تكشف التفاعلات حول الذكرى 521 لسقوط الأندلس وآراء الناس حولها عن أننا أمة مهزومة بامتياز، تستكثر على بعض أبنائها أن يقفوا أمام تاريخهم لأيام، هذا التاريخ الذي يمحى من ذاكرتنا شيئا فشيئا دون أن ندري .. بحجة أننا أمة تحب دوما التغني بالأمجاد الماضية ولا تقدم شيئا في حاضرها للبشرية.
إننا أمة مهزومة حقا منذ عشرات السنين وربما منذ قرون، ولأننا أبناء
العصر الحديث الذين لم نفتح أعيننا إلا على النكبات والنكسات والهزائم، فإننا كذلك
لعجزنا المتمكن فينا- عاجزون أيضا حتى عن مجرد التخيل أو التصور، إننا عاجزون عن أن
نتصور أن أمتنا كانت يوما ما هي الدولة العظمى في العالم، وكانت القطب الأوحد،
وكانت رمز التقدم. إننا عاجزون عن ذلك، لأننا أمة مهزومة حضاريا متخلفة ماديا
ومعنويا عن الركب الحضاري للأمم الحية، لكن ومع ذلك كله فما زال فينا بقية من رمق،
ما زال فينا جمرة تتقد تحت الرماد، جمرة متوهجة، وربما تنفث فينا الحياة من جديد
مرة أخرى. إننا لهواننا على أنفسنا لا نقدر أن نتصور أننا كنا لعدة قرون شمس
الحضارة الذهبية الساطعة في العالم، لماذا نستكثر على أنفسنا الفرح والانتشاء
بحضارة كانت، وهذا حق للأمم، ليس نكوصا، إنه التماسُ ما يدفعنا إلى مزيد من العطاء
والغيرة لنعيد مجدا غابرا مضى.
..وقد كشفت المواقف والنقاشات التي دارت حول القضية الأندلسية على صفحات
التواصل الاجتماعي، أننا بحاجة أكثر إلى النبش في تاريخنا، فنحن نكاد نصبح أمة بلا
تاريخ بلا ذاكرة، فذاكرة أبنائنا تكاد تخلو إلا من كل تافه فارغ، ذاكرة أبنائنا
تكاد تنقطع بحاضر الأمة عن ماضيها، وإذا ما استمر التردي الثقافي واللغوي الذي
نعاني، سنصحو فجأة ذات يوم - أظنه ليس ببعيد- على أمة منقطعة عن الماضي لن تقوى على
الصمود في وجه المستقبل.
وقبل أن نبدأ ينبغي التنبه إلى أن أهل الأندلس ليسوا جميعا من خارج تلك
الأرض، ومن السذاجة بمكان أن نظن أن المسلمين الفاتحين ارتحلوا إليها بعائلاتهم
وقبائلهم وأهليهم…بل إن سكان الأندلس كانوا على مر الوجود العربي الإسلامي فيها،
ببساطة (أندلسيين)، نعم فقط هم (أندلسيون) تعرَّبوا باتخاذ اللغة العربية لغة ثقافة
ولغة حديث يومي، وأسلموا باتخاذ الدين الإسلامي عقيدة ومذهبا.. أو سالموا المسلمين
وبقوا على دينهم.. فكان ذلك الخليط الرائع الذي يسمى الشعب الأندلسي مزيجا حضاريا
يشبه - على نحوٍ ما- الشعب الأمريكي حاليا من مختلف الأعراق في ظل دولة
واحدة..
فالذين يستهجنون الوقوف على ذكرى سقوط الأندلس، لا يعلمون أن سقوط
الأندلس قد غيَّر معالم البشرية على وجه الأرض، كثير من الأشياء كان يمكن أن تكون
مختلفة لو بقيت الأندلس إسلامية. بل أكاد أقول إن سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر
كان أشد وطأة على الأمة الإسلامية من سقوط فلسطين في القرن العشرين، فإن فلسطين لو
لم تكن محتلة الآن كانت ستكون كغيرها من دولنا العربية الأخرى في جسدنا
الممزق!
أما سقوط الأندلس فقد غيَّر تاريخ البشرية، لماذا ؟! لأنه في سنة 1492
التي سلَّم في بدايتها أبو عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة- مفاتيح المدينة إلى
الملكيْن الكاثوليكيين إيزابيل وفرناندو - ملكيْ قشتالة وأراغون - إذ لم يكن وقتها
هناك شيء اسمه إسبانيا - هذه السنة هي السنة نفسها التي شهدت وصول كريستوفر كولمبس
شواطئ أمريكا بمساعدة الخرائط العربية وبمساعدة علم الملاحة العربي وبمساعدة
الملاحين والبحارة العرب، وما أحدثه وصوله إليها من تغير هائل في موازين القوى
الدولية، وتلاشي حضارات وانبثاق أخرى.
وقبل السقوط بنحو خمسين سنة -1447- تم إنجاز الاختراع الذي غيَّر تاريخ
البشرية قاطبة إنه اختراع الطباعة الحديثة، الذي جرى على يدي يوهان غوتنبرغ في
ألمانيا .
إذن فقد خلَّف سقوطُ الأندلس ظواهر كبرى كان لها نتائج كارثية خاصة على
العالم الإسلامي ما نزال ندفع إلى اليوم ثمنها: من الكشوف الجغرافية وما نتج عنها
من توسع استعماري أوروبي في شتى بقاع الأرض، مع تغير المفاهيم وظهور المركزية
الأوروبية واستعلاء العرق الأبيض واحتقار الثقافات والشعوب الأخرى.
ومن تراجع السيطرة الإسلامية على طرق التجارة العالمية، مما أدى إلى
تراجع حاد في الشؤون الأخرى.. ومن ظهور الطباعة وما ترتب عليه من النهضة العلمية
والثقافية والتنويرية التي غيرت وجه أوروبا والعالم وقلبت المفاهيم في الأسرة
والمجتمع والدولة والرعية…. وفي كل شيء .
…ولمن لا يعرف ما معنى سقوط الأندلس، يكفي التذكير بمصانع الورق التي
كانت تنتشر في المدن الأندلسية، ومنها انتقلت معرفة الورق إلى أوروبا التي كانت ما
تزال تكتب على الرق من جلود الحيوانات….. مصانع الورق تلك التي كانت تلبي حاجة
السوق الثقافية والفكرية التي كانت تزخر بها الأندلس في ظل الحكم الإسلامي، والتي
يكفي عليها دليلاً مكتبة الخليفة الحَكَم المستنصر التي كانت تضم مئات الألوف من
الكتب والمجلدات قبل ألف عام، في حين أن أوروبا لم تكن تعرف ما معنى كلمة (مكتبة)،
وفي حين كانت مكتبة أكسفورد - التي تأسست بعد مكتبة قرطبة بنحو خمسمئة سنة- قد
نُهبت وجرى فيها بيع قطع الأثاث ومحتوياتها، وبيعت أوراق الكتب فيها قراطيس كما
نستعملها نحن اليوم، لنلفَّ بها قليلا من الفشار أو بعض
الترمس!
وفي حين كان مثقفو أوروبا من الرهبان يلجؤون إلى طمس الكتب القديمة
المخطوطة بغسل الأحبار ليعاودوا كتابة الصلوات والأدعية على أوراقها من جديد،
فأفنوا كثيرا من العلوم دون أن يعلموا ذلك، بما يعكس المستوى العلمي الحقيقي لـ(أهل
العلوم) و(المثقفين) الأوروبيين في ذلك الزمان، الذي ما كنتَ لتجد فيه أندلسياً أو
أندلسية لا يعرف القراءة ولا الكتابة!
إننا مع الأسف رغم ما وصل إليه كثير من شبابنا في العلوم الحديثة لا
نقدر أن ندرك كم نحن مدينون إلى حضارتنا العربية الإسلامية- وجزء مهم منها في
الأندلس- تلك الحضارة وما وصلت إليها التي اتكأت عليها أوروبا ولم تجد غيرها أمامها
لتنهض وتمحو ظلمات العصور الوسطى التي كانت غارقة فيها، في الوقت الذي كانت أمتنا
فيه تنعم فيه بنور العلم والحضارة والتسامح الديني والرقي الأخلاقي …وغيرها من
ميزات الأمم المتحضرة، بما يحفزنا على أن نقبس منه من جديد لنعيد أمجادا لنا كانت.
كم من أطبائنا ومهندسينا وعلمائنا اليوم يعلمون عن إنجازات أسلافهم
العلماء في الأندلس - وفي غيرها بطبيعة الحال-؟ وكم منهم يعرف مقدار ما تدين به
الحضارة الأوروبية الحديثة لحضارة أجدادهم العرب المسلمين؟ كم طبيبا منهم أو جراحا
أو صيدلانيا يعرف أو قرأ سطرا في الموسوعة الطبية التي ألَّفها الطبيب الأندلسي
الفذّ أبو القاسم الزهراوي (التصريف لمن عجز عن التأليف) هذا الكتاب الذي بقي مرجعا
وحيدا لدى الجامعات الأوروبية في كليات الطب لعدة قرون، كم واحدا منهم ألقى نظرة
على الفصل الثلاثين فيه، وهو مقالة في الجراحة، وفيها صفحات عديدة تضم صورا لأدوات
الجراحة التي استعملها الزهراوي من نحو ألف سنة، وتشبه إلى حد كبير ما يستعملونه
الآن بين أيديهم وما يستعمله الأطباء في مستشفيات أوروبا وأمريكا، وفي المقالة كذلك
وصف لعمليات جراحية دقيقة نصعب أن نتخيل كيف كانت تجري منذ ألف سنة ؟ هل نقدر أن
نتصور ذلك ونصدق أنه كان موجودا ونحن مهزومون حضاريا؟؟؟ أم لأننا استفقنا على
تخلفنا الحضاري فأصبحنا عاجزين كذلك حتى عن استحضار ما كنا
فيه!!
هل نقدر أن نتخيل شوراع قرطبة، أكبر مدينة في العالم من حيث عدد سكانها
في ذلك الزمان، الشوارع المضاءة بالمصابيح ليلاً يقوم على حراستها والسهر عليها
شرطة المدينة، تنتشر فيها الأسواق والمساجد والرياض والدور والقصور والدروب
المرصوفة النظيفة، في حين كانت شوارع باريس ولندن تغرق في الوحل والظلام وبَوْل
الناس يلقونه من نوافذ بيوتهم على قارعة الطريق، لا يأبهون بالماء إن غاب عن
أجسادهم سنوات، بل يفاخرون بعدم الاستحمام، في الوقت الذي كانت فيه قرطبة ومدن
الأندلس - كباقي المدن الإسلامية- تغصّ بالحمامات العامة تأكيدا لقيمة النظافة ..
هذه الحمامات التي طالها الأذى كما طال أهل الأندلس عند سقوطها؛ فقد سارع الإسبان
بعد سقوط الأندلس إلى حرق الكتب وهدم الحمامات، في خطوة لا أدري ما الوصف المناسب
لها: همجية، جهل، قذارة، حقد أعمى؟…..
هل نملك أن نتخيل حجم الاستعراضات العسكرية والتشريفات الأميرية
والملكية التي كان يستعرض بها خلفاء الأندلس وملوكها وأمرائها قوتهم أمام أعدائهم،
حتى أنها لأعجزت الأندلسيين أنفسهم قبل أن تُعجز سفراء أعدائهم حين كانوا يأتون
لتقديم فروض الطاعة لحكام الأندلس.
هل نقدر أن نتخيل العقلية الفذة التي تفتقت عنها العبقرية الهندسية التي
حملت المياه العذبة في غرناطة إلى قصر الحمراء وإلى بيوت الناس الرابضة على جبالها؟
أو نتخيل العبقرية التي أبدعت في أنظمة الري ونقل الماء إلى البساتين والحقول داخل
المدينة وخارجها؟ ونحن الآن في مدينة عمان لا نقدر على أن نجرّ مياه "الديسي" إلا
بـ"عطاءات مليونية" و"شركات فرنسية"؟!
ما هو السر العظيم والعقلية التي تقف وراء من استطاع أن يجعل تماثيل
الأسود في قصر الحمراء تنفث من أفواهها الماء حسب ساعات معينة من النهار؟ ما هي
الميكانيكية التي تعمل بها؟ وكيف أنتجها أهل تلك
البلاد؟
… ربما نجد هذه الأمور عادية جدا في أيامنا الحالية، نظرا لما شهدته
البشرية من تقدم هائل على مختلف الأصعدة، لكنها مع ذلك معجزة حضارية لمّا يفك
العلماء كثيرا من أسرارها بعد.
لهذا فإن الإسبان حين أسقطوا الأندلس كانوا يدركون قيمة الإنجازات
الحضارية للأندلسيين المسلمين؛ فحين كان يتم جمع الكتب العربية لتضرم فيها نيران
الحقد عام 1499 في ساحة باب الرملة في غرناطة بعد طرد المسلمين، استُثنيت من هذا
المصير المفجع الكتب العربية في العلوم الطبية والهندسية والفلسفية وغيرها من
العلوم الطبيعية والرياضية والتطبيقية، لتأكل النيران فقط المصاحف وكتب الفقه
الإسلامي والأدب العربي واللغة العربية وكل ما يمس هوية العربي ويحفظ كيانه
االثقافي.. في حين حُملت بقية المجلدات إلى مراكز الترجمة والجامعات ليكون بالإمكان
الإفادة منها على أفضل وجه؟ وهكذا كان..
وهكذا سُرقت حضارتنا ، ثم رُدَّت بضاعتنا إلينا بعد قرون في ثوب جديد
لذا لم نعرفه، والتبست على كثيرين منا، والآن فهمنا - بعد فوات الأوان- كيف كان
بعض فقهاء الأندلس يحرّمون بيع الكتب العربية إلى النصارى الإسبان، بحجة أنهم
يترجمون ما فيها وينسبونه إلى أنفسهم. فكم واحداً منا يعرف أصل الكاميرا ؟ ويعرف
أصل الأرقام العشرية ؟ وأصل روبنسون كروزو ؟ والكوميديا الإلهية؟ فحتى الأدب
الأوروبي في نشأته لا يخلو من تأثير عربي إسلامي بوجه من الوجوه.. بل حتى اللغة
الإسبانية نفسها تعود في ثلثيْن من ألفاظها إلى أصول عربية!!! فما هذا النقاء
الحضاري وهل هو موجود حقا؟؟ وما حرف الثاء والخاء المتكرر فيها بكثرة -على غير
المعهود في اللغات الأوروبية- إلا مثل على ما
نقول.
إننا أمة مهزومة … لا نقدر أن نتخيل الآية معكوسة، حين كان الطلبة
الأوروبيون يتزاحمون على أبواب الجامعات العربية في قرطبة لتحصيل العلوم التي عجزت
بلادهم أن تقدمها لهم، لا نقدر أن نتخيل كيف كان شبابهم يتباهون بمعرفتهم اللغة
العربية وإتقانهم لها، إلى درجة نظم الشعر والرسائل واتخاذ العربية لغة الحديث
اليومي ولغة الثقافة لبعضهم.. حتى ضجَّ القس (ألبارو القرطبي) من أبناء جلدته
لغرامهم الزائد عن الحد بتقليد الأساليب العربية في النثر والنظم.
ولا نقدر أن نتخيل كيف أن ملك صقلية روجر الثاني كان يتباهى بلبس عباءة
مطرزة بكتابات عربية وبحروف عربية.. وبعضنا يخجل الآن من توقيعه البائس إذا كان
بحروف عربية.
..وبعد، لا نقول إن التجربة الأندلسية كانت نقية من العيوب وخالية من
الأخطاء، فهي كمثل تجاربنا في بلادٍ أخرى فتحها المسلمون- شابها الكثير من النقائص
والعديد من العيوب.. لكن ذلك لا يمنع أن نفخر بها تجربةً
فريدةً لا مثيل لها في الحضارات الإنسانية، ولا ترقى إليها نماذج شبيهة ربما تأخذ
بعقلنا في عصرنا الحديث لأننا فقط "مغلوبون…ومولعون بتقليد الغالب"…رحمك الله يا
ابن خلدون، هل قرأتم بعض سطوره، أعرف أن كثيرين منكم سمع به..ولكن هل قرأتم بضعة
سطور من كلماته؟ إن فهمتموها.. فأنا على يقين أننا أمة ما تزال على قيد
الحياة!