أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 1 فبراير 2020

لماذا يثير ترك الحجاب ضجة أكبر من ترك الصلاة؟


بقلم ديمة مصطفى سكران
مدونات الجزيرة
لماذا يثير ترك الحجاب ضجة أكبر من ترك الصلاة؟

18/8/2018
ليس تعليقا على حادثة خلع الفنانة حلا شيحة للحجاب نفسها، فمن الطبيعي أن تأخذ فنانة مشهورة كحلا شيحا كل هذه الضجة، ولكن تعليقا على بعض القناعات التي كشفت عنها ردود أفعال الناس على حادثة خلع حلا لنقابها أو ما يشابهها من حوادث.


الكاتبة: ديمة مصطفى سكران

 تبعات خصوصية فريضة الحجاب:
لحجاب المرأة خصوصية غير موجودة في باقي العبادات وهو أنه ظاهر للناس على مدار الوقت بخلاف الصلاة أو الصيام وغير ذلك، ولذا يعتبره الكثيرون مقياسا شديد الوضوح سهل الاستخدام لدرجة تدين المرأة وإيمانها، علما أنهم يستخدمون مقياسا واحدا فقط بين مئات المقاييس الأخرى التي لا يستطيع أحد سوى الخالق سبحانه وتعالى الجزم بحقيقتها.
إن وضوح هذا المقياس عند المرأة جعل التركيز عليه كبيرا جدا في الحركة الدعوية لأن النتائج التي ستثمر عن ذلك هي نتائج مرئية ستولد إحساسا بالإنجاز لدى الداعية ووهما بإيصال المرأة إلى درجة إيمانية تتكامل فيها كل الفضائل الأخرى كتحصيل حاصل. وأما لو بقيت بدونه فهذا ينسحب كتقصير على جميع الفضائل الأخرى التي لا يُستطاع قياسها إلا من خلال الحجاب. وكنتيجة أخرى لسهولة الحكم على الالتزام بفريضة الحجاب بأدق تفاصيلها زادت التدخلات في حياة المرأة، وأعطى الجميع أنفسهم الحق في الحكم على النساء أو نصحهن أو حتى إيذائهن في حال كن في نظرهم بعيدات عن هذه الفضيلة، وذلك مهما كان موقعهم بالنسبة للمرأة، أقرباء أم غرباء.
وأذكر جيداً كيف كنت أحيانا بفعل الدوام الطويل وكثرة التنقل في الطقس السيء شعثاءَ المنظر وقد أفلتت شعيرات من طرف حجابي دون انتباه، ليفاجئني رجل غريب تماماً في الشارع فيقول بلهجة آمرة: "أختي شعرك ظاهر عدلي حجابك!!" وللنساء أيضا مبادرات من هذا النوع من باب التناصح، وهذا أمر كنت أقبله برحابة صدر، لكن من الضروري التأكيد على أن هناك حدودا للتدخل بالمرأة سواء من قبل الأقرباء أو الغرباء.

التقاليد هي اللاعب الأقوى:
تُرى حادثة خلع المرأة للحجاب على أنها خروج عن جميع الفضائل وإعلان تمرد على الدين والمجتمع عوضا عن أن تؤخذ على أنها تقصير في فرض من الفروض
تداخل حجاب المرأة كشعيرة دينية مع منظومة التقاليد التي تكون دائما أقوى في تأثيرها من الدين أعطى للحجاب أبعادا أكثر من أن يتحملها، فصار أهم من أركان الإسلام الخمس أجمعها لدى معظم الناس وبه تعلق مفهوم "الشرف" الإشكالي، وأصبح خلع امرأة واحدة للحجاب قادرا على تحطيم العائلة بأكملها معنويا. وبذلك خرج الحجاب من أن يكون فريضة لها غاية نبيلة يفهمها الناس ويسعون إلى تطبيقها في سبيل الله إلى قطعة قماش يدرؤون بها عارا كبيرا.
ولذا تُرى حادثة خلع المرأة للحجاب على أنها خروج عن جميع الفضائل وإعلان تمرد على الدين والمجتمع عوضا عن أن تؤخذ على أنها تقصير في فرض من الفروض لا يمس العقيدة والإيمان وقد لا تتعلق أسبابه بانحرافهما أو نقصهما بقدر ما تتعلق بظرف نفسي أو زماني أو مكاني معين. لكن ردة الفعل المجتمعية العنيفة تهدم مع المرأة كل جسور العودة وتدفعها إلى أقصى الطرف الآخر. وعلى النقيض من ذلك تحضرني حالات توقفت فيها المرأة عن ارتدائها للحجاب فما نبذها أهلها بل بقيت تحت مظلة محبتهم حتى عادت إليه وحدها وبدون كثير من الضجيج في الحالتين.

الأكثر ليس دائما الأفضل:
ولأن الحجاب فضيلة يظن البعض أن الأكثر هو الأفضل، بينما قد يكون الأكثر أحيانا أسوأ، لأن الوسطية شعار ديننا الحنيف، ولذا أتخوف من بعض الانقلابات المفاجئة التي تتحول فيها المرأة من السفور إلى النقاب التام من أجل الاستزادة من الفضل، لكن هذا الأمر في الحقيقة يولد صعوبات كبيرة في الحياة بالنسبة للمرأة غير المعتادة عليه ويحرمها فرصة ممارسة الجوانب المشرقة من حياتها السابقة. فالحجاب حين يدخل حياة المرأة يجب أن يكون إضافة إلى هذه الحياة وليس اختصارا كاملا لها.
وفي بعض التوجهات الفكرية نجد في مسألة الحجاب خيارين لا ثالث لهما إما أبيض أو أسود، أما أنا فإنني لا أدافع فقط عن ضرورة وجود تدرجات الرمادي بل إنني أدافع عن ضرورة وجود كل ألوان قوس المطر الجميلة. فتحت مظلة الحشمة الواسعة تستطيع المرأة أن تمارس كل نشاطات الحياة مرتدية كل ما تريد مما يتحقق به تحييد الأنوثة لا إلغاؤها الكلي تحت ظلال آيات القرآن. أحترم خيار المرأة في الحجاب الكلي والتزام السواد، لكنني أرى في الترويج لهذا الأمر على أنه الشكل الأوحد أو الأكمل للحجاب اختطافا لمفهوم الحجاب وسلبنا حقنا كمحجبات "عاديات" بأن نفخر باختيارنا لطريقة حجابنا وحياتنا.
الحجاب بمفهومه الحالي يخلق علاقة إشكالية لا واعية بين المرأة وجسدها تشعر فيها أن من العار انكشافه وأن من العار اطلاع رجل على لون شعرها أو بشرتها، فهي إذ تتحجب تستر عارها.
والحجاب يترك بصمته الصغيرة في كل أمر تأتيه المرأة أثناء التعامل مع الرجال، أثناء العمل، أثناء الظهور في المجتمع، ويذيل كل حركاتها وسكناتها بتوقيع لطيف دون أن يتغول فيبتلع حياتها كلها. وهي طريقة حياة قد تتبعها المرأة دون أن ترتدي الحجاب، وقد لا تتبعها حين تكون مرغمة على ارتداء الحجاب أو ملتزمة به بدون فهم أو قناعة. ولذا تختلط المفاهيم أحيانا وتتداخل طرق حياة غير متلائمة، فيصبح الحجاب مثلا جزءا من حياة امرأة تهوى الاستعراض وإبراز الأنوثة.

الحجاب والعار:
والحجاب بمفهومه الحالي يخلق علاقة إشكالية لا واعية بين المرأة وجسدها تشعر فيها أن من العار انكشافه وأن من العار اطلاع رجل على لون شعرها أو بشرتها، فهي إذ تتحجب تستر عارها الكبير عوضا عن أن تدخل في علاقة قبول مع جسدها وامتنان لخالقها على نعمة الأنوثة.
وهذا العار يتجلى مثلا حين يدخل رجل خطأ على جمع من النساء أثناء تكشفهن فتنتشر بينهن حالة من الهيستيريا والصراخ ويهرعن إلى أغطية الطاولات أو أقمشة الستائر ليغطين رؤوسهن. قد يفسر البعض رد الفعل هذا على أنه عفة محمودة لكنني أراه يعبر عن فهم خاطئ للحجاب يعتبر جسد المرأة عارا كبيرا. والأمر مماثل لما يحدث عند بروز شعيرات صغيرة من طرف الحجاب أو ظهور جزء من رقبة المرأة بفعل انزياح الملابس، وهذا يحصل دوما، والحرص جميل، لكن مثل هذه الأمور ليست مسببة للإغراء، والتعامل معها بشدة تصل إلى التعنيف أحيانا فيه جهل جلي بمفهوم الحجاب وترسيخ لعار المرأة المتعلق بجسدها.

الإنسانية قبل الذكورة والأنوثة:
المرأة مهما فعلت فلن تستطيع أن تحجب كل أنوثتها، وكذلك الرجل، وتبقى مهمتهما معا ضبط النفس وغض البصر، علما أن هذا الانجذاب الذي لا بد سيبقى سيكون سببا للحب
والحجاب بمفهومه الشائع يركز على جنسانية المرأة والرجل حين يظل الدعاة يرددون أنه يحجب فتنة المرأة حتى لا يشتهيها الرجال، وأنهم لو رأوها متكشفة لما استطاعوا تمالك أنفسهم. وعلى قسوة هذا الكلام في حق الرجال أثبتت التجارب الإنسانية في مجتمعات أخرى أن الرجل قادر على ضبط نفسه مهما بالغت المرأة في تكشفها، ولذا نرى النساء في بعض المجتمعات يتجولن في الشوارع ببناطيلهن القصيرة دون أن يحركن في الرجل ساكنا، يعود ذلك إلى صرامة القوانين بل والأهم من ذلك إلى التعود. لكننا لسنا هنا في مقام المديح، فأي إهانة للمرأة في ثقافتنا أن تتكشف لزوجها ثم يعرض عنها كأن لم تر عينه شيئا، وهذا بالضبط ما أراه من حكمة في تشريع الحجاب، فغايته ليست منع افتتان الرجل بالمرأة كلياً، بل الحفاظ على جذوة هذا الافتتان بألا تُعرض مفاتنها أمام عينيه باستمرار فيزهد بها.
والمجتمعات المحافظة تبقى فيها جذوة الرغبة الجنسية كالجمر تحت الرماد دون أن تعيق سير الحياة، لكنها تتأجج عند الزواج فتقوي ارتباط الزوجين وتزيد الأسرة متانة. أما كثرة تعرض الجنسين لبعضهما دون ستر للمفاتن فإنه يطفئ هذه الجذوة ويؤدي إلى البرود الجنسي أو البحث عن مثيرات جديدة غير مألوفة من خلال الإباحية أو الشذوذ. وهذا أمر لا نريده أن يشيع في مجتمعاتنا، لأن الرغبة الجنسية عامل من عوامل الترابط بين الزوجين، وبفقدان هذا الانجذاب يصبح الزواج مهددا
وكما أن كثرة التكشف تجعل المرأة باهتة في عين الرجل، فإن المبالغة في التستر تفعل به النقيض، بحيث تجعله لا يرى فيها إلا الجسد، ويتحول ميله الفطري إلى وسواس لا يفارقه، فلو انكشف جزء من ساعدها أثارته، ولو سمع ضحكتها أثارته، وفي هذا إلغاء لإنسانية الرجل والمرأة واختصار لهما بجسديهما، وتشويه للعلاقة السليمة بينهما، تلك التي يجب أن تحقق توازنا مقبولا بين جميع نواحي الوجود الإنساني. لذا تتحجب المرأة بستر أنوثتها التي تتميز بها عن الرجل فتبرز إنسانيتها أكثر، ويتم التركيز على عقلها وفكرها وجهودها مع الاحتفاظ بهذه الأنوثة الجذابة في موضعها الصحيح. ولكن المرأة مهما فعلت فلن تستطيع أن تحجب كل أنوثتها، وكذلك الرجل، وتبقى مهمتهما معا ضبط النفس وغض البصر، علما أن هذا الانجذاب الذي لا بد سيبقى سيكون سببا للحب والخطوبة والزواج والإنجاب وهو الذي سيسير الحياة على السنة التي خلقها الله عز وجل عليها.