بقلم :ديك الجن
من الأسئلة التي حيرتني كما حيرت الجميع بلا شك.. هو السؤال الخالد.. لماذا خلقنا الله؟ وهو سؤال منطقي ومطروح بشكل دائم.. وللأمانة لم أقتنع يوما بالتفسير السلفي الذي استند على آية "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وحصر مفهوم العبادة بالشعائر الفردية، أي أننا خلقنا لنصلي ونزكي وغيره.. لذلك ظللت أبحث وأبحث ويلح على هذا السؤال، حتى وجدت تفسيرا اطمأن له قلبي.. تفسير لم يجب فقط على سؤالي، لكنني وجدته يصلح أيضا كنموذج فسر لي الكثير من الأشياء.. ويطيب لي أن أطلق على هذا النموذج الذي أحدثكم عنه اليوم، اسم "نظرية المسارات المتقاطعة"..
النظرية تقول ببساطة أنه لكل إنسان فينا من لحظة ولادته حتى لحظة وفاته، مسار خاص يميزه عن مسارات الآخرين.. شيء أشبه بالطريق الذي تسير عليه السيارات.. لكن هذا المسارات كالطرق أيضا، متقاطعة بشكل يومي ولحظي.. قد يكون المسار قصيرا إذا متت وأنت طفل مثلا.. وقد يمتد حتى تبلغ من العمر عتيا، لكنه يبقى مسارا ببداية ونهاية.. وقد تكون لحظات تقاطعك مع مسارات الآخرين قصيرة ولحظية كابتسامة عابرة على رصيف، وقد تكون طويلة كزواج يمتد لخمسين عاما.. المهم أن هنالك تقاطعات..
وبما أن جميع هذا المسارات تنتهي في نقطة واحدة هي الموت.. تكون الحياة الدنيا هي المسار، والدار الآخرة هي الهدف والمبتغى بحسب الآية “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا".. وهذا هو سر الخلق.. والسؤال إذن.. كيف يحدد الله أداء كل منا على مساره؟ ومن يحصد النقاط الأعلى؟ أي إذا كان الهدف هو وضعنا في مسارات متقاطعة فكيف يكون التقييم؟ النظرية تقول ببساطة أن التقييم يعتمد بشكل أساسي جدا، ليس على أدائك في مسارك، لكن على أداءك أثناء تقاطع مساراتك مع مسارات الآخرين.. وتأثيرك على مساراتهم سلبا أم إيجابا.. ولشرح هذا الكلام نأخذ عدة أمثلة..
اليتم مثلا.. اليتم بحسب هذه النظرية هو أن تفقد مسارا داعما بالفطرة لمسارك.. بحيث يصبح تقدمك في مسارك ضعيفا ومشكوكا فيه.. لذلك كان من أعظم الأعمال أجرا في الإسلام كفالة اليتيم.. وقال عنها النبي عليه السلام "انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" أي أنه ساوى بين النبي وكافل اليتيم للدلالة على عظم الأجر.. وبالمقابل، كان التحذير من أكل مال اليتيم في القرآن شديدا مرعبا، فقال تعالى "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا"..
بر الوالدين هو بحسب النظرية.. مساعدة شخص أفنى حياته ليبني مسارك.. ووجب عليك بعد أن قوي مسارك أن تساعده فيما تبقى له من مساره.. بر الوالدين ربط بعبادة الله سبحانه وتعالى مباشرة.. الزكاة والصدقة وكل التعاملات المالية.. هل هي إلا دفعة منك لشخص متعثر في مساره؟ الغيبة والنميمة.. أليست تدميرا لسمعة شخص ما وتقويض لمساره؟ الزواج وكل ما يتعلق به.. أليس كل أحكامه وضعت لكيلا تكون سببا في تدمير إنسان ارتبطت مسارك بمسارها أو العكس؟ السرقة.. ما هي السرقة سوى حرمان إنسان من مجهوداته التي وفرها لتساعده في مساره؟ وقمت أنت بسرقتها لتعيده ألف خطوة للوراء؟ وهكذا يمكننا بفهم هذا النموذج من تفسير كافة أحكام الإسلام.. والتي نلاحظ جليا منها أنها تتعلق بشكل مباشر لا بمسارك أنت.. بل بالطريقة التي تتصرف بها حين يتقاطع مسارك مع مسار الآخرين..
نقطة مهمة هنا هي القتل.. والقتل ما هو إلا إنهاء إجباري لمسار شخص معين أو عدة مسارات لعدة أشخاص.. مسارات لا تملك أنت فعليا حق إنهائها.. لذلك عندما تقتل إنسانا فأنت لا تنهي مساره فقط.. لكنك تقتل فرصته لتصليح مساره.. ولنفرض أن هذا الشخص كان سيئا مثلا.. لكن مساره يسمح له بالتوبة والتعديل.. فأنت عندما تقتله تكون سلبته هذه الفرصة.. من هنا فعقاب إنهاء المسار لا يكون إلا إنهاء مسارك أنت أيضا.. بالإضافة طبعا إلى غضب الله عليك لإنهاء مسار هذا الرجل (أو المرأة).. والتأثير على المسارات التي كانت تعتمد عليه كأولاده وعائلته الخ.. لذلك كان القتل من أعظم الحرمات عند الله.. لهذا السبب تحديدا..
بنفس المنطق يمكننا وبكل بساطة فهم مبدأ الشهادة.. أي أن يكون الإنسان شهيدا.. ومرجعي الأول والأساسي في هذا الفهم هو حديث الرسول عليه السلام "سيد الشهداء حمزة.. ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" السؤال.. ماذا بالضبط فعل هذا الرجل حتى استحق لقب سيد الشهداء؟ بكل بساطة.. ضحى بمساره الشخصي لكي تكون مسارات الآخرين أفضل.. أي أنه ضحى بفرصته لتحسين مساره من أجل أناس لا يعرفهم.. وهذه هي التضحية التي استحق عليها أن تغفر ذنوبه, ويحشر مع الأنبياء والصديقين..
الحاصل أنني هكذا أرى الدنيا وهكذا أفهم الإسلام (وإن لم أكن ملتزما) .. وهكذا أفهم تصرفاتي وتصرفات الآخرين.. وهكذا أقيم نفسي والآخرين.. وأحببت أن أشارككم هذه الرؤية.. بدون طبعا أن يتم التركيز على الجانب السلبي للمسارات.. فبنفس القدر الذي من السيء فيها أن تؤذي مسارات الآخرين ولو بتعطيلهم في معاملة حكومية.. من الرائع أيضا أن تساعدهم في مساراتهم وتسرعها وتسهلها لهم.. الموضوع ذو حدين.. وهذا ما يجعل النبي محمد أعظم المسلمين لأنه ساعدنا جميعا في مساراتنا...
في الختام, بقي أن أقول أن ما دفعني بشكل أساسي لكتابة هذه المقالة، هو سخرية قرأتها على موقع تويتر من شخص يتحدث عن أن كسر قلب أنثى يستوجب أن لا تقبل صلاتك أو صيامك.. الخ.. وكانت التعليقات أن هذا الكلام على فقه الإمام تامر حسني.. طبعا لا شك أن تغريدة الشخص فيها الكثير من الخطأ.. لكن ضمن نظرية المسارات، فلا شك أن دخولك العابث في مسار حياة إنسانة لعدة سنوات ثم تركها بعد أن دمرت مسارها، هو شيء ستدفع ثمنه غاليا.. وغاليا جدا.. ولربما يكون الثمن أكبر بكثير من مجرد قبول صلاتك أو صيامك..