أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 19 فبراير 2009

"رحلة إلى مكة"..عين على الاستشراق وعين على التكنولوجيا

صورةٌ ذات تقنيات تصويرية متقدمة جداً، وعرضٌ سينمائي باهر يأخذ بالألباب، ويجعلك تشعر وكأنك في الصورة نفسها المعروضة أمامك على الشاشة، وأصواتٌ وتفاصيلُ دقيقة جداً تتيحها الصورة الرقمية البديعة فتجعلك جميعها جزءاً من المشهد في تجربة سينمائية مثيرة.
ذلك هو العرض الذي تمّ في أبوظبي الشهر الماضي للفيلم العالمي "رحلة إلى مكة" (من إخراج بروس نيبور وإنتاج "كوزميتيك بيكتشر" و"أس كاي فيلمز") الذي صُوِّر بتقنية "آي ماكس" الفائقة الوضوح، في فرصة مميزة قدمتها "شركة أبو ظبي للإعلام" للجمهور في العاصمة الإماراتية لحضور هذه التجربة السينمائية الفريدة حقاً ، التي تمثل طريق الرحالة الشهير ابن بطوطة محمد بن عبدالله اللّواتي (703-779هـ) لأداء مناسك الحج في رحلته من بلده طنجة سنة 725هـ/1325م التي كانت على رَسْم الصوفية زياً وسجية.
لكن ماذا وراء الصورة ؟ فهذه التجربة السينمائية - التي تتيح للمشاهد أن يكون في حضرةِ فيلمٍ ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين من حيث إنتاجه وتقنياته - هل تختلف عن الصورة التي أنتجها الأوروبيون أنفسهم في القرون الوسطى، وفي القرون التي ازدهرت فيها أدبيات الرحلة وازدانت فيها المؤلفات الاستشراقية بالرسوم التي صوَّرت سحر الشرق وروعته؟
إنّ الصورة المتحركة في الفيلم تكاد لا تختلف عن سابقتها الساكنة على الصفحات: فصورة العربي المهلهل قاطع الطريق، وصورة الطبيعة الشرقية الصحراوية، برمالها التي تغمر المكان وبجفافها القاسي يغمر القلب والوجدان، هي هي.. لم تتغير.
إن الفيلم بصورته ذات التقنية فائقة الوضوح، لم يلتقط من الأماكن والمدن التي زارها الرحالة سوى الرمال ثم الرمال، ووعورة المسالك وجفاف الأرض، وأغفل "سيناريو" الفيلم أن الرحلة التي قام بها ابن بطوطة وسار بها في طريق الساحل الشمالي الأفريقي- قد توقف في أثنائها في مدن عديدة عامرة بالحياة، وعامرة بأحلام الناس وأعمالهم وتفاصيل حياتهم اليومية وحركتهم الدؤوب.
لم تلتقط عينُ الكاميرا خصوبة بعض المدن العربية التي زارها الرحالة؛ فدمشق التي زارها ابن بطوطة كانت في الفيلم قطعةً من الصحراء، دمشق التي يشقها بردى بعذوبة مائه وتحفُّها الغوطة بأشجارها وأطيارها وأثمارها! دمشق التي قال عنها ابن جبير قبل زيارة ابن بطوطة : "إن كانت الجنةُ في الأرض فدمشقُ لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامِتُها وتُحاذيها".
لم يعرض الفيلم من الرحلة إلى المدن العربية سوى قطْع الطريق، وشعثاً من الناس لا يجمعهم جامع، ومشاهد باهتة للأسواق والبضائع..
لم يلتقط الفيلم جوهر الرحلة: رحلة الحج (حلم المسلمين في ديار الإسلام المتـنائية) التي كانت تحمل في جرثومتها سر ازدهار العلوم والحضارة على امتداد رقعة البلاد الإسلامية، تلك الرحلة التي كان الوقوفُ فيها في المدن العربية يأخذ منحىً آخر أغفله الفيلم، ألا وهو طلب العلم وسماع الشيوخ وتحصيل الإجازات…وغيرها من وسائل أتاحت للعلم العربي أن ينتشر، وللعلماء المسلمين أن يتبادلوا المعارف والخبرات، فقد سمع مثلاً ابن بطوطة في دمشق صحيح البخاري وذكر أسماء الشيوخ الذين أجازوه من أهلها.
كما لم يلتقط الفيلم روح القرار والجوار في الأماكن المقدسة، التي كان يسعى إليها كثيرون في تلك الأيام ممن حلموا بزيارة الأماكن المقدسة - ومنهم ابن بطوطة نفسه - ونعموا بزيارة بيت الله الحرام بعد شهور طويلة من السفر يقطعونها لا ليقيموا قليلاً ثم يرتحلون، بل ليقيموا ويجاوروا ببيت الله الحرام ومسجد نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ما أتيح لهم الجوار والقرار، في رحلة قد لا تتكرر في العمر إلا مرة واحدة.
…كل هذا وغيره من أسرار الرحلة رحلة الحج أغفلتْها مشاهد الفيلم، التي احتفلت الكاميرا فيها بمشاهد الطبيعة الصحراوية الممتدة القاسية، والعواصف الرملية الغبراء، وأشعة الشمس اللاهبة، تلك المَشاهد التي تزيد من رسوخ الصورة النمطية للعربي المسلم: يعاني قسوة البيئة فيخمل، ولا يرتفع له شأن في الحضارة والمدنية.
احتفل الفيلم ببراعة التصوير الأخّاذ وتقنياته الرقمية المتقدمة، التي أتاحت للمشاهد صورة فريدة للبيت الحرام ولمناسك الحج وطريق الرحلة.. وشعوراً غامراً مثيراً قد لا يشعر بروعته حتى لو كان هناك وشاهد معالم الرحلة بأم عينيه، لكن الاحتفال ببراعة التصوير وسرعة المَشاهِد، وضخامة المؤثرات الفنية المبذولة في العمل من جهة- جعل القائمين عليه يغفلون عن جوانب أخرى من جوهر الرحلة إلى مكة وما قد تعنيه للمُشاهد المسلم الذي قد يكون على الرغم من نجاح الفيلم فنياً وتقنياً مخيباً لآماله! في حين أنه للمشاهد غير المسلم - خاصة من أهل الغرب - يعيد إنتاج الصورة نفسها التي أُنتِجت من قبلُ فيما كتبه المستشرقون والرحالة الأوروبيون عن المسلمين منذ قرون.
على أنه تجدر الإشارة إلى أننا لا نحمِّل الفيلم ما لا يطيق، وهو الذي سعى إلى تصوير رحلة الحج وأداء المناسك وإقامة الشعائر المقدسة في تلك الأيام المعدودات من عمر كل مسلم، في صورة رائعة تجمع الماضي بالحاضر، وتترك أثراً في النفس لا يمحى بفضل ثقافة العصر ثقافة الصورة. وقد نجح الفيلم في مسعاه، فكان أنْ غرس اللهفةَ لمعانقة البيت الحرام ورؤية الكعبة المشرفة في قلوب من تهفو أنفسهم إلى ملاقاتها.