بقلم: بروين حبيب
جريدة القدس العربي
تختبئ الحكايات في ثنايا الأشياء، وإن شئنا أن نسرد حكاية من اللاشيء سنلجأ للمخيلة لابتكار تفاصيل تغري المتلقي بالاستماع والمتابعة ولو بإطلاق كذبة.
نتذكر بعض الأشياء التي رافقتنا في أفراحنا، وأخرى في أتراحنا، أقلّب في خزانتي فأتوقف عند عباءات وفساتين زادت من زينتي في مناسبات عدة، وأخرى أديت بها واجبات العزاء وواجبات اجتماعية أخرى..
نربط أشياءنا بالأحداث، والأزمان والأمكنة، فتولد الحكاية جاهزة، هذا ما حدث لي وأنا أصغي لصديقة حدثتني عن فستان عرسها، الذي اقتنته من باريس، قالت وكأنها تسرد تفاصيل رواية: «بحثت في كل محلات باريس الراقية، زرت أشهر الخياطين والمصممين، اكتشفت باريس بشوارعها الكبيرة والصغيرة والفرعية المختبئة، عرفت مطاعم ما كنت لأعرفها لو لم أبحث عن الفستان، اكتشفت فنادق أفضل بكثير من الفندق الذي أقيم فيه، إلى أن وجدته في محل صغير لمصممة شابة».
نربط أشياءنا بالأحداث، والأزمان والأمكنة، فتولد الحكاية جاهزة، هذا ما حدث لي وأنا أصغي لصديقة حدثتني عن فستان عرسها، الذي اقتنته من باريس، قالت وكأنها تسرد تفاصيل رواية: «بحثت في كل محلات باريس الراقية، زرت أشهر الخياطين والمصممين، اكتشفت باريس بشوارعها الكبيرة والصغيرة والفرعية المختبئة، عرفت مطاعم ما كنت لأعرفها لو لم أبحث عن الفستان، اكتشفت فنادق أفضل بكثير من الفندق الذي أقيم فيه، إلى أن وجدته في محل صغير لمصممة شابة».
فتح الفستان الأبيض البسيط، ذي الكمين الطويلين والمنحسر عن الكتفين ألف حكاية، ونحن نحتسي فنجان شاي، وقد انتبهت بعد ساعتين من الزمن، إلى أن السرد مهنة الثرثارين بامتياز، فما سمعته من أمور قد يعطي رواية من مئتي صفحة، وربما أكثر لو أنها حررت على شكل كتاب.
انتبهت بعد أن لمعت هذه الفكرة في رأسي إلى أن سرد القصص مهنة ممتعة للموهوبين فقط، ليس بالكتابة، بل بتغليف الشيء بمعطيات أخرى، تزيد من قيمته، وترفع من نسبة فضولنا لمعرفة المزيد عنه، والحقيقة أن هذا المزيد قد يكون مرتبطا به أو بأشياء لا علاقة لها به تماما، ولكنّ السارد يجد رابطا خفيا يعرفه هو فقط فيقدمه مزينا على طبق الكلام بعد طبخه بطريقته. إن شئنا أن نكمل حكاية الفستان سنتحدث عن القماش، وعن الخيطان والأحجار التي ترصعه، ورحلتها من بلدان بعيدة، فقط لتزين عروسا عربية، كما للحكاية تفاصيل أخرى، عن الشابة الفرنسية التي لم تكن فرنسية تماما، فقد جعلتها الصدف ابنة عائلة مهاجرة من الجزائر، فجأة أصبحت تتحدث بلسان عربي فصيح، لتفهم عنها صديقتي جيدا ما تقول، والسؤال يجذب السؤال، لنعرف أنها درست اللغة العربية بإصرار من والدها حتى تتعلّم هي وأخوتها لغة القرآن. الحكاية تتعلّق بالأسئلة البسيطة، وبالتفاصيل الحياتية اليومية التي نكررها حتى الملل، لكنّها مطعّمة بشيء استثنائي.
تقول صديقة أخرى في مجلسنا، إن الرواية مجموعة من الإجابات عن الأسئلة التي تنبع من فضولنا، وإن الإجابات المتسلسلة هي التي تصنعها، يحدث الخلل في بناء أي رواية حين تختل الأسئلة، ويتوقف السرد، ويتعثّر حين يعجز الكاتب عن طرح الأسئلة. تساءلت حينها هل تختبئ الحكايات في تلافيف الأسئلة؟ أم في ماهية الأشياء؟
أكثر من جواب خطر ببالي، ومنها تلك المقولة التي تربط الأدب بالمرأة الملهمة، لكن مع إضافة تقول إن المرأة مثل البرتقال، الحبات الجميلة نادرا ما تكون لذيذة. وإن أغضبت هذه المقولة الجميلات والنسويات ربما، لكنّها تقول الحقيقة، إذ من النادر أن نجد كاتبا ارتبط بملهمته بعـــــلاقة دائمة، إذ تكفيه قضمة واحدة بعد ليالي البعد والشغف، ليصبح طعمها هو المؤثر على حواسه.. المرأة الجميلة لا تصنع الحكاية، إنها لوحة تحرّك الخيال إلى أن يكتشف المبهور بها أنها مجرّد لوحة. لهذا تختلف النساء.
في الكواليس سمعت قصصا كثيرة، لا تروى على الهواء، كما لا تروى أمام ثرثاري الصحافة، فلطالما كنا مجتمعا يحاكم الكاتب لأتفه الأسباب، ويركب له مقصلة.
من خلال تجربتي الحياتية القصيرة، واحتكاكي بكتاب وشعراء لا يعدون ولا يحصون، المرأة الناجحة، أو القوية، أو المقاومة غالبا ما تكون منبع إلهامهم. أحد الشعراء أسرّ لي أن قصة بائعة هوى فجّرت فيه ما لم تفجره حسناوات الصالونات، امرأة أمية، من عائلة فقيرة وضيعة، زوجة سكير صاحب سوابق، لا جمال في ملامحها، سوى تلك النظرة العميقة التي اجتمعت فيها محن الدنيا كلها، نظرة كانت كافية لتحريك جبال من الجليد أصابت قلمه لعدة سنوات…
في الكواليس سمعت قصصا كثيرة، لا تروى على الهواء، كما لا تروى أمام ثرثاري الصحافة، فلطالما كنا مجتمعا يحاكم الكاتب لأتفه الأسباب، ويركب له مقصلة. لكنني استنتجت أن الإحساس المرهف هو الذي يحرّك نول المخيلة، ويحيك بخيطان تلك الرؤية المختلفة قصّة مغايرة للواقع، أو لنقل قصّة مغايرة لما يجمع عليه الآخرون.
هو السر إذن في الرؤية، والتقاط الصورة بعيون القلب والعقل معا، يصعب أن يتساوى الجميع في هذا الأمر، فالعين في الغالب مقصّرة، وأبعادها محدودة، وهذا ما يميز المبدعين، كونهم يرون ما لا يراه غيرهم، ويتأثرون به. هناك كُتّاب يعرفون إدهاشنا، وآخرون يفشلون، هناك من يدهش ببساطته جحافل من القرّاء، وهناك من يبحث عن قراء»بطلوع الروح» ولا ينجح.. كل ذلك يعود لأصل الحكاية التي يرويها، وبأي لغة يقدمها لجمهور القراء. فالكاتب عادة يختار مواد قصصه من الحياة وإن ابتكر أشياء من مخيلته، مع ملاحظة أن أغلب الكتاب اليوم يستثمرون في تاريخهم وواقعهم الشخصي ما استطاعوا، ومعطيات حياتهم وزمنهم، إذ قلة جدا من يكتبون قصصا منطلقة من اللاشيء تماما، لكن ما هو اللاشيء الذي نقصده؟
أعتقد أنّ ما لا يخطر على بال القارئ، شيء غير متوقع، أو غير مألوف، بعيد كل البعد عن حياة الكاتب أو لنقل أنه على الأقل سرٌّ دفين يخصُّه، غير معلن عنه، مثل سر ألبير كامو في روايته «الغريب»، الذي كشفته باحثة أمريكية منذ سنوات قليلة فقط، مثل سر ليو تولستوي في روايته «آنا كارنينا» الذي لا يعرفه إلا القلة عن الفاجعة التي أودت بحياة سيدة منتحرة فعلا تحت عجلات قطار، هزّت مشاعره وأوحت له بتفاصيل القصة كلها، لتتحوّل في ما بعد إلى رواية خالدة.
قد تكون حادثة مماثلة هي مخبأ الحكاية، ومنبعها، بحيث متى ما لامست قلب كاتب حتى تنهمر في داخله كسيل هادر لا يمكن إيقافه، بتفاصيل لا يعرف من أين تأتي، بعض الكتاب يشعرون فعلا بأن مسار الأحداث تفرضه الشخصيات عليهم، وليسوا هم من يفرضونه. الصدمة الإنسانية إن صحت تسميتها بهذا الاسم، أكثر مخبأ تسكنه الحكايات، لهذا نجد أغلب النصوص الأدبية تحكي الحروب والسجون، والآلام بأنواعها والكوارث، حتى قصص الحب الخالدة، تنجح بالنسبة للأطفال حين يتزوج الأمير بالأميرة، ولكن قصص الناضجين تنتهي نهايات مؤسفة، ثمة سر في الدمار، إذ يجعل الحكاية أكثر تشويقا، حتى إن حضور الشرِّ قاعدة أساسية لنجاح أي قصة، فالخير وحده لا يصنع حكاية، ورغم ألفتنا بصراع الطيبين والأشرار في كل الحكايات التي رُويت لنا، إلاّ أننا غالبا ما ننسى أنهما ركيزتا أي عمل أدبي، فهو أبدا لا يقوم على ركيزة واحدة، حتى إن قام على قصة شاب فقير، هارب من السجن بعد أن حكم عليه بالأشغال الشاقة، لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف إغواء النساء، مثل بطل فيكتور هوغو «جان فالجان»الذي نجح في تغيير مستقبله خارج المألوف، ليصبح عمدة بلدة صغيرة وصناعيا ثريا، وقد تتبعنا محنته، وصراعه مع الظلم والجهل، لنخلص إلى رسالة هوغو العظيمة على أن «الرجال قادرون على تحسين أنفسهم بالإرادة والتضحية والتمسك بالخير». فأين تختبئ الحكايات؟ ربما لكل كاتب مخبأه الخاص، وربما للمخابئ مفاتيح خاصة، والشاطر فقط من يحصل عليها.