أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 17 نوفمبر 2017

نوستالجيا: أغنيات وطنية

عاد ابني الصغير من المدرسة اليوم ليفرحني بخبر أنه قد حصل على درجة كاملة في إلقاء القصيدة الشعرية المطلوبة.. أفرحني ذلك وأنا أثق به في هذا؛ فهو يملك أداءً شعرياً وصوتاً جهورياً ومخارج سليمة للحروف وجرأة أدبية قد لا يتوفر عليها أطفال كثيرون من عمره.. ثم أحضر الكتاب وألقى أمامي بعض أبيات القاضي الجرجاني في عزة النفس.. بعد الانتهاء من إلقائها، فتح كتابه يريد أن يسمعني لحناً (اخترعه) لقصيدة سيأتون على دراستها بعد حين -لأنني ألحّن له القصائد عندما يدرسها-.. ثم بدأت الأبيات تتوالى على لسانه محاولاً أن يتغنى بها: "أردنُّ يا حبيبي.. على ذرى أردننا الخصيب.. الأخضر العابق بالطيوبِ.. الساحر الشروق والغروب.. سمعتُها تقول يا حبيبي".
... فاستوقفَتْني العباراتُ الشعرية تقرع زاويةً منسية من ذاكرتي وتفتح صندوقاً علاهُ الغبارُ فيها.. لتعاود الألحان انسيابها في تلافيف دماغي.. وعادةً ما يكون استطلاعي لشؤونه الدراسية وواجباته المدرسية حفراً في ذاكرة الطفولة- فقلت له: توقف، ألحانها ليست هكذا. ثم تلوتُ على مسامعه لحنَـها الجميل الذي أحفظه عن ظهر قلب، لكنه غاب فيما غاب من طفولتنا التي تغتال تفاصيلَها سنواتُ العمر اللاهثة نحو النهاية.. 
استمتعتُ وأنا أردِّد معه ألحانَ المقطوعة الشعرية الوطنية الخفيفة، اللطيفة على قلوب الكبار قبل الصغار.. ثم أنفقتُ شطراً من نهاري في ربوع اليوتيوب أبحث له عن أصل القصيدة مُغَـنّـاة كي يسمعها.. لأجدها متربعةً بحياء على صفحة اليوتيوب، وكانت المفاجأة أن الذي يغنيها هو مطربي المفضل المطرب السوري محمد جمال.. وقادت متابعة الأغنية إلى أغنيات أخريات من زمن جميلٍ مضى.. زمن الطفولة .. زمن الفن الراقي.. زمن الإبداع الذي كان فيه المبدعُ حقاً هو من يترك بصمة، لا كلُّ من هبَّ ودبَّ.. أو نَقَشَ نقطةً على ورقة .. أو دقَّ ريشة على وتر!!
قادتني الصفحاتُ إلى أغنيات وطنية جميلة من ذلك الزمان لا أدري أين اختفت؟! بل لماذا اختفت؟! أغنيات وطنية طافحة بالمعاني التي تعجز اليوم عنها كلُّ (الفجاجة) و(الضجيج) التي تمتلئ بها أغنياتنا التي توصف بـ(الوطنية)! 
أبرز ما يلفت الانتباه في تلك الأغنيات أن معظم الشعر الوطني الجميل الذي تربَّينا على كلماته كانت من كلمات الشاعر حيدر محمود.. وأن أداء الكلمات كان بحناجر ذهبية تملكها: نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وفيروز .. وأسماء لامعة أخرى في دنيا الطرب، لا أستطيع إدراجَها هنا في هذه المساحة الصغيرة في هذه الخاطرة.. وكانت المقطوعات الموسيقية في مقدمة الأغنيات، تحفةً فنية لا يقل جمال بعضها عن المقطوعات الشهيرة لأغنيات نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ ووردة وفايزة أحمد... وغيرهم من عمالفة الفن والطرب الأصيل.
لا بد أن كثيراً منكم يذكرون (نحبُّه..نحبُّه... كما تحبُّ الزهرةُ الندى..) ويذكرون (معه وبه إنّا ماضون.. فلتشهد يا شجر الزيتون..) ويذكرون (تزهو بعباءات الفرح الأخضر والشالات الوردية...) ويذكرون (أهداب حبيبي كرمة حبٍّ سلطية...).. ويذكرون (عمان في القلب)... وغيرها من أغنياتنا الوطنية القديمة.
أظن أن السر فيما مضى لم يكن في الزمن الجميل .. بل كان في العمل الإبداعي المتكامل: يبدأ من الكلمة الشعرية، ثم يتجسد في صوتٍ دافئ يؤديه، يرافقه اللحن الجميل (المتعوب عليه)... وليس كالأعمال (المسلوقة) التي تُنْجَز اليوم على عجل بمعايير ليس لها في الشعر والموسيقا والذوق الفني .. إلا صوت أجوف لا يُغْني شيئاً!

تجدون هنا بعض الشعر والصوت والموسيقا  الجميلة ..
من أجمل أغنياتنا الوطنية