتشر الحبال التي تحمل الأقمشة من مختلف الأحجام والألوان، في مشهدٍ يحمل في داخله تناقضات المشهد السياسي المحيط بالمكان. لكنّ بعض اللمسات الفنية لا يضير؛ إذ تنتشر حول معظم حبال الغسيل   سواترُ بلاستيكيةٌ مفتوحة من الأسفل ومن الأعلى، وهي فقط تحيط بمكان تجفيف الملابس، وتستر قبح الأقمشة الرطبة عن العيون، بحيث لا يظهر لأعين المارّة منها شيء، وفي الوقت نفسه تبقى معرَّضةً للهواء الطلق حتى تجف تماماً. في محاولةٍ معقولةٍ للحفاظ على المناظر الحضارية اللائقة للمدينة، وفي الوقت نفسه لا يُظلم سكانُ الشقق المحرومون من الشرفات- من تجفيف ملابسهم بطريقة صحّية وطبيعية.
أما آخر وقفاتي مع حبل الغسيل فكانت قبل بضعة أشهر في الصين، التي شاهدتُ فيها شيئاً لم أره من قبل، ألا وهو نشر الملابس على شرفات الشقق والبيوت، بحيث تعلَّق كل قطعة على علّاقةِ الملابس العادية، ومن ثمَّ تُرفع تلك العلّاقة على سلسلةٍ حديدية عريضة قريبة من سقف الشرفة وتُترك الملابس لتجفَّ في الهواء، فترى الشرفات وقد تحوّلت إلى ما يشبه أن تكون خزانة ملابس لأحدهم مفتوحة أمامك تنظر إلى محتوياتها، ولكنْ ليس في غرفة جارك ... بل في الشارع!.
بعدستي.. مبنى سكن الطلاب
 في جامعة صن يات سين في مدينة  جوهاي/ الصين

الجمعة، 17 نوفمبر 2017

نوستالجيا: أغنيات وطنية

عاد ابني الصغير من المدرسة اليوم ليفرحني بخبر أنه قد حصل على درجة كاملة في إلقاء القصيدة الشعرية المطلوبة.. أفرحني ذلك وأنا أثق به في هذا؛ فهو يملك أداءً شعرياً وصوتاً جهورياً ومخارج سليمة للحروف وجرأة أدبية قد لا يتوفر عليها أطفال كثيرون من عمره.. ثم أحضر الكتاب وألقى أمامي بعض أبيات القاضي الجرجاني في عزة النفس.. بعد الانتهاء من إلقائها، فتح كتابه يريد أن يسمعني لحناً (اخترعه) لقصيدة سيأتون على دراستها بعد حين -لأنني ألحّن له القصائد عندما يدرسها-.. ثم بدأت الأبيات تتوالى على لسانه محاولاً أن يتغنى بها: "أردنُّ يا حبيبي.. على ذرى أردننا الخصيب.. الأخضر العابق بالطيوبِ.. الساحر الشروق والغروب.. سمعتُها تقول يا حبيبي".
... فاستوقفَتْني العباراتُ الشعرية تقرع زاويةً منسية من ذاكرتي وتفتح صندوقاً علاهُ الغبارُ فيها.. لتعاود الألحان انسيابها في تلافيف دماغي.. وعادةً ما يكون استطلاعي لشؤونه الدراسية وواجباته المدرسية حفراً في ذاكرة الطفولة- فقلت له: توقف، ألحانها ليست هكذا. ثم تلوتُ على مسامعه لحنَـها الجميل الذي أحفظه عن ظهر قلب، لكنه غاب فيما غاب من طفولتنا التي تغتال تفاصيلَها سنواتُ العمر اللاهثة نحو النهاية.. 
استمتعتُ وأنا أردِّد معه ألحانَ المقطوعة الشعرية الوطنية الخفيفة، اللطيفة على قلوب الكبار قبل الصغار.. ثم أنفقتُ شطراً من نهاري في ربوع اليوتيوب أبحث له عن أصل القصيدة مُغَـنّـاة كي يسمعها.. لأجدها متربعةً بحياء على صفحة اليوتيوب، وكانت المفاجأة أن الذي يغنيها هو مطربي المفضل المطرب السوري محمد جمال.. وقادت متابعة الأغنية إلى أغنيات أخريات من زمن جميلٍ مضى.. زمن الطفولة .. زمن الفن الراقي.. زمن الإبداع الذي كان فيه المبدعُ حقاً هو من يترك بصمة، لا كلُّ من هبَّ ودبَّ.. أو نَقَشَ نقطةً على ورقة .. أو دقَّ ريشة على وتر!!
قادتني الصفحاتُ إلى أغنيات وطنية جميلة من ذلك الزمان لا أدري أين اختفت؟! بل لماذا اختفت؟! أغنيات وطنية طافحة بالمعاني التي تعجز اليوم عنها كلُّ (الفجاجة) و(الضجيج) التي تمتلئ بها أغنياتنا التي توصف بـ(الوطنية)! 
أبرز ما يلفت الانتباه في تلك الأغنيات أن معظم الشعر الوطني الجميل الذي تربَّينا على كلماته كانت من كلمات الشاعر حيدر محمود.. وأن أداء الكلمات كان بحناجر ذهبية تملكها: نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وفيروز .. وأسماء لامعة أخرى في دنيا الطرب، لا أستطيع إدراجَها هنا في هذه المساحة الصغيرة في هذه الخاطرة.. وكانت المقطوعات الموسيقية في مقدمة الأغنيات، تحفةً فنية لا يقل جمال بعضها عن المقطوعات الشهيرة لأغنيات نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ ووردة وفايزة أحمد... وغيرهم من عمالفة الفن والطرب الأصيل.
لا بد أن كثيراً منكم يذكرون (نحبُّه..نحبُّه... كما تحبُّ الزهرةُ الندى..) ويذكرون (معه وبه إنّا ماضون.. فلتشهد يا شجر الزيتون..) ويذكرون (تزهو بعباءات الفرح الأخضر والشالات الوردية...) ويذكرون (أهداب حبيبي كرمة حبٍّ سلطية...).. ويذكرون (عمان في القلب)... وغيرها من أغنياتنا الوطنية القديمة.
أظن أن السر فيما مضى لم يكن في الزمن الجميل .. بل كان في العمل الإبداعي المتكامل: يبدأ من الكلمة الشعرية، ثم يتجسد في صوتٍ دافئ يؤديه، يرافقه اللحن الجميل (المتعوب عليه)... وليس كالأعمال (المسلوقة) التي تُنْجَز اليوم على عجل بمعايير ليس لها في الشعر والموسيقا والذوق الفني .. إلا صوت أجوف لا يُغْني شيئاً!

تجدون هنا بعض الشعر والصوت والموسيقا  الجميلة ..
من أجمل أغنياتنا الوطنية  



الثلاثاء، 7 نوفمبر 2017

نهايات

https://goo.gl/VThCpj


طالعتُ في أخبار الصباح خبراً مزعجاً عن مخرج سوري-أمريكي يدعى محمد بايزيد وزوجته الجميلة سماح صافي مخرجة كذلك، أو (صانعة أفلام) - كما يحلو لهما وصف عملهما-، كنت أتابعها على فيسبوك ... والخبر المزعج أن حادثة اغتيال المخرج بايزيد -التي تمت قبل نحو أسبوعين في اسطنبول، وأقلقتْ أصدقاءه ومتابعيه ومعجبيه على وسائل التواصل - هي حادثة مفبركة؛ هدفها مزيد من الشهرة والأضواء وجلب التمويل اللازم لفيلمه الجديد عن سجون النظام السوري!!
إلى هنا قد يبدو الخبر عادياً... وهناك تفاصيل كثيرة كشفت عنها حصرياً العربي الجديد -صحيفة إلكترونية- وأرفقت التفاصيل بفيديوهات لبايزيد في أثناء مكالماته مع شريكه في جريمة الاغتيال الوهمية يخططان لتنفيذها، وهذا الصديق هو نفسه الذي كشف اللعبة القذرة!  
تم تنفيذ العملية في اسطنبول وفق المخطط، وأسفرت عن طعنة بالسلاح الأبيض أصابت كتف المخرج الشاب، فانشغلت مواقع التواصل وقتها، خاصة على صفحة زوجته سماح بعبارات تواسيها وتدعو له بالشفاء والخلاص من  النظام السوري المتهم بأنه وراء محاولة الاغتيال المزعومة! ولكنْ كانت هناك أصوات خافتة تقول إن العملية مفتعلة وليست حقيقية!!فيما صدّق معظم المتابعين والمعجبين أن العملية حقيقية وأنا منهم ودعوتُ له في سري أن يشفيه الله مما أصابه.
ثم يتبين أن افتعال تلك الحادثة شيء صحيح، وأن المخرج الذي ينتمي إلى قافلة (باب النجار مخلع) قد فشل في حبك عملية اغتياله على نحو ما يفعل المحترفون، لتظهر لنا قدراته الحقيقية في الإخراج، الذي كان يملأ الدنيا به ضجيجاً على الصفحات الزرقاء!!
واتضح أن الفبركة صحيحة؛ فقد قام هو وزوجته بإغلاق صفحتيهما على فيسبوك تجنباً للمواجهة. وهذا يعزز صدق الصحيفة في خبرها وكذب المخرج على جمهوره من المتابعين والمتشوقين لمهنة صانع الأفلام  - وهي للمفارقة على وزن صانع الأوهام!!!- التي كان يعرضها محمد وزوجته سماح من خلال صفحتها بطريقة مبهرة جذابة مغرية إلى درجة كبيرة حدَّ الفتنة، حتى أنها فتَنَتْني وأنا بهذا العمر وأثارت إعجابي؛ لأن أسلوب صفحة سماح وتدويناتها ومنشوراتها، وكذلك أهم شيء صورها البالغة الأناقة، العالية الاحترافية لدرجة الإبهار، وقصصها وأناقتها ومجال عملها يضاف إليها حجابها ورفيقها شريكها الشاب والحب والسفر والمغامرة التي تجمعهما...كل ذلك كان يجعلها في عيون متابعيها ومتابِعاتها الصبايا خاصة، رمزاً جميلاً يُحتذى، ونجمة مضيئة تعمي الأبصار. 



كل هذا وإلى هنا أقول قد تبدو الأشياء عادية، وقد تحصل في أماكن كثيرة ومع أناس أُخر...
لكن الشيء غير العادي في الخبر أو في التفاصيل هو أن السؤال يبقى غُصّة في النفس: لماذا يختار أبطال القصص الجميلة أن يشوهوا جمالها بنهاياتٍ بشعة، نهايات أبعد ما تكون عن الروح التي بثوها في نفوس متابعيهم؟ لماذا يختار أصحاب الحكايات الحلوة ألا تنتهي حكاياتهم بجمال ونور وصفاء؟ لماذا يختارون أن يلطّخوا بقذارتهم طهر الحكايات، وأن يعكّروا نقاء الصورة ويطفئوا وهجها البهي؟!
كان وقع حادثة الاغتيال المزعومة شديداً على نفوس المحبين والمتابعين لبايزيد، خاصة أولئك الذين أعمتهم الثقة به إلى درجة الصدمة.
ربما يكون في هذا درس لكل شخص، وقد تعلمتُ بدوري الدرس مبكراً عن المشاهير، وهو أن لا يأخذك إعجابك ومحبتك لأي كان منهم إلى درجة (تأليه) و(تقديس) لا يستحقها على أية حال!! فقد وجدتُ – في أكثر من مناسبة- أن الاقتراب من المبدعين الذين أحبهم وتعجبني أعمالهم، يكون في الغالب صدمة لي، وتصبح معرفتهم عن قرب خيبةً للآمال ولمختلف التوقعات التي قد يبنيها الشخصُ حول أحد المشاهير.
يبدو أن حمى الإعلام الجديد ووسائل التواصل والرغبة المريضة لدى الكثيرين بالشهرة والأضواء وحب الظهور تجعل المفتون فيها يُقدِم عليها بتهورٍ  ويبذل في سبيلها ما يملك، حتى لو كان الثمن سُمعته : ماضيه وحاضره ومستقبله!

فلماذا نختار نهايات بشعة للحكايات الجميلة..لماذا نختار نهايات حقيرة للحكايات التي كان يمكن أن تبقى نماذج لقصص ناجحة  في العشق والعمل والإنجاز... ترسم للجيل أملاً في واقعٍ صعب تضيق آفاقه يوماً بعد يوم، حتى لتكاد تنطفئ فيه القلوب وهي تسعى وراء قلبٍ وفيّ أو روحٍ أمينة أو نفسٍ مخلصة لا تخون ولا تبيع مبادئها لقاء أي شيء!



الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

خواطر مسافرة في منتصف العمر: الرحلة إلى جامعة لايدن

... منذ أن قاربتُ على الانتهاء من مرحلة الدكتوراه، انقدحت في ذهني كثيرٌ من المشاريع البحثية، لكني لم أتمكن من إتمام شيءٍ منها كما أرغب!ولكني استجمعتُ عزمي وسعيتُ لتحقيق ما تأجل من أحلام وما تأخر، وصار لكل مشروعٍ بحثي أو ورقة أو كتاب- قصةٌ موازية حين عدتُ للعمل عليها من جديد، بعد أن كنت توقفت قليلاً مرغمة؛ في خضم صراعي مع الحياة. وربما يأتي اليوم الذي أحكي فيه حكايتي مع كل كلمة كتبتُها ومع كل بحث أو عملٍ أنجزته، كيف اعتصر من روحي ومن نفسي ما اعتصر.

مكتبة جامعة لايدن
كان حلمُ الوصول إلى جامعة لايدن يراودني في كل وقت، ووقف أحيانا ضيقُ ذات اليد عن إتمامه وأحيانا أخرى وقف في وجه ذلك الحلم ضيقُ ذات الوقت!! حتى تهيأت الفرصةُ بأمر الله لتحقيق الحلم قبل أسابيع، وهو في الحقيقة حلم على مرحلتين إن جاز التعبير- حققتُ الجزء الأول منه بالوصول إلى كنوز مكتبة جامعة لايدن، والجزء الثاني من الحلم بانتظار التحقيق في العمل على ما جمعتُه من هناك من مخطوطات وإخراجها إلى النور في دراسةٍ جديدة.
مكتبة جامعة لايدن من الداخل..المكتبة الآسيوية
رحلتي إلى لايدن كانت مختلفة وجميلة فاقت ما كنتُ أتوق إليه منها، فكانت هذه  اليوميات القصيرة التي هي أقرب للخواطر منها إلى نص إبداعي آخر!

الأسبوع الأول في مكتبة جامعة لايدن

اليوم الأول/ الثلاثاء 15/8/2017
كان الوصول إلى هذا المكان حلماً راودني مذ بدأتُ قراءاتي عن الاستشراق، إبان عملي على أطروحة الدكتوراه: الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية.
صورة العالم في كتاب الاصطخري
لكن التنقيب والقراءات العنقودية، قادتني من موضوع إلى موضوع، ليستأثر الاستشراق الهولندي باهتمامي؛ حين لاحظت أن الريادة الهولندية في هذا المجال وكذلك في الدراسات الأندلسية هي شيء تستحقه بجدارة.
وقد لا يكون لي باع  في تحقيق المخطوطات ونشرها، إلا أن من الأمور التي تثير انتباهي الشديد هو عملية انتقال المخطوطات العربية والإسلامية إلى تلك الديار البعيدة: ذلك أن قَدَرَها السعيد -برأيي- هو الذي جعلها تستقر في مكتبات أنيقة وبأيدٍ حريصة على المحافظة على رونقها وصلاحها طيلة قرون.

من كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف للطبيب الأندلسي الزهراوي 

 

عناية فائقة بالمخطوطات ومعاملة خاصة عند استعمالها والاطلاع عليها



صفحة من كتاب الحشائش لديسقوريدس  
في اليوم الأول كان لقائي ببعض الأساتذة الذين قرأتُ لهم وأعجز عن نطق أسمائهم الهولندية بشكلها الصحيح.. وكان كذلك لقائي ببعض تراثنا الغالي هناك محفوظاً كما تُحفظ المقتنيات التي لا تقدر بثمن...  فهناك وسائد خاصة لتصفح المخطوطات.. وعلب كرتونية لحفظها.. وغرف مجهزة بإضاءة مناسبة.. وعربات برفوفٍ متعددة تُحمَل عليها.. وعناية فائقة في لمس صفحاتها وتقليبها ومغازلتها بنظرة هنا أو لمسة هناك..
وهذه بعضها مما عايناه اليوم رفقة مجموعة مختارة من الباحثين من بلاد عديدة من أستراليا إلى أمريكا، يجمعنا اهتمام وعناية ودراسة... تحفظ لهذه الإرث مكانته في التراث الإنساني.

اليوم الثاني في لايدن

عندما كنت أقرأ عن هذه البلدة القريبة من أمستردام، التي شهدت بدايات تعليم اللغة العربية في هولندا منذ القرن السادس عشر  كانت المدينة في الغالب تشكو فقرا شديدا من وسائل تدريس هذه اللغة للراغبين بها، وكان رواد الاستشراق الهولندي قد بدأوا تعلم العربية على أنفسهم؛ يدرسونها، ويتعلمون مبادئها مما تيسر لهم  من مواد مكتوبة وصلت إلى أيديهم عبر مصادر شتى، كان منها بعض المكتبات الأوروبية التي اعتادت إعارة الكتب المخطوطة بين الباحثين على مستوى القارة الأوروبية.
 أما الحظ الكبير فكان أن يلتقي أحدهم في هذه البلدة بشخص عربي؛ فتتاح له فرصة أن يمارس شيئا منها في محادثة متبادلة معه.. لكن كان من النادر حدوث ذلك.
ولهذا عندما زار السفيرُ الأندلسي الموريسكي أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي- عندما زار هولندا في ١٦١٣ ، والتقاه المستشرقُ إربينوس، اصطحبه إلى منزله وأبقاه في ضيافته نحو شهرين، يتجاذبان أطراف الحديث ويتبادلان المناقشات العلمية في الأمور الدينية واللغوية.. في فرصة لم تتكرر حينها لغيره.
واليوم عندما تسير في المدينة الصغيرة العريقة الصاخبة بشبابها، المزدحمة بالمقاهي والدراجات، تصادفك في مواقع عدة كلمات عربية هنا وهناك.. وصبايا يعتمرن الحجاب فوق رؤوسهن.. وبشرة سمراء تلتمع تحت الشمس الساطعة..
لايدن..البلدة الجميلة
 تسير في الأزقة الحجرية الحمراء.. تملأ  أعقاب السجائر مسافاتها الفارغة بين القطع المتراصة على الأرض.. لتجد أن أربعة قرون من تدريس العربية وطباعة حروفها، كانت قادرة على إحداث التغيير!!
فاليوم تسير قليلا قرب الحرم الجامعي الذي يعد رئة البلدة حين وضعت أركانه في النصف الثاني من القرن السادس عشر. فترى الحروف العربية أمامك ترحب بك ترحيبا خفيا وظاهرا
في علاقة حب صامتة لا تدري أيهما يأخذ وأيهما يعطي؟!.
مقهى في لايدن..وقصيدة لأدونيس على واجهته


وهذا مقهى لطيف يقدم الساندويتشات الخفيفة المعطرة بتوابل بلادنا يستقبلنا بحروفه العربية الجميلة تزين واجهته الخارجية..فإن كانت حروفه ضياعا في عُرف أدونيس..فإنّا وجدناها في قلوب عشاق العربية.


اليوم الثالث في لايدن

تحقق الحلم!!! وصارت رسائل بعض الشخصيات العربية للمستشرقين الهولنديين بين يدي!!
لا أستطيع أن أصف شعوري عندما تسلمتُ علبة كرتونية رمادية اللون، تحتوي المجموع الذي يتكون من أوراق عديدة؛ هي رسائل ومسودات رسائل متبادلة بين مستشرقين هولنديين تبادلوها مع بعض المتحدثين باللغة العربية، الذين كانوا يساعدونهم في جمع المخطوطات العربية من الشرق بالشراء أو النسخ. 
وهذا جانبٌ قلّما التفتت إليه الدراسات التي اعتنت بالمخطوطات الإسلامية: فهرستها وتحقيقها ونشرها.

فبعض المخطوطات لها قصص طريفة حول كيف انتهى بها المطاف إلى غرفةٍ معينة.. في مكتبةٍ معينة.. في بقعةٍ معينة من العالم الأوروبي؛ الذي شهد نشاطا ملحوظا لجمع المخطوطات الشرقية خاصة في القرن السابع عشر إبان التأسيس لفرع جديد من الدراسات الجامعية هو ما عُرِف ب (الدراسات الشرقية) أو (العربية والإسلامية).
وتعلمنا هذه الرسائل أشياء كثيرة عن تجارة الورق ونسخ الكتب وتصديرها وبيعها للزبائن، الذين يطلبونها دون أدنى شعور بالذنب! وليس كما نضيق نحن اليوم عن استيعاب ذلك! فلم تكن جميع عمليات البيع غصبا ولا من وراء حجاب عبر وكلاء...
بل كان للكتب سوق رائجة يأتيها القاصي والداني، وتذهب للذي يدفع أكثر في بعض الأحيان.
كما تخبرنا هذه الرسائل عن جوانب من الحياة اليومية في ذلك الزمن متصل بالكتابة وتبادل الرسائل: إذ كان الناس حريصين على عدم إهدار الورق.. فيجيب المرسَل إليه  على ورقة المرسِل أو يطوي الورقة على نحو خاص ليكون جسدُها هو نفسُه غلافا لها .
وهكذا ساعدت هذه الرؤية لتدوير الورق على حفظ عدد من الرسائل مع الردود عليها... لا يقف الحديث عنها هنا!!

اليوم الرابع في لايدن
كيف تستعير الكتاب؟

في مكتبة جامعة لايدن لا يُسمح للطلبة بالتجول بين الرفوف...
وخدمة استعارة الكتب متاحة فقط من خلال الموقع الإلكتروني الذي يعمل بدقة وسرعة عالية.
الخزائن المخصصة لاستلام الكتب المستعارة
أما الخطوات فسهلة جدا... تجعل من المكتبة مكاناً خالياً من الفوضى والطوابير.
عليك أولا أن تبحث عما تريد استعارته في فهرس المكتبة الإلكتروني، ثم وعبر أيقونات خاصة تطلب ما تريد استعارته، وتنتظر ما لا يتجاوز الساعة، أن تصل إلى بريدك الإلكتروني رسالةٌ تقول إن المطلوب من الكتب جاهزة لاستلامها.

وهنا تأخذك خطواتُك إلى الطابق الأول حيث واجهات الخزائن السوداء، التي تشبه في فكرتها صناديق البريد العادية، وهذه الواجهات مزودة بشاشات صغيرة وماسحات ضوئية خاصة لبطاقات هوية المكتبة.
المسح الضوئي لبطاقة المكتبة
وتبدأ عملية استلام الكتب بهدوء يليق بمكتبة عريقة: إذ تمسح هويتك عبر الماسح الضوئي، فتظهر على الشاشة الصغيرة أعلاه رسالة تقول "افتح الخزانة ذات الرقم... ثم استلم ما طلبت".. فتذهب لاستلامها!
رسالة تخبرك بمكان الكتب المطلوبة
فتح الصندوق واستلام الكتب المطلوبة



التوجه إلى الصناديق المحددة في الشاشة الصغيرة

واجهة إرجاع الكتب المستعارة. وعلى اليسار النافذة المخصصة لترك الكتب 
إرجاع الكتاب بدفعه وتركه ينزلق على العجلات الصغيرة
هكذا في ثلاث خطوات بسيطة يكون الكتابُ بين يديك.
وإذا ما فرغت من الكتاب، تعيده في نافذةٍ صغيرة حيث تترك الكتاب ينزلق  فوق شريط متحرك كالذي تسافر عبره حقائب السفر ... بكل هدوء.. دون أن تعيق موظفَ المكتبة المنهمك في عمله، أو تضيع وقتك في انتظارٍ لا طائل من ورائه!
أترككم مع الصور. ..تغني عن الكلام!


صلاة الجمعة في لايدن

من الأشياء التي تستهويني في السفر: زيارة المساجد في غير البلاد العربية للصلاة فيها.
لا أدري ما الذي يجعلني أشعر أنها مختلفة عن بلادنا.. فهل هي كذلك حقاً؟!
اليوم بحثتُ عن مسجد قريب من مكتبة جامعة لايدن فوجدت مسجد الهجرة، واتجهت، بعد انتهاء المحاضرات، إليه لأداء صلاة الجمعة.
سألتُ زميلتي، الفتاة التركية زينب، عن المسجد فأجابت إنه مسجد للمغاربة.
 فقلت لها: لا يهمني لمن المسجد... (فأنا ذاهبة لأصلي)!!
مسجد الهجرة - لايدن
 اتخذتُ طريقي عبر الخريطة وشاهدتُ في أثناء سيري سيدات شابات وكهلات بالقفطان المغربي الزاهية ألوانه، فخمّنتُ في نفسي أنهن كذلك ذاهبات لصلاة الجمعة.
 ولكني بعد حين وصلتُ الزقاق المقصود، وراعني أن السيدات القريبات مني تابعن سيرهن، فقلت في نفسي: لعلي أخطأت التقدير؛ فلكل امرئ شأنٌ يعنيه يوم الجمعة وليس بالضرورة أن يكون الصلاة!
كانت الخريطة تقول إن باب المسجد على يسار الطريق، وإذا به مفتوح على مصراع واحد..فدخلت.. و(الزليج) المغربي يرحب بي على الجدران.
وجدت في المربع الصغير درجات على يساري تؤدي للطابق العلوي، وبابيْن أمامي واحد مغلق وآخر مفتوح.. فنظرت من الباب المفتوح وإذا برجل في القاعة، يقول قبل أن أبادر بالسؤال: إن مكان الصلاة للنساء هو من الباب المغلق. حاولت فتحه... فقال اطرقي الباب مرات عدة. وهكذا كان .. حتى صرتُ في قاعة الصلاة المخصصة للنساء في المسجد.
وحين جلستُ أتأمل المكان والحاضِرات انتبهتُ أن هناك باباً خلفياً للقاعة منه تدخل النساء وتخرج، غير الباب الذي عبرتُ أنا منه لدخول المكان.
وهكذا استعادت ذاكرتي السؤال المكرور ذاته: لماذا في مساجدنا العربية نتشبث بفكرة (الحريم) وفصل النساء في المساجد خلف جدران وبهذا الشكل الحاد؟ بينما في تركيا نفسها مبتدِعة (الحريم)، تدخل النساء المساجد رفقة الرجال من الأبواب نفسها.. بل إنه يمكنهن الصلاة خلف صفوف الرجال، لا يفصلهن عنهم إلا ساترٌ قماشي رقيق أو حاجز خشبي من (الأرابيسك)!!
أما الانطباعات الجميلة في مساجد العالم فهو هذا الهدوء اللطيف الخالي من ضجيج الصغار.. ثم ذلك الإنصات بصمت لخطبة الجمعة بالعربية ثم بالهولندية... إلى جانب تلك المودة والألفة التي تستقبلكِ بها السيداتُ اللواتي يأتين للمسجد؛ فقد صافحَتني وقبّلَتني تقريبا جميعُ السيدات الحاضرات، رغم أنهن لا يعرفنني وأنا أبدو بينهن غريبة بلا (قفطان)!


إجازة نهاية الأسبوع بين لايدن وأمستردام

كانت ليلة السبت مطيرة؛ لم تتوقف الأمطار عن الهطول بغزارة طوال الليل حتى موعد الشروق في اليوم التالي. فعدلنا أنا وزميلتي التركية زينب، عن خطة زيارة أمستردام وقررنا استكشاف البلدة في لايدن.
وقبيل الموعد المحدد للقاء فاجأتنا الشمس بأشعتها الذهبية تنتشر في كل بقعة..
 كان مكان اللقاء قرب المحطة الرئيسية فاتخذنا القرار بسرعة وقطعنا تذكرة القطار إلى أمستردام .. فاتَنا القطار الأول لأننا لم نفهم أين نقف لانتظاره!! 
وحين لحقنا القطار التالي تبيّن بعد عدة محطات أننا نسير في الاتجاه الخطأ، وأن علينا العودة إلى محطة المطار لركوب القطار الصحيح، الذي يصل بنا إلى المحطة المركزية في أمستردام!!
سوق الزهور في أمستردام


سوق الزهور في أمستردام

زيتونة.. في سوق الزهور في أمستردام

نخلة تعانق السماء في أمستردام





كنيس يهودي من معالم المدينة السياحية..في أمستردام
كان موقفا طريفا، فعاوتني ذكرى فيلم (همام في أمستردام) وأخبرت زميلتي التركية عنه. وأنا أخشى في قلبي أنه قد تكون زيارتنا للمدينة مغامرة أو مقلبا كالتي نشاهدها في السينما! 
وعندما وصلنا.. خرجنا من مبنى المحطة إلى الساحة الواسعة أمامنا المزدحمة بالبشر والقطارات والحافلات.. وتنقّلنا من مكان لآخر ونحن نسأل عن الجولات السياحية في المدينة، ووقفنا بعض الوقت في طابور طويل، فلما التقينا الموظفة المسؤولة، تبين لنا أننا نسأل شركة أخرى عن الرحلة التي نريدها😭 ولم تتقبل الموظفة الإجابة عن جميع استفساراتنا قائلة إنها لا تقدم خدمات مجانية كمرشدة سياحية!!
خرجنا إلى الساحة من جديد، لنلتفت قليلا فنعثر على ضالتنا..إنه الباص الأحمر المكشوف!
وهكذا كان.. اتجهنا للباص لنسأل عن مكان شراء التذاكر، وكان هناك طابور طويل يقف بانتظار الصعود لبدء الرحلة.. وإذا بالشاب الأشقر المسؤول يقول: لقد وصلتم؛ يمكنكم ببساطة شراء التذاكر في الباص... ولكن قفوا خلف طابور المنتظِرين.
أسرعنا إلى نهاية الصف ووقفنا... وكان الناس يصطفون على طول نحو عشرة أمتار.
وإذا بالشاب الأشقر يسارع إلينا قائلا: لا لا... الطابور يبدأ من هناك. وهو يشير إلى الرصيف المقابل، وإلى طابورٍ طويل آخر يزيد على عشرة أمتار كذلك😃
فأخذنا نغذّ السير إلى حيث أشار، ونحن لا نملك من أمرنا شيئا. ووقفنا في الانتظار تحت الشمس لنحو ساعة تقريبا!!
لكن كان من حسن حظنا أن هذا الانتظار الطويل قد انتهى إلى أن نكون أول الراكبين في الباص، فاتخذنا مقاعدنا في الدور العلوي في الصف الأول من المقاعد.
والباص بطبيعة الحال مزود بشروح بمختلف اللغات - ومنها لحسن حظي بالعربية- للمحطات السياحية التي يتوقف عندها في أثناء جولة استكشاف المدينة. 
هذه كانت البداية الطريفة للجولة في أمستردام، المزدحمة بالسياح خاصة يوم السبت..
ثم اتخذنا سبيلنا في الطرقات بين المحطات السياحية المختلفة من متاحف وشوارع وجسور تنتظم المدينة الجميلة بطبيعتها الساحرة ما بين الخضرة والماء والوجوه الحسنة التي تؤمها..
وانتهى بنا المطاف بعد الجوع بوجبة شاورما لذيذة في المطعم التركي  علي أوجك باشا..

أما ظهيرة يوم الأحد فكان برنامج الجامعة قد أعد للمشاركين جولة بالقارب في بلدة لايدن الصغيرة؛ للتعرف إلى بعض معالمها عبر القنوات المائية التي تخترق المدينة، التي تتخذ كغيرها من بعض المدن الهولندية شكل النجمة؛ كي يسهل الدفاع عنها أمام الأعداء. مما يجعلنا نستعيد مغامرات القراصنة  ونستحضر  الاسفنجة الصفراء (سبونج بوب) في حلقات المسلسل الشهير الذي يبدأ بالقرصان الهولندي!!.
ومن الطريف في هذه الجولة هو ما في حركة السير عبر القنوات المائية من نظام يتواضع عليه قباطنة المراكب..
فالجسور المقامة بين الشوارع والأزقة فوق الماء منخفضة، وفي بعض الأحيان تستدعي من الركاب انخفاضا شديدا كي يتم مرورهم بأمان تحتها، وتستدعي من قبطان كل مركب الحذر والتمهل الشديد في أثناء القيادة، وإعطاء الأولوية، وانتظار مرور المراكب الأخرى في حال عجقة السير. 




البيوت العائمة..والسيدة تنشر الغسيل على شرفة (البيت)

كما كان من اللافت للنظر، تلك الإشارة المرورية التي يُمنع فيها استعمال الموسيقا تحت الجسور!!
وتلك البيوت العائمة الراقدة بسلام على جنبات القنوات. وهي بيوت يعيش فيها الناس حياتهم كغيرهم ممن يعيشون على الأرض..لكن المار إلى جانب تلك المنازل يشعر أن ساكنيها هم في نزهة مستمرة.. على الرغم من منشر غسيل الملابس.. وأواني النباتات قرب النوافذ.. والشرفات المزينة بالزهور.. والمقاعد المعَدّة للاسترخاء.

كل هذا المشهد الفاتن من الخضرة والماء  والهدوء الساحر.... استدعى إلى ذهني ممارسات السائقين لدينا في بلادنا... وصرت أتساءل بيني وبين نفسي: ماذا لو أن مثل هذه القنوات المائية كانت في بلدي، كيف ستكون القيادة؟؟ وكيف سيكون سطح الماء مليئا بقشور المكسرات وأعقاب السجائر وبقايا المناديل الورقية؟؟ وكيف سنملأ الاجواء ضجيجاً وخناقاً نعرف مثله في شوارعنا!!
لا أريد تخيل المنظر.. أريد أن أبقى في الواقع الجميل للمدينة الذي أنقله لكم في هذه الصور!!





الأسبوع الثاني في مكتبة جامعة لايدن

بين يدي المخطوطات الإسلامية
لا بد لمن يقارب الاستشراق بالدرس أو القراءة العابرة، أن يقرع سمعه اسم مكتبة لايدن مراراً وتكرارا؛ فهي واحدة من أقدم المكتبات الجامعية في أوروبا التي اهتمت بالدراسات الشرقية: عربية وإسلامية، إبان تأسيس الجامعة في الربع الأخير من القرن السادس عشر.
ولا بد أن الوصول إلى المجموعة الشرقية المميزة المحفوظة فيها هو شيء مميز كذلك.
ولقد كان من وصولي إلى هذا المكان قد فتح ذائقتي على تلك التساؤلات التي تستنطق تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها أصحاب تلك المخطوطات، سواء من المؤلفين أو النُّسّاخ  أو الراغبين فيها، فكان اهتمامي بها موضوعاً للبحث الذي أقوم به حاليا.
ولكن ذلك لا يمنع من أن ألتفت إلى  تفاصيل أخرى تعيشها المخطوطات الإسلامية، التي انتقلت بوسائل شتى حتى استقرت في تلك البلاد بعيدا عن مواطنها التي رأت النور فيها..
ولمكتبة لايدن طريقتها اللطيفة في التعامل مع هذه الكنوز التي يعرفون قيمتها حق المعرفة.
قاعة المطالعة في قسم المجموعات الخاصة في مكتبة جامعة لايدن
إن أول ما يجب أن تعرفه هو أن مكتبة لايدن تحفظ المخطوطات الشرقية ضمن المجموعات الخاصة بالجامعة.
وقد كنت أتخيل أن مخطوطاتنا تلك ستكون عظيمة الحجم وضخمة، كمثل تأثيرها في عالم المعرفة الإنساني! ولكني أخطأت؛ إذ وجدت المخطوطات الشرقية محفوظة في غرفة خاصة خلف الأبواب بعيدة عن العيون. وهي التي كانت محفوظة في خزانة متوسطة تظهر في اللوحة الزيتية التاريخية لقاعة المكتبة..
ولكن ومع ذلك فإنه يُسمح للباحثين أو الطلبة الاطلاع على مايشاؤون من تلك المخطوطات بيسر؛ وذلك من خلال الطريقة التي حدثتكم عنها سابقا لاستعمال الكتب واستعارتها في المكتبة: وهي الطلب من خلال الفهرس الإلكتروني للجامعة، ثم يجري تحضير المخطوطات المطلوبة في مكان خاص هو قاعة مطالعة المجموعات الخاصة، وتقديمها للباحثين مقابل البطاقة المكتبية.. فقط!
وقد قمت بتلك الخطوات وطلبت ما أريد من كتب مخطوطة للاطلاع عليها.. وصلتني رسالة عبر الشاشة تقول إن المواد متوافرة في قاعة المطالعة.
وهنا تأتي الأناقة والحرص في التعامل الحقيقي مع تلك المواد الرقيقة، التي قد تتلفها نسمة هواء تجفف ما بقي في الأوراق من رواء.
إذ ينبغي استعمال وسادة  كبيرة (٩٠/٦٠سم) تحت الكتاب المخطوط؛ حتى يكون  في مأمن من الثني أو سقوط الأوراق أو تمزقها.
وتتيح لك المكتبة سلاسل خاصة مغلفة بقماش مخملي ناعم، وهي بطول نحو ٥٠ سنتمترا تعمل (ثقّالة)؛ يمكنك استخدامها من أجل بسط الصفحات برقة، دونما حاجة إلى استعمال يديك لتثبيتها.
وهذا يساعد على أن تكون الأوراق مسطحة كما ترغب، وتكون في مأمن من الخدوش المحتملة.
وقد كان من بين المخطوطات التي أعمل عليها، واحدٌ يتألف من مجموعة أوراق خاصة لا يجمعها مجلد، وهي محفوظة في صندوق كرتوني صغير رمادي اللون، وكل عشرة أوراق منه مضمومة في داخل صفحة ورق أبيض كي يسهل حملها والنظر فيها. لكن المدهش أن الموظفة قبل أن تسلمني المخطوط المطلوب قامت بتوزينه على ميزان دقيق خاص يشبه موازين الصاغة وبائعي الذهب ولكن بحجم أكبر!!
وهكذا حين يتم إرجاعه تقوم الموظفة بالتأكد منه بوزنه من جديد؛ خوفا من أن تضيع ورقة من أوراقه.
تثير هذه الدقة والرقة في التعامل مع إرث المخطوطات تقديرا وإعجابا يجعلنا نحمد الله في كثير من الأحيان أن سخر الله لهذه اللغة من يهتم لأمرها ويعتني بحروفها!
وأختم خواطري هذه، بإخباركم أنه في قاعة مطالعة المخطوطات من المجموعة الخاصة يُمنع اصطحاب المتعلقات الشخصية كالحقائب وغيرها. ولهذا الغرض خصصت المكتبةُ مجموعة من الخزائن سهلة الاستعمال قرب باب القاعة تحفظ فيها حقيبتك.. وهي مزودة بطريقة سهلة لإغلاقها وفتحها عن طريق رقم خاص تبتدعه أنت؛ بلا حاجة لأن تحمل بيدك مفتاحا صغيرا قد يضيع أو يحتاج جيباً...!!
كل هذا في مكتبة بالغة الأناقة والعملية في الوقت نفسه.. ومفعمة بالهدوء شبه التام؛ ترى الجميع فيها منغمساً في عمله، فتدرك أين تكمن قوة المعرفة وسر التقدم للأمم التي تريد أن تضع لها موطئ قدم بين الأمم المتحضرة.


الأسبوع الثاني في مكتبة جامعة لايدن

صباح الثلاثاء

يبحث أهل العلم والاختصاص عن المصادر العديدة مخطوطة أو مطبوعة، أو محفوظة في أشكال أخرى، ولكن قلةً منا من يفكر بأولئك الذي يقومون على صناعة الكتاب، وربما دون أن يقرؤوا من سطوره شيئا!

فمن المهمات الملحقة بالعناية بالمخطوطات مهنة ترميمها؛ للحفاظ عليها قابلة للاستعمال والتداول بين الأيدي. وهذه مهنة يعرفها كثيرون.

لكن محاضرة اليوم أخذتنا إلى جانب تقنيّ آخر للعناية بالمخطوطات ألا وهو رقمنة المخطوطات. تحدث إلينا فيها لنحو ساعتين شاب يعمل في رقمنة المخطوطات المتنوعة حول العالم.. وتحويلها إلى العالم الإلكتروني؛ كي تكون تحت تصرف عدد أكبر من المهتمين.

وما أن انتهت محاضرته الجميلة حتى كان شغفه الظاهر قد انتقل إلينا؛ حتى ليكاد الواحد منا يترك مجال بحوثه ويلتفت إلى التصوير!

وهذا ربما نعده شيئا سهلاً؛ لأن الهواتف الذكية الحديثة قد قلبت مفاهيم كثيرة في العالم الحديث ومنها كذلك مفاهيم التعامل مع المخطوطات؛ إذ طالما سمعنا من شيوخنا سعيهم وراء المخطوطات وانهماكهم في طلب نسخ مصورة على الورق أو على ميكروفيلم، أو غيرها من وسائل.. وطالما قرأنا عن المستشرقين كيف كان الواحد منهم يمضي وقته بين المكتبات ينتسخ الكتب ليحتفظ بنسخته الخاصة منه..

ومع هذا فإن هذه المهمة ما زالت مهمةً يضطلع بها متخصصون؛ على الرغم من توافر الهواتف الذكية والكاميرات الأذكى بين يدي الجميع.

واكتشفت اليوم أن مغامرةَ تصويرِ مخطوطة- هي أكثر من مجرد click على زر التصوير!!

ولا يحتاج الأمر من المهتمين كثيرا من المال لتبدأ العمل بل إن كاميرا عادية قد تفي بالغرض إذا التفتّ إلى الأدوات الصغيرة الأخرى الرخيصة الثمن، التي تعينك على عملك لتهيئة أفضل الظروف لالتقاط صور للمخطوطات المطلوبة.

مساء الثلاثاء
المبني الأكاديمي التاريخي لجامعة لايدن

في الخامسة مساء كان موعدنا لزيارة المبنى التاريخي القديم لمكتبة جامعة لايدن الذي يقبع في كنيسة جميلة البنيان متوسطة الحجم . وعُمر المكتبة من عمر الجامعة نفسها التي تأسست في ١٥٧٥ ، وقد عُدِّل مبنى الكنيسة ذي السقف الشاهق الارتفاع ليصبح طوابق عدة مرتبة من الأعلى حسب رفعة التخصصات، لتحتل الإلهيات الطابق العلوي تليها الفلسفة والفنون اللبرالية ثم يأتي الطب في أسفل المبنى.
صورة من الإنترنت للأستاذ يلقي محاضرته في لايدن

كانت الجولة داخل المبنى التاريخي لطيفة باختلاف الغرف التي زرناها.. ولكل غرفة منها حكاية.

ففي الطابق الأول الغرفة المخصصة لمناقشة أطروحات الدكتوراه، التي كانت مفتوحة للعامة وعائلات الطلبة، وربما تستمر ساعات طويلة تناهز سبعا أو ثماني حتى غُيرت القوانين وقيدت ب٣ساعات فقط.
في غرفة مناقشة أطروحات الدكتوراه. وفي الوسط المنصة الخاصة ليقف الطالب عليها ثم يرتقي الدرجة العليا ليلقي محاضرته بعدها.

وفي القاعة يقف الطالب، مدافعا عن أطروحته وآرائه، على الدرجة الأولى من الهيكل الذي أقف عليه في الصورة..

وحالما ينتهي من الدفاع ويجتاز المناقشة يرتفع الطالب إلى الدرجة العلوية الثانية، ويقف أمام جمهور الحاضرين؛ يقدم محاضرته الجامعية الافتتاحية الأولى..


ومن على هذا المنبر قدّم أستاذ العربية في جامعة لايدن توماس إربينوس محاضرته الافتتاحية سنة ١٦٢١م، وكانت حول أهمية تعليم اللغة العربية وتعلمها في البلاد المنخفضة.



توقيعات مميزة

توقيعات الخريجين حتى على الطاولة

سلم ..يساعدك في الوصول حيث تشاء أن تضع توقيعك

أما الغرفة القريبة منها فهي الغرفة التي كان يجلس بها الطلبة بانتظار المناقشة ثم تحولت في القرن ال١٨ إلى مكان يسجل فيه الطلبة بعد اجتيازهم المناقسة بنجاح- يسجلون توقيعاتهم على الجدران أعلاها وأسفلها وعلى سطح الطاولة... وفي كل نقطة من الغرفة يمكن أن تصلها أيديهم ويساعدهم في ذلك سلم مخصص لهذا الغرض! ويمكنكم رؤية توقيعات مميزة منها توقيع نيلسون مانديلا الذي حاز الدكتوراه الفخرية هنا. وبعض توقيعات الملوك والأمراء الذين مرّوا في دراستهم بهذه الجامعة.



وقريبا من تلكما الغرفتين خزانة زجاجية تضم الرداء الخاص بالأساتذة الجدد أو طلبة الدكتوراه.. وهذا الثوب مصنوع من الحرير الدمشقي الفاخر ويعود إلى القرن السابع عشر.
وبمناسبة الأثواب الخاصة بالمناقشة فهناك غرفة مخصصة لأثواب الأساتذة في الجامعة مع تعليمات خاصة بكيفية ارتداء ربطة العنق!!

غرفة الأرواب الجامعية
صورة أمير أورنج مؤسس جامعة لايدن تتوسط غرفة بورتريه أعضاء هيئة التدريس


أما الغرفة الأخيرة في الزيارة فكانت غرفة اجتماع أعضاء مجلس الجامعة..التي تحولت اواخر القرن الثامن عشر لتكون ما يشبه معرضا دائما للوحات بورتريه لأساتذة الجامعة بحجم متشابه..مع صورة كبيرة لأمير أورانج وابنه الأمير موريس الذي كان له الفضل في إقرار بناء الجامعة التي تمت بعد موافقته بنحو شهرين فقط!!

الأسبوع الثاني في مكتبة جامعة لايدن
طوق الحمامة... مع كل الحب😍💖

قبل دقائق كان مخطوط طوق الحمامة بين يديّ.. نعم! حملتُه بيديّ هاتين في القاعة المخصصة لمطالعة مخطوطات المجموعة الخاصة لمكتبة جامعة لايدن.
ويعرف عشاق الأندلس وعشاق الحب في كل مكان هذا الكتاب في الألفة والأُلّاف.. ويستمتعون بقصصه وأبوابه الغرامية اللطيفة، التي تكشف كيف كان ابن حزم الفقيه الأندلسي، ابن القرن الخامس الهجري، رقيق القلب عاشقا للشقراوات وذوات البشرة الفاتحة!
لكن الذي لا يعرفه عامة الناس أن هذه النسخة المحفوظة قريبا مني هنا، هي النسخة الوحيدة في العالم التي حفظت سِفر الألفة والألّاف من الضياع في دروب التاريخ.
أما كيف وصل مخطوط الكتاب إلى هذه البلاد البعيدة في الشمال الأوروبي؛ فإنه لم يكن قد عرف طريقه إلى لايدن من قرطبة القريبة، بل لقد سلك طريقا طويلة من المشرق ليستقر هنا في غرفة المجموعات الخاصة للمكتبة.
 كان الكتاب قد نُسخ على نحو مختصر من النسخة الأصلية، على يد ناسخ يدعى محمد بن عثمان في سنة ٧٣٨هجرية، واستقر في المكتبة الخاصة لحاجي خليفة (كاتب جلبي) الشهير في القسطنطينية.. ليأتي أحد تلامذة المستشرق خوليوس أستاذ العربية والرياضيات في جامعة لايدن، وهو السفير الهولندي في اسطنبول ليفي وارنر، الذي استقر في المدينة لنحو عشرين عاما بين ١٦٤٤_١٦٦٥.. ويشتريه من مكتبة حاجي خليفة نفسه. ليؤول مخطوط طوق الحمامة بعد وفاته سنة ١٦٦٥ إلى مكتبة لايدن؛ ضمن تركته التي خلفها. وليبقى هذا الكتاب طي الجهل والنسيان، حتى رأى نور المطبعة للمرة الأولى على يد الروسي بتروف في ١٩١٤.
وليعرف العالم كله من بعده هذا السفر الأندلسي الفريد في الحب والمحبين.

ملاحظة: هناك نسخة مصورة رقمية للمخطوطة متوافرة على شبكة الإنترنت ويمكن تحميلها مجانا.


اليوم الأخير 
في وداع لايدن

كانت الطريق إلى لايدن مزروعة بالآمال وكان الحلم بعيدا.. ثم صار في اليد.

أسبوعان من الإبحار في عالم المخطوطات الإسلامية في مكتبة جامعة لايدن يجعل كلَّ نفيسٍ رخيصاً في سبيلها، وكأننا نستعيد التاريخ، فنعود أدراجنا نسير في أثر حروفنا العربية المسافرة من يد إلى أخرى، حتى وقعت موقعها في هذه المدينة الصغيرة، التي سطرت اسمها من ذهب في تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا. وما زال صداها يبعث في نفوس الباحثين ارتياحاً وسعياً نحو مزيدٍ من البحث والتنقيب في كنوز الحروف العربية التي تضمها جدران المكتبة الجامعية.
لم تكن مدة أسبوعين كافية للتنقيب الحقيقي في تلك الآثار والكنوز لكنها فتحت طاقاتٍ من نور قد كانت بعيدة عن ناظري.
في وداع لايدن... سأفتقد أسبوعين من المحاضرات والعمل الجاد المتواصل، رفقة زملاء من شتى البلاد، يجمعنا اهتمامٌ معرفي علمي بهذا الإرث الإنساني الذي حقَّ لنا أن نفخر به أيّما فخر!
الآن لن أكتب عن المكتبة بل عن الطريق إليها.. في جوّ يناقض تماما مدينتي الجبلية الجافة عمان.
لايدن المدينة الجميلة ترقد على قنوات مائية تتغلغل في حياة الناس اليومية؛ فأنت في أقصر طريق يومي تسلكه من مكانٍ لآخر لا بد أن تعبر فوق أحد جسورها. في طريقي للمكتبة أعبر اثنين من تلك الجسور في أقل من عشر دقائق أمشيها من مكان إقامتي.
وللماء رفقة خاصة: إنه ماء أخضر رقراق.. يكاد يخلو من أشياء تطوف على صفحته، باستثناء الزنابق البيضاء والإوز والبط العائم فوقه بسلام.
فيالهذا المشهد الصباحي الذي يرتسم قبالة عينيك وأنت تسعى في درب هذه الحياة. بعيدا عن أزمة السير وعجقة المركبات.
فغالبية الناس هنا تعتمد على الدراجات الهوائية للتنقل من مكان لآخر.. يصادفك في الطريق الرجل ببدلة أنيقة وربطة عنق بديعة وحقيبة عمل تشي بعملٍ مرموق، وهو يستقل دراجته في الهواء النقي في رياضة صباحية تمنحه نشاطاً، لا أظن أن قيادة السيارة تمنحنا إياها!
وترى الأمهات والآباء يستقلون دراجاتهم بمقعد صغير أمامي أو خلفي، يضم طفلاً يرافق والديه في رحلة الحياة اليومية، دون خوف من (أثر الهواء على أخلاق البشر)!
وفي الشارع المؤدي إلى الجامعة تمتد على يساري القناة المائية الجميلة وعلى يميني تمتد البيوت والمباني ذات الآجر الأحمر الصغير. 
ومما كان  يبهج قلبي في غربتي القصيرة، تلك النباتات الخضراء والزهور الملونة التي تزين الحدائق والشرفات، وتجعلني أشتاق إلى نباتاتي التي أفارقها رغما عني.. وأدعو أن ألتقيها بخير. 

ومن اللطائف التي تلفت الانتباه في هذه المدينة، مخالفتها لما اعتدناه في بلادنا من علاقة خاصة بالزيتونة المباركة المحببة في بلادنا؛ فإذا كان من المعتاد في بلادنا أن نزيّن مداخل بيوتنا بنباتات الزينة، فإنه من اللطيف أن أذكر أن شجرة الزيتون هي واحدة من النباتات التي تُزرع في هذه البلاد في أصصٍ خاصة مناسِبة؛ كي تزين مداخل البيوت وحدائقها الصغيرة. حتى أنني اقتربت منها لأجدها لا يبدو أنها تحمل، ثماراً رغم اقتراب موسم قطاف الزيتون!!
 أما بعد مغادرتي محل إقامتي بخطوات فإنني كل يوم ألتقي بالمكان الذي ولد فيه الرسام الهولندي رامبرانت والطاحونة الهوائية التي كان والده يعمل فيها...مع لوحة وتمثال صغير يسلم على المارة كلَّ حين.
  وهكذا... فإن كانت مكتبة جامعة لايدن منبعاً لكنوزٍ لا تقدر بثمن، فإن الطريق إلى المكتبة لا تخلو هي الأخرى من تلك الكنوز اللطيفة الملهِمة.. تمنح القلبَ والروح والجسد طاقةً لبدء يومٍ جديد مثمر مزهر كمثل زنابق هولندا  بل أحلى.