... من رحمة الله أنْ خلق الناس على مذاهبَ من الهوى
شتى، فمنهم مَنْ تأخذه هوايةٌ ما، فينفق عمره يسعى إليها ويجدُّ في تحصيلها ما
استطاع إلى ذلك سبـيلا.
وسبحان الذي خلق الكتاب، وعلَّم بالقلم، فكانت الكتبُ
زينةَ الحياة الدنيا للكثيرين، ممّن يجدون في تقليب صفحاتها وتحصيل المعارف من
بطونها- متعةً لا تدانيها أخرى.
وإنْ جاز لي أن أضع نفسي وهؤلاء في طبقة واحدة، فإن
الكتب والمكتبات تعني لي الكثير، وهي في مدينة أبوظبي واحةُ أيامي؛ إذ عرفتُ دار
الكتب الوطنية والمجمع الثقافي قبل أن تطأ قدمايَ أرض الإمارات، وحين ولجتُ
أبوابَه للمرة الأولى حلَّ في قلبي وصار قطعةً مني أحمل صورته الرائعة أينما ذهبت.
... ينـتابك وأنتَ تدخل المكان شعور بأنك تدخل حرَماً
مقدسا، يأخذك المبنى بتفاصيله التي تنمُّ على عناية مستمرة لا تخطئها العين، وذوق
مميز لا يغادر كبيرةً ولا صغيرة، ليضفيَ عليه روحاً ساحرة تأخذ بالألباب.
فإذا سعدتَ بلقاء الكتب في الدار، أيقنتَ فعلاً أنكَ في
" الدار" بكل ما تحمله الكلمة من معاني الألفة والقرب والحميمية : فأنت
تسعد بلقيا " الأهل " من
الموظفين الذين يحرصون على مساعدة مرتادي المكتبة وتسهيل شؤونهم في البحث
والمطالعة.
وتسعد أيضاً بلقاء الكتب في صنوف المعارف والعلوم
تستقبلك على الرفوف، وتنتظر مَنْ يمدّ إليها يدَ البحث والتنقيب، وتفرح بأولئك
الذين لا تَـفْـتُرُ هِمّـَتُهم في تصفّح الكتب واستخراج كنوزها، يأنسون إليها في
وحشة الأيام.. يحملونها بين أيديهم.. يضمّونها إلى صدورهم، كأنما فرحوا بلقاء حبيب،
واطمأنوا إلى قرب صديق... يملأ أنوفَهم عبقُ روائح الأحبار، وترتاح أكفُّهم لملمس
الأغلفة والأوراق، فتـنتعش أرواحُهم، وتـنـتـشي قلوبُهم، وتحيا عقولهم.
فيا لروعة الحياة تخطُّ دقائقَها أقلامُ الكُتّاب، تقبض
على الزمان وتوقِفُ لحظاتِه على صفحاتها؛ ليستمتع بها ويفيد منها كلُّ مَنْ
فاتَـتْـهُ تلك الأوقات.
فيا لله ما أجمل دنيا الكتب والمكتبات!!