أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 31 يناير 2010

خطبة 3: المدينة

 
الخطبة (3) الهدف: نظِّم خطبتك
عنوان الخطبة: الـمديـنة
 
..استوقفني قبل أسابيع كاريكاتير يـجمع ما قلَّ ودلّ في مسألة تمسُّ حياة كثير ممن يعيشون في أبوظبي.. فيه يبدو الرجل منهكاً من البحث عن موقفٍ لسيارته، وفي نـهاية الأمر تقول له الزوجة التي تجلس إلى جانبه: خلاص، طلع الصباح، وصِّلْني عالشغل!!
هذه مسألة من مسائل عديدة تخطر في البال ونحن نتأمل أنماط السلوك الاجتماعي المختلفة حول العالم ؛ فلكل مدينة تحط فيها رحالك نمط حياة خاص بها، وإن نظرنا جيداً وجدنا أن هذه المسألة تتصل من ناحية أو أخرى بالأسلوب المعماري الذي تـمتاز به كل مدينة عن غيرها. فهل هناك ثمة صلة ما بين العمارة والبنيان من جهة والسلوك الاجتماعي من جهة أخرى؟
الجواب بطبيعة الحال لدى إخواننا المهندسين، وهو جواب أدق مما لديّ، لكنني لا أملك نفسي من أنقل إليكم خواطر كثيرة تعرض في خاطري تجعلني أفكر في هذه المسألة. وسأضرب بعض الأمثلة للتوضيح، فالمدن بشوارعها وطرقاتها وتوزيع مبانيها وتصميم منازلها...وغير ذلك، تفرض نوعاً من العلاقات الاجتماعية أو هي انعكاس لتلك العلاقات، ففي المدينة العربية مثلاً كان المسجد الكبير هو مركز المدينة تتوزع حوله الأسواق والأماكن الرسمية والإدارة الحكومية وحتى قصر الخليفة، ثم تتناثر منازل الناس في الضواحي والأطراف، وامتازت البيوت العربية بالأسوار العالية الجرداء والمظهر البسيط من الخارج بسبب دواعي الاحتشام الذي تفرضه التقاليد العربية والإسلامية؛ فليس هناك نوافذ كثيرة أو كبيرة تطل على الخارج إلا مرتفعة، وقد أدى ذلك إلى أن تتجه جماليات الزخرفة الفنية والزينة الإسلامية إلى الفضاء الداخلي للمنـزل؛ فامتلأ بالزخارف والنقوش والتشكيلات الفنية المتنوعة العناصر كالماء في الفوّارة ( النافورة، الفسقية ) والأصص الفخارية التي تحتوي النباتات والأزهار ...فعوَّضت هذه المبالغات الزخرفية والفنية في الداخل، الملامح الجرداء للمنـزل من الخارج.
في حين أنك تلاحظ في المدن الأوروبية البيوتَ الصغيرة المتلاصقة المتراصّة، التي فرضت نوعاً من السلوكيات بقيت شاهدة على ذلك التأثير المتبادل بين النمط المعماري والسلوك الاجتماعي؛ فأبواب البيوت ومداخلها الرئيسية متقاربة مما يخلق نوعاً من فضول الجيران تجاه جيرانهم، كما أن نوافذ البيوت -التي ربما كانت ملاصقة لرصيف الشارع أحياناً- تـمتاز في الواجهات الأمامية للبيوت بأنـها كبيرة الحجم ، وقد يكون ذلك طلباً للنور في بلادٍ تخجل الشمسُ فيها من الظهور كثيراً على الملأ ! فهم لا يتحرجون من أن تكون ستائر النوافذ رقيقة شفافة لا تمنع أعين المارة الفضوليين من اقتحام خصوصياتهم. كما أنهم لا يتحرَّجون من أن تكون نافذة الحمام واسعة وكبيرة تحتل واجهة المنـزل الأمامية – كما كانت حالي حين سكنتُ في شقةٍ أرضيةٍ في مدينة إدنبرة في أسكتلندا، وكانت واجهة الشقة ذات نافذة ضخمة للحمام على غير ما اعتدنا في بلادنا !
وكان لصغر حجم بيوتـهم أثرٌ في تصميم الأثاث بطريقة يُراعَى فيها استغلال المساحات الضيقة إلى أقصى درجة ممكنة، وتجدون الأمثلة عليها لدى محلات "إيكيا" مثلاً التي تنتشر متاجرها في الإمارات، وهي تقدم أفكاراً خلاقة مبدعة لاستغلال الفراغات والإفادة منها. ولضيق بيوتهم أيضاً تراهم يعشقون السفر والترحال، وقضاء الوقت خارج تلك المنازل الصغيرة.
 
...ولن أنتقل بعيداً للتوضيح، فانظروا حالكم اليوم في هذا الاجتماع وفي الاجتماع الماضي، حين انتقلنا إلى مركز أبوظبي، لقد تأخّر بعض الحضور عن موعدهم المعتاد، وماذا كان سبب التأخير يا ترى؟ الازدحام!
والازدحام في هذه المنطقة من أبوظبي –كما تعلمون- سببه مشاريع عملاقة تغيّر وجه المدينة بإنشاء شبكة طرق جديدة وعصرية. وقد أثَّرت هذه المشاريع على حياة الناس في مظاهر كثيرة في السلوك الاجتماعي ، بـما يجعلنا نلمس أثر النمط المعماري الذي تعيشه مجموعة من البشر في مكانٍ ما. فالازدحام في أبوظبي قد غيَّر في سلوكنا في مواقف عديدة منها: مثلاً مواعيد الخروج لقضاء بعض متطلبات الحياة كالتنـزّه والتسوّق والترفيه...وغيرها. من منكم ما زال يقصد " أبوظبي مول" للتسوق والترفيه؟ مغامراً بالوقوع في براثن الأزمة الخانقة، التي لا ترحم.
أصبح السير في بعض الطرقات في أوقات معينة يتطلب ضعفَيْ الوقت الذي كان يستغرقه في السابق، مما ساتدعى المرء أن يفكر  بهذا ويأخذه في الحسبان حين يخرج.
كما انعكس الازدحام في سلوك السائقين والسائقات ؛ فقد كانت من اولى الملحوظات حين قدتُ سيارتي للمرة الأولى في أبوظبي أن السائقين يمتازون بالذوق والأخلاق ، مما يجعل القيادة سلسة وآمنة ، فأنتَ تجد الغالبيى ملتزمة بقواعد المرورية خاصة الأولويات....فيا سبحان مغير الأحوال ، لم نعد نرى –إلا فيما ندر- مَن يسمح لك بالمرور والانتقال من مسرب إلى آخر، وتجد السائقين كالوحوش الكل مترقب لاقتناص فرصة الانتقال من مسرب طويل لآخر قصير في سبيل السباق تجاه خط النهاية وهو الإشارة الضوئية.
تجده يعتدي على حقك حين تنتظر دورك في طابور طويل ممل  بطيء، يأتي ليقطع الطريق أمامك ويعتدي على دورك الذي أنفقتَ في سبيله وفتكوأعصابك وأنت تنتظر... أما الشاحنات الكبيرة فحدَّث ولا حرج عن سلوك سائقيها حين يظن الواحد منهم أنه (خفيف الظل) فيقتحم الطريق ويغلق أمامك الأرض والسماء،  ولا تملك من أمرك معه شيئاً، فمثله لا يمكن المزاح معه!!
وتحضرني هنا قصة تروى في الأردن، التي تعاني من مشكلات في انسيابية حركة المرور في الشوارع الرئيسية ، فأحضروا خبيراً يابانياً ليدرس وضع حلول مقترحة تسهم في حل المشكلة، وبعد حين من إقامته في البلاد قال إن المشكلة ليست في تجهيزات الطرق أو الإشارات الضوئية والمرورية والإرشادية... إنما المشكلة في أن السائقين لا يتقيدون بالقواعد المرورية وأولها الشعار الشهير: القيادة فن  وذوق وأخلاق.
حقا إن النمط المديني يؤثر في أخلاق الناس وسلوكياتهم.