بقلم د.إبراهيم خليل
يشهد الأردن في الظروف الحالية ازدهارا لافتا في نشر رواية اللارواية، إذا جاز التعبير. فالمتابع يلاحظ كثرة الروايات الصادرة حديثا، وهي كثرة كان من الممكن الشعور بالفخر والزهو حيالها، لو أن الروايات المنشورة تتوفر على الحد الأدنى من شروط السرد الروائي، لكن الواقع يحبط المتابعين المهتمين، فأكثر هذه الروايات لا يدل إلا على جهل المؤلفين بفن الرواية، واستخفاف الناشرين بعقول القراء، ما دام المؤلف مستعدا وقادرا على تسديد كلفة الطباعة، كلا أو جزءا.
فقد وقع بين يدي عدد من هذه الروايات التي يصدق على مؤلفيها وصف الناقد عبدالله إبراهيم لهم بعبارة «غُشماء السرد» فإحدى هذه الروايات (كذا) تتضمن فيضا من المذكرات واليوميات والشهادات، عن أحد أبطال المقاومة الفلسطينية في حرب المخيمات في بيروت، ما بين عام 1982 و1987 وهو الفدائي الحيفاوي الأصل علي أبو طوق. فالمؤلف مهند الأخرس يقدم لنا في نحو 416 صفحة من القطع المتوسط ركاما من الأحداث والمرويات التي لا ترتبط برابط فني وتسلسلي سردي، وإنما كل ما يربطها ببعضها أنها تتعلق بشخص واحد، شريف ومناضل هو علي أبو طوق الذي اغتاله حلفاء العدو الصهيوني في مخيم شاتيلا يوم 27/ 1/1987، وحملت عملية الاغتيال توقيع كل من الجيش السوري وحلفائه، وفي مقدمتهم حركة أمل الطائفية.
والحق أن النوايا التي ينطلق منها المؤلف مهند الأخرس، في هذا الكتاب الضخم الذي وسمه بعنوان «الجرمق» وهو اسم الكتيبة التي قادها أبو طوق في معركة الشقيف، نوايا طيبة وأكثر من جيدة، ولا يمكن لقارئ هذا الكتاب الصادر عن دار الشروق في عمان (2018) إلا أن يحترم هاتيك النوايا احتراما كبيرا. بيد أن النوايا شيء وكتابة الرواية شيء آخر. فثمة مثل إنكليزي يقول: الطريق إلى جهنم معبدة بالنوايا الحسنة. فالكاتب الذي يعلن في كتابه هذا عن نواياه الحسنة، يقود نفسه إلى جحيم القراء بكلمة (رواية) المسطورة على الغلاف. وهي لا تعدو أن تكون كالطعم الذي يوضع في رأس صنارة الصياد، ليلقي القبْض على السمكة. فالكاتب يبدأ كتابه هذا باستغراب الراوي، لأن صديقا له سمعه يقسم بعلي أبو طوق بدلا من أن يقسم بالله. والكتاب كله بصفحاته ومروياته المتراكمة، يجيب عن السؤال: لمَ يقسم بعض الفلسطينيين باسم هذا الشهيد علي أبو طوق. فهو وفقا لهذه المرويات مناضل كغيره، بل هو بشهادات موثقة ومتلفزة، مدرسة نضالية بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو من صنف الثوار الذين يقدمون نموذجا لا يتكرَّر. ولهذا فإن سيرته العطرة في هذه المرويات تتكدس فيها الاعترافات، والشهادات، واحدة تلو الأخرى، للإشادة به، وذكر مناقبه التي لا تعد، ولا تحصى.
نموذج جبرا
ولو أن المؤلف – غفر الله له وعفا عنه- لجأ لما لجأ إليه جبرا إبراهيم جبرا في روايته «البحث عن وليد مسعود» فجعل من شخوص الكتاب شخصيات روائية تلتقي وتفترق وتتخاصم وتأتلف حول شخصية علي أبو طوق، وأن يقدم لنا بعض ما قام به أبو طوق من أفعال في هيئة أحداث تقع وتجري على أرض الواقع، لا على هيئة اقتباسات، أو شهادات، يدلي بها بعض رفاق السلاح، لأصبح ما يقدمه في الكتاب رواية ، وعند ذلك يجوز للقراء أن يختلفوا أو يتفقوا في ما إذا كانت رواية جيدة أم أنها رواية ركيكة. بيد أن مهند الأخرس لا يبدي أساسا الرغبة في التخطيط لكتابة رواية، فهو لا يُعنى بغير هذه الفصول التي تتضمن شهادات وتقارير لا تخلو من استطرادات وحوارات مملة ومكررة، عن تسمية فلسطين بهذا الاسم، وعن الساميين، وعن تاريخ فلسطين الغابر والحاضر، أو عن البحر الميت، والملح، أو عن دور الأغنية في الثورة الشعبية، أو عن عشاء في مزرعة في الأغوار على كثب من البحر الميت، أو عن البرنامج التلفزيوني الذي يتم تصويره في منزل معين الطاهر في عمان، وفيه تلقى شهاداتٌ لعددٍ من رفاق السلاح: آمنة جبريل، وأحمد عودة، وجمال أيوب، ومحمد الشبل، ومريم عيسى، ومحمد درويش، وحنان باكير قبل أن يدلي معين الطاهر بشهادته عنه.
وعلى الرغم من أن الكاتب يومئ بشهادة معين الطاهر لانتهاء تصوير البرنامـــــج، إلا أنه يستأنف هذه الشهادات في الفصل التالي (السادس عشر) موردًا شهادات أخرى، وكأنه كان يعتزم التوقف عن ذلك في الفصل السابق، ثم ذكَّره آخرون بما يرويه الرفاق الذين لم يذكرهم في السابق، فأضاف شهاداتٍ أخرى في ما يبدو برنامجًا وثائقيا يبث على شاشة إحدى الفضائيات. يقول أحمد أبو جودة في شهادة أخرى «حاصرنا الجيش السوري. وطلب منا مغادرة المنطقة. وصارت قواتنا في حالة استنفار شديد، لكن مين اللي ورا الانشقاق؟ السوريون» تلي هذه الشهادة شهادة أبو العواصف وكريس يانو الذي تعرف إلى علي أبو طوق في النبطية منذ عام 1981.
ولأن أبو طوق ارتبط اسمه بقلعة الشقيف، حتى أنهم كانوا يسمونها قلعة أبو طوق، فقد أفرد المؤلف لهذه المعركة الفصول من 17 إلى 19 الممتدة من ص 308 حتى 415 بدون أن يفوته ذكر أسماء الشهداء الذين سقطوا فيها اسمًا تلو الآخر. وهذا توثيق لا غبار عليه، قطعا، بل إن ما يرويه المؤلف عن علي أبو طوق هذا، بجلِّ ما فيه من تراكمات وتفصيلات ضرورية أوغير ضرورية، يشد القارئ شدًا. لكن هذا القارئ بلا ريب سيتخلص من عبء الكلمة المسطورة على الغلاف (رواية) لأنه إذا تذكرها، وتذكر معها أنه يقرأ رواية، فسيندم ندما شديداً، لكون الكتاب ليس رواية على نحو لا يقبل الشك. إذ إنه لو كان رواية فعلا لوجب أن يتساءل: أين هي الشخصيات الروائية؟ وكيف تناول الراوي الوقائع؟ وأين هي حبكة الرواية، وهل هي حبكة صاعدة أم هابطة؟ وهل هي غامضة أم مكشوفة؟ منفردة أم مركبة من حبكتين فأكثر؟ ما الصيغة السردية التي اتبعها المؤلف في تحويل الحكاية من قصة إلى خطاب سردي؟ وما علاقة هذه الصيغة بتلك الحكاية؟ كيف وظف الكاتب الزمن في بناء محكياته السردية؟ وهل اتبع التسلسل الأكرونولوجي؟ أم لجأ إلى السرد الذي يتوافق مع دورة عقارب الساعة فتكسر لديه النظام الخطي للزمن؟ وهل نجح المؤلف مهند الأخرس في إضفاء صفة البطولة الروائية على نموذجه الفدائي علي أبو طوق؟ أم أنه مثل غودو في مسرحية بكيت في انتظار غودو؟ وحتى هذه المقاربة بين غودو وأبي طوق ليست منصفة؛ لأن غودو في المسرحية المذكورة يتوقع المشاهدون حضوره، في حين أن «الجرمق» بدأت بذكر استشهاد أبي طوق، وتكرر تأكيدها لهذا الاستشهاد في جل ما تلا ذلك. أما وليد مسعود في رواية جبرا المشهورة، فهو شخصية سردية، إذ يمثل اختفاؤه لغزا شُغلت بحله الشخصيات الأخرى في الرواية.
زبدة الحديث أن «الجرمق» لمهند الأخرس لو نشر بصفته كتابا توثيقيا، أو شهادة عن الشهيد النموذج (أبو طوق) بدون أن يشار إليه بكلمة رواية، التي تعني في ما تعنيه أنه متخيَّل سردي، لكان أفضل ما كُتب، أو من أفضل ما كُتب بكلمة أدق، عن تلك الحقبة من نضال شعب فلسطين، لكنه، بهذا التمويه، وادّعاء ما ليس فيه، سلكه للأسف في عداد الكتب التي تنشر على أنها روايات، وما هي بالروايات.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن