بقلم غادة السمان
جريدة القدس العربي
البوسطجية اشتكوا..
لعل ميتران يستطيع الدخول في موسوعة «غينيس» بعدد رسائل الحب التي سطرها حاكم لامرأة واحدة. والمدهش أن ذلك الحب لم يزلزل أركان حياته، وظل يعيش مع زوجته دانيال وولديه منها. ذلك السياسي الكبير «المكيافيلي» كان يتحول إلى تلميذ مراهق في «مدرسة الحب» حين يخط الرسائل لحبيبته، ويعري بذلك ضعف النفس البشرية وغموض أهوائها وتعقيد دهاليزها. التقاها للمرة الأولى عام 1963 بحكم صداقته مع أبويها. كان نائباً في المجلس النيابي وعمره 47 سنة، وكانت طالبة عمرها 19 سنة.. وامتد بين عينيهما ذلك الشعاع المكهرب اللامرئي المدعو بالحب على الرغم من فارق السن.. وتابعت دراستها في باريس ثم صارت أمينة «متحف دورساي» الباريسي على ضفة نهر السين ونهر الحب صار يجري جيئة وذهاباً بين قصر الاليزيه حيث ميتران ومتحف دورساي.
(تانجو) الحب مع بانجو
لم تجر الرياح دائماً بما تشتهي السفن الغرامية لميتران. بانجو شابة تتقن فيما يبدو رقصة التانغو العاطفية مع فرنسوا (ميتران).. تمضي خطوة نحوه، ثم أخرى إلى الخلف.. وتعاشر سواه من أندادها الشبان، مما يزيد غرامه تأججاً.. ويلحظ فارق العمر بينهما فيكتب في إحدى رسائله: «حبي لك أكثر شباباً مني. أنت لي الحياة. الدم. الروح. الأمل. البهجة. النار التي تطهرني وتؤلمني». لكنه نسي أن يضيف: شرط أن تظلي «امرأة السر» في مربعك الخاص بك على شطرنج حياتي!!
ذلك الرجل الذي هزم الجنرال ديغول في الانتخابات هزمته امرأة وهزمها إذ حاصرها بحبه وثقافته وإبداعه الأدبي، وكان وجه الأديب فيه غير مزور. وقد التقيت به مرتين في مكتبة في الحي اللاتيني وفوجئت كثيراً حين شاهدته للمرة الأولى وألقيت عليه التحية فرد بلطف.
ذلك الحب الرجيم
تراه أحبها أم أحب امتلاكها وسجنها داخل قمقم الحب؟ حاولت بانجو أن لا تصير السر الأكثر إخفاء في الجمهورية الفرنسية لكنه كان يصنع من إبداعه الأدبي (3 رسائل كل أسبوع) حبلاً يجرها به كما يفعل رعاة البقر بفرس يريدون ترويضها. خسرا معركة الفراق، وولدت ابنتهما مازارين عام 1974 وحملت اسم أمها: بانجو، لا اسم والدها.. ولم تظهر حبيبته آن علناً إلا يوم دفنه عام 1996 حيث وقفت وابنتها إلى جانب زوجته وولديه تحت أنظار كاميرات تلفزيونات العالم.
ذلك «الحب الرجيم» الذي سبب الألم للشبكة العنكبوتية الإنسانية المحيطة به استمر، وزوجته دانييل تألمت كما ولداه جان كريستوف وجيلبير، ولكن ميتران كتب للحبيبة يقول: «فقدك يعني لي الدمار، الوحشة، اليأس!»
هذه أمور تحدث أحياناً وميتران ليس وحده المتزوج الذي أحب أخرى..
لو كان ميتران مسلماً..
قال لي صديق طالع الرسائل (الملتهبة): لو كان ميتران مسلماً لاستطاع اتخاذها زوجة ثانية دون أن يضطر لتطليق زوجته الأولى.
قلت له إنني لا أعتقد ذلك، وإنه كان يريد أن تظل الأمور على حالها. ونجح في فرض ذلك على الجميع. وحده المرض هزمه وإمكانية موته عرته، وحين عرف أن مرض السرطان يلتهمه وأن أيامه باتت معدودة أعلن أبوته لمازارين على الطريقة الفرنسية: اصطحب مازارين للغداء في «مطعم ليب» الذي كان همنغواي يشرب جعته فيه في «سان جرمان دو بريه» في قلب الحي اللاتيني مقابل مقهى «ليه دوماغو» و»فلور» حيث شبح سارتر ودوبوفوار وعلى مقربة من المكتبات التي عشق أيضاً. وحين غادر وابنته المطعم كان (جيش) من المصورين بانتظارهما ونشرت صورهما على أغلفة المجلات الفرنسية مثل «باري ماتش» وسواها ناهيك عن الصحافة العالمية.
لا. لو كان ميتران مسلماً لما تزوج من آن!!
الفضيحة هي «اللاحب»!
صدرت هذه الرسائل في باريس ولم يرتفع صوت واحد يكتب أو يقول أن بانجو بنشرها «شوهت صورة ميتران» أو ليتهمها بأنها عميلة أجنبية ضد الاشتراكيين أو أن الرسائل مزورة، أو أن التخطيط لنشرها تم في البنتاغون كما كان سيحدث عندنا. أي أن ردة الفعل الفرنسية على صدور الرسائل كانت حارة وجميلة ورسائل الحب الرائعة المتبادلة بين مبدعين تلقى إقبالاً وترحاباً في الغرب. أما نحن فما زلنا نصر على الازدواجية، ونعتبر قول الحقيقة البشرية مؤامرة ضد القبيلة، والحب عندنا «فضيحة».
وقد عبر عن ذلك عباس بيضون باخــــتزال فني رائع حين قال معلقاً على مطالبة البعض لكاتبة بنشر رسائلها إلى الحبيب مع رسائله (وهي ليست بحوزتها طبعاً) قائلاً: كأنهم يقولون هاتي فضيحتك. أيضاً «وضعوا فضيحة مقابل فضيحة».
وختاما أحب التذكير بأننا كعرب شعب (طاعن) في الحب وعريق أما اليوم فرسائل الحب عندنا مصيرها التمزيق أو الفضيحة.
ترى هل كان أجدادنا أكثر تحرراً منا وصدقاً؟ هكذا نتساءل ونحن نقرأ قصائد ابن زيدون إلى الحبيبة ولادة بنت المستكفي وردها العلني عليه.. وقولها:
ترقبْ إذا جُنّ الظلام زيارتي/فإني رأيت الليل أكتم للسر..
ويا له من سر وهي تعلن عزمها على لقائه ليلاً!