بقلم بروين حبيب
طرت إلى بيروت لتوقيع كتابي ولقاء الأصدقاء والصديقات وحضور فعاليات صالون الكتاب في بيروت. لكنني ما إن وصلت حتى ركضت إلى دار الطليعة لإقتناء «رسائل أنسي الحاج لغادة السّمان» ليس تلصصا على رسائل عاشق، بل لأني عاشقة لأنسي، وأعرف سلفا أن ما كتبه نابع من عشقه للمرأة الناجحة المتميزة وليس محصورا في شخص غادة السمان فقط.
ورغم ضيق وقتي وانشغالي وارتباطي بمواعيد خلال ثلاثة أيام قصيرة في بيروت، اختليت بشاعري الأنيق وقرأت رسائله. وتيقنت أن تخميني كان «صح» منذ البداية. وأعتقد أنه لو صادف امرأة أخرى بحجم غادة أو أكبر لكتب لها الكلام نفسه.
وأتأسف أنّ كل ما قيل في الإعلام المكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي بشأن هذه الرّسائل لم ينصف الرجل كما أنصفته غادة السّمان، ويبدو أننا لم نبلغ النضج الفكري اللازم لرؤية عظمة هذا الرجل من خلال رسائله وهو في مقتبل العمر. حتى حين نبرر أن هذه الرسائل تراث أدبي بحكم أنها تعود لحقبة الشباب للأديبين، فإننا ننسى أن معشر الشعراء والكتاب في الغالب تفادوا أن يبينوا مشاعرهم الإنسانية الخاصة بهم، حتى حين يكتبون ما يشبه سيرهم الذاتية. وكأنّ الجانب الإنساني فيهم هو الجانب الذي يضعفهم أمام جمهور القراء ويعرّيهم أمام النخبة، التي رغم ما تنادي به من أفكار ليبرالية لا تزال تقبع داخل جلودها تركيبتهم القبلية المعقدة. أن تخجل من الحب فذلك كارثة. أمّا أن تخجل كمثقف من التعبير عنه فهذه كارثة الكوارث.
ويبدو أن الأغلبية، إن لم يكن الجميع، يخجل من قول الحب والتشجيع عليه، ويخجل من كشف وجه الرّجل الإنساني الرقيق، وكأنّ قدره أن يرتدي أقنعة القسوة ليحافظ على صحة رجولته. ولا بأس أن نكتب قصائد في الحب لكن بادعاء الكذب على أنها نتاج مخيلة أدبية.
حين قرأت الرسائل أصبت بالدهشة لا لأن غادة السمان كشفت لنا للمرة الثانية أن الرجال ليسوا بالقسوة التي نتخيلها، وأن المناضل والثوري والأديب الملتزم لديهم جميعا في قلوبهم غرفة خاصة للمشاعر الجياشة قد تفجرها أي امرأة بمواصفات معينة، ويبدو جليا من خلال رسائل غسان كنفاني التي نشرتها سابقا ورسائل أنسي الحاج اليوم، أن ليست كل امرأة قادرة على تفجير مشاعر الرجل المثقف الرفيع في أخلاقه وأفكاره، فرجال بهذا الوزن تلزمهم نساء بوزن غادة، نساء قويات، ذكيات، ناجحات وحرائر في تقرير مصائرهن.
هؤلاء الرجال ليسوا بحاجة لنساء يختبئن خلف جدران بيوتهن، أو خلف الشبابيك والأبواب، أو خلف ظلال آبائهن وأخوتهن الذكور وينتظرن «عريس الهنا»…. لا نقاط تشابه بين رسائل حب يكتبها رجال لنساء ضعيفات مع هذه الرّسائل الفائقة الجما التي كتبها أنسي لغادة. لقد كتبها بروحه ولغته الرقراقة النابعة من أعماق العقل والقلب معا. خاطب امرأة تقف أمامه النّد للند، تفهم كل كلمة خطّها يراعه، وتعرف خبايا السطور والكلمات. ولو أنه أرسل هذه الرسائل لامرأة أخرى مقيّدة الفكر والروح بأغلال المجتمع، لكان مصيرها سلّة المهملات بعد أن تتزوج، معتقدة أن أي علاقة سابقة لها ولو من الطرف الآخر ليست أكثر من خطيئة يجب دفنها للأبد.
روعة أنسي الحاج في رسائله أيضا تكمن في هذا الكم من الصدق المنبعث من أخلاقه. يقول في فقرة قرأتها عشرات المرات: «إن كل حلمي ينحصر بأن أحب امرأة واحدة حبّا واحدا وحيدا، وأخلص لها إلى النهاية واستنفد نفسي وأجدد نفسي، وأستنفد نفسي وأجدّد نفسي معها إلى النهاية. حتى الآن إمّا أفشل في الوقوع على امرأة لائقة أو أحصل عليها وأفشل في إقناعها بحقيقتي» أي روعة تنافس هذه الروعة في وصف دواخل الذات؟ وأي عبقرية هذه تلك التي يخاطب بها رجل قلب امرأة دون المرور بوصف عينيها ونهديها وخصرها وعطرها، وأشياء سطحية تشغل النساء عموما ويعتمدها الرجال «طبخة جاهزة» لإقناع أي أنثى بميولهم العاطفية نحوهن. لقد قال أنسي الحاج ما شعرت به دائما، وكأنه عبّر عنّي في ذلك العمر المبكر وقبل حتى أن أولد. قال ما يدور في ذهن كل شخص منّا دون أن يُدخِل من أحب في متاهة الحيرة والتعلق بشباك العفة الوهمية التي يعشق رجالنا أن ينصبوها للمرأة. قال لها: «أنت أختي وحبيبتي» وفي هذا الوصف قداسة الاحترام والعشق معا، دون أن نعرف هل كان ينتقي الكلمات كما يكتب الشعر أو كما يكتب الرسائل؟ قال لها ما يجعلها حاجة دائمة في قلبه ووميضا دائما في قلبها، حين يعيد صياغة ردها الذكي:» إننا لن نلتقي أبدا ولن نفترق أبدا؟» أما ما تلا هذا التعبير الدبلوماسي الرفيع المستوى فقد كان شرحا يشبه عملية تشريح جثة واستخلاص أسباب موتها.
في كل كلمة ذرفها أنسي الحاج لمعشوقته كان هناك حب مرعب. حب فاجأ رجلا متزنا ابن عائلة مثقفة وخرّيج «اللسيه فرنسيه ومعهد الحكمة»، رجلا تعلّم اتيكيت التعامل مع المرأة تماما كما تعلّم وتشبّع بثقافة احترام الذات والغير. ولمن لا يعرف نوعية التعليم في مؤسستين عريقتين كهاتين في بيروت عليه أن يسأل أبناء جيله عن ذلك. والأخطر أنّه كان متزوّجا، ولعلّ هذا سبب إصرار غادة السّمان على الهروب منه، تماما كما فعلت مع غسان كنفاني، وربما آخرين لم تكشف عن «وثائقهم العشقية» بعد… فلطالما رددت غادة السمان في أدبها أن الحب يجب أن يكون كاملا، وفيما معناه أن لا يطعن أحدا.
وهي إن كانت تلك المرأة التي وقع في حبها رجال كثر، أو أعجبوا بتمردها ولغتها الجريئة وأدبها الأجمل، إلا أنها كانت تكبر الجميع بوعيها، وقد حافظت على صداقتها مع كل الذين ركضوا خلفها ولم يحظوا بها، وأعتقد إن عدنا لكتابها الذي رثت فيه زوجها بشير الداعوق سنكتشف أن السمان أرادت أن تختار رجلها لا أن تكون موضع اختيار، وأن تبقى في موقع الريادة لا ذيلا لرجل يقنعها بالحب.
أرادت أن تقع هي في حب باذخ يناسب ثقلها وإيمانها بنفسها وبذاتها المستقلة وبتجربتها القاسية في حياتها المبكرة، فظلّت مهرة طليقة إلى أن جاء أميرها فامتطت الفرس معه ودخلت مملكة شاسعة بدون قضبان، فسيحة تناسب هوايتها في الركض، وغابت عن أنظار من أحبها ومن حسدها ومن كرهها. وأخلصت للداعوق ولأدبها إلى يومنا هذا.
لكن من بإمكانه أن يفهم ذلك وهو يقرأ رسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني لها؟
بالنسبة لنا على المرأة أن تكون بدون ماضٍ ولو من باب الإعجاب بها. عليها أن تتصرّف دوما بما يناسب الرجال في تفكيرهم، ويحميهم ويحمي «شرفهم الهش» إن فتحت فمها بما يسيء لهم، عليها أن تكون كما يريدون، لا كما تريد هي وإلاّ وصفت بالمراهقة. وعليها أن تتقبل نمائمهم حين كانت صبية مع كم هائل من الشائعات العاطفية عنها وتخسر الكثير من سمعتها دون أن تعتب على أحد.
قلبت غادة السمان الطاولة الذكورية التي ألفناها، وقد اختارت المادة المناسبة في التوقيت المناسب لها لتُخرج مرة أخرى الأرنب الأبيض العجيب من قبعتها السحرية، لا لتدهش القارئ العربي، بل لتعطيه درسا لعله يتطور بفكره، وهو أن الأرنب ليس وليد القبعة، ولكنه وليد الخفة واللعبة البصرية، ولا سحر في الموضوع ولا هم يحزنون، فكل شيء وليد الحقيقة التي نحاول إخفاءها.
هذا هو أنسي الحاج وهذه هي غادة السمان. وإن لم تصل الفكرة فعلينا أن نعيد قراءة أديبة أحدثت زلزالا قويا على الأرض العربية أدبا، وكذا شاعرٍ صنع مجده بهذا الصدق والاحترام اللذين نفتقدهما في ساحتنا الأدبية اليوم.