أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 3 يناير 2010

خطبة 2: لغتنا العربية

الخطبة  رقم (2)     الهدف: التحدث بصدق


لغـتُـنا العـربـيّـة
(1)
يقول أحد المؤلفين في خطبة كتابه إنه قد ألّف ذلك الكتاب "... لِـما رأيتُه قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحنُ في الكلام يعدُّ لحناً مردودا، وصار النطقُ بالعربية من المعايب معدودا، وتنافسَ الناسُ في تصانيف التَّرْجُمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعتُ هذا الكتاب في زمنٍ أهلُه بغير لغته يفْخَرون، وصَنَعْـتُه كما صنع نوحٌ الفُلْكَ وقومُه منه يسخرون..".
معجم لسان العرب، مقدمة المصنِّف ص 13
لابن منظور جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرَّم (1232-1311م
(2)
فمن هو صاحبُ هذه الكلمات؟
وأيُّ زمان ذلك الذي ضيَّع في أبناءُ العربيةِ لغتَهم وتفاخروا فيه بغيرها؟
إنه ابن منظور، صاحب المعجم الشهير لسان العرب. وهو الكتاب الذي يسمع به الجميع، وربما تصفَّحه أحدُكم ذات يوم.
أتعرفون متى كُتِبت هذه الكلمات؟؟
لقد كتبها ابن منظور منذ نحو 700 سنة، نعم 700 سنة ولكنْ... لكأنَّ ما قاله هو عينُه ما يقوله أيُّ غيور على لغتنا العربية في هذا الزمان.
فماذا لو خرجتَ يا ابن منظور من قبرك اليوم، ونظرتَ في كلام العرب في هذه الأيام...  ما الذي كنتَ ستفعل وأيَّ كتاب كنتَ ستجمع؟؟؟
(3) 
إن حالَ اللغة العربية اليوم لا يسرُّ صديقا، ومكانتُها تتراجع في نفوس أبنائها قبل غيرهم.
قد يكون حقاً ما يُقال من أنها ليست لغةَ العلوم العصرية، والحياة الحديثة..
اللغةُ لا ذنب لها في هذا كلِّه، أبناءُ اللغة هم الذين يخلقون فيها المصطلحات الجديدة والتعبيرات العبقرية الفريدة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإبداع والنهوض، فمتى نهضت الأمةُ وارتقت علومُها وآدابُها، كانت اللغةُ مراةً لذلك كلِّه، تنقل ذلك الرقي وتلك النهضة..
(4)
فلننظرْ في سيرة أجدادنا، ولننظر في سيرة غيرنا من الأمم الأخرى التي نهضت من لاشيء، وخلقت لها مكاناً ودوراً في المشهد الحضاري الإنساني.
لننظرْ سيرتَها ونرَ:  أين كانت اللغةُ من هذا كله؟؟
إخوتي وأخواتي..
كانت اللغةُ دوماً أداةً للتعبير عن الحضارة الجديدة، فلا يمكن لحضارةٍ ناشئةٍ بعلومها وآدابها وفنونها أنْ تنجز لها سَبْقاً بين الأمم، إنْ لم تكن قد سكبت ذلك كلَّه في حروفٍ وكلمات تستولي على وجدان أبنائها.. ولا يكون ذلك إلا باللغة الأم. 
(5)
لقد أفادت أمم أوروبا في بدايات النهضة الحديثة من العلوم العربية، وسَعَتْ لأجل ذلك إلى دراسة اللغة العربية، لقراءة الكتب المكتوبة بالعربية.
ومرَّ زمانٌ على بعض أهل أوروبا كانت فيه معرفةُ اللغة العربية مبعثَ زهوٍ وفخر لدى متعلّميها، كمثل ما نرى اليوم من إعجاب أبناء العرب بلغات غيرهم.. لكنّ إعجابَ الأوروبيين باللغة العربية وبالحضارة الإسلامية لم يدفعهم إلى اتخاذها لغةً للعلوم حين فكروا في النهوض والتقدم.
بل لقد دفع ذلك الأوروربيين إلى تنشيط الترجمة ونقل العلوم العربية إلى لغاتهم، تلك العلوم التي حين استوعبوها جيداً بلغاتهم الأم كانت نواةَ العلم الأوروبي الحديث.
(6)
فما أحوجَنا اليومَ إلى التعلم من تجارب الأمم، وما تجربةُ اليابان -مثلاً- عنا ببعيدة، فليس التنكّر للغة الأم هو مفتاح التقدم والنهضة، بل إنّ الحفاظَ على تلك اللغة هو الذي يشحذ همة المبدعين؛ لأننا بذلك نضمن أنّ اللغة لن تكون عائقاً بين أجيال المتعلمين وبين العلوم التي يدرسونها.
فإنْ لم يشفع ذلك للغة العربية لدى أبنائها، فلتشفعْ لها عندهم منـزلتُها الخاصة: لعمرها المتطاول لقرون مضت، تجعلها جسراً بين أبناء العرب اليوم وبين أجدادهم القدماء .. أو لتشفع لها -على الأقل- مكانتُها الدينية الخاصة؛ أنها لغة السماء التي بها نتعبد ونتقرب إلى الله.