بقلم: بروين حبيب
جريدة القدس العربي
ولد الحب أولا، ثم ولدت الخيانة بعده، ثم ترافقا معا على خط قدري واحد، مشى الحب في المقدمة، ومشت الخيانة في أثره مستاءة من تلك المسافات التي تفصل الفائز الدائم في تلك المسيرة الحياتية الغريبة.
قدّم الحب قرابينه الجميلة، واستخدمت الخيانة طقوس الاحتيال التي خبرتها بالفطرة للاستيلاء على محاصيل الحب دون عناء…
ثم جاءت الأسطورة الدينية لتؤكد على امتداد جذور الخيانة في التركيبة الآدمية، دون أن نفهم تماما هل كان آدم أول الخلق أم أنه المعجزة التي فصلت تاريخ البشرية إلى نصفين، ما قبل الذكاء وما بعده، مع أنه في كل الحالات هبط من جنان الله بعد أن خان الثقة الربانية..!
ثم جاءت الكتب على اختلافها، لتؤكد أن الخيانة هي التي تصنع الحدث، و هي التي تغذي الحياة بالاستمرار، وهي التي تُبنى عليها جماليات الأقوال و المقولات و الحكايات. فقبل تلك الخيانة العظمى لم تعد السكينة تسود الكون إلى يومنا هذا.
تتلوّن الخيانة بألوان قوس قزح، أي أنها ترتدي أجمل حللها، و لها قدرات عجيبة غريبة، إذ بإمكانها أن تخترق السماء والماء، وتشق دروبها في الأراضي الوعرة وتبني مبانيها الشاهقة فينا وحولنا، فتجمع الخونة بالمحبين، وتكسر قلوبنا، وتفرق بين الناس، وتنشئ بينهم عداوات لا نهاية لها، ومع هذا لا نجد سبيلا لنبذها نهائيا من حياتنا، وكأنّها الملح الذي يعطي مذاقا طيبا لأيامنا، وكأنّها بكل أقنعتها البراقة روح الحياة، وكل ملذاّتها…
لا مكاسب للخائن حتى وإن كانت لنفسه، لأنّه لا يتلذذ بالنهايات السعيدة، و لا تهدأ نفسه إلا بتلويث حياة من حوله، لا ود علني له، ولكن الجميع يكن له محبة مبطنة، أو لنقل إنه محاط بالقبول الخفي، وإن كرهه البعض فإن البعض الآخر بحاجة إليه إلى أن تتحقق مآربه، ولهذا يُصِرّ على ممارسة هوايته علنا، ليس تباهيا بل ترويجا لمواهبه، ويبدو أن فعل الخيانة مقترن بمتعة ما، وإن كانت مؤقتة ويتبعها في الأخير ندم وحسرة، و إلاّ لماذا يخون الحبيب حبيبه والصديق صديقه…والآدمي خالقه؟
يولد الخير، ثم يليه الشر مرادفا، يجتمع الخير بالحب، و يجتمع الشر بكليهما، ألم يقل الأقدمون « و من الحب ما قتلـ«؟ فكيف للحب أن يقتل؟ و كيف للشر رغم بشاعته أن تُمنَح له فرصة ليعيش إلى الأبد؟ و إن شئنا أن نطرح الأسئلة المستحيلة فلنبدأها بالسؤال الذي يتهدد كل أسس إيماننا، لماذا يُمنح الشيطان فرصة ليعيش؟ ويُعاقب آدم عبر رحلة أرضية طويلة الأمد يرى فيها كل أنواع الأهوال مع سلالته…فيما ينتهي دور الشيطان في بدايته، ويصبح مقتصرا على إطلالات قليلة هي تبعات الكارثة التي حدثت بسببه.
يدور الأدب في فلك الحب والخيانات والدسائس أيضا، وكلما كان قريبا من هذه النفس العامرة بالمشاعر المتناقضة، كلما كان الأدب أنجح، وأقرب للمفهوم الإنساني العميق…
ويبدو أن خط الحب وحده لا إثارة فيه، وهو نفس خط الخير، وأن الحكمة من هذه الحياة تكمن في هذا الصراع المستمر بين هذه المشاعر المتناقضة.
حتى الناس يكتفون بهذه العناصر كملح لحكاياتهم، وهم لا يطلبون أكثر منها، أما القلة الذين يريدون حياة مثالية، تنبع من العدم الذي نجهله وتسلك مسارا واضحا وجميلا ومملا فهؤلاء حتما نقاد حالمون…فالخيانة والغدر و التخلي و ما شابهها أشياء تسكننا، وليس من الضروري أن نراها عند الجيران أو في الأفلام أو نقرأ عنها في القصص الديني لننسبها لكبير الخونة أو في مسرحيات شكسبير لننسبها للساحرات الشريرات، كل تلك العناصر المقيتة موجودة في داخلنا، وهي تتناسل في خلايانا وتتوالد عبر أجيال البشرية جمعاء…
في نصوصنا لا شيء مُبتكر، نحن نصف الأشياء كما نعيشها، نصف تلك الأصوات الصاخبة في داخلنا، و التي لا يسمعها الآخرون، نصف الخيانة كما هي في أعماقنا، سواء قمنا برعايتها علنا أو بقمعها وإخماد عنفوانها، إذ يبدو أن ازدهار تلك المشاعر والسلوكيات البغيضة خاضع حكما لقرارات نتخذها خلال عملية التفكير. بالتالي لا أدري إلى أي مدى يمكننا أن نحتفظ بتلك الشرور في صناديق رؤوسنا وتفكيرنا وقلوبنا؟
هل يمكن تخيل العملية بعد تفكيك عناصرها الأساسية، والتركيز عبر منظار الرؤية لتبَيُّنِ منبع الشيء وطريقة قمعه؟
تبدو العملية بأسرها عملية معقدة وهي في الغالب لا تهم الأغلبية منا، لكن هذا ما فعله بالضبط كل الذين اخترعوا الأدوية لأمراض مستعصية، و أجهزة لتسهيل حياتنا، وغيرها من عمليات التفكيك التي كشفت البنية الحقيقية لكل مكون أمامنا…
كلنا نتاج عملية تركيب لعناصر عديدة، وكما في علم الكيمياء الذي كشف سر الماء والهواء ومكونات العالم الذي نعيش فيه، فكذلك هو جسم الإنسان، اكتشف علم التشريح بعضا من أسراره، وتطورت العلوم لتفكك كل عضو من أعضائه، والآن نقف عند هذه النّفس التي تعج بكل ما يصنع منا ما نحن عليه، من رغبات وميولات وصفات جيدة وأخرى سيئة.
و أعتقد أن ما قرأناه لسيزار لومبروزو في الثانوي، ونحن مراهقون، ما كان يجب أن ندرسه آنذاك، لأن إستيعابنا للموضوع كانت تواجهه قلّة التجربة و قلة القراءات، وفي ذلك العمر ما كنا لنناقش تلك النظريات جميعها، بل كنا نتقبل النظرية مرفقة بنفيها جملة وتفصيلا لأنها لا تتفق مع خلفياتنا الدينية و الثقافية، ولعل أكثر ما جعلنا نقذف بشخص لومبروزو إلى سلة المهملات التي في رؤوسنا هي أنه يهودي، وهذا كان سببا كافيا آنذاك لتأكيد خبله…
أما الجامعات الجادة والأكاديميات المخصصة للبحث فقد وضعت معطيات الرجل أمامها وتعاملت معها بشكل علمي، ما أفرز نتائج مبهرة لدراسات حول موضوع الإجرام وفكك ألغازا قربت الحقيقة لمحاربي الجريمة و السلوكيات العدائية، ولعلنا نهمل فضله في التأسيس لعلم الجريمة، وإطلاق اختبار الكذب عبر جهاز يقيس نبض القلب…
عودتي لنظرية لومبروزو تقوم على كون الشر والخيانة والغدر وحب إيذاء الآخر بذور مختبئة فينا ولها ما يغذيها دائما، ولكي لا نبرر وجودها و نبيحه بسبب تلك المغذيات توقفت عند الحد الفاصل بين الخير والشر وهو « خط القرار» و هو وحده يرمي المسؤولية على صاحبه، و إن كنت أدرجت بعض العناصر الشريرة تحت عنوان واحد فإن ما يكتبه الروائيون عادة لا يختلف عن هذا العنوان الشامل لما عاشوه وعايشوه، فكل تعب وليد تراكمات، و كل حادثة خيانة تصادفها ثقة زائدة، والعجيب اليوم أن تلك الثقة سواء زادت أو نقصت إنما سببها مادة يفرزها الدماغ، وأن الرغبة في الخيانة كذلك…
خط القرار ذاك في النهاية ليس أكثر من تأثير مادة في أدمغتنا. بالله عليكم ألا تدهشكم « كيمياء الرأس « هذه؟ ألا يدهشكم أننا مستقبلا قد نُعدّل جميعا لنصبح كائنات مسالمة وطيبة؟ ألا يخيفكم أن تتناولوا تلك الحبة السحرية التي تمحي كل أثر للشر فيكم؟ شخصيا يخيفني الأمر..!