أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 مارس 2020

الرسائل الورقية.. عن الحنين الذي لا يفهمه أبنائي

بقلم: جعفر العقيلي
في زمن ليس بالبعيد، عبّرت سيدة الغناء العربي فيروز عما تحمله (المراسيل) الخاصة من قيمة وجدانية تخلدُ وتبقى في الذاكرة: (يا مرسال المراسيل ع الضيعة القريبه، خدلي بدربك هـالمنديل واعطيه لحبيبي، عالداير طرّزتو شوي بإيدي والإسوارة، حيكتلو اسمو عليه بخيطان السنارة).
 هذه الكلمات البسيطة والعميقة في آن، يعيش معناها جيلٌ عاش زمنين مختلفين تماماً؛ الماضي الذي نحمل له ولصوره بالأبيض والأسود نوستالجيا شفيفة، والحاضر، صنيعة وحش التكنولوجيا وثورة الاتصالات اللاهثة.

أنتمي أنا إلى هذا الجيل الذي يمكن وصفه بـ(المخضرم)، وبين هذا وذاك أرقب الآن المشهد فيبدو ما سأرويه لأبنائي غريباً حدّ أنهم لن يصدّقوا أن الهاتف الأرضي ذا السلك المثبت في الحائط كان موجوداً قبل ولادتهم، وأن ساعي البريد الذي كان يجوب الأحياء ويطرق الأبواب كالدوّاج شخصية حقيقية وليس قادماً من الخيال.
كان عمّي ساعي بريد، وربما كان هذا دافعاً إضافياً -إلى جانب شغفي الخاص- لأقيم علاقات صداقة بالمراسلة مع شباب عرب يتوزعون في أصقاع الأرض، وعبر استقبال رسائل (ورقية) وبطاقات بريدية تشكّلت لدي معرفة طيبة بالمعالم الحضارية والسياحية في بلدان مختلفة، فكنت كمن يتجول فيها بمجرد تأمّل تفاصيل البطاقة التي تحمل صورةً بليغة!.
فصورة برج إيفل التي أرسلها لي صديق سوري مقيم في باريس قبل أكثر من ربع قرن، كانت كافية لأن أصعد درجات البرج وسلالمه وأُطلّ على باريس من علياء! تشجعني على ذلك عبارة الصديق على الجهة الأخرى من الصورة وهو يخاطبني: (تمنّيتك معي هنا)!.
وبوحيٍ من الرسائل والبطاقات البريدية، أصبح لدي اهتمام بالطوابع البريدية، وأصبحت أقصّ الطوابع عن مغلفات الرسائل وأحفظها، ورجوت عمّي أن يطلب من الأشخاص الذين يحمل لهم الرسائل، أن يعطوه الطوابع لإثراء ألبومي! وهو ما تحقق لي بسهولة!.
وقد قادني هذا الأمر إلى تلبية فضولي المعرفي، وذلك بتتبع التفاصيل في كل طابع: الصورة التي يحملها، المناسبة التي صدر بها، عام إصداره، سعره بعملة بلده، نوع العملة... إلخ. وهذا ما قادني أيضاً إلى هواية أخرى تتمثل في جمع العملات النقدية المعدنية والورقية لدول مختلفة.
وكثيراً ما أعتز وأزهو بالمجموعة الفريدة من البطاقات التي أحفظها في ملفات خاصة بي، والتي كثيراً ما أخذتني معها في رحلات شيّقة إلى مدن ساحرة تطلّ على البحر، أو تربط الجسورُ أوصالَها، أو تنفتح على الصحراء، أو تملأ ساحاتها التماثيل والمنحوتات.
أدرك أنني أكتب الآن بشيء من الحنين، وهو حنين لا يفهمه أبنائي أو على الأقل لا يجدون مسوغاً له، هم الذين اعتادوا على إيقاع آخر فرضته معطيات العصر عليهم، فبدأتْ وظيفة ساعي البريد بالتلاشي، وتقاعدَ عمّي قبل عقدين! لكني ما أزال أصرّ على أن يكون لي صندوق بريد أزوره مرة كل شهر، بانتظار رسائل الأصدقاء الذين أراسلهم ويراسلونني بين حين وآخر.. وفي هذه الرحلة، أصطحب ابني كي أربطه وجدانياً بماضٍ أحبّه، لكنه –للأسف- لا يبدو مهتماً، وقد يبالغ في مناكفتي فيخاطبني: (يا أبتي؛ أنتم تصعّبون الأمور، بإمكان صديقك أن يرسل لك رسالة إلكترونية أو بطاقة مصمّمة فنياً على بريدك الإلكتروني وتصلك في ثوانٍ، فلماذا يغلّب نفسه ويغلّبك معه. هذا زمن السرعة!).
ابني معه حقّ نسبياً، ولكن ما هكذا تورَد الإبل، فأنا أؤمن أن الصديق الذي بذل جهده لشراء بطاقة من أجلي وكتب عليها عبارة لطيفة ووضع طابعاً اختاره بعنايةٍ لمعرفته بشغفي في الطوابع، هو صديق مخلص، وفي هذا قمة التواصل والحرص عليه. أما البطاقة الجاهزة التي يتم إرسالها عبر إحدى (وسائل التواصل الاجتماعي) كـ(الفيس بوك) و(الواتس أب)، فقد لا يكون الباعت لإرسالها سوى المجاملة أو رفع العتب، ولهذا غالباً لا يردّ أحدنا على رسالة من هذا النوع لمعرفته أنه تم إرسالها للكثيرين بكبسة زر، في مناسبةٍ ما، وإنها بالتالي لا تخصّه وحده، أو ليست موجهة له تحديداً.
أقصد أن الأشياء التي نبذل وقتاً وجهداً من أجلها تقدَّر عند الآخرين عالياً، والأشياء التي نقوم بها من دون جهد أو تخصيص ستقابَل باللا اكتراث في الغالب.
يتأرجح أبناء جيلي؛ بين زمنين؛ ماضٍ سحيق، وحاضر يحمل كل يوم مفاجأة في مجال الاتصال البشري (وليس التواصل الإنساني)، ورغم تورطنا بمعطيات العصر ومحاولاتنا اللحاق بالركب، إلا أن حنيننا الأول هو إلى ذلك الزمن الذي تربّينا فيه على احترام العلاقة مع الورق؛ سواء الكتاب أو الرسائل أو دفاتر اليوميات، لهذا نحتفظ بالورقيّ ونشعر أنه حميمٌ أكثر من سواه، نعود لأوراقنا ونقلّب الصفحات بمتعة، وفي خلد الكثيرين منا أن هذه الأوراق ستبقى نافذة لأبنائنا أو المقربين منا ليطلّوا منها على جزء من حياتنا وتاريخنا الشخصي الخاص بعد رحيلنا.
قد نتحفظ على طرق التواصل الحديثة التي تميل إلى جعل العلاقات والمشاعر معلّبة أو مسلّعة قابلة للاتجار بها، حتى إن عدداً من المواقع الإلكترونية متخصصة في تصميم بطاقات جاهزة تبثها في المناسبات العامة ليتم تناقلها عبر الضغط عليها ثم الإرسال، لكن رغم هذا التحفظ إلا أنه لا بد أن نقرّ بأن هذا التطور هو قانون من قوانين الحياة، فالإنسان سعى منذ فجر التاريخ إلى إيجاد أساليب جديدة للتواصل، وكان من الطبيعي أن يقوده تفكيره إلى تطوير وسائل التخاطب؛ فقد استخدم إنسان الكهف الأصوات والصيحات المرتفعة، ثم استُخدمت النارُ في مرحلة لاحقة من حياة البشرية، ثم توصل الإنسان إلى اختراع الكتابة برموزها التصويرية القديمة التي تطورت فيما بعد إلى الكتابة المسماريّة ثم الهيروغليفيّة.. والتي تطورت معها بالضرورة طرق الاتصال بين البشر.
وفي مراحل متقدمة استُخدم المراسلون الذين كانوا ينقلون الرسائل المكتوبة من مكان إلى آخر راجلين أو عبر استخدام الحيوانات كالأحصنة والحمير، ومن الطريف أن أجدادنا اعتمدوا قديماً على العدائين في الجري السريع لإيصال الرسائل بسرعة، ومنهم من كان يلجأ لتقسيم المسافة بخاصة إن كانت طويلة، حيث يجري أحدهم لمسافة معيّنة ثم يلاقيه آخر ويكمل عنه وهكذا، كما اكتُشف الحمام الزاجل وكانت الرسائل تُربط في أرجله ليقوم بنقلها إلى المكان المراد، بعد أن يخضع لتدريب على ذلك.
وبالطبع هناك العديد من الوسائل التي استُخدمت للتراسل والتخاطب بين البشر عبر التاريخ لا يتسع المجال لذكرها هنا، لكن المؤكد أن الذهن يعجز عن التفكير بما تحمله هذه التكنولوجيا من جديد، وهل يمكن أن يأتي يوم يكتفي فيه إنسان العصر القادم بشريحة صغيرة تُزرع في جسده وتكون مسؤولة عن تنظيم كل مجريات حياته وحتى مشاعره وانفعالاته!