بقلم د.نضال الصالح
سماءٌ شديدةُ الصفاء، ومترفَةٌ بزرقة شفيفة، وغيمتُنا الرؤوم تحمينا من لظى شمسٍ باهظةِ الجنون، شمسِ حزيران المؤذنةِ بصيفٍ لم يكن قد سبقه صيفٌ. وكانَ كلُّ شيء حولنا مستغرقاً في هدأةٍ فاتنة لم يكن يعكّرُ بهاءها، رغم وطأة الحرّ، سوى أصواتٍ مبهمةٍ تتثاءبُ من بعيد، وترتطمُ بالمكان أشبهَ بعواء ذئابٍ جريحة وقد أشرفتْ على الهلاك، وما إنْ تكاثرتِ الأصواتُ حتى غدتْ عواء حقيقياً، ولكن ما مِن ذئاب، وما إنْ تعالتْ وتصادتْ قريباً منّا كأنّما تحاول أن تحدقَ بنا، حتى علا صوتُ الجليلِ: «صهٍ»، وحتى عادت الهدأة تعطّرُ المكان.
قالَ الجليلُ، هو يعابثُ بقبضة يده اليمنى لحيته الكثيفةَ والباذخة البياض، كأنّما يتابعُ حديثاً سبقَ: «فما آية المنافق؟»، قلتُ: ثلاث: «إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمن خانَ». قال: «وما آيةُ الخائن؟»، فاحتميتُ بالصمتِ، فلم يكن لي من زادٍ أقوى به على الردّ، فقال: «ثلاثٌ أيضاً، هنّ شقيقاتُ آية المنافق»، وتابعَ: «إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمنَ خان»، ثمّ افترشَ الأرضَ، وأنعمَ النظرَ في نقطة من السماء التي كانت لا تزالُ تباهي بصفائها الشديد، وزرقتها الشفيفة، وسمعتُه يقولُ كأنّما، شأنَه دائماً، يقرأُ من كتاب:
«والخيانةُ درجاتٌ: خائن، وخوّان، وخؤون، وكلّها قبحٌ، بل هي أقبحُ القبحِ، بل هي أدنى منه. والخيانةُ خيانات: خيانةُ الصديق، وخيانةُ الأمانة، وخيانةُ العهد، وخيانةُ المحبوب، وخيانة الكلمة، وخيانةُ الضمير، وخيانةُ الأرض.. الأرض.. الأرض»، وظلّ يردّدُ وثمّة رجفةٌ يرعدُ بها جسده: «الأرض، الأرض، الأرض»، حتى حسبتُ أنْ لن يكونَ بعدها قولٌ، وكانَ ما حسبتُه حقّاً، وكانت رجفةُ الجليل زادت تورّماً، فعييتُ عن فعلٍ، أو شبهه، أردّ للجليلِ به ومن خلاله ما يعيده إليّ، أو يعيده إليه، لكنّه، كشأنه دائماً أيضاً، باغتني بأنّ شيئاً ممّا رأيتُ كان كما لو أنّه لم يكن، وتابع:

ثمّ عاودَ الجليلُ صمتَه، ودفعَ إليّ بكتابٍ، وأومأ لي بأن أقرأ، فقرأتُ على غلاف الكتاب: «الفصولُ والغايات»، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخيّ المعرّي، وما إنْ قدّرَ أنّني تعرّفتُ إلى عنوان الكتاب ومؤلّفه، حتى رسم بأصابعه في الفراغ رقماً، فمضيتُ إلى الصفحة، وقرأتُ: «رجْعٌ: مَنْ خانَ الرفيقَ، في الأفيق، خانَ الوالدَ، في الطريف والتالد. والخائن عند الله مقيت»، ثمّ سمعتُه يقولُ: «سُقيا لتربة جدّكِ النابغة، إذْ اختزل صفات الخائن في قوله في هجاء النعمان:
قَبَحَ اللهُ ثم ثَنَّى بلَعْنٍ وارِثَ الصائغِ الجَبَانَ الجَهُولاَ
مَنْ يَضُرُّ الأَدْنى ويَعْجَزُ عن ضُـ ـرِّ الأَقَاصِي ومَن يَخُونُ الخَلِيلاَ».
وما مضتْ هنيهةٌ من الصمت، حتى أقرأني من دون كتاب قوله: «وكانَتِ العربُ تكنّي عن الرجل الذي لا يخونُ ولا يسرق بقولها: طاهرُ الكُمّ، أو طاهرُ الرِّدْنِ، أي الثوب. ويا بُنيّ، كانَ عبدُ الله بنُ مسعود حدّثَ، فقال: سألتُ النبيّ: يا رسولَ الله، هل للساعةِ مِنْ علمٍ تُعرَفُ به؟ فقال لي: يا بنَ مسعود، إنَّ للساعة أعلاماً، وإنَّ للساعة أشراطاً، ألا وإنَّ مِن أعلام الساعة وأشراطها أن يكون الولدُ غيظاً، وأن يكونَ المطرُ قيظاً، وأن يفيضَ الأشرارُ فيضاً. يا بنَ مسعود، إنَّ مِن أعلام الساعة وأشراطها أن يصدقَ الكاذبُ، ويكذب الصادقُ. يا بن مسعود، إنَّ من أعلام الساعة وأشراطها أن يؤتمنَ الخائنُ، وأن يخونَ الأمينُ. يا بنَ مسعود، إنّ من أعلام الساعة وأشراطها أَنْ يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا، وَكُلَّ سُوقٍ فُجَّارُهَا. يا بن مسعود.. يا بنَ مسعود».
