أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 ديسمبر 2010

خطبة 6: أنا والنباتات

الخطبة (6)
الهدف: التعامل مع الكلمات


عنوان الخطبة: أنا والنباتات



قال الشاعر يا سادة يا كرام:


ثلاثةٌ يذهبْنَ عن المرء الحزَنْ: 
                    الماءُ والخضرةُ والوجـهُ الحسَنْ


ولنتركْ في مجلسنا هذا: الماءَ فهو وفيرٌ في هذه البلاد، والوجهَ الحسن ... إلى حديث آخر .

السيد رئيس النادي، السيد عريف الاجتماع، السادة الحضور من الأعضاء والضيوف.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إذن عرفتم عمَّ سأتحدث! فلقد تربيتُ في بيت أو بالأحرى شقة صغيرة الحجم لم تخلُ من شرفة، لكن لم يكن بيتنا يضم من النباتات إلا أصيصاً واحداً لنبتةٍ لا أعرف اسمها ..لكني أحفظ شكلها جيداً في ذاكرتي، بقيت تلك النبتة يتيمةً وحيدة، إلى أن تبرعت بها أمي –حفظها الله- إلى جارتنا السورية أم مازن –رحمها الله- التي كانت تعتني بنا في غياب أمي ؛ إذ كانت أمي تعمل في التدريس ، ولم يكن في ذلك الزمان من ملجأ للأمهات العاملات إلا الاستعانة بأحدٍ للعناية بالأطفال.

...المهم ، كان بيت تلك الجارة مكوناً من غرفة واحدة ، و "حوش" صغير مليء بالنباتات والأصص على عادة البيوت الدمشقية..وقد انطبعت في ذاكرتي صورة هذا الفرق بين بيتنا وبيت جارتنا، لتقفز إلى ذهني صورة النباتات كلما دخلتُ بيتاً أو مكتباً أو غيره؛ إذ أبحث بين جدرانه عن تلك الأوراق الخضراء التي ما أن توجد في مكان.. حتى تعمره بخفقات الحياة.

إن فكرة جلب النباتات إلى البيوت في أصص صغيرة لهي فكرة عبقرية من بديع الإنسان، فالخضرة في الغابات والمروج –رهيبة ؛ وإلى حدٍّ ما مخيفة، لكنها في البيوت والأماكن المغلقة رقيقة تبعث على الرضا والجمال.

..وعندما كبرتُ وصار لي بيتي الخاص صرتُ أتطلع إلى اتخاذ النباتات لما رأيته من الجمال والروعة اللذيْن تضفيهما على أي مكان مهما كانت النبتة صغيرة.

وهكذا أصبح في بيتي قطعةٌ من الجنة بفضل مجموعة نباتاتي الحبيبة زرعتها بيدي، واعتنيتُ بها عناية الأم بأطفالها..فأضفت هذه النباتات بأنواعها وأشكالها جواً رائعاً على شقتنا البسيطة، وصارت محط إعجاب الزائرين والزائرات.
وكنت أرى دوما أن النباتات عنصر أساسي من عناصر "ديكور" المكان، انظروا إلى هذه القاعة بمقاعدها المعدنية والقماشية، وطاولاتها الخشبية، وستائرها المعدنية، وجدرانها الزجاجية.... إنه لا يليّن قساوة هذه المعادن التي تحيط بنا إلا رقة النباتات ونداها.
صارت النباتاتُ كذلك جزءا من نظرتي إلى الحياة ؛ إذ كنتُ أتأملها كلَّ صباح في الشرفة وأجلس أحياناً لحظاتٍ طويلة أتأملها وأسبِّح بعظمة الله الخالق ، فالِق الـحــَـبِّ والنَّوى، مُخرِج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحيّ!!!

لقد كان ظهورُ ورقةٍ جديدة تشق التراب أو الساق مثارَ دهشةٍ وموضع تأملٍ في نفسي لا ينقضي منها بسهولة، فالتأمل في أطوار النبات يعطي الإنسان تمريناً عقلياً من نوعٍ خاص تجعل منه أقرب إلى ممارسة الفلسفة، وفي اليابان مثلا ترتبط زراعة الأشجار المصغرة وتنسيق الزهور بنوع من الفلسفات الروحانية الخاصة بمعتقداتهم. ولهذا أذكر أنني صرتُ ألاحظ النباتات في كل مكانٍ أزوره أو أحطُّ به رِحالي، وأقصف بعض خصلاته من الأماكن التي أجده فيها لكي أزرعها وأضيفها إلى مجموعتي.


وحين غادرتُ الأردن للمرة الأولى للإقامة في دولة الإمارات سنة 1998، اصطحبتُ معي أغصاناً متنوعة من النباتات التي في بيتي لأزرعها هناك في مكاني الجديد؛ فلم أكن أتخيل أن أعيش في بيت لا نبات فيه من أول لحظة.. وأول شيء أنقله معي إلى بيت جديد سأنتقل إليه هو نبتة صغيرة تؤنس وحشته وتبعث الحياة بين جوانبه. ..لذا كانت دهشةُ موظف المطار كبيرة حين نظر في الكيس الذي أحمله معي فراعه أنها ورقات خضراء ، فتساءل باستنكار: طبيعية ؟!؟ فأجبته: نعم..نعم جداً!

وعند العرب كان للطبيعة القاسية في بلاد العرب أثر في أن يكون للنبات تقدير خاص، فاحتلت النخلة منزلة مميزة لدى العربيّ فهي الواحة والملاذ، تقاسمها في تلك المنزلة الخيول والإبل. ونتيجة لفقر بلاد العرب – خاصة في الجزيرة العربية- بالغطاء الأخضر الذي يوفره انتشار النباتات والأشجار، فإنهم حين وصلوا في فتوحاتهم إلى الأندلس مثلاً أبدعوا في مجالٍ شعريٍّ اشتهر وازدهر هناك، ألا وهو شعر الطبيعة ، وقد أجادوا في هذا الفن بوصف مظاهر الطبيعة الخلابة التي سحرَتْهم في ديارهم الجديدة، فما زالوا يبدعون فيه حتى اختص بعض الشعراء بنوع معين من النبات، فظهر شعر الزهريات والنَّوْريات والصنوبريات والثلجيات...وهكذا ، وهناك مقطَّعات شعرية كثيرة في هذه الفنون، ومنها نوع المعارضات الأدبية أنشأ فيها الشعراء قطعاً فنيةً على ألسنة الورود والرياحين والأزهار وغيرها...ينتصر فيها كل نوعٍ لنفسه ولمزاياه على غيره من أنواع الزهور والرياحين.

..أما في عصرنا الحالي وفي مجلسنا هذه فإن المثال الأقرب إلينا هو ما نراه على أرض الإمارات من انتشار الغطاء الأخضر على رمال الصحراء على نحوٍ مُـعْجِزٍ يذكِّرنا  في كلّ حين بالرجل الذي وقف وراء ذلك كله بإصراره واستشرافه المستقبل الشيخ زايد رحمه الله، حيث كانت عنايته بالنخيل ابنة هذه الأرض رفيقة أبناء الجزيرة العربية.
ما أُحَيْلى رفقةَ وريقاتٍ خضراء تتنفس معك في المكان وتضفي عليه من السحر والجمال ما يجعل روحك تمتزج بروحه!