بقلم: دينا سعد
أُنتجت الكثير من المسلسلات التاريخية في جميع أنحاء الوطن العربي، وبميزانيات ضخمة، لكن يبقى المسلسل السوري «ربيع قرطبة» يحتل مكانة خاصة في قلوب الكثيرين. المسلسل أتى ضمن ثلاثية المؤلف الفلسطيني «وليد سيف» والمخرج السوري «حاتم علي»، التي تناولت ثلاث فترات مهمة في تاريخ الأندلس: مسلسل «صقر قريش» الذي يتناول سيرة صقر قريش: «عبد الرحمن الداخل»، الذي أسس لتلك الحقبة بدخوله الأندلس وتأسيس خلافة أموية جديدة؛ ومسلسل «ربيع قرطبة» الذي يتناول سيرة الحاجب المنصور: «محمد بن أبي عامر»، ووصوله للحكم؛ وثالثها مسلسل «ملوك الطوائف»، الذي يروي قصة سقوط الأندلس التي بدأت بانقسامها وتعدد ملوكها وطوائفها.
أعمدة بطولة تلك السلسلة هم: تيّم حسن، جمال سليمان، وتختلف أدوار البطولة فيما بينهما، ومعهما كوكبة من الممثلين السوريين أبرزهم: نسرين طافش، سلاف فواخرجي، مي سكاف، سوزان نجم الدين، محمد مفتاح، أيمن زيدان، باسل خياط.
لماذا ربيع قرطبة؟
الفتى الطموح يحقق حلمه
الطريقة التي صاغ بها وليد سيف شخصية محمد بن أبي عامر تجعل كل من يشاهد المسلسل يقع في غرام تلك الشخصية، رغم ما عليها تاريخيًا من أخطاء، إلا أن محمد بن أبي عامر في ربيع قرطبة فتى يستحق المحبة ويأسر لبك وقلبك منذ الحلقة الأولى. لم أكن من محبي مشاهدة المسلسلات يومًا، لكن قادني الضجر ذات يوم للتنقيب في التلفاز عن شيء أشاهده، ولحسن حظي وقعت عيني على هذا المشهد: ثلاثة شبان يمتلكون ذات السلعة ويقابلهم مشترٍ واحد وعلى كل واحد منهما أن يجذب هذا المشتري لسلعته دون سلعة أخيه. الخيار الأقرب للتصور في موقف كهذا أن تكون المنافسة على السعر الأيسر، لكن من العجب أن يفوز بذلك النزال من يبيع بالسعر الأعلى! هذا ما فعله ابن أبي عامر في مشهد درامي مبدع، وهذا ما جعلني أحرص على مشاهدة بقية حلقات المسلسل.
كان محمد بن أبي عامر على بساطة حاله فتىً طموحًا يطمع في المعالي، لا يكفيه أن يحلم بمال يكفي مقومات حياته، ولا بأن يصبح نابغًا أديبًا أريبًا، كان لا يرضيه سوى دخول أسوار الأندلس كما دخلها عبد الرحمن الداخل سيدًا متوجًا.
تتابع الأحداث في تناسق منطقي مع الكثير من العقبات التي تواجه ابن أبي عامر حتى يصبح فيما يشبه الخيال خليفة الأندلس، وأن يصبح أحد الملوك الذين يُعدّون على أصابع اليد الواحدة ممن صنعوا مجدًا يذكر في بلاد الأندلس.
قصة الحب العفيف المستحيلة
هذا شأن ذو شجون على مر التاريخ، من منا لا يحب قصة قيس وليلى، وروميو وجولييت، وعنتر وعبلة، وجميل وبثينة، وكل مستعصٍ من قصص الحب، وكل مُحب ضنّ وِصَاله؟ هذا موضوع شهي في كل الثقافات؛ ربما لأن البشر يعتقدون في تلك القصص الصدق والوفاء أكثر من تلك القصص التي تكلل بزواج الحبيبين. على هذا الوتر تحديدًا لعب صناع العمل، وحتى وإن لم توجد حقائق تاريخية تؤكد قصة الحب تلك.
قصة الحب العفيف المستحيلة في المسلسل كانت بين زوجة الخليفة: صبح البشكنجيه، وحاجبه: ابن أبي عامر، الذي كان لم يتمكن من «التسلق» للحكم بعد. تظل نيران الشوق تقض مضجع كليهما طوال المسلسل، ومع حتمية رؤية بعضهما للآخر، إذ يعمل الحاجب المنصور على إدارة أملاك ولدها هشام، يحاول كل منهما أن يخمد هذا البركان من الشوق ويصون نفسه بالعفاف، ويدور بينهما حوار هو من أبلغ ما قيل في الحب العفيف.
الأندلس: فردوسنا المفقود
للأندلس في قلوب المسلمين والعرب مكانة خاصة، إذ إنها درة تاج الحضارة الإسلامية. في الأندلس كان التقدم وكانت الحضارة، في الأندلس كنا في الريادة وكانت أوروبا تتبعنا وتخضع تحت أقدامنا، في الأندلس كان الانفتاح والاندماج بين كل الثقافات والديانات فعاش المسلمون جنبًا إلى جنب مع المسيحيين واليهود، وعاش العرب مع الإسبان في مجتمع واحد مُتكافل، مُتقدم، مُتعالٍ عن كل العصبيات والطائفيات، وسقطت الأندلس فقط حينما بدأ التفكك وبدأ فصل ملوك الطوائف.
مسلسل ربيع قرطبة جسّد بشكل كبير هذا المجد المفقود في الكثير من المشاهد، من بين تلك المشاهد الفتى الأوروبي الذي أتى للأندلس ليتعلم اللغة العربية والفنون والثقافة من الحضارة الأندلسية، والذي يطمح لأن يحرز أكبر مجد قد يحرزه أحد من أبناء شعبه بأن يصير مترجمًا وسفير بلاده لدى بلاد الأندلس.
الحضارة في الأندلس لم تكن فقهية وعلمية فقط، فها هو المسلسل يركز لنا على الجانب الأدبي والموسيقي كذلك واللذين تميزت بهما الثقافة الأندلسية في ذلك الحين، فكانت دار المدنيات بمثابة معهد عالٍ للموسيقى يُدرس فيه كافة أنواع الغناء والعزف على الآلات. وكان للأدب حظ وافر كذلك في الثقافة الأندلسية، فكانت مكتبة الحكم المستنصر بالله تزخر بمئات الكتب في الشعر والأدب، ومما زكى ابن عامر لديه علمه بالشعر والأدب.
ركز صناع العمل بشكل كبير على إظهار الجانب الفني والأدبي في المسلسل واللذين يمثلان جزءًا أصيلاً من الثقافة الأندلسية. المسلسل مليء بالمبارزات البلاغية والأدبية بين الحكم المستنصر وحاجبه ابن أبي عامر؛ إذ كان الحكم يستطيب الكلام والمسامرة مع ابن أبي عامر ويحضره إلى مجلسه ويشركه في نقاشاته الأدبية والفلسفية ويباهي به جلساءه.
المسلسل كذلك مليء بعدد لا بأس به من الموشحات الأندلسية، والتي هي أروع ما خلفته لنا الثقافة الأندلسية في الأدب، والتي ظهرت في أواخر القرن الثالث الهجري. كانت الموشحات تختلف كثيرًا عن الشعر العربي حينها في بساطة لغتها وعذوبة أوزانها، إذ إنها صممت لتُغنَّى. من بين الموشحات التي لا يخفى على كل مُطلع على الأدب الأندلسي معرفتها موشح «جادك الغيث»، الذي يرثي فيه المسلمون خروجهم من الأندلس. استخدم المخرج حاتم علي هذا الموشح بشكل ذكي في رثاء قصة الحب المستحيلة بين صبح البشكنجية ومحمد بن أبي عامر.