أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 26 مارس 2019

من برلين: كل ما أفكر فيه هو الحجاب يعلو رأسي

بقلم: ديمة مصطفى سكران
مدونات الجزيرة

أن تكون المرأة محجبةً في الغرب يعني أن تعُدَّ على نفسها أنفاسها، لأن الآخرين يعدون ويسجلون، ويسترقون النظرات المرتابة أحيانا، أو يحدقون بوقاحة أحيانا أخرى!

عندما تَعْلَق العملةُ الورقية، أو يقفز إلى الشاشة ألف خيار كالطلاسم بلغة غير العربية، فإن ماكينة بيع التذاكر تتحول هي الأخرى إلى أوربي أشقر متجهم بعينين زرقاوين وأنف حاد، تماما كذلك الصف الطويل من الرجال والنساء المستعجلين الذين يقفون خلفي، أستطيع أن ألمحهم بعيون حدسي ينظرون بتكرار إلى ساعاتهم، ويبربرون بكلمات لم نتعلمها في دروس اللغة!

وفي تلك اللحظات التي أقف فيها متعرقة مشوشة الذهن، حائرة بين طلب المساعدة من صاحب الوجه العكر خلفي، وبين ترك العملة الورقية العالقة متدلية من الماكينة كلسان هازئ، فإن كل ما أفكر به هو الحجاب الذي يعلو رأسي!

فلو لم يكن موجودا لكنت أمام الماكينة مجرد امرأة علقت عملتها الورقية وتحتاج المساعدة، ولكنني أغدو مع الحجاب تلك المسلمة الساذجة التي لا تعرف كيف تستخدم آلة بيع التذاكر، لأنها قادمة من تلك البقعة البعيدة حيث لا يملك الناس هناك آلات لبيع التذاكر، لأنهم يستخدمون الحمير للتنقل، أو يتعلقون بأبواب الحافلات المزدحمة.

الحجاب والدفاع الدائم عن النفس
لا يتعلق الأمر بالفعل بعملة نقدية عالقة أو بشاشة لا تستجيب للأوامر، بقدر ما يتعلق بتلك المسؤولية الكبيرة التي تستشعرها المحجبة في الغرب تجاه حجابها، بخوفها العظيم من أن تؤكد بسلوك أحمق منها أي فكرة خاطئة من هذه الأفكار المسبقة حولها أو حول أبناء جلدتها ..
خوفٌ يجعلها تنسحب أكثر فأكثر من المجتمع، محاولةً ألا تظهر قدر الإمكان، أن تختبئ، أن تتوارى في الظل، وتواري حجابها تحت قبعة صوفية، أو في شكل توربان مائع الهوية، يجعلها تفضل أن تبتاع من الإنترنت على أن تقف أمام طاولة الحساب، أن تبقى جائعة على أن تجرب حظها مع ماكينة أخرى لبيع الأطعمة الخفيفة، أن تمضي وقتها في البيت على أن تدخل النادي الجديد في الناصية، أن توقع على عقد الهاتف الجديد باستعجال على أن تسأل عن التفاصيل الغامضة فتبدو كالبلهاء!

أن تكون المرأة محجبةً في الغرب يعني أن تعُدَّ على نفسها أنفاسها، لأن الآخرين يعدون ويسجلون، ويسترقون النظرات المرتابة أحيانا، أو يحدقون بوقاحة أحيانا أخرى!

تشعر المرأة المحجبة في الغرب أنها في حالة جدال دائم مع كل ما يحيط بها، جدال رغم صمته لا يتوقف، تستخدم فيه المحجبة كل حركاتها وسكناتها لتدحض حجج الطرف الآخر، والطرف الآخر لا يبذل كثيرا من الجهد في الإعلان عن رأيه.
إن نظرة باردة واحدة، أو تجاهل لتحية ودودة، أو كلمة عابرة متأففة، كافية لأن تلقي في وجه المرأة المسلمة كل القناعات التي يؤمن بها هذا الآخر، لتتحول إلى حالة من الدفاع الدائم عن النفس في كل حركة وسكنة، فهي حين تمسك الهاتف كأنها تقول: "انظروا أنا أجيد استخدام الهاتف رغم أني محجبة"، وحين تفتح كتابها لتقرأ رواية باللغة الإنجليزية، كأنها تقول: "انظروا أنا أقرأ بالإنجليزية رغم أني محجبة"، وحين تميل برأسها على كتف زوجها، كأنها تقول: "انظروا أنا أعامَل من زوجي باحترام رغم أني محجبة".

إنها تحاول دوما أن تبرر نفسها، أن تعتذر عن أمر ما لا تعرفه، أن تثبت شيئا للآخرين الذين قد يكونون مهتمين بالفعل بكل ما تفعل، وقد لا يكونون، ولكنها لن تستطيع أبدا الخروج من فكرة أنها محط الأنظار وفي موضع اتهام، تارة بكونها وجها فاقعا للهوية الإسلامية "المعادية"، وتارة بكونها رمزا لاضطهاد النساء من قبل الرجال.

الحجاب وهندسة المسافات
وحتى عند التعرف على الأصدقاء الجدد، أو الانخراط في مجتمع جديد، فإنهم غالبا لن يبدؤوا بالتعامل معها على أنها فلانة بذاتها قبل تجاوز تلك المرحلة الطويلة جدا من التعامل معها على أنها تلك المرأة التي تضع شيئا غريبا على رأسها.

إن معظم الحوارات العادية تنحرف فجأة بطريقة أو بأخرى لتدور حول حجابها، فيما إذا كانت قد أجبرت على ارتدائه، فيما إذا كانت تضعه طوال الوقت، فيما إذا كانت تنام به، فيما إذا كانت تستحم به! سيكون دوما هناك رحلة طويلة من الأسئلة قبل أن يكتشف الآخرون أنها تحت ذلك الحجاب مجرد إنسانة عادية، وقد لا يصل البعض إلى هذا الاستنتاج على الإطلاق.

هناك دوما مسافة من الرفض، من الإشعار المقصود أحيانا وأحيانا غير المقصود بالاختلاف، والذي يبلغ ذروته في خوف المحجبة على حياتها، وحاجتها هي لأن تضع المسافات، لكن هذه المرة مسافات من نوع مختلف ..
فهي بحاجة لأن تترك مسافة أمان عندما تنزل الأدراج، فتبقى متمسكة بالإبريز خشية أن تتلقى دفعة من الخلف، كما حصل لتلك الفتاة المحجبة في مترو الأنفاق في برلين في شتاء 2016، ولعلها بحاجة إذن أيضا لأن تترك مسافة أمان عن سكة القطار، لأن بعضهم قد يبدون مستعدين لدفع امرأة محجبة إلى السكة عند اقتراب القطار، وهي بحاجة لأن تترك مسافة أمان عندما تعبر الشارع  فترى شبانا متجمعين بقناني البيرة يتفوهون بعبارات لا تفهمها، وهي بحاجة إلى كثير من التلفت في كل شارع خاو وعند كل منعطف.

لا يسيطر هذا الخوف دائما، لكنه لا ينام أبدا، يظل في حالة نصف إغفاءة، ليتيقظ عند أدنى إشارة.

شرعنة العنصرية في سوق العمل
وفي سوق العمل يصبح إيجاد وظيفة ملائمة كالبحث عن إبرة في كومة قش، فبالإضافة إلى الأسماء العربية التي ينطقها الأجانب بصعوبة، وبالإضافة إلى السمرة، والملامح الشرق أوسطية، هناك في صورة أوراق التقديم ومقابلات الوظائف فوق ذلك كله الحجاب!

لا يتعلق الأمر إذن بقلة الوظائف التي تستطيع المرأة المحجبة أن تؤديها بنجاح، بقدر ما يتعلق بحساسية أرباب العمل تجاه وجود امرأة محجبة في طاقم العمل، حساسية مبررة أحيانا باضطرار الموظفة للتعامل المباشر مع الزبائن على اختلاف أطيافهم، وغير مبررة أحيانا أخرى إلا برفض وجود الحجاب كرمز ديني تحت سقف هذه الشركة ..
الأمر الذي أقرت شرعيته محكمة العدل الأوربية في 14 من شهر مارس/آذار عام 2017، مانحةً الحق للمؤسسات بأن تحظر ارتداء الحجاب من قبل موظفاتها ضمن عدد من الرموز الدينية الأخرى، ومشرعنةً طرد الموظفات المحجبات دون أن يعتبر ذلك تمييزا على أساس الدين.

ولا يبدو هذا الحكم إلا كمحاولة متذاكية لحظر الحجاب بطريقة قانونية تحافظ فيها أوربا على ماء وجهها أمام ادعاءاتها بحمل راية القيم الرفيعة. فالحجاب وحده هو المقصود هنا، بينما يُظهر الأوربيون كثيرا من التسامح مع أغطية الرأس الهندية وعمائم النساء الأفريقيات وأوشمة الصلبان على السواعد المكشوفة.
ولم تخطئ مفوضة الحكومة الألمانية لمكافحة التمييز كريستينا لودرز حين صرحت، بعد صدور قرار محكمة العدل الأوربية، بأن حظر الحجاب قد يصعب اندماج المسلمات في سوق العمل، فإن كثيرا من الكفاءات تُستبعد من طلبات التقديم للوظائف بسبب الحجاب، قبل أن تُمنح المرأة فرصة لإثبات نفسها، الأمر الذي تحول إلى كابوس للشابات المسلمات، اللواتي يضعن على رأس قائمة تحديد خياراتهن الدراسية والعملية في المستقبل درجة تقبل الحجاب في مجال العمل الذي يرغبن به، وذلك قبل ميولهن الشخصية، وأهليتهن للنجاح في هذا المجال.

الحجاب، إنه هنا أكثر من اللازم
يُقال إن شعور المرء بأعضاء جسمه يبلغ أكثر تجلياته عند تتألم هذه الأعضاء، فلو كنتَ مسترخيا في سريرك ستكون حقيقة أن لديك قدما مثلا أو حتى إصبع قدم صغير أمرا قابعا في قاع لا وعيك بهدوء وبلا مشاكل، لكن إن كان إصبع قدمك الصغير قد اصطدم بعنف بإطار الباب قبل دقائق أو سقط عليه طبق زجاجي ثقيل، فإنك جراء الألم لن تكون واعيا بأي جزء من جسمك أكثر من وعيك بأنك تملك بالفعل إصبع قدم صغير، وهو هنا بالفعل، لأنه يؤلمك بشدة ولن يدعك تنام!

وكذلك الحجاب، يتجسد في وعي المرأة المسلمة في الغرب أكثر من أي شيء آخر فيها، أكثر حتى من وعيها بذاتها، فهي تشعر به دوما حين تكون موجودة في شوارع البلدان غير المسلمة، وفي مطاعمها، وأمام ماكينات بيع التذاكر في محطاتها ..
ولا تكاد تشعر بشيء سواه، إنه هنا، فوق رأسها طوال الوقت، كما لو أنه يؤلمها، كما لو أنها تتحول كلها إلى حجاب فقط، كما لو أنها تتحول من كونها إنسانا عاديا إلى مجرد كيان يحمل هذا الشيء العملاق الكبير الذي يسمى حجابا، وعلى حجابها هذا يعلق كل شخص تراه في الطريق أفكاره المسبقة وقناعاته والقصص التي قرأها في منتديات الإنترنت وسمعها عنها من زملاء العمل..
لذا فهي تمشي وهي تجر وراءها هذه الأثقال المريعة من كل تلك الأفكار المسبقة، وكلما زادت تلك الأفكار ثقلا كما صار مشيها أثقل وحركتها أكثر صعوبة.

لن نطرح الأسئلة عن مستقبل المحجبات في الغرب، ولن نناشد أحدا، ولن نحول الأمر إلى مناحة، لكن الوعي بصعوبة الحياة كامرأة محجبة في الغرب يحتم على الجميع عمل كل ما يمكن عمله لتحسين هذا الواقع، في مواجهة موجة يمينية متطرفة، تعلنُ عن نفسها بشكل متزايد وبلا مواربة، ولعل آخر تجلياتها كان المذبحة الإرهابية الدامية في مسجد مدينة كرايستشيرش في نيوزيلاندا قبل يومين.