أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 25 أغسطس 2018

في الأردن ازدهار لافتٌ لرواية اللارواية

بقلم د.إبراهيم خليل

يشهد الأردن في الظروف الحالية ازدهارا لافتا في نشر رواية اللارواية، إذا جاز التعبير. فالمتابع يلاحظ كثرة الروايات الصادرة حديثا، وهي كثرة كان من الممكن الشعور بالفخر والزهو حيالها، لو أن الروايات المنشورة تتوفر على الحد الأدنى من شروط السرد الروائي، لكن الواقع يحبط المتابعين المهتمين، فأكثر هذه الروايات لا يدل إلا على جهل المؤلفين بفن الرواية، واستخفاف الناشرين بعقول القراء، ما دام المؤلف مستعدا وقادرا على تسديد كلفة الطباعة، كلا أو جزءا.

فقد وقع بين يدي عدد من هذه الروايات التي يصدق على مؤلفيها وصف الناقد عبدالله إبراهيم لهم بعبارة «غُشماء السرد» فإحدى هذه الروايات (كذا) تتضمن فيضا من المذكرات واليوميات والشهادات، عن أحد أبطال المقاومة الفلسطينية في حرب المخيمات في بيروت، ما بين عام 1982 و1987 وهو الفدائي الحيفاوي الأصل علي أبو طوق. فالمؤلف مهند الأخرس يقدم لنا في نحو 416 صفحة من القطع المتوسط ركاما من الأحداث والمرويات التي لا ترتبط برابط فني وتسلسلي سردي، وإنما كل ما يربطها ببعضها أنها تتعلق بشخص واحد، شريف ومناضل هو علي أبو طوق الذي اغتاله حلفاء العدو الصهيوني في مخيم شاتيلا يوم 27/ 1/1987، وحملت عملية الاغتيال توقيع كل من الجيش السوري وحلفائه، وفي مقدمتهم حركة أمل الطائفية. 
والحق أن النوايا التي ينطلق منها المؤلف مهند الأخرس، في هذا الكتاب الضخم الذي وسمه بعنوان «الجرمق» وهو اسم الكتيبة التي قادها أبو طوق في معركة الشقيف، نوايا طيبة وأكثر من جيدة، ولا يمكن لقارئ هذا الكتاب الصادر عن دار الشروق في عمان (2018) إلا أن يحترم هاتيك النوايا احتراما كبيرا. بيد أن النوايا شيء وكتابة الرواية شيء آخر. فثمة مثل إنكليزي يقول: الطريق إلى جهنم معبدة بالنوايا الحسنة. فالكاتب الذي يعلن في كتابه هذا عن نواياه الحسنة، يقود نفسه إلى جحيم القراء بكلمة (رواية) المسطورة على الغلاف. وهي لا تعدو أن تكون كالطعم الذي يوضع في رأس صنارة الصياد، ليلقي القبْض على السمكة. فالكاتب يبدأ كتابه هذا باستغراب الراوي، لأن صديقا له سمعه يقسم بعلي أبو طوق بدلا من أن يقسم بالله. والكتاب كله بصفحاته ومروياته المتراكمة، يجيب عن السؤال: لمَ يقسم بعض الفلسطينيين باسم هذا الشهيد علي أبو طوق. فهو وفقا لهذه المرويات مناضل كغيره، بل هو بشهادات موثقة ومتلفزة، مدرسة نضالية بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو من صنف الثوار الذين يقدمون نموذجا لا يتكرَّر. ولهذا فإن سيرته العطرة في هذه المرويات تتكدس فيها الاعترافات، والشهادات، واحدة تلو الأخرى، للإشادة به، وذكر مناقبه التي لا تعد، ولا تحصى.


نموذج جبرا
ولو أن المؤلف – غفر الله له وعفا عنه- لجأ لما لجأ إليه جبرا إبراهيم جبرا في روايته «البحث عن وليد مسعود» فجعل من شخوص الكتاب شخصيات روائية تلتقي وتفترق وتتخاصم وتأتلف حول شخصية علي أبو طوق، وأن يقدم لنا بعض ما قام به أبو طوق من أفعال في هيئة أحداث تقع وتجري على أرض الواقع، لا على هيئة اقتباسات، أو شهادات، يدلي بها بعض رفاق السلاح، لأصبح ما يقدمه في الكتاب رواية ، وعند ذلك يجوز للقراء أن يختلفوا أو يتفقوا في ما إذا كانت رواية جيدة أم أنها رواية ركيكة. بيد أن مهند الأخرس لا يبدي أساسا الرغبة في التخطيط لكتابة رواية، فهو لا يُعنى بغير هذه الفصول التي تتضمن شهادات وتقارير لا تخلو من استطرادات وحوارات مملة ومكررة، عن تسمية فلسطين بهذا الاسم، وعن الساميين، وعن تاريخ فلسطين الغابر والحاضر، أو عن البحر الميت، والملح، أو عن دور الأغنية في الثورة الشعبية، أو عن عشاء في مزرعة في الأغوار على كثب من البحر الميت، أو عن البرنامج التلفزيوني الذي يتم تصويره في منزل معين الطاهر في عمان، وفيه تلقى شهاداتٌ لعددٍ من رفاق السلاح: آمنة جبريل، وأحمد عودة، وجمال أيوب، ومحمد الشبل، ومريم عيسى، ومحمد درويش، وحنان باكير قبل أن يدلي معين الطاهر بشهادته عنه.

وعلى الرغم من أن الكاتب يومئ بشهادة معين الطاهر لانتهاء تصوير البرنامـــــج، إلا أنه يستأنف هذه الشهادات في الفصل التالي (السادس عشر) موردًا شهادات أخرى، وكأنه كان يعتزم التوقف عن ذلك في الفصل السابق، ثم ذكَّره آخرون بما يرويه الرفاق الذين لم يذكرهم في السابق، فأضاف شهاداتٍ أخرى في ما يبدو برنامجًا وثائقيا يبث على شاشة إحدى الفضائيات. يقول أحمد أبو جودة في شهادة أخرى «حاصرنا الجيش السوري. وطلب منا مغادرة المنطقة. وصارت قواتنا في حالة استنفار شديد، لكن مين اللي ورا الانشقاق؟ السوريون» تلي هذه الشهادة شهادة أبو العواصف وكريس يانو الذي تعرف إلى علي أبو طوق في النبطية منذ عام 1981.


قلعة الشقيف
ولأن أبو طوق ارتبط اسمه بقلعة الشقيف، حتى أنهم كانوا يسمونها قلعة أبو طوق، فقد أفرد المؤلف لهذه المعركة الفصول من 17 إلى 19 الممتدة من ص 308 حتى 415 بدون أن يفوته ذكر أسماء الشهداء الذين سقطوا فيها اسمًا تلو الآخر. وهذا توثيق لا غبار عليه، قطعا، بل إن ما يرويه المؤلف عن علي أبو طوق هذا، بجلِّ ما فيه من تراكمات وتفصيلات ضرورية أوغير ضرورية، يشد القارئ شدًا. لكن هذا القارئ بلا ريب سيتخلص من عبء الكلمة المسطورة على الغلاف (رواية) لأنه إذا تذكرها، وتذكر معها أنه يقرأ رواية، فسيندم ندما شديداً، لكون الكتاب ليس رواية على نحو لا يقبل الشك. إذ إنه لو كان رواية فعلا لوجب أن يتساءل: أين هي الشخصيات الروائية؟ وكيف تناول الراوي الوقائع؟ وأين هي حبكة الرواية، وهل هي حبكة صاعدة أم هابطة؟ وهل هي غامضة أم مكشوفة؟ منفردة أم مركبة من حبكتين فأكثر؟ ما الصيغة السردية التي اتبعها المؤلف في تحويل الحكاية من قصة إلى خطاب سردي؟ وما علاقة هذه الصيغة بتلك الحكاية؟ كيف وظف الكاتب الزمن في بناء محكياته السردية؟ وهل اتبع التسلسل الأكرونولوجي؟ أم لجأ إلى السرد الذي يتوافق مع دورة عقارب الساعة فتكسر لديه النظام الخطي للزمن؟ وهل نجح المؤلف مهند الأخرس في إضفاء صفة البطولة الروائية على نموذجه الفدائي علي أبو طوق؟ أم أنه مثل غودو في مسرحية بكيت في انتظار غودو؟ وحتى هذه المقاربة بين غودو وأبي طوق ليست منصفة؛ لأن غودو في المسرحية المذكورة يتوقع المشاهدون حضوره، في حين أن «الجرمق» بدأت بذكر استشهاد أبي طوق، وتكرر تأكيدها لهذا الاستشهاد في جل ما تلا ذلك. أما وليد مسعود في رواية جبرا المشهورة، فهو شخصية سردية، إذ يمثل اختفاؤه لغزا شُغلت بحله الشخصيات الأخرى في الرواية. 

زبدة الحديث أن «الجرمق» لمهند الأخرس لو نشر بصفته كتابا توثيقيا، أو شهادة عن الشهيد النموذج (أبو طوق) بدون أن يشار إليه بكلمة رواية، التي تعني في ما تعنيه أنه متخيَّل سردي، لكان أفضل ما كُتب، أو من أفضل ما كُتب بكلمة أدق، عن تلك الحقبة من نضال شعب فلسطين، لكنه، بهذا التمويه، وادّعاء ما ليس فيه، سلكه للأسف في عداد الكتب التي تنشر على أنها روايات، وما هي بالروايات.

٭ ناقد وأكاديمي من الأردن

الأربعاء، 8 أغسطس 2018

امرأتان أمام جسد مسجّى

بقلم: سما حسن 
العربي الجديد

هل كانت نبوءةً، عندما كانت تجيب بالجواب نفسه: هل ستلتقين بالمرأة الأخرى؟ فيكون ردُّها: سيكون لقاؤنا الأول يوم وفاته.. هي لا تعرف كيف لعبت الأقدار لعبتها، ليحدث ذلك، لكي تلتقي معها للمرّة الأولى، بعد سنواتٍ طويلة من دخولها حياة رجلها الأول، تقفان أمام جسده المسجَّى، بلا حراك، في غرفةٍ نائية، في أحد أقسام المستشفى الحكومي الذي أمضى فيه أيامه الأخيرة، يُصارع المرض.
كانت لدى كلّ واحدة منهما مشاعرها، وكانت لديها أسبابها؛ لكي تبكي، فيما تتفقان في سبب واحد، هو رهبة الموت، فالأسباب الأخرى كانت متباعدة ومختلفة، فالأولى كانت تبكي عمرها الذي مضى مع رجلٍ دمَّر حياتها، وأصبح "لا تجوز عليه إلا الرحمة"، والثانية كانت تبكي مصيرها، بعد رجلٍ انتشلها من الفقر والحاجة، وحوَّلها زوجةً تأمر وتطاع، وترفل في الثراء الذي خصَّها به، مقابل شبابها وحيويتها، فيما كان يمضي نحو نهايته.
كانت الأولى تنظر إلى الجسد المسجَّى، وتعيد الذاكرة، بسرعة؛ لكي تستحثَّها ألا تنسى، ولكي تذكِّر الجسد، قبل أن يذهبوا به، بأنها قد سامحت وغفرت؛ لأن ربَّ العباد يغفر ويسامح. ذكَّرته بأنها كانت فتاةً صغيرةً، لا تخبر من الدنيا، سوى فارس أحلام على جوادٍ أبيض، سيأتي ليحملها إلى بيت الزوجية، حيث الهناء والسعادة، فقد كانت مغرمةً بكلام الروايات، وكانت معجبةً بجمالها الذي تشهد له مرآتُها الصغيرة، في بيت والدها، كلَّ يوم، عشرات المرَّات، إلى درجة أنها لم تتوقع أنّ رجلا سيُهين هذا الجمال، ولكنه فعل.. لم تكن تتخيل أنّ أحدا سيصفعها على وجهها، لكن الدنيا فعلت، وأبكتها، وأدمت قلبها.

ربع قرن وعام مرّت بها، وتعلّمت دروسًا من الحياة، مجبرةً وطائعة، والدرس الأكبر الذي تعلمته أنّ رجلا قد يحوِّل حياتك إلى جنّة، أو يحولك إلى محاربةٍ تقتلعين الشوك بأسنانك، وبأطراف أصابعك الهشَّة المرمرية، وهذا ما حدث معها، ولم تندم لحظة أنها لم تعش في جنّة رجل؛ لأنها اكتشفت أنّ الحياة لا تقبل إلا بالمحارِبات.
مسحت دموعها أمام جسده المسجَّى، واحتضنت المرأة الأخرى، شعرت بالشفقة عليها، هي دخلت حياته في الأعوام الأخيرة، وكانت لديها أسبابها التي تدفع أيّ فتاة للارتباط برجلٍ في سنِّ أبيها، ولديه زوجة أولى وأولاد، يقتربون من عمرها.. 
شعرت نحوها بالشفقة كثيرا؛ لأنها ستبدأ المشوار الذي سلكته هي قبل ربع قرن، فلديها أطفال صغار سيكون عليها أن تربِّيهم، وتقوم بمقام الأب والأم، بعد رحيل أبيهم، مثلما فعلت مع أولادها، والذين قامت بمقام الأب والأم في حياتهم، على الرغم من وجود أبيهم على قيد الحياة.
التفتَتْ نحو الجسد المسجَّى، بلا حراك، تذكَّرت يوم أن أمسك بيديها، أول مرّة، شعرت برعشةٍ مع حياء، ورفرف قلبُها الصغير بين ضلوعها، اليوم يرفرف قلبُها المثقَل بالهموم والمسؤولية، في ثقل وتثاقل، ويهتف بها: سامحي فقد مضى، ولم يعد قادرا على أن يضع، لو حُجَّة واحدةً أمام ما صنعه بك، فتنهّدتْ، وردَّدَتْ العبارة نفسها: "الميِّت لا تجوز عليه إلا الرحمة".
سامحته من أعماق قلبها الذي لا يعرف الضغينة، حتى وعمرها وشبابها وجمالها، كلُّها تتسرّب، من دون أن تعيشها، وترفل بها، مسحت دمعةً جرت على وجنتها، وانحدرت من زاوية عينها، وتحسّست الخطوط الصغيرة التي بدأت تشقُّ صفحة وجهها، تعرف أن الزمن لن يمهل صفحة وجهها الناصعة البيضاء، وسوف يشقُّها بتجاعيده القاسية، بكت أكثر، وأدارت وجهها في وجوه من حولها؛ فرأت أولادَها حولها، ينظرون في صمتٍ نحو الجسد المسجَّى، لحظتَها، مسحت دموعها، وفتحت ذراعيها؛ لكي تحتضنهم، نسيت الزمن وخطوطه وتجاعيده، تمنَّت أن يُشفق عليها القدر؛ فلا تقبع في غرفةٍ نائيةٍ من مشفىً حكومي تتعذَّب في أيام حياتها، لم تطلب من الله في تلك اللحظة سوى ذلك، احتضنت فلذات كبدها، وسارت بهم، فيما تركت المرأة الأخرى، تبكي مشوارا غامضا وموجعاً ينتظرها، مشوارا سارت به قبلها، وحوّلها إلى امرأةٍ تحلّق في سماءٍ أخرى.

الأحد، 5 أغسطس 2018

شعراء يتغزلون إلا بزوجاتهم

بقلم: منصف الوهايبي
جريدة القدس العربي

تنطوي الكتابة في الحب أو الغزل عند العرب على قَدْرٍ هائل من اللَبْسِ. وهو لبس مأتاه التعميم الذي قد يشوب مفردة الحب، حيث تُحمل في معنى عام على دلالة مطلق الرغبة في هذا الشيء أو ذاك، أو على دلالة المحبة بما هي توادد بين البشر. على أن ما يعنينا في السياق الذي نحن به، إنما هو المضمون الغرامي الذي يعتري العلاقة بين ذكر وأنثى، خارج مؤسسة الزواج في أدب الحب. والغريب أن جل شعراء العربية، إن لم نقل جميعهم، هم منذ الجاهلية إلى اليوم لا يتغزلون بزوجاتهم؛ وإنما بنساء «حبيبات» بعضهن في عصمة أزواج؛ مما ينكره الدين والعرف الاجتماعي معا. 
وفي قصص العذريين لم يشذ سوى قيس بن ذريح، فقد تزوج لبنى؛ ثم طلقها لتتزوج غيره. ولعله كان طلاقا «أدبيا» أبرمه الرواة، حتى يظل قيس جزءا من هذا النسيج الاستثنائي في تاريخ الحب. ويخرج جميل بن معمر هاربا بعد أن هدر أهل بثينة دمه وأباحهم السلطان قتله. ولكن ما يعنينا أن هذا الحب البدوي، أو العذري ينشأ هو أيضا في ما هو محرم أو محظور ونقصد هذه العلاقة بين جميل الأعزب وبثينة المتزوجة. وفيها من الحسية ما فيها،على أنها حسية من نوع مختلف. وفي الشعر الحديث فإن شاعرا مثل نزار قباني لم يكتب قط غزلا في أي من زوجتيه؛ وما كتبه في بلقيس هو رثاء باهت لا حب فيه؛ بل إن صورة العاشق في أكثر شعره هي صورة المتغزل الفاتح المفتون بنفسه «لم يبق نهد أبيضٌ أو أسودٌ/ إلا زرعتُ بأرضه راياتي». وكذا بعض قصائد أدونيس في زوجته خالدة فقد لا تعدو أكثر من تمرين على التغزل بالزوجة؛ إذ تختفي فيها تفاصيل المرأة تماما. ولا يفوتني أن أشير إلى السياب وعلاقته الملتبسة أو المتوترة بزوجته، فلا حب في ما كتبه فيها وهو قليل جدا؛ وإنما حالة رجل نخر المرض جسمه؛ فكان هذا الشعر أقرب إلى الاستعطاف منه إلى الحب. وقد أستثني العراقي يوسف الصائغ في مجموعته «سيدة التفاحات الأربع»، وهي شعر خالص، ولكنها مرثية هي أيضا، وليست غزلا. وكأن شعار هؤلاء وغيرهم قول جرير يرثي زوجته:
لولا الحياءُ لعادني استعبارُ / ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ
هذه الظاهرة «غياب الزوجة» والاستحياء من ذكرها في شعر الحب عند العرب قديما وحديثا؛ قد تُعزى في جانب منها إلى أثر الشعر القديم في الشعر الحديث، أو إلى سلطان العرف الاجتماعي وغلبته، أو إلى ضرب من المترسب اللغوي أو المخيال الجمعي، بدون أن يسوق ذلك إلى القول إن صلتها بالحياة منقطعة أو تكاد، أو هي مفصولة عن المجتمع أو الإيديولوجيا. وهذا أدب، والأدب يظل تخيرا نوعيا من الحياة، على قدر ما يظل عملا تخييليا؛ الأمر الذي يسوغ قولهم «واقعية العمل التخييلي»؛ كلما أذكى الكاتب الإيهام بالواقع، وكان لذلك أثره في القارئ؛ حتى لَيبدوَ التخييل أقل غرابة من الحقيقة وأكثر تمثيلا. والتمييز لا يقوم في الأدب بين واقع وتخييل، وإنما بين مفاهيم عن الواقع مختلفة، وطرائق من التخييل متنوعة.

أما قديما فتؤكد أخبار كثيرة متواترة أن جسد المرأة في القبيلة العربية ما قبل الإسلام، لم يكن منبع إثم أو خطيئة عند جميعهم؛ فقد أقر هذا المجتمع إلى جانب الزواج أنواعا من العلاقات كانت تطلب للاستمتاع أو للاستبضاع؛ وتنم على احتفاء بجسد الأنثى، من حيث هو مصدر متعة و«متاع» يقتنى أو ينهب، بل يؤجر أو يقايض، و«ملكية» قابلة للانتقال بالإرث. 
وقد يستخلص من هذه العلاقات الجنسية أن المجتمع العربي القديم لم يعقل الشهوة الجنسية، ولم يحطها بكثير من التحريمات والمحظورات. وربما تواصل ذلك بنسبة أو بأخرى في ثقافة الإسلام على نحو ما أذكر لاحقا. وقد يستخلص من أخبار العرب القدماء وأساطيرهم، أن مجتمعهم كان مجتمع الوفرة الجنسية والغرائز المطلقة. والحق ينبغي أن لا نذهب بعيدا في التأويل؛ وندعي بأن هذا المجتمع كان رمزا لتحرر الجسد من كل قمع ثقافي أو أخلاقي، وأن الجسد في العشير البدوي كان منبع تحرر فردي وجماعي. فقد كانت هذه «الحرية الجنسية» ـــ إن جاز أن نسميها هكذا ــ مقصورة على الرجل، وشاهدا على إشباع الغريزة؛ ونزعة الرجل إلى امتلاك جسد المرأة والاستئثار به. ومن ثمة فإن الحديث عن «فوضى جنسية» أو «حرية جنسية مطلقة» لم تقنن المعرفة فيها، ولم تروض الغريزة، لا يقوم لـه سند لا في شعر الجاهلية ولا في عادات أهلها وتقاليدهم، ولا في هذه القصص المنسوبة إليهم. أما الاحتكام إلى شعر الأعشى أو امرئ القيس وسيرته وقصص حبه، لتأكيد هذه «الحرية» فيمكن الاعتراض عليه بأكثر من حجة. فسلوك أمرئ القيس ظاهرة فردية، أو استثناء ينبغي عدم تعميمه على المجتمع الجاهلي كله؛ بل إن المجتمع لم يقر هذا السلوك. 
ومع ذلك فقد بقيت الصورة الغالبة في شعر الغزل عامة صورة الرجل المنتصر الفاتح المفتون بنفسه، وفتنة المرأة به؛ وهو يتناول ما يكون بينه وبين صاحباته، وليس ما بينه وبين زوجته. وعلى هذا النهج سار شعراء العربية، بعضهم في اعتدال وفضل تعفف على نحو ما نجد عند العذريين، وبعضهم في جرأة لكنها تخفي «نرجسية» عجيبة حتى عند المعاصرين من أمثال نزار قباني وأدونيس وغيرهما. 
ولعل في الوصف الذي أثبته صاحب «الأغاني» ما يفسر تقبل المجتمع العربي الإسلامي الأول لهذا القصص وهذا الشعر، على استشعاره الخطورة التي كان يمثلها هذا الأدب على قيمه ومثله. يقول ابن أبي عتيق عن شعر عمر بن أبي ربيعة: «لشعر ابن أبي ربيعة لوطة في القلب وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر. وما عصي الله عز وجل بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة». ولعل في هذا بعض مبالغة، فقصص الحب المنسوبة إلى عمر، مثل قصته مع الثريا، أو هند بنت الحارث المرية أو العراقية… هي أقرب ما تكون إلى قصص الحب العذري. وفي «مصارع العشاق» يجمع الكاتب بين عمر وجميل ويستنشد كلا منهما صاحبه. وينشده عمر قصيدته التي مطلعها «عرفت مصيف الحي والمتربعا»:
حتى إذا بلغ قوله: 
وقربن أسباب الهوى لمتيم / يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
صاح جميل مستحييا: «لا والله ما أحسن أن أقول مثل هذا!»
ثم يجمع الراوي بين عمر وبثينة، وقد دله جميل على بيتها، بدون أن يرافقه إليها متعللا بأن الأمير قد أهدر دمه متى جاءها. وتقول بثينة لعمر:»لا والله يا عمر ما أنا من نسائك اللاتي تزعم أن قد قتلهن الوجد بك!». بل إن كثيرا أو قليلا من «غرامياته» وقصص عشقه، لا تتعدى المعابثة، حتى وهي تجري في مقام ديني مثل الطواف، يلزم صاحبه ما يلزم من تقوى وخشوع. ومثال ذلك القصة التي ساقها الأصفهاني، وعلل بها قصيدة عمر التي يقول فيها:
أبصرتـها ليلة ونسوتـها / يمـشين بين المقام والحجر
فهي صورة لما يمكن أن يقع بين العشاق، من مغازلات ولهو ومعابثة. والطريف فيها أن المرأة هي التي تبادر فتطلب من صاحبتها ـ وقد أزمعت أن تفسد على عمر طوافه ـ أن:
قومي تصدي له ليعرفنا / ثم اغمزيه يا أخت في خفـر
والأطرف أن يكون عمر هو المتمنع:
قالت لها قد غمزته فأبى / ثم اسبطرت تسعى على أثري
وكأن الأمر يتعلق بصورة أخرى لما وقع في القصة القرآنية بين النبي يوسف وامرأة العزيز. على أنها في القصة التي نحن بها، صورة ساخرة لاهية.
لعل أظهر ما نخلص إليه أن هذا الأدب مما يعزز القول بأن الجسد فيه جسد «متخيل» أو «جسد استعارة» يرسم صورة لما ترسب في أغوار النفس من علاقة ملتبسة بالمرأة.
ولعل صورة هذا الجسد الاستعارة هي التي جعلت البعض يحملها على وجوه من التأويل قد يكون أكثرها إغراء، أن الاحتفال بالجسد ليس إلا ذكرى بعيدة لعبادة المرأة في العصور العربية السحيقة. وهي العبادة التي ترتد إلى أسباب تاريخية تضرب بجذورها في أعماق النظام الأمومي، حيث كانت السيطرة للمرأة. وربما تجلى ذلك كأوضح ما يكون في ما نسميه أدب الحب العذري. ولا نخاله مقصورا على الحقبة الإسلامية، فله جذور في ثقافة الجاهلية، ولعله مثل قرينه الحب الحضري، نص مخضرم هو أيضا، بل هو أدب لا يزال يفعل فعله في أدبنا الحديث.

٭ كاتب تونسي