قصة قصيرة
بقلم: ديمة مصطفى سكران
بقلم: ديمة مصطفى سكران
لم أكن أعرف أن المسافة بين قبة قميصه ونهاية كتفه ستشغل تفكيري إلى هذا الحد، كثيرا ما كنت أميل رأسي عن الحاسوب وهو على المكتب المقابل متمنية في سري لو كنت أستطيع إمالته على هذه المسافة الساحرة، لكن وجهي الجدي وملامحي الرزينة ما كانت أبدا لتشي بهذه الأمنية، أنا الموظفة خلود الثلاثينية المحترمة، التي يعرف جميع الزملاء أن عليهم أن ينتقوا كلماتهم بحذر أثناء مخاطبتها، لن يتوقع أحد أن أكون مفتونة بمسافة صغيرة ما بين قبة قميص هذا الرجل وذروة كتفه، آه.. تنهدت في سري!
عندما دخل السيد عبد المعطي إلى المكتب لأول مرة لم أر فيه سوى صلعة رأسه الأمامية وشاربه الكث، كان لقاؤنا الأول خيبة أمل لي بعد ترقب هذا الموظف الجديد لأسبوعين، وأول ما فكرت فيه هو أن الشعر متوزع في رأسه بطريقة خاطئة، فلو ما كان في شاربه كان في رأسه كان ليكون أكثر وسامة بكثير، لكنه لم يكن ليستطيع بالتأكيد أن يعرف ما كان يدور في خلدي في تلك اللحظة، حين حييته تحيتي الأولى بيدي المرفوعة إلى صدري كي لا أصافحه.
لم تعش تلك الخيبة إلا يومين اثنين فقط، فانطباعي عن السيد عبد المعطي تبدل بعد هذين اليومين تبدلا سريعا. بالتأكيد لم يبدأ الأمر من كتفه أو من قبة قميصه، فهذه أمور لم ألحظها إلا لاحقا، لكنه بدأ من كلماته، من صوته! لم أكن أتوقع أن هذا الوجه متواضع الوسامة كان يخفي هذا القدر الكبير من لباقة العبارة ورقة الحديث. لا يتعلق الأمر بمفرداته التي يختارها بعناية ليصوغ جملا ذكية وفصيحة فقط، بل بالطريقة التي يقول فيها هذه الجمل، بهدوئه وموسيقا حروفه، بالطبقة التي يختارها من صوته حين يتكلم. كانت عبارات الشكر التي وجهها إلى أبي راغب مسؤول البوفيه هي المرة الأولى التي لحظت فيها هذا الأمر فيه، حتى أنني أملت رأسي عن الحاسوب لأتأمله وهو يتناول فنجان القهوة من الصينية مبتسما للرجل بود مخاطبا إياه بتلك النبرة الآسرة، وفجأة لم أعد قادرة على رؤية صلعته الأمامية بذات الطريقة التي رأيتها فيها أول مرة، بل بدت خصلات شعره الخلفية وهي مسترخية على هذه الصلعة جميلة للغاية، وبدا شاربه الكث شاربا رجوليا تتوارى خلفه ابتسامة خجولة جذابة! إنها وسامة من نوع مختلف هذه التي يملكها السيد عبد المعطي، وسامة لا تستطيع المرأة أن تلحظها إلا بعد أن تخوض معه حديثا. وهذا ما حدث لاحقا بالفعل، أحاديث وأحاديث، وثرثرات على فناجين القهوة وكؤوس الشاي، وأسئلة عامة وأخرى شخصية تبين لي فيها أن شريكي الجديد في المكتب يحب مطالعة الروايات التاريخية مثلي، وهو فوق ذلك أربعيني أعزب! هل يعني ذلك أنه يمكن أن يكون هو؟ الرجل المنتظر؟
من المبكر جدا قول ذلك ربما، لكن الدوام الطويل في المكتب صار يبدو منذ وجوده ممتعا جدا وسريع الانقضاء، وصرنا نتبادل إلى جانب الأحاديث الكتبَ المفضلة ومقترحات الأفلام والنصائح الشخصية، وصرت أحيانا أرفع رأسي عن الحاسوب أو أستغل انفعاله في حديث سياسي يشيح فيه عني لأسترق النظر إلى تفاصيله، أصابعه الثخينة ذوات العقد، أزرار قميصه المشدود عند الصدر، كاحله الذي يبرز من فوق جوربه عندما يضع ساقا فوق ساق، تفاصيل صغيرة أحتفظ بها لنفسي كالأسرار الدافئة، لكن كنزي الثمين الذي كان يحلو لي استراق النظر إليه دوما هو هذه المسافة الساحرة الممتدة بين قبة قميصه المكوي النظيف البارز من تحت سترته الرسمية وذروة كتفه العريض! كنت أهز رأسي باهتمام مصطنع وأنا أتابع حديثه، بينما يشغلني عما يقول افتتاني الخفي بهذه الجنة الصغيرة، هناك، حيث أود لو أستطيع إلقاء رأسي، تلك الجنة السرية التي تعيش وتتوالد فيها كل أمنياتي. نعم، لا أزال خلود الوقورة التي يحسب لها الجميع حسابا، لا أزال رزينة في مشيتي وكلامي، محتشمة المظهر جادة الملامح، أشد علي حجابي وأعقد حاجبي كلما كلمني رجل، لكن إخفاء إعجابي بالسيد عبد المعطي، والتظاهر بأن كل شيء كان عاديا جدا لم يكن أمرا سهلا علي، كنت مسرورة، مسرورة جدا، وكان وأد البسمات التي تتفتح كزهر المشمش في وجهي بدون توقف عندما أكون معه أكثر الأمور صعوبة في الدنيا علي.
لكنني لم أحتج إلى وأد هذه الابتسامات لمدة طويلة، لأنها ماتت من تلقاء نفسها دفعة واحدة، منذ انتهت إجازة زميلة المكتب الثالثة، الآنسة غنوة، العشرينية الحسناء جميلة القوام، ذات أوشحة الرأس الملونة، والثياب المعطرة، والمكياج المتقن، والأظافر الاصطناعية! كان دخولها الصاخب إلى المكتب بعد شهر الإجازة وحده كافيا ليفسد عليَّ المكتب والسيد عبد المعطي والجنة الجميلة التي تقع بين قبة قميصه ونهاية كتفه. بادرته بتحية ودودة عالية، وبضحكة عريضة كأنها أُخبرت للتو بنكتة، وبيد جميلة ناعمة مطلية بالأحمر ممدودة على طولها نحو يده!
لقد تغير كثيرا بعد قدومها، صرت أرقبه كيف كان يسترق النظر إليها كل حين، أو يفتعل أي مناسبة ليخاطبها. لم تعد الكتب التي أحضرها تثير اهتمامه، ولم تعد أحاديث السياسة والتاريخ تجذبه طالما أن غنوة تملها بسرعة، ولم تعد كلماته الرقيقة المنتقاة التي ينطقها بصوته الساحر موجهة في غالب الوقت إلا إليها! رغم أنه لم يكن ثمة حقا ما يمكن الحديث به مع شابة كهذه، كل ما تستطيع أن تسأل فتاة مثلها عنه هو لونها المفضل وبرجها وحصيلة رحلة تسوقها الفائتة، وكل ما كانت لتستشيرك به هو الحركة التالية في سوليتير العنكبوت الذي تلعبه على حاسوبها أو أي الخواتم الجديدة تليق على طلاء أظافرها! وحين اقترحت عليهما معا مساعدتي لحل الكلمات المتقاطعة في استراحة الظهر، لم يبد له جهلها بعواصم العالم أو أسماء الشعراء أو تاريخ الحرب العالمية الثانية أمرا مريعا! إنها حتى سألت بحواجب مرفوعة وسذاجة قاتلة إن كانت معركة حطين غزوة من غزوات النبي! ولم يفعل السيد عبد المعطي شيئا تجاه بلاهتها إلا التعاطف والمجاملة!
آه حتى الكلمات المتقاطعة لم تفلح، أصبحت أحاديثهما تصيبني بالصداع، وصوته الجميل الذي يهمس به إليها صار عندي نشازا غير محتمل، وصارت كلماته اللبقة المنتقاة تنغرس كالسهام المسمومة في سمعي. أما جنتي الصغيرة التي زرعت فيها كل أمنياتي فصرت أشيح عنها كلما وقعت عيناي عليها، فلم يعد لأملي فيها موطئ قدم.
وكنت أعرف كيف سينتهي هذا كله، فلم يحتج الأمر أكثر من أسبوعين حتى يدرك السيد عبد المعطي أن شابة مثل غنوة يحوم حولها ثلاثة أرباع الموظفين، وأنها لم تكن لتختار أربعينيا أرمل ذو صلعة أمامية وشارب كث وذوق قديم في الثياب على حسن المحاسب الأشقر الشاب الذي يرتدي الجينز ويضع الأوشحة ويثبت شعره بالجل! كانت خيبة السيد عبد المعطي واضحة في وجهه المصدوم عندما قطعت غنوة حديثه معها بفظاظة لتركض نحو حسن حين أومأ لها من الباب. تظاهرت أنا بأني لم ألحظ شيئا بينما كان السيد عبد المعطي يعود إلى مكتبه بخطى مرتبكة وبطيئة!
مر يومان كئيبان في المكتب، السيد عبد المعطي صامت هادئ على غير عادته، غنوة تحاول حل لعبة السوليتير دون أن يبدو عليها أي إدراك لأي شيء، وأنا أتشاغل عنهما معا بملء حقول الجداول في الحاسوب. وعندما غادرت غنوة المكتب مدندنة بأغنية ما، ترك السيد عبد المعطي مكتبه ومال إلي مستندا بكلتي يديه إلى طاولتي هامسا بصوته الجميل ذي اللحن الموسيقي: لم تخبريني أي كتاب تقرئين الآن يا آنسة خلود؟
رفعت بصري عن الحاسب، كان وجهه ودودا جدا، أملت رأسي وعيناي على فردوسي المهجور الخرب، على المسافة بين قبة قميصه ونهاية كتفه، هنا، حيث ماتت أمنياتي وأقفرت جنتي. ابتسمت له ببرود:
_ لا أعتقد أن لدي رغبة بالقراءة هذه الأيام يا أستاذ عبد المعطي. آخر كتاب قرأته كان يحمل عنونا جذابا، لكنه بعد تصفحه خيب أملي!
ابتسم السيد عبد المعطي بارتباك، لا أعتقد أنه أدرك ما أرمي إليه، لكن الكآبة كانت لا تزال بادية عليه. رفع جسده عن المكتب، ارتخت ذارعاه وتهدل كتفاه، وفي تلك اللحظة التي استدار فيها مغادرا بخطاه البطيئة المرتبكة ذاتها، رأيت جنتي الخربة تنهار عن كتفه تماما، وعن ذراعه الممدودة الرخوة كانت أمنياتي اليابسة تتساقط تباعا.