أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 31 ديسمبر 2016

فن أن تكون مثقفا فوق العادة

بقلم بروين حبيب
القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=652769
طرت إلى بيروت لتوقيع كتابي ولقاء الأصدقاء والصديقات وحضور فعاليات صالون الكتاب في بيروت. لكنني ما إن وصلت حتى ركضت إلى دار الطليعة لإقتناء «رسائل أنسي الحاج لغادة السّمان» ليس تلصصا على رسائل عاشق، بل لأني عاشقة لأنسي، وأعرف سلفا أن ما كتبه نابع من عشقه للمرأة الناجحة المتميزة وليس محصورا في شخص غادة السمان فقط.

ورغم ضيق وقتي وانشغالي وارتباطي بمواعيد خلال ثلاثة أيام قصيرة في بيروت، اختليت بشاعري الأنيق وقرأت رسائله. وتيقنت أن تخميني كان «صح» منذ البداية. وأعتقد أنه لو صادف امرأة أخرى بحجم غادة أو أكبر لكتب لها الكلام نفسه.
وأتأسف أنّ كل ما قيل في الإعلام المكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي بشأن هذه الرّسائل لم ينصف الرجل كما أنصفته غادة السّمان، ويبدو أننا لم نبلغ النضج الفكري اللازم لرؤية عظمة هذا الرجل من خلال رسائله وهو في مقتبل العمر. حتى حين نبرر أن هذه الرسائل تراث أدبي بحكم أنها تعود لحقبة الشباب للأديبين، فإننا ننسى أن معشر الشعراء والكتاب في الغالب تفادوا أن يبينوا مشاعرهم الإنسانية الخاصة بهم، حتى حين يكتبون ما يشبه سيرهم الذاتية. وكأنّ الجانب الإنساني فيهم هو الجانب الذي يضعفهم أمام جمهور القراء ويعرّيهم أمام النخبة، التي رغم ما تنادي به من أفكار ليبرالية لا تزال تقبع داخل جلودها تركيبتهم القبلية المعقدة. أن تخجل من الحب فذلك كارثة. أمّا أن تخجل كمثقف من التعبير عنه فهذه كارثة الكوارث.
ويبدو أن الأغلبية، إن لم يكن الجميع، يخجل من قول الحب والتشجيع عليه، ويخجل من كشف وجه الرّجل الإنساني الرقيق، وكأنّ قدره أن يرتدي أقنعة القسوة ليحافظ على صحة رجولته. ولا بأس أن نكتب قصائد في الحب لكن بادعاء الكذب على أنها نتاج مخيلة أدبية.
حين قرأت الرسائل أصبت بالدهشة لا لأن غادة السمان كشفت لنا للمرة الثانية أن الرجال ليسوا بالقسوة التي نتخيلها، وأن المناضل والثوري والأديب الملتزم لديهم جميعا في قلوبهم غرفة خاصة للمشاعر الجياشة قد تفجرها أي امرأة بمواصفات معينة، ويبدو جليا من خلال رسائل غسان كنفاني التي نشرتها سابقا ورسائل أنسي الحاج اليوم، أن ليست كل امرأة قادرة على تفجير مشاعر الرجل المثقف الرفيع في أخلاقه وأفكاره، فرجال بهذا الوزن تلزمهم نساء بوزن غادة، نساء قويات، ذكيات، ناجحات وحرائر في تقرير مصائرهن.
هؤلاء الرجال ليسوا بحاجة لنساء يختبئن خلف جدران بيوتهن، أو خلف الشبابيك والأبواب، أو خلف ظلال آبائهن وأخوتهن الذكور وينتظرن «عريس الهنا»…. لا نقاط تشابه بين رسائل حب يكتبها رجال لنساء ضعيفات مع هذه الرّسائل الفائقة الجما التي كتبها أنسي لغادة. لقد كتبها بروحه ولغته الرقراقة النابعة من أعماق العقل والقلب معا. خاطب امرأة تقف أمامه النّد للند، تفهم كل كلمة خطّها يراعه، وتعرف خبايا السطور والكلمات. ولو أنه أرسل هذه الرسائل لامرأة أخرى مقيّدة الفكر والروح بأغلال المجتمع، لكان مصيرها سلّة المهملات بعد أن تتزوج، معتقدة أن أي علاقة سابقة لها ولو من الطرف الآخر ليست أكثر من خطيئة يجب دفنها للأبد.
روعة أنسي الحاج في رسائله أيضا تكمن في هذا الكم من الصدق المنبعث من أخلاقه. يقول في فقرة قرأتها عشرات المرات: «إن كل حلمي ينحصر بأن أحب امرأة واحدة حبّا واحدا وحيدا، وأخلص لها إلى النهاية واستنفد نفسي وأجدد نفسي، وأستنفد نفسي وأجدّد نفسي معها إلى النهاية. حتى الآن إمّا أفشل في الوقوع على امرأة لائقة أو أحصل عليها وأفشل في إقناعها بحقيقتي» أي روعة تنافس هذه الروعة في وصف دواخل الذات؟ وأي عبقرية هذه تلك التي يخاطب بها رجل قلب امرأة دون المرور بوصف عينيها ونهديها وخصرها وعطرها، وأشياء سطحية تشغل النساء عموما ويعتمدها الرجال «طبخة جاهزة» لإقناع أي أنثى بميولهم العاطفية نحوهن. لقد قال أنسي الحاج ما شعرت به دائما، وكأنه عبّر عنّي في ذلك العمر المبكر وقبل حتى أن أولد. قال ما يدور في ذهن كل شخص منّا دون أن يُدخِل من أحب في متاهة الحيرة والتعلق بشباك العفة الوهمية التي يعشق رجالنا أن ينصبوها للمرأة. قال لها: «أنت أختي وحبيبتي» وفي هذا الوصف قداسة الاحترام والعشق معا، دون أن نعرف هل كان ينتقي الكلمات كما يكتب الشعر أو كما يكتب الرسائل؟ قال لها ما يجعلها حاجة دائمة في قلبه ووميضا دائما في قلبها، حين يعيد صياغة ردها الذكي:» إننا لن نلتقي أبدا ولن نفترق أبدا؟» أما ما تلا هذا التعبير الدبلوماسي الرفيع المستوى فقد كان شرحا يشبه عملية تشريح جثة واستخلاص أسباب موتها.
في كل كلمة ذرفها أنسي الحاج لمعشوقته كان هناك حب مرعب. حب فاجأ رجلا متزنا ابن عائلة مثقفة وخرّيج «اللسيه فرنسيه ومعهد الحكمة»، رجلا تعلّم اتيكيت التعامل مع المرأة تماما كما تعلّم وتشبّع بثقافة احترام الذات والغير. ولمن لا يعرف نوعية التعليم في مؤسستين عريقتين كهاتين في بيروت عليه أن يسأل أبناء جيله عن ذلك. والأخطر أنّه كان متزوّجا، ولعلّ هذا سبب إصرار غادة السّمان على الهروب منه، تماما كما فعلت مع غسان كنفاني، وربما آخرين لم تكشف عن «وثائقهم العشقية» بعد… فلطالما رددت غادة السمان في أدبها أن الحب يجب أن يكون كاملا، وفيما معناه أن لا يطعن أحدا.
وهي إن كانت تلك المرأة التي وقع في حبها رجال كثر، أو أعجبوا بتمردها ولغتها الجريئة وأدبها الأجمل، إلا أنها كانت تكبر الجميع بوعيها، وقد حافظت على صداقتها مع كل الذين ركضوا خلفها ولم يحظوا بها، وأعتقد إن عدنا لكتابها الذي رثت فيه زوجها بشير الداعوق سنكتشف أن السمان أرادت أن تختار رجلها لا أن تكون موضع اختيار، وأن تبقى في موقع الريادة لا ذيلا لرجل يقنعها بالحب.
أرادت أن تقع هي في حب باذخ يناسب ثقلها وإيمانها بنفسها وبذاتها المستقلة وبتجربتها القاسية في حياتها المبكرة، فظلّت مهرة طليقة إلى أن جاء أميرها فامتطت الفرس معه ودخلت مملكة شاسعة بدون قضبان، فسيحة تناسب هوايتها في الركض، وغابت عن أنظار من أحبها ومن حسدها ومن كرهها. وأخلصت للداعوق ولأدبها إلى يومنا هذا.
لكن من بإمكانه أن يفهم ذلك وهو يقرأ رسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني لها؟
بالنسبة لنا على المرأة أن تكون بدون ماضٍ ولو من باب الإعجاب بها. عليها أن تتصرّف دوما بما يناسب الرجال في تفكيرهم، ويحميهم ويحمي «شرفهم الهش» إن فتحت فمها بما يسيء لهم، عليها أن تكون كما يريدون، لا كما تريد هي وإلاّ وصفت بالمراهقة. وعليها أن تتقبل نمائمهم حين كانت صبية مع كم هائل من الشائعات العاطفية عنها وتخسر الكثير من سمعتها دون أن تعتب على أحد.
قلبت غادة السمان الطاولة الذكورية التي ألفناها، وقد اختارت المادة المناسبة في التوقيت المناسب لها لتُخرج مرة أخرى الأرنب الأبيض العجيب من قبعتها السحرية، لا لتدهش القارئ العربي، بل لتعطيه درسا لعله يتطور بفكره، وهو أن الأرنب ليس وليد القبعة، ولكنه وليد الخفة واللعبة البصرية، ولا سحر في الموضوع ولا هم يحزنون، فكل شيء وليد الحقيقة التي نحاول إخفاءها.
هذا هو أنسي الحاج وهذه هي غادة السمان. وإن لم تصل الفكرة فعلينا أن نعيد قراءة أديبة أحدثت زلزالا قويا على الأرض العربية أدبا، وكذا شاعرٍ صنع مجده بهذا الصدق والاحترام اللذين نفتقدهما في ساحتنا الأدبية اليوم.

السبت، 10 ديسمبر 2016

من مي زيادة إلى غادة السمان: رسائل حب في فضاء عام

http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-38241434



رواية لغادة السمانImage copyrightBOOK COVER PICTURE
Image captionكانت رواياتها جريئة في مجتمع محافظ
 "من الناحية الاخلاقية غسان هو مجرد نذل كبير ، كنفاني كان متزوجا من السويدية "آنا" وافتدته بحياتها ومع ذلك كان يخونها مع امراة صارحته منذ البداية بأنها لاتحبه"

أثار نشر الكاتبة السورية غادة السمان رسائل حب تلقتها من الشاعر اللبناني أنسي الحاج عاصفة في أوساط المثقفين والقراء العاديين على وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تكن هذه المرة الأولى التي نشرت فيها غادة رسائل حب مرسلة إليها من شخصية أدبية معروفة، فقبل أنسي الحاج أثار نشرها لرسائل حب من الروائي والناشط السياسي الفلسطيني غسان كنفاني جدلا حاميا.
تباينت مواقف المتفاعلين بين من اعترضوا على نقل الحميم والخاص إلى الفضاء العام، ومن رأوا أن رسائل يكتبها مبدع هي شأن عام بالضرورة من حق معجبيه وقرائه الاطلاع عليه.
وأثار الموضوع إشكالية أخلاقية أيضا، فغادة السمان كانت متزوجة حين وقع كنفاني في حبها، وهو أيضا كان زوجا وأبا.
ولوحظ من ردود الفعل على رسائل كنفاني تشكل معسكرين يفصل بينهما الجنس: فغالبية من أبدوا رد فعل من الفتيات والنساء أعجبوا بالرسائل، وبعضهن تماهى معها وتمنى تلقي رسائل في رقتها وجمالها من حبيب المستقبل، إلا أنهن في نفس الوقت أخذن على غادة كشفها لعواطف غسان في الوقت الذي حجبت فيها رسائلها له.
أما المعسكر الرجالي فكان في أغلبه مستنكرا لكليهما، فقد أخذوا على غسان "ضعفه أمام امرأة لا تأبه بمشاعره" بل واتهمه البعض "بالنذالة" لكونه متزوجا من امرأة أجنبية ضحت مم أجله وتعاطفت مع قضيته فكافأها بالخيانة".
غادة لم تكن الأولى
ولكن غادة لم تكن أول من نشر نصوصا من مبدعين بعد رحيلهم، فقد نشرت الصحفية إيفانا مارشليان كتابا بعنوان "أنا الموقع أدناه" تقول إنه حوار بينها وبين محمود درويش خولها بنشره بعد وفاته.
ولم يقابل هذا الكتاب بالترحيب من الجميع، على الرغم من وجود رسالة تقول إنها موقعة من درويش يخولها فيها بالنشر.
وقبل ذلك عرف الوسط الأدبي رسائل الحب المتبادلة بين الكاتبة مي زيادة والكاتب جبران خليل جبران.
لم يكن جبران الوحيد الذي أحب مي وأرسل لها رسائل حب، فقد عرف ايضا عن الأديب المصري عباس محمود العقاد أنه كان متيما بها.
ربما كان جبران الوحيد الذي بادلته مي الحب حسب ما عرف لاحقا من رسائلها.
لكن لماذا لم تثر تلك الرسائل جدلا حاميا على المستوى الثقافي والشعبي ؟
دور وسائل التواصل الاجتماعي
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تفعيل "الرأي العام" بمفهومه الواسع ومضاعفة هامش المشاركين في نقاش القضايا العامة، ففي الماضي كانت وسائل التعبير المتاحة هي وسائل الإعلام المطبوعة التي كانت حكرا على الصحفيين المحترفين.
ولعل ما يميز ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي هو "اختلاط الحابل بالنابل"، فنجد بينها تعليقات ساخرة، وهزلية، وأخرى رصينة وفلسفية.
وكان بين التعليقات الهزلية "المتنبي يؤكد أنه لم يرسل رسائل حب إلى غادة" و "على كل كاتب، قبل وفاته، أن يعلن أنه لم يكتب رسائل لغادة".
ومن بين الذين علقوا على نشر رسائل أنسي مثقفون وقراء.
تقول الكاتبة سنابل قنو : " أرفض الهجمة العنيفة التي وجّهت ضد الكاتبة غادة السمان، واستهجنها كونها وجهت من قبل كتاب ومثقفين. إن من حق غادة نشر أي شيء تملكه بوجود من أرسلها أو بغيابه، ثم إنها نشرت رسالة لشاعر متوفي ربما كنوع من التقدير و الاحترام والاحتفاء بأديب محب أو لجعل القارئ العربي يتمتع برسائل جميلة ودافئة كتبها الشاعر أنسي الحاج، أو لشعورها بالحاجة لحب مثل الذي احتوته الرسائل فقررت نشرها. "
ووصفت سلوك الذين هاجموا غادة بالذكورية .
أما فاتن ناصر الدين، وهي قارئة متحمسة لكنفاني وكانت من المعجبين برسائله التي نشرتها غادة فتقول تعليقا على رسائل أنسي : " رأيي أن غادة كاتبة جريئة لذلك لا أستغرب لو نشرت صورا حميمة فكتاباتها تدل أنها لم تكن تخجل من شيء وهي صغيرة والآن أيضا لا تخجل من ذلك وهي كبيرة . وبالرغم من أنه ليس للرسائل محتوى مهم فهي كرسائل المراهقين لكني أعتبرها خيانة أمانة ممن أحبها وأهداها مشاعر برسائل يفترض أن لا يشعر بها غيرها، ورغم أنهم غير موجودين الآن ليتألموا من خيانتها لكني أرى أن ما فعلته مؤذ لكل من يحب كنفاني والحاج ويحبها ."
وأخذت فاتن على غادة عدم نشر رسائلها له.
وكان من بين ردود الفعل الغاضبة ما كتبه الأكاديمي هادي عبدالهادي العجلة على صفحته على فيسبوك مثلا" انا لا احب غادة السمان ولا أحب أن أقرأ لها. انسانة مغرورة جداً. نشرت فى السابق رسائل غسان كنفاني لها فى السبعينات واليوم تنشر رسائل أنسي الحاج. ما هذا المرض يا غادة السمان ؟".
ولم يسلم كنفاني من الغضب، فذهب الكاتب الحبيب العليلي إلى وصفه بالنذالة، كتب في تعليق في فيسبوك " من الناحية الاخلاقية غسان هو مجرد نذل كبير ، كنفاني كان متزوجا من السويدية "آنا" وافتدته بحياتها ومع ذلك كان يخونها مع امراة صارحته منذ البداية بأنها لاتحبه وكل ما تشعر به نحوه هو الشعور بالامتنان لانه ساعدها في الحصول على جواز سفر بعد كسر اقامتها في بريطانيا وانتهاء صلاحية جوازها السوري".
إذن هل حياة المبدع، بما فيها حياته الخاصة "شأن عام " ؟


واضح أن الجميع يعتبرها كذلك، فمن ينشر رسائله الخاصة ومن يسارع لاتخاذ موقف عام على وسائل التواصل الاجتماعي ينشره على الملأ وينتزع التعليقات والإعجاب أو الاستنكار من العشرات وربما المئات، وواضح أن الخط الفاصل بين الخاص والعام في حياة الشخصيات العامة هو خط واه ومن الصعب تحديده.

ثقافة "اللى على راسه بطحة".. رسائل أنسى الحاج لـ"غادة السمان" تكشف تناقض المثقفين..

بقلم حازم حسين

ثقافة "اللى على راسه بطحة".. رسائل أنسى الحاج لـ"غادة السمان" تكشف تناقض المثقفين.. أحكام قِيْمَة وانحيازات أخلاقية وهروب إلى الأمام.. وما زال الحب العربى بين "العادة السرية" واختلاط المفاهيم وخوف الخونة

هدأت الحمّى، وعاد ثوار الثقافة العربية أدراجهم، وخبا الدخان فى ثكنات غادة السمان ومعاقلها التى قصفها المثقفون الليبراليون المحافظون "الثوار"، والآن يمكننا أن نجلس على طاولة العقل، إن كان ثمة عقل فى كل ما تشهده الثقافة العربية.

بداية، لا أحب "الجادجمنتاليين" ولست منهم، وفى تصورى أن فساد الحكم والمنطق لدى أى شخص، يبدأ من رفع لافتة القيم، واتخاذ المواقف على أرضية أخلاقية، ومن هذه النقطة الضاربة لجذور التفكير السليم فى اعتقادى، رأيت سيلا عرما من التناقض والتسطيح وادعاء الفضيلة، فى قضية نشر الكاتبة السورية غادة السمان، رسائل الشاعر اللبنانى أنسى الحاج لها، المؤرخة بالعام 1963، وغنّى كل ناقد أو حاقد أو خائف على ليلاه، أو بالأصح رسائله المخبوءة فى بطن الغيب، ولم يقترب أحد أو يحاول، من الثقافة والإبداع والتقدمية وفكرة الشخصية العامة فى أى وجه من الوجوه الموجبة للنقاش الموضوعى، استجاب الجميع لثقافة "نجد" المُعمّمة على الخريطة العربية، منحازين إلى ممارسة العادة السرية، بدلا عن انتزاع قُبلة فى وضح النهار.
شخصيا لم أستسغ السير فى مواكب اللعنات والمحاكمة والفرز الأخلاقى، ولا قطعان الرفض والاستهجان وقصف الجبهات، ولمّا أقرأ الرسائل بعد، لهذا آثرت قراءة رسائل أنسى الحاج لغادة السمان قبل التفكير فى الاشتباك مع الموضوع، ولم أجد فى الرسائل التسعة ما يمثل انتهاكا لعصمة الشاعر اللبنانى وخصوصيته، ولا ما يمكننى حسابه فى إطار التلصص واستباحة المساحات الشخصية، لم آخذ موقفا ولو هيّنا من غادة أو من أنسى، ولكننى أخذت موقفا صريحا ولا تفكير فيه من طوابير القضاة الأخلاقيين، ويعلم الله عاداتهم السرية التى لا أعلمها، ولى عليهم فساد منطقهم واختلال مفاهيمهم وتداخلها.
هل أخطأت غادة؟ هل خان أنسى الحاج؟
البداية البسيطة والسطحية، على مذهب جموع الثائرين العرب، أنه إن كان ثمة خطأ فى موضوع رسائل أنسى الحاج لغادة السمان - وشخصيا لا أرى أى خطأ - فهو فى وجود الرسائل من الأساس لا فى نشرها، فى هذا الشاب العاقل ذى الستة والعشرين عاما، المتزوج ووالد الطفلين، الذى يكتب رسائل عاطفية حارة وملتاثة لفتاة فى منتهى عقدها الثانى، مقتحما خصوصية الفتاة ومبتزا لمشاعرها، إن كانت لم ترد على هذه الرسائل مثلما قالت، وإن ردت فالجريمة تخص أنسى وحده أيضا، ففى كل الأحوال هو رجل خائن، وفق فلسفة الرفاق الجادجمنتاليين الأخلاقيين، انتهك حقوق زوجة وطفلين، وطعن كرامة أنثى قارة فى بيتها طمعا فى أنثى هجرت وطنها بحثا عن العلم والأدب، ولا يختلف هذا المنطق لدى عمّن ينتقدون الأنثى ويحاسبونها على ما تلاقيه من تحرش، ومن يلومون المحاربة التى لا تصمت على انتهاك وتعدٍّ، ومن يرون النساء مشروعات جنسية مفتوحة وأهدافا محتملة للمتعة المجانية، أنا ضد هذه التصورات كلها، ولكن هذا منطق الثائرين الذى لم أستطع رؤية ثورتهم خارجه.
أزمة الرسائل.. خل المفاهيم لدى المثقفين العرب
البداية العاقلة فى رأيى تنطلق من التحرير الإجرائى للمفاهيم، لفكرة الكتابة ومجالاتها، لمعنى الشخصية العامة وحدودها، ولمستوى ولاية الشخص على دوائره الشخصية المتقاطعة مع الآخرين، أو بتصور أكثر بساطة، كيف يتأتى لمثقف امتدح رسائل جبران ومى زيادة، ورسائل المنفلوطى للشخصية نفسها، ورأى علاقة سارتر وسيمون دو بفوار فتحا إيجابيا، وامتدح كتابات هنرى ميلر وعلاقاته، وقس على هذه النماذج عشرات أخرى من الرطانات التى لاكها المثقفون العرب، يقف أمام رسائل أنسى لغادة موقفا أخلاقيا، يليق بشيخ جامع لا بمثقف ينتصر للكتابة والإبداع وقيادة العقل إلى حدود صكها الأسلاف ويأباها الواقع الحى، وأيضا كيف نتعامل مع الشخصية العامة وفق مفاهيم سوسيولوجية محافظة، تمنحهم عسل الحضور والشهرة والتحقق وتذبّ عنهم لدغات النحل، فالحقيقة أن أنسى الحاج شخصية عامة، يجوز فى حقه ما لا يجوز فى حق آخرين من عوام الناس وآحادهم، وفى ظرف موضوعى ناضج كان يُفترض أن يجد زائر بيروت مساحة تحمل اسم الرجل، تضم ملابسه قبل كتاباته، وتطلعنى على غرفة نومه لا على رسائله فقط، بينما لا يحق لى دخول غرفة نوم كائن عادى فى هذا العالم، والنقطة الثالثة والأهم فى تصورى، أن غادة السمان لم تخترق خصوصية أنسى الحاج، السيدة الفاضلة التى رمى الرعاع عرضها بسفالة واستخفاف، تقاطعت دائرتها الشخصية مع دائرة الشاعر اللبنانى العاشق، فحق لها أن تتصرف فى دائرتها كما شاءت، وحينما دبج الحاج رسائله التسعة، أخرجها من كهنوت الشخصى إلى مشاعية العام بدرجة ما من درجات العموم، باعتبار النسخ الأول وحدة ضئيلة وأولية من وحدات النشر العام، ولا فارق فى تصورى بين القلم وماكينة الطباعة، وحتى أسرار الدول وملفاتها الكبرى تتاح للنشر بعد مدة محددة من السرية، والسيدة الفاضلة سترت الرسائل أكثر من نصف القرن، رغم أنها شأن شخصى يخصها قدر ما يخص أنسى الحاج، وربما أكثر وأكثر، إذ بخروج الرسائل من عصمة صاحبها لم تعد مملوكة له بأى صورة من الصور، النموذج الأقرب إن شئت مقاربة نظرية وثقافية - مع حفظ مساحة التباين فى المثال ومجال عمل النظرية الأساسية - فكرة موت المؤلف لدى "رولان بارت" وانقطاع الذات المنشئة للخطاب عن خطابها، لم يعد أنسى حاكما للنص ولا طرفا فيه، أصبح نصا حيًّا يتنفس فى هذا العالم بمفرده، فقط للمصادفة شهد ولادته وبداية تنفسه شخصان، أنسى وغادة، ولا حق لهما فى مصادرته أو تفسيره، ولا واجب علينا فى اتخاذهما مرجعية لقراءته، ولا تثريب على ناشره وقارئه.
الحب العربى.. حرية "غادة" فى وجوه مثقفى العادة السرية
الخلل الأكثر عمقا وفداحة من فكرة تداخل المفاهيم السابقة، وفق ما أراه، هو استمرار عبادة المثقفين العرب لقيمهم القديمة الرثة، وموازنة أمور الراهن وفق تصورات مرجعية وإحالية لا تبتعد كثيرا عما أسس له الفقهاء ورجال الكهنوت الميتافيزيقى، ما زال الحب عادة سرية لدى الذهنية العربية، على كثرة ما تقترفها، تناضل لإثبات القطيعة الكاملة معها، اعتقادا عميقا منها بأنها مساحة ملوثة لا تليق بسيكولوجيات الأطهار المعصومين من آباء الكلمة، هكذا وفق مستوى مركزى من المعرفة المؤدلجة والمؤسسة على ركائز قبلية وعقدية، ومن هنا تكتسب العلانية التى تقف شامخة كاحتمال قائم لمآلات الرسائل والعلاقات المبتورة والعادات السرية لمثقفى الراهن المُعاش، تهديدا خطيرا وعضويا للصورة النمطية التى تأسست عليها الثقافة العربية وتشكلت وفقها صورة المثقف، وهكذا كانت الجموع الثائرة تحاول الثأر لأنفسها بمواقف استباقية، تحاول صيانة سرية رسائلها، الحالية أو المستقبلية، أكثر من الثورة لاسم أنسى الحاج والأسى لسريته المهدرة.
رسائل غادة تنتصر لـ"أنسى الحاج" بالحب 
ما فعلته غادة السمان حق شخصى لها، لا يجوز لأحد انتقاده أو قياسه بمازورة أخلاقية، وبعيدا عن فكرة الحق، فالسيدة لم تتلصص ولم تتحرش ولم تفتح دولاب أنسى الحاج ولا غيره، السيدة لم تقتحم الناس فى صناديق الرسائل الخاصة ولم تخطف رجلا من زوجته، والدليل على هذا الرسائل نفسها، لم تدخل علاقتين فى وقت واحد، ولم تتمرن على النوم الهادئ فى أكثر من سرير، وحدها العقلية المحافظة الأخلاقية تفعل هذا وتنتقده ويصدمها نشره أو الحديث عنه، العقلية السوية - مثل غادة السمان ومن على شاكلتها رجالا ونساء - يعرفون حقيقة أننا بشر، بشر وحسب، لا يحق لنا أن نعيشها ملائكة ولا أن نزايد على الناس بدنسنا المخفى عن عيونهم، لهذا ستجدها تكتب هكذا، وتنشر هكذا، وتعيش هكذا، وستجدها وهى سيدة فى الرابعة والسبعين من عمرها، غضة القلب والروح، تعرف قيمة أن تكون حقيقيا وعلى طبيعتك طوال الوقت، وتنتصر لقلوب العشرينيين أكثر من انتصار أصحابها لها، وتصون حق أنسى الحاج فى أن يطلق رئتيه على وسعهما، كيفما شاءت له الحياة وهواؤها، لا أن يقبض على صدره بذراعيه ليحبس الهواء الذى لم يُخلق ليُحبَس، فقط يفعل "الجادجمنتاليون" هذا، فقط يفعله مثقفو العادة السرية.
سيدتى غادة السمان، محبة لروحك، وأسف على تطاول المتطاولين، ووردة بين دفتى رسائل أنسى لك، كونى بخير حتى يكون أنسى وغسان وجبران ومى والعقاد والمنفلوطى وكل المحبين بخير