أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 6 يونيو 2010

خطبة 4: عندما تكونين أُمَّـــاً في دولة أوروبية





الخطبة ( 4 ): وضح ما تعني
الهدف: تعلم إيماءات الجسد
عندما تكونين أُمّـاً في دولة أوروبية


ربما كان كثير منكم قد أمضى بعض الوقت في البلاد الغربية للدراسة أو الزيارة...، وربما يكون قد أنعم الله عليه في أثنائها هناك بمولودٍ أسعدَ أيامَه وأضفى البهجة عليها في ديار الغربة.
أحدثكم اليوم عن تجربة إنجاب طفل في دولة أوروبية، ولكنْ ليس من قبيل هل سيحصل المولود على الجنسية أو البطاقة الخضراء للإقامة الدائمة ...أو غيرها من المميزات المدنية التي قد تجول في خاطر الآباء عند التفكير بإنجاب طفل في تلك البلاد.
...لم يكن ابني عمر أول طفل لي، وكنتُ قد وصلتُ بريطانيا أوائل سنة 2000 (منذ عشر سنوات تقريباً) ... وكأيِّ زائر لبلادٍ جديدة، تقع في النفس انطباعاتٌ تبقى عالقةً في الذاكرة لا تزول، وهي ما أكلمكم عنه الآن: انطباعات وقعت في نفسِ أم.
استوقفتني أولاً في تلك البلاد أمور الاهتمام بالرعاية الصحية إلى حدٍّ كبير، إذ أولُّ الأعمال التي يجب أن تقوم بها من أجل أن تسري عليك قوانين البلاد للإقامة هو التسجيل لدى الطبيب العام في العيادة القريبة من البيت، وحرصهم على السؤال عن التاريخ الـمَرَضي للعائلة والمطاعيم للأطفال... وغيرها من أمور وتفاصيل تتعلق بجميع أفراد الأسرة..
وهذه كلها بالمجان نعم مجاناً .. مما يجعلك تلمس مدى حرصهم على (الصحة العامة) في بلادهم، لا على الامتيازات التي قد يتفضلون بها على المقيمين والزائرين! كما في بلادنا العربية حيث قد يُهمَل الوافد والمقيم صحياً بدعوى عدم المواطنة.

...أما تجربة إنجاب طفل في تلك البلاد، فهي بحق تجربة مختلفة، على الأقل بالنسبة لي، لقد أنجبتُ أطفالي من قبل في عمّان، وأول شيء يختلف عما سبق هو الذهاب إلى المستشفى مشياً على الأقدام...نعم؛ فهو قريب جداً من البيت، وقطعتُ المسافة مع زوجي وأنا أقول له سأركب التاكسي بعد قليل...سأركب بعد قليل...حتى وصلنا ، ولمَّا يكن ذلك القليل قد انتهى! كنا نسكن في وسط مدينة إدنبرة في Buccleuch Place، والمستشفى Royal Infirmary قريب من شقتنا، وهكذا وصلنا....



المهم في نهاية الطريق ...وصلنا، وحين آن أوانُه.. ووصل عمر إلى هذه الدنيا، كان مما لاحظتُه بعد ولادته أنهم يُحضِرون الطفلَ إلى الأم ليكون بجانبها فوراً، دون غسيل وكما خلقه الله، ويبقى إلى جانبها طوال الوقت، بعكس ما كان في بلادنا حيث يحتفظون بالطفل في الحاضنة المخصصة للأطفال ويأتون به للأم بين الحين والآخر، نظيفاً ومغسولاً وفي ثياب خاصة، وربما يكون ذلك من أجل راحتها بعد عناء تلك العملية الشاقة. ولكن هذه كانت نقطة ملاحظة!
ويحضرني كذلك شغفُ الممرضات بعملهنّ؛ فهنّ صبورات.. ويُحــبِـبْنَ عملهن، وأنت تشعر بذلك من اهتمامهن الزائد بالطفل القادم، فالعامل هناك لا يعمل إلا في مهنة يحبها ولا توجد ثقافة عيب فيما يخص المهن، يطبقون قول عمر بن الخطاب:"أرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لاصناعة له سقط من عيني".
ولأن أطفالي دائما لديهم شعر على رؤوسهم وعيونهم حين يولدون ولأن الممرضات هناك شقراوات.. فإنهن أبديْنَ إعجاباً زائداً برموش عينيه، وكنَّ في الجيئة والذهاب يقلن له: Oh! lashes eyes!!
..ثم كان الخروج من المستشفى بعدها، وكان من ضمن إجراءات الخروج أن قدموا لي حقيبة هدية احتوت عينات تجارية مجانية لمستلزمات الأطفال والأم... ولم تكن الهدايا عينية فقط بل كانت هناك مفاجأة جميلة: مجموعة من الكتب وقصص الأطفال، وهدية أخرى هي بطاقة عضوية مكتبة للصغير في مكتبة المدينة!
... طوال عمرنا في العالم العربي نربط المكتبة بالهدوء، في المكتبة يرجى الهدوء. فهل يعقل أن نتصور: (طفل صغير في مكتبة)؟!! حتى في مكتبة الأطفال! لا لا!!!، فهذا لا يعقل في تصوراتنا.
بينما ... حتى مكتبة الكبار هناك يسمحون لك فيها باصطحاب الأطفال والعربات إلى داخل المبنى .. ولكن بطبيعة الحال أنت لن تذهب إلى المكتبة بصحبة طفلك إلا إن كنتَ مضطراً لذلك، لذا فلا بأس برفقة الأطفال لإرجاع كتاب مثلاً أو استعارة آخر، كي يعتاد على أجواء المكتبة.
كانت تلك التجربة – مكتبة الأطفال- من أجمل التجارب وأكثرها إثارة في إدنبرة. لكني لم أتمكن من اصطحاب طفلي إليها إلا بعد عدة أشهر، حتى استوعبت الفكرة!.
ومن التجارب التي تعيشها الأمهات العربيات في الدول الأوروبية تجربة الرعاية الصحية اللاحقة في البيوت؛ فنحن قد اعتدنا في بلادنا العربية - بحمد الله - على أن تُولي العائلةُ الممتدة الأمَّ الجديدة الرعاية اللازمة؛ فالأهل ينتظرون الحفيد القادم، والكل متأهب له، تغمرهم الفرحة بمقدمه، ولهذا يُعِـدُّون العدة لاستقباله، كما يلزم.. ومن ضمن ذلك الرعاية بالأم الجديدة.
لكنْ في تلك البلاد ليس لديهم مثل هذه الطقوس الاجتماعية الاحتفالية إلا على نطاق ضيق ربما، لكنهم تبنوا نظاماً شبيهاً يقوم مقام رعاية الأسرة الممتدة للأم الجديدة، خاصة مع وجود نسبة جيدة لديهم من الأمهات العازبات.
كان نظام القابلة Midwife التي تزور الأم الجديدة لعشرة أيام عقب وضعها طفلها- فكرة جميلة، وقد أعجبتني كثيراً وساعدتني على تجاوز بعض القلق تجاه صغيري؛ فقد كنتُ عشتُ من قبل تجربة الوفاة المفاجئة لطفلي الثاني، لذا كنت أتفقد عمر الصغير كل لحظة حتى أطمئن أنه على قيد الحياة، وأحاول الانتباه إلى كل صغيرة وكبيرة تمس لونه أو أنفاسه أو حركاته... وهكذا وفّرت زيارتها لي في تلك الأيام نوعاً من الاطمئنان، حتى مرت على ما يرام، وتجاوزتُها ...
وتستمر الرعاية لديهم بإرسال ممرضة الحي لزيارة الأمهات في البيوت ومتابعة النمو العام والمشكلات التي قد تواجههن مع أطفالهن، وقد كانت هذه تجربة مفيدة لي، وممتعة وجديدة.
أما مكتبة الأطفال فأعود إليها ثانية... فحين اشتد عود طفلي الصغير أخذت معي الأشياء التي كانت في حقيبة الهدايا: بطاقة المكتبة والأوراق التعريفية بالمكتبة وطلب الاشتراك.. سرتُ وفق الخريطة ووصلتُ المكان.. لأجد أن مكتبة الأطفال تلك هي جزءٌ من المكتبة العامة: غرفة معقولة الحجم، تقع في جزء خارجي ملتصق بالمبنى حتى يسهل الدخول إليها من الرصيف فوراً، لا درجات ولا سلالم؛ لتتمكن الأمهات من إدخال عربات الأطفال معهن، وكان هذا أول ما لفت نظري، فإذا صرنا في داخل القاعة، وجدتها منسقة بحيث توائم احتياجات الأطفال: الرفوف مليئة بالقصص والكتب والمجلات لمختلف الأعمار، وركن صغير يمكن للأهل فيه اختيار بعض الكتب للقراءة في أثناء انشغال أبنائهم في المكتبة.
وفي الوسط صناديق ملأى بالكتب القماشية والأوراق والألوان للأطفال الرضّع وفي سن ما قبل المدرسة الذين لا يعرفون القراءة، لكن هذه الأشياء تجعلهم يألفون الكتب ويأنسون بها.
ثم ركن صغير كذلك لهم للألعاب.. فالأطفال أطفال ...حتى في المكتبة..وهم بحاجة إلى اللهو، واللهو جزء أساسي من تركيبتهم. ومهم من أجل نموهم.
أعجبتني المكتبة وبقيتُ أجد فيها متعةً لي ولأطفالي لسنتين قادمتيْن هناك...رغم الأجواء الباردة أحياناً, وقد علمتني وعلَّمتْهم الكثير، ألجأ إليها معهم في زيارة أسبوعيا تقريباً، أجد فيها عزاءً عن القيود التي فرضتْها عليّ الإقامةُ في بلادٍ لا أجد فيها من يعتني بأطفالي غيري، مما جعلني مقيدة عن الخروج إلا برفقتهم. 
....هذه كانت بعض المعاني التي عشتُها أُمّاً عربية في دولة أوروبية، تجارب جديدة لم أمرّ بها من قبل في بلادي، بقيتْ في نفسي منها ذكرياتٌ حلوة أحببتُ أن أشارككم بها.

وهذه بعض الصور لمكتبة إدنبرة للأطفال بعد تجديدها في 2014