ذهبت اليوم عصرًا في زيارةٍ أولى لمعرض أبوظبي الدولي الكتاب، كان الوقت
قريبا من أذان المغرب، وكنت أتوقع أن لا أجد موطئ قدم فيه؛ لأن اليوم هو اليوم
الأول من عمر المعرض الذي يمتد لخمسة أيام فقط، لكنَّ المفاجأة كانت أنْ خلا المكانُ
تقريباً من الزائرين.
المهم ..بدأتُ جولتي مستطلعةً عناوين الكتب المعروضة، أبحث عن شيء له صلة
باهتماماتي: الأندلس، صقلية، الاستشراق، المخطوطات، اللغة العربية...وغيرها من
مواضيع تستهويني....أو ربما أحتاج إليها في عملي.
ثم ..على بعد خطواتٍ من مجلس منبر الحوار تناهى إلى سمعي صوتٌ أحسب أنني
أعرفه، فإذا بها د. عفاف بطاينة (روائية أردنية) تحاور مريم الساعدي (كاتبة
إماراتية)، فوجدتها فرصة للراحة؛ فقدماي تؤلماني بسبب العمل الكثير منذ يوم الأحد
وبسبب الوقوف المتواصل في المدرسة... جلست واتخذتُ مكاناً متطرفاً قصياً عن الحضور
القليل العدد للجلسة.
..وعندما أتيحت للجمهور فرصة محاورة ضيفة اللقاء تكلمت إحداهن بالإنجليزية
تسألها ...ووجدتني كغيري ألتفت إلى السائلة التي تسأل... لفتَ انتباهي أنها تعلِّق
على مضمون اللقاء وتناقش الكاتبة في كتاباتها و..و...و...، تفعل ذلك كله وهي تمسك
بيدها زجاجة حليب ترضع طفلتها التي ترقد في عربة أطفال أمامها.. تفعل ذلك دون وجل،
ودون أدنى إحساس بأن فعلها فيه شيء ما يثير الـ...؟؟؟
فعاد إلى خاطري وأنا أتابع هذا المشهد
مثل هذا المجلس منذ نحو سنة أو سنتين، حين كنت حضرتُ إلى معرض أبوظبي
للكتاب كي أستمع إلى المستشرق الإسباني (بيدرو مونتابيث) يحاوره الدكتور صلاح فضل،
وكنا في المعرض نحن جميع أفراد الأسرة: أحمد لديه عمله مع المركز في لجنة المكتبة،
والأولاد انطلقوا للبحث عن الكتب التي يريدونها.. وكان عمار ما زال صغيرا.. وللاحتياط
اتخذتُ كذلك في تلك المحاضرة مجلساً في طرف الجمهور؛ تحسباً من مجيء أولادي في
أثناء المحاضرة – وهي في مكان مفتوح في قاعة المعرض- حتى أتمكن من الانسحاب بسهولة
إن اضطررت إلى ذلك.
وفعلاً..حصل ما توقعت ففي أثناء المحاضرة عاد أولادي وعمار معهم .. وكعادة الأطفال
أخذ عمار يلح عليّ في طلب أشياء .. وربما بكى أو توسَّلَ بصوت مرتفع ..لكن طبيعة
الجلسة المفتوحة وسط المعرض توحي بأنها جلسة غير معتادة -كتلك التي تكون حين نحضر
المحاضرات العامة في أماكن خاصة- وتوحي بأن الحضور والانضمام إلى الجلسة هو شيء
مرن..تأتي وتجلس.. وإنْ شئتَ تذهب ..دون قيود ..
وصادف في أثناء ذلك مرور أحد كبار موظفي هيئة أبوظبي للثقافة والتراث - وهي
الجهة المسؤولة عن المعرض- بالقرب من المكان، ولاحظ وجود ابني يجلس في حضني في
أثناء استماعي للمحاضرة...فسمعتُ من ذلك المسؤول كلاماً تبادله مع موظف آخر يمشي
معه ..كلاما موجهاً لغيري..لكني وأمثالي مقصودون به.. كلامه كان عن منع تواجد
الأطفال قرب مثل هذه الفعاليات الثقافية في مثل هذا المجلس، على الرغم من أن
المعرض مكان مفتوح ومتاح للجميع.
...واليوم وأنا أتابع هذه السيدة الأوروبية تحضر جلسة ثقافية وتحاور فيها
دون أن يمنعها ذلك من أن تعتني بطفلتها في الوقت نفسه...أتساءل أوَ لَـمْ يروا تلك
السيدة الأجنبية؟ -وهي كاتبة ومعلمة- تحضر
لقاءً ثقافياً برفقة طفلتها، ولا تتحرج من إرضاعها في أثناء النقاش، ولم ينتقد أحدٌ
تصرفها، ولم يعدّوه غير لائق..
لا بل على العكس أنا أفهم أن هذا هو التصرف الطبيعي: أن يرى الأطفال
بأعينهم آباءهم يشاركون في المنتديات الثقافية ...لا أن يسمعوا عن الكتب والقراءة
سماعاً, فإذا كنا نريدهم حقا أن يكونوا مثقفين .. وإذا كنا حقاً نطلب منهم أن
يقرؤوا لينفعوا أنفسهم وبلادهم في المستقبل، فلندعهم يعيشوا التجربة حقيقةً منذ
تفتحهم على الدنيا، فما بالنا نقبل لهم أن يذهبوا إلى أمكنة عديدة من المراكز
التجارية ودور السينما والحفلات الصاخبة ووو.....ثم نبخل عليهم بجلسة هادئة في
ندوة أو مكتبة؟!.
لو كنتُ أنا العربيةُ مكانَ تلك الأجنبية هل كان ردُّ فعل المؤسسة المُـشْرِفة
على المعرض سيكون واحداً؟؟؟!!!...
ربما من الظلم بمكان إثارة السؤال.. لكن التساؤل في نفسي ينفك لا يزول و لا
يتوقف؛ وأنا أرى "الفرنجي برنجي" في كل شيء في هذه البلاد، التي
كان أهلُها حتى عهد قريب -وربما ما زال بعضهم إلى اليوم كذلك - يتوجسون من
الغرباء قلقاً؛ لدرجةٍ قد تدفع إلى قتل
الغريب، كما كان قد جرى مع عدد من المستشرقين الذين جابوا بلادنا فيما مضى..فلما
ارتاب بهم العرب..كان القتل إيذاناً بطي صفحتهم من كتاب الحياة.