أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

الاحتفال بتكريم أ.د ناصر الدين الأسد في اليوم العالمي للغة العربية


سعدتُ ضحى الخميس 18/12/2014 بحضور الاحتفال الذي أقيم على مسرح كلية الاقتصاد في رحاب جامعة الزيتونة الأردنية؛ تكريماً لشيخ العربية وأحد سَدَنتها العِظام، أستاذنا العلّامة أ.د ناصر الدين الأسد، الاحتفال الذي نظّمه قسمُ اللغة العربية في كلية الآداب في الجامعة.

وكانت أثلجت صدري تلك اللحظاتُ؛ إذ مازال في الدنيا خير؛ وفاءً وتقديراً لمن أنفقوا حياتهم في سبيل العربية وفي سبُل أخرى من أجل حياةٍ أفضل للعلم وأهلِه في الأردن. وقد أبلى الزملاءُ القائمون على الحفل بلاءً رائعاً بتعاونٍ من طلبتنا المتميزين، مما جعلنا نستمتع بساعتين كان مرورُهما برداً وسلاماً على الأكباد!
*****
اعتدنا في محافل تكريم العلماء أن تُلقَى في حضرة الشيخ المكرَّم كلماتٌ تحاول على الملأ أن تفيَهُ حقَّه عرفاناً لما أمضى فيه عمرَه في سبيلِ مسألةٍ نذر نفسَه وحياتَه و كُــلَّه- من أجلها, وهي كلماتٌ لو يعلم قائلوها موقَعها في قلوب أولئك المكرَّمين؛ إذ نعلمُ تماماً أنهم لا يسعون إلى هاتيك الكلمات سعياً مقصوداً؛ فالذي ينذر نفسه صادقاً مخلصاً لمسألة، لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكورا. لكنّ الرائع في الكلمات التي أُلقيت في حضرة شيخ العربية كانت من الروعة، بحيث أظنها لامست شغاف قلوب الحاضرين، وتركت شيئاً في نفوسهم لا ينقضي.
ومن هذا الذي كان في نفسي وأظنه لا ينقضي منها، أنَّ الكلمات التي أُلقيت في تكريم شيخنا الكبير قد تفاوتت بتفاوت مقاديرِ أصحابِها من الحياة: فالعفويةُ ما فارقتْ كلماتِ الأساتذة الكبار، والهيبة والجلالة أبتْ ألّا تغادر كلماتِ التلاميذ، وعلى ذلك وقعت كلماتُ الأساتذةِ موقعاً في القلب لا يُنسَى؛ إذ جاءت عفويةً صادقةً فيها من المحبة والألفة التي تتولد بين التلميذ وشيخه على مرِّ الزمن مما لا يعرفه إلا مَنْ يعانيه ويتذوقه، وفيها من التقدير الذي يكبر ويكبر في قلوب التلاميذ سنةً وراء أخرى تجاه أساتذتهم.
*****
وكان مما جرى على ألسنتهم ذكرياتٌ ما فارقت أخيلة أولئك الأساتذة في لقاءاتهم الأولى مع شيخنا جميعا الأستاذ ناصر الدين الأسد، فكانت الذكرى الأولى للقاء أ.د محمد الوحش في امتحانه الأول الذي أجراه بين يديّ أستاذه، وكان قد تعلّم منه درساً ما نسيه على امتداد العمر، درساً جعله لا يُهمل ما يستهينُ به الناس إلا مَن رحم ربي: جعله لا يستهينُ بهذا الشيء الذي هو: همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة !! نعم همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة، وإنهما لأمرٌ – لو يعلم الناسُ- جليل في لغتنا العربية.
ومما كان من ذكريات أ.د. سمير قطامي إفشاءُ سرِّ الشيكولاته السويسرية الفاخرة، التي اعتاد أستاذُنا الكبير تقديمها لضيوفه العابرين عليه في مكتبه، وهذا شيء لا يعرف مذاقه إلا الطلبة حين يلتصقون بأساتذتهم في مراحل الدراسات العليا حين يحظَون منهم بصحبةٍ مختلفةٍ عما عهدوه سابقا على مقاعد الدرس في المرحلة الجامعية الأولى؛ إذ إن الجلوس في حضرة الأستاذ في مكتبه في تلك المساحة القليلة وذلك الدفء الأبوي يجعل التلميذ يحلِّق في أجواء جديدة، حتى ليغدو كوبُ الشاي هناك وبين يديه ألذَّ من الشَّهد المُصَفّى، فكيف لو كانت شيكولاته سويسرية فاخرة ؟ وهل هناك شيكولاته سويسرية غير فاخرة ؟!!  
********
كما أمتعتْــنا عريفةُ الاحتفال د. صبحة علقم بانتقائها الأنيق الرقيق لأبياتٍ من الأشعار التي غزلها أستاذُنا لرفيقةِ دربه ( أم بشر)، حين أهداها في ذكرى زواجهما الستين (همس وبَوْح) من شعر ناصر الدين، بغلافٍ لازَوَرْديٍّ.. بلونِ البحر.. وبلونِ الصفاء.. وبلونِ الوفاء.. الوفاء لرفيقة الدرب الطويل.. الوفاء لرفيقة الليالي الحالكات ورفيقةِ النهاراتِ المشرقات.. حتى استوى لنا أستاذُنا د. ناصر الدين على ما تشتهي النفوس وتتوق القلوب:
( كلُّ ما قلتُ وما لم أقلِ              هو من وحْيِ سَناكِ الأجملِ
أنتِ فجَّرتِ ينابيعَ الهوى             وأسَـــلْتِ الشعرَ في قلبي الخلي
أملي ستونَ أخرى بعدَها             حقَّقَ اللهُ عـلـــــــــينا... أمـــلي
سيظلُّ الحبُّ والشعرُ معاً            ملءَ قلبي.. لانتهاء الأجلِ )
******
وإنَّ المرءَ ليرى نفسَه في حضرة شيخنا فراشةً تتقافزُ لتقبسَ من وهجِ علمه، وتقبضَ على جمرات معرفته..... وبينما أنا أشفق على أستاذي أن أرى جسده الرقيق قد حنى ظهره وتغضَّنت بشرته، أعودُ بخيالي أنا الأخرى للذكرى الأولى للقاء شيخنا الكبير ذكرى لا تنمحي من خيالي.. حتى أنني هرعتُ إلى تلاميذي في المحاضرةِ التالية أقصُّ عليهم من أنبائه وأحدِّثهم من أخباره، مما ما زلتُ أفاخرُ به وأفتخر: أنْ كنتُ واحدةً من التلاميذ الذين مرّوا عليه وتتلمذوا بين يديه.
تعود بي الذاكرةُ القهقرى، لتسعة أعوامٍ خلت، وأراني في اليوم الأول من العام الدراسي الذي التحقتُ فيه بدراسة الدكتوراه، وكانت المحاضرة الأولى التي أذهب إليها هي مادة الأدب الجاهلي، التي يُلقي دروسَها على مسامع الطلبة الأستاذ الدكتور ناصر الدين، ولما كنتُ منقطعةً منذ مدة عن السير في شارع الجامعة الأردنية، وبيتي قريبٌ منها، فقد ذهبتُ قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فقط، لأعْلَق في زحمةٍ مروريةٍ اضطرتني - وأنا التي أحب قيادة السيارة بسرعة- إلى السير بسرعة 20كم، فوصلتُ مكتب الأستاذ -حيث تنعقد المحاضرة- متأخرةً نحو عشر دقائق، كلَّفتْني غاليا: نوعاً من التأنيب والتذكير بأهمية الانضباط والالتزام بالوقت، فكان لقائي الأول بعلّامتنا لقاءً مُخجِلاً لي بيني وبين نفسي لا يزول منها حتى اليوم، هذا مع أنني تمكَّنتُ بحمد الله بعدها بمدة وجيزةٍ من أحظى بتقديره وثنائه على طالبةٍ متميزة من بين طلبته، حتى كان أنْ ظفرتُ منه بهديةٍ لم يظفر بها غيري من طلبته، كانت الهديةُ نسخةً من كتاب د.عبدالرحمن بدوي : دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي .. ولم أكن أدري حينها أن (المستشرقين) سيكونون قَدَري ورفاق رحلتي القادمة في أطروحة الدكتوراه !!  
وما زلتُ إلى اليوم أكررُ كلماتِ أستاذي ناصر الدين لطلبتي وأبنائي، حين كان يعلّقُ على لغتنا العربية الركيكة ويطلب منا الحديث بالفصيحة، فيداعبنا جادّاً: أفصِحي يا بنت!! وأفصِح يا ولد!!! وما زلتُ إلى اليوم معجبةً بذاكرتِه الشابة التي كانت تجعل مني في حضرته أشعرُ بأنني عجوز، وأخجلُ من ذاكرةٍ ضعيفة نوعاً ما حين تقابلُ ذاكرةَ أستاذِنا الكبير بتوقُّدها وَ حِدَّتها.
******
كانت لحظاتُ تكريمِ أستاذنا لحظاتٍ لا تصف روعتَها الكلماتُ، أحدثت في النفس ما كان وما سيبقى..
فهنيئا لنا وللعربية ولأهل العلم .. هاماتٍ تبقى لنا مناراتٍ ..
****