بقلم : عمار مطاوع
مدونات الجزيرة
لا نعرف كثيرا عن وسائل تكوين الصداقات قبل الستينيات والسبعينيات، ولا كيف كان الناس يجدون من يشبهونهم.. اجتماعيات الحياة عبر التاريخ مجهولة للغاية، حتى في تلك العصور التي نحسب أننا أحطنا بها علما.. نكتشف ذلك حين نفتش في التفاصيل، حين نسأل أسئلة تبدو في عصر جيلنا ساذجة بديهية.. مثلا: كيف كان الناس يتعرفون إلى بعضهم؟ هذا السؤال الذي لا يبدو موضع تفكر مهم عند جيل مواقع التواصل، وسيبدو أكثر سطحية عند الأجيال اللاحقة التي لا نعرف كيف ستلعب التقنية في تصوراتهم عن حياة السابقين.
حاجة الإنسان إلى البوح والحكاية متأصلة فيه منذ نزل إلى الأرض، وشغف البحث عمّن يشبهونه ظل -دائما- ميزان رحلة الراحة والقرار، لا شك أن الناس عبر التاريخ حاولوا أن يكسروا جدران المحيط الصغير، ليصلوا إلى أوسع أفق ممكن، لكن كيف؟ التفاصيل الصغيرة تبدو دائما عصية على الترصد والمراقبة.. التقنية تبتلع التفاصيل، التطور يبدو أسرع من الوقوف على الخبايا.. حياة الناس خلال السنوات العشر الأخيرة بدت هيسترية، اختراعات انطلقت واستخدمت واختفت على هامش التاريخ، التقنية ابتلعها، لم ولن يلتفت إليها أحد!
أتذكر قبل خمس سنوات فقط، أعلنت شركة أمريكية متخصصة في العقار عن تصميم "ثوري" لدورات المياة في المنازل الراقية، كان "الاختراع" عبارة عن مكتبة يتم ملؤها بكتب خفيفة متنوعة تُرفق بجوار المرحاض، لتسلية المستخدم أثناء قضاء حاجته.. اقتصاديون توقعوا أن تحصد الفكرة ملايين الدولارات.. مثقفون قالوا إن الفكرة ستسهم في رفع حجم الإقبال على القرآءة.. وساخرون تحدثوا عن أجيال ستبني ثقافتها في دورات المياه، أو كما أسماها أحدهم حينها بظاهرة "الثقافة الحمامية".
لم يكن يدور بخلد أحد من هؤلاء أن الفكرة "العبقرية" ستنهار قبل أن تبدأ، وأن شركة صغيرة متخصصة في إنتاج التطبيقات الذكية، ستنسف "عبقرية" الاختراع الباهر، عبر تطبيق صغير يضم سلسلة ألعاب تسلية على شاشة الجوال الذكي.. مَن قد يفكر اليوم في بناء مكتبة في حمام بيته؟.. يصيح شاب عشريني: "ما هذه الفكرة السخيفة!".. صدقني -عزيزي- كانت فكرة عبقرية حين انطلقت!
انظر كم الأمر مضحك؟ أنا -ابن السبعة والعشرين عاما- أحكي عن "ذكرياتي" التي لا يعرفها أبناء هذا الجيل! هل تدرك الآن كيف تبتلع التقنية تفاصيل التاريخ؟ لقد أصبحنا عواجيز وأصحاب قصص حصرية لمجرد أننا أدركنا أياما قبل اختراع الهواتف الذكية أو الإنترنت!.. بإمكاننا اليوم أن نحكي للصغار قصصا يفتحون من غرابتها أفواههم.. بينما نحن نتذكرها كأنها بالأمس القريب!
إن مصطلح الجيل اختلف كثيرا هذه الأيام.. قديما كان الجيل يعني من عاشوا نحو مئة سنة أو يزيد.. نقول جيل الستينيات، وجيل السبعينيات.. التطور كان بطيئا، من السهل أن تجد قواسم مشتركة بين سكان الأرض لقرن كامل.. اليوم، يبدو هذا الأمر مستحيلا، فمواليد التسعنيات وحدهم يمكن تصنيفهم إلى أجيال مختلفة.. مختلفة تماما!
من سيفكر بعد عشرين عاما في أن يقرأ ردودًا صرف عبد الوهاب مطاوع شطرا من عمره في خطها، ظنّا أنه يحجز مساحة في ذاكرة التاريخ ستكون عصية على النسيان؟
قبل سنوات فقط، شهد التاريخ واحدة من طرق التواصل المرهقة، ربما لم تعد تلتفت إليها الأجيال المعاصرة رغم أن بعضهم قد استخدمها فعليا، وبالقطع لن تسمع عنها الأجيال اللاحقة شيئا.. "أبحث عن مطلقة"، "أريد علاقة جادة".. عبارات على هذا النحو كانت تظهر على شاشة التلفاز ضمن "شريط الشات"، وأخرى في جروبات الياهو ومواقع محادثات الجافا ومنتديات التواصل.. كلها كانت وسائل للتعارف، ظن أصحابها أنهم يمسكون طرف التقدم حينما اقتحموها، اليوم كثير منهم ينزوي خارج التطور، فقد تجاوزته التقنية وابتلعته تطورات التاريخ.
حكى لي أبي -مرة- كيف أن ثورة وسائل التواصل في عصره كانت الهاتف الأرضي، الذي لم يكن متوفراً في كل البيوت، والهاتف الآلي لا يمكنك تحصيله إلا في المحافظات والمدن الكبيرة، أما القرى المحظوظة، فلم يكن أمام أهلها إلا طلب الرقم بواسطة عامل "السنترال" الذي يتولى عملية التوصيل مع الطرف الآخر، وكان التواصل الدولي يعني انتظار ساعات للعثور على لحظة الحظ التي يكون فيها الخط الدولي غير مشغول.
قبل والدي بجيل واحد، كانت وسيلة تواصلهم المثالية هي البريد العادي، (وقتها لم يكن عاديًا)، كان نافذة جيلهم للتواصل مع العالم الخارجي سواء ضمن أنحاء البلد الواحد، أو خارج حدود البلاد.. وكان لها طقوسها الخاصة، كما يصفها المدون زاهر هاشم: "كنا غالباً ما نرفق الرسالة بصورة أزهار وأطفال سعداء، أو نضع رشة من العطر على الرسالة، وأحياناً نرسل بعض الأزهار والنباتات المجففة للتعبير عن المشاعر، بسبب عدم وجود الوجوه التعبيرية للتعبير عن الفرح أو الحزن".
هل تسمع عن بريد الجمعة في صحيفة الأهرام؟ الأمر ليس بعيدا، فقط قبل سنوات، بإمكانك أن تدرك بعضا منها على شبكة الإنترنت.. حين ستقرأ بعض تلك الرسائل، ستتذكر فجأة الحلقات الإذاعية الشهيرة في الراديو حين تحكي فتيات معاناتهن في الحب لصاحب الصوت الرخيم البارز.. لكن هل تجد ذلك يختلف كثيرا عما يدور الآن في مواقع تبادل الأسئلة والإجابات وتطبيقات الصراحة؟ هل استوعبت أن كلّا منّا صار اليوم يمتلك إذاعته الخاصة وبرنامجه المميِز؟ هل فكرتَ -مرة- لمَ فقدت تلك المراسلات متعتها حين أصبحت في متناول الجميع؟ من سيفكر بعد عشرين عاما في أن يقرأ ردودًا صرف عبد الوهاب مطاوع شطرا من عمره في خطها، ظنّا أنه يحجز مساحة في ذاكرة التاريخ ستكون عصية على النسيان، لا في وجودها كعنوان، وإنما في تفاصيل سطورها وكلماتها.. كلنا يعرف اليوم "بريد الجمعة"، لكن كم منّا قرأ شيئا منه؟.. أخبرك أمرًا، يوما بعد يوم، سيجيئ جيل لن يعرف حتى عن عنوانها شيئا.. سوف يبتلعها التاريخ أيضا!
في صحافة الستينات والسبعينات، انتشرت زوايا متخصصة بهواة المراسلة، يرسل القراء صورهم وينشرون عناوينهم ويعلنون رغبتهم بالمراسلة وبناء صداقات مع آخرين، كان الشباب يتبادلون معلومات الأصدقاء ويرشحونها لبعضهم البعض، بصورة تقترب مما يجري في فيسبوك حالياً لكن بطريقة بدائية.. يدفعني الفضول أحيانا كثيرة إلى استعراض مجموعة من صور وأسماء تعود لعدد من هواة المراسلة، أسماء منشورة قبل عام 1970.. أصحابها كانوا في العشرين من أعمارهم حينها، هذا يعني أنهم الآن في أواخر الستينات.
كثيرا ما أتأمل صورهم والمعلومات تحتها، وأتمنى لو أصل إلى بعضهم -هذه الأيام؛ لأسأله: هل حققت مراسلتك غايتها؟ هل راسلك أحد؟ هل كنت تتخيل وقتها أن تعيش إلى زمان الفيسبوك -كما أعيش- لأراقب التقنية في سكون، في انتظار الثورة التواصلية القادمة، التي ستجعل من يقرأ هذه التدوينة بعد أعوام يصيح متعجبًا: كاتب مسكين.. منبهر بزمان الفيسبوك القديم!
الأجيال اللاحقة لن تعرف كيف كانت معاناة سابقيهم في الحصول على شبيه، في الوصول إلى مساحة للبوح دون خوف أو قلق، خارج حدود الجوار
التفكير في التفاصيل مرهق جدا، إحدى المراسلات كانت لفتاة تعتذر عن نشر صورتها، وأخرى كتبت في شروط استقبالها للمراسلات أنها "للفتيات فقط".. هل تجد ذلك يختلف كثيرا عن مثيلاتهن في عالم الفيسبوك اليوم؟ ألا تزال تلك الكلمة -هي هي- منسوخة فوق حسابات بعض بنات جيلنا؟ هل ثمة تطابق في القضايا ونقاط الخلاف؟.. ولمَ خافت تلك الفتيات من نشر معلوماتهن؟ هل كن سلفيات قبل السلفية؟ أم أن اشتراطات مجتمعية منعتهن من ذلك؟ هل كان المجتمع وقتها يرى في من تفعل ذلك تحررًا زائدا لا يليق بمقام زوجة ولا مسؤولية بيت وحياة؟ هل كن يخشين التحرش؟ هل كانت بعضهن فعلا تستقبل "مراسلات" من شبان غير مسؤولين؟ هل كانت تلك الصفحات وقتها مكانا لاصطياد الفتيات؟.. تفاصيل وتفاصيل وتفاصيل!
يضرب هاشم مثالا على إحدى الرسائل التي استقبلها حين وضع معلوماته في زاوية "هواة المراسلة" في السبعنيات.. كانت الرسالة تقول: الأخ العزيز: أرسل لكم كلماتي هذه عبر أثير الشوق والحنان لتصل إليكم وأنتم في أتم الصحة وموفور العافية، كلماتي هذه أسطرها بمداد من الشوق، وأعطرها بعبق من الذكريات التي لا تنسى، آملاً أن تصلكم وأنتم تكتسون ثوب العافية".. تلك الرسالة التي ظل قرابة أسبوعين يراقب صندوق البريد في انتظار أن تطرح بذرته أي ثمرة.. يظل التراسل بالبريد متواصلا أشهر كاملة، والقصة السعيدة هي من تنتهي بلقاء، وهو أمر كان نادر الحدوث.
غاية القول، جريان الحياة أسرع منا، التقنية تبتلع تفاصيل تاريخ الأجيال، وسهولة التواصل هذه الأيام جعلت من العلاقات بمختلف أنواعها من صداقة وحب وبغض وتحالف وعداء، أمرا فاقد القيمة.. الأجيال اللاحقة لن تعرف كيف كانت معاناة سابقيهم في الحصول على شبيه، في الوصول إلى مساحة للبوح دون خوف أو قلق، في معاناة البحث عن صديق عمر أو توأم روح، خارج حدود الجوار.